وقفة قرآنية : آية الله قاسم – ١٦ شهر رمضان ١٤٤١هـ
*نصّ “الوقفة القرآنية” لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم التي يبثُّها مركز المقاوم للثقافة والإعلام عبر منصّاته في مواقع التواصل الإجتماعي خلال ليالي شهر رمضان المُبارك – ليلة الاحد 16 رمضان 1441 / 10 مايو 2020م:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم أيها الأخوة والأخوات ورحمة الله وبركاته.
الحديث في ضوء سورة الشرح:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
أمامَنا هذه الكلمات، أدخُل معكم في بيانها.
(نَشْرَحْ)، الشرْح التوسعة والنَشْر، وإعطاء الانفساح. (أَلَمْ نَشْرَحْ)، ألمْ نوسِّع لكَ صدرَك.
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)، الوِزْر هو الثِقْل، وسُمِّي الذنب وِزْراً لثِقله أيضاً، الذنب يدخل تحت مصاديق الوِزْر من ناحية ثِقْل تبعته، وثِقل ما هو عليه من سوء.
(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)، نقيض الظهر ونقيض السرير ونقيض الرجليْن هو الصوت الذي يحدث لهذه الأشياء لما تُعانيه مِنْ ثِقل ما تحمْل، فإذا ثَقُلَ الحمل أحدَث صوتاً كأنَّه يُشير إلى انفكاك الفقرات عن بعضها البعض، قد يحدث هذا الصوت للرُكَب، قد يحدث لسرير الخشب، يحدث للمحامل التي يركبها الأوَّلون على الجِمَال، النقيض أيضاً يحدث للجدار حيث يبدأ تداعيه ويدخل التفكُّك بين أجزاءه، ونقْض الشيء أيضاً تفكيك أجزاءه وذهاب التماسك بين هذه الأجزاء.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، والذِكْر مَعروف، المعني هنا حُسْن الذكر وحُسْن السمعة وظهور الشَرَف، وانتشار حالة التفوّق ومعنى التفوّق في أرضٍ أو في سماء.
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)، والنَصَبُ هو التَعَب.
هذا على مستوى بيان معاني الكلمات في السورة المُباركة.
نمِّرُّ بالسورة المُباركة من حيث معانيها التي يُعطيها التركيب:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، تبتدئ الآية بهمزة الإستفهام، وهمزة داخلةٌ على جملة مَنْفِيِّة. أَبعِد الهمزة، إقرأ فسَتَجِدْ أنَّ القراءة تُعطيك هذا، (لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، فهي جملةٌ منْفيِّة، جاءت الهمزة وهي همزة استفهام إلاّ أنَّ الاستفهام هنا ليس حقيقياً، الاستفهام الحقيقي هو ما كان مِنْ أجل الاستعلام، هو تَلَّقِّي الخبر عن الشيء، وهنا ليس المطلوب أنْ يَعلَم الله عزَّ وجلّ بأنَّه شرَح صدْر رسوله أو لَمْ يشرَح صدْر رسوله، وليس لله حاجة أنْ يسأل الرسول وهو الفاعل وهو أعلم الأعلمين تبارك وتعالى. إذن السؤال هنا ليس حقيقياً إنَّما هو لغرضٍ آخر غير الاستعلام، وهو هنا يُفيد معنى الإستنكار. ف(أَلَمْ) يتضمَّنُ استنكاراً لنفي الشرْح للصدر.
لو كان الرسول “صلى الله عليه وآله وسلَّم” نافياً لانشراح صدره من الله عزَّ وجلّ، وبأنَّ الله شرَح صدره، لَكَان هذا النفي مُستنكراً مُستَقبَحاً، لأنَّه بَيِّن البُطلان عند الله عزَّ وجلّ، وكذلك عند رسوله “صلى الله عليه وآله”، فهذا الاستنكار للتقرير، استنكارٌ للنفي لتقرير حالة الإثبات وتأكيدها، وأنَّ شرْح صدره كان حقَّاً لا مِراءَ فيه، حتّى أنَّه لو أنكره أحد أو شَكَّكَ فيه أحد لَكَان التشكيك فيه وانكاره مُستنكَراً قبيحاً، فهذا الأسلوب أوْكَدُ في الإخبار وفي التأكيد على الخَبَر مِنْ أنْ يقول له “شرَحنا لكَ صدرك”، أو (قد شرحنا لك صدرك) أقوى مِنْ ذلك.
هناك تأكيد بلا استقباح لحالة النفي، هنا تأكيد وفيه استقباح واستنكار لنفي مَنْ نفى هذا الشيء.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)، رفعنا عنك وزرك، أزَحْنَا عنْك وِزْرَك، كُنْتَ مُثقَل الكاهل، كُنتَ تأنُّ تحت الوِزْر الثقيل، تحت الحمل الثقيل، هذا الحِمْل الثقيل وضعناه عنكْ، هذا بشكلٍ أوَّليّ أقوله.
(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)، لقد بَلَغَ مِنْ ثقل الوِزْر الذي كُنتَ تحمله وتُعاني مِنْه أنَّه أنقض ظهرَك، أوجعه، أثَّر عليه حتّى سُمِعَ صوت ظهرك لما يُعانيه مِنْ ثقلٍ ولما تأثَّر به من ذلك الثقل، تعبير عنْ أنَّه ليس ثِقْلاً عاديَّاً، وإنَّما هو ثقلٌ باهض، ثِقلٌ ثقيلٌ مُكْلِفٌ جدَّاً.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، أعْلَيْنا من ذِكْرِك، أعْلَيْنا من شرَفِك، أعطيناك المَقام الكبير الكبير في صدور الخَلْق، صِرتَ الكبير بفضلِنا عند الله أوَّلاً وهذا أهم، وفي الملأ الأعلى، وكذلك في ملأ الناس، صِرْتَ أكبر من الملوك، أكبر من الفلاسفة، أكبر من كلّ إنسانٍ آخر.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، مَا مِنْ عُسْرٍ إلاّ ومعه يُسْر، اليُسْر إنما يأتي بعدَ العُسْر، لايزامنه، العُسْر واليُسْر مُتضادَّان لا يجتمعان في وقتٍ واحد، لشخصٍ واحد، من حيثيَّةٍ واحدة، والآية مع ذلك عبَّرَت (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، بينما في الواقع أنَّه يقَعُ في طول العُسْر، يأتي اليُسْر ليرفَعَ العُسْر ويُزيحه، فكيف بتعبير الآية (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)؟، لَكَأنَّ مِنْ حتميَّة مجيء اليُسْر بعد العُسْر وإزالته لَهُ كأنَّه يُسايره مسايرةً للتأكيد على أنَّه آتٍ عليه آت، على أنَّه قاضٍ عليه قاض، وبأنَّ هذا اليُسْر لابد أنْ يحدُث ليرفعَ هذا العُسْر.
وأُكِّد بـ(إِنَّ)، و(مَعَ)، ثُمَّ بالجملة الثانية (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، وإنْ قيل بأنَّ الآية الثانية تتكلَّم عن يُسْرٍ آخر، مِنْ نوعٍ آخر، إلاّ أنَّه في الظاهر -وكما يختار عدد من المفسِّرين- بأنَّ الآية الثانية مُؤكِّدة للآية الأولى لتقول بأنَّ العُسْر لنْ يبقى، وإنَّ الحياة في تداول والأمور في تداول والحال ينقلِب إلى حالٍ آخر.
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)، الفراغ هو الانتهاء مِنْ الفعل، انتهاء من أداء مهمّة مُعيَّنة، مِنْ شُغْلٍ مُعيَّن.
(فَانْصَبْ)، فاتعب، وهل هنا أمْرٌ بالتعب؟ وهل الله عزَّ وجلّ من هدفه أنْ يتعب رسول الله “صلى الله عليه وآله”، أو أنْ يتعَبَ غيره؟ هذا يتَبَيَّن فيما يأتي.
نَرْجِع للسورة مِنْ أوَّلِها: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، المُخَاطَب رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”، ورسول الله ذي المهمَّات الكبرى، المُكَلَّف بالمهمات الكبرى في هذه الحياة، وقد كُلِّف بما لم يُكلَّف به غيره.
وإذا كانت رئاسة محدود، كانت إدارة محدودة، كانت رعاية إجتماعية محدودة، ممارسة مهمّة سياسية محدودة، إذا كانت إدارة جمعيّة محدودة، كلُّ ذلك يتطلَّبُ كفاءات مُعيَّنة توازي المهمّة، وإذا كانت أكبرُ مهمّة في التاريخ، وعلى مَدَى الحياة مِنْ بعد رسول الله “صلى الله عليه وآله” قد أُسنِدَت إليه، فلابد أنْ يكون الإنسان المُتميِّز الكبير العملاق البَطل في كلّ النواحي الإيجابية، ومِنْ حيث كلّ الحيثيَّات التي تتطلَّبُها هذه المهمّة الكبرى التي تتوَلَّى صناعة الإنسان وصناعة أسلوب الحياة وواقع الحياة، وقد أُخِذَ على كاهلها أنْ تُوَّجِّه مسار الحياة على المدى الطويل حتّى تنطوي السماوات وتَنْدَّكّ الأرض، إذا كانت هذه هي مهمّة رسول الله فلابد أنْ يكون ذلك الإنسان الذي لا يُساويه إنسان في كفاءةٍ فكرية ولا نفسيّة، وأنْ يكون صدْره الشريف أوسعَ صدْرٍ يتحمَّل كلّ علمٍ عظيم، ويتَحَمَّل كلّ حكمة، ويكون الصَدْر الذي لا يضيق بمُعطيات عالم الغيب الكبيرة الثَرَّة التي تحتاج إلى تحمُّل وتحتاج إلى إدراك، تحتاج إلى تحمُّل فكري وتحمل نفسي ووَزْنٍ إنسانيٍ كبير.
صَدْر رسول الله “صلى الله عليه وآله” لا يُمكن أنْ يكون على مستوى أعظَم صدْرٍ في بني الإنسان وهو مُكلَّفٌ بما يجعله مسؤولاً عن توجيه وتربية وتصحيح مسار كلّ إنسان وكلِّ وَضْعٍ مِنْ الأوضاع الإنسانية.
والحمد لله ربِّ العالمين.