خطبة الجمعة (626) 27 محرم 1436هـ – 21 نوفمبر 2014م
الخطبة الأولى: الحكمة معرفة وعمل
الخطبة الثانية: ارتباكٌ أو سخرية؟ – الإرهاب ما هي أسبابه؟
الخطبة الأولى
الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخّر الرّياح، فالق الإصباح، ربّ العالمين. لا شريك له في خلق، أو ملك، أو رزق، أو تدبير. ولا حقّ لأحد دونه أن يُعبد، ولا وجه لأن يُطاع غيرُه من غير إذنه، أو يَستقلّ بتشريع، ولا أن أو يتولّى الحكم في الناس من دون الرجوع إليه. فكما أنّ منه الخلق، وله الملك، ومن عنده الرزق، وبيده التدبير لعالم التكوين وهو المتفرِّد بذلك كلّه، فله الحكم والتشريع والطاعة وحده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله ما كُتب على الإنسان في الدِّين أن ينسى شؤون دنياه، ولا يَسمح له الدّينُ أن يهملها الإهمال الذي يُعطّل الحياة، أو يُعرقِل من حركتها، ويتوقّف بسببه العمران الذي يساعد على البقاء.
ولكن كُتِبَ عليه أن يعرف قدر الدنيا ووظيفتها، وقدر الآخرة وأنها المنتهى، وإليها المأوى، ومن أجلها العمل، وأن يفيَ لكلٍّ منهما بحقِّها، ويضعها في الموضع اللائق بطبيعتها ووزنها، وما هي عليه من قدر عند الله سبحانه وتعالى.
ولا يُعرف حقُّ دنيا ولا آخرة كما هو حقُّهما إلَّا من الخالق العليم بالأوزان والأحوال، ولا طريق للإنسان لهذه المعرفة إلّا دينُ الله الذي شرّع لهما بالعدل.
فلنطلب عباد الله هدى الدنيا والآخرة وكلّ ما نحتاجه من هدى من العقل الممنوح منه سبحانه، والدّين الذي نزّله رحمةً للنّاس، ولْنُقِمْ حياتنا كلّها على هدى دينه وأحكام شريعته، ولنأخذ بتقواه ما حيينا نهتدِ ونرشد، ونستقم، ونكن من الغانمين.
ربّنا اهدنا ولا تُضلّنا، وبصّرنا بأمر ديننا ودنيانا، واجعلنا ممن يختار الآخرة على الدنيا، ولا يبيع سعادتها بالتي هي أدنى.
اللهم صلّ على محمد و آل محمد، وارحمنا بهم يا كريم، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فعنوان هذا الموضوع:
الحكمة معرفة وعمل:
العقلُ والمعرفةُ والرشدُ أن نعرف ولا نخالف معرفتنا، وأن نطلب العلم من أجل العمل، وأن لا يكون لنا سعيٌ لدنيا أو آخرة، ولا تقديم أو تأخير لأمر من أمرهما عن جهلٍ وعمى، وأن لا نرتكب ما لا يأذن العلمُ بارتكابه، وما يقدّم عليه خلافه.
ومن عرف شأن الدّنيا وشأن الآخرة، وأخذ بما عرف لم يخفَ ذلك في مواقفه وخياراته وما له من العلاقات.
ويتبيَّن المرء حكمتَه بعد معرفته النظرية بما عليه شأن الدنيا وشأن الآخرة فيما ينوي ويعزم، ويؤخِّر ويقدِّم، ويسكت وينطق، وفي كل مسلك من مسالكه في هذه الحياة، وفيما يُحرّكه عند التزاحم بينهما ويقوم عليه موقفه العملي المتردِّد أهو دافع الدنيا أو دافع الآخرة. ولا تتمُّ حكمة امرء يرى الأهمية للآخرة، ولكنّه يقدّم عليها دنياه من ناحية عملية.
وتحتاج النفس لاستقامتها ورشدها العمليّ إلى المراقبة على ضوء العقل والدّين، ليعدل بها صاحبُها عن غيّها، ويردّها إلى الطريق كلّما ضلّت، وإلى رشدها كلما سفهت، وغلبتها الشهوات.
تحتاج النفس إلى أن تُلام وتُؤدَّب على خطئها، وأن تُحثّ على الصبر على الطاعة لله سبحانه كلّما أصابها تلكّؤٌ أو فتور، وإلى تشجيع على المزيد كُلّما وُفِّقت للطاعة.
والدنيا مليئة بالرغبات واللذائذ وأنواع المشتهيات. وفي ذلك إلهاء عن أمر الآخرة، ومزاحم للاستقامة على طريقها، ومثير للصراع في النفس بين الأخذ بما تقتضيه اللذة، وما تدعو إليه الغاية من الحياة مما يُعرِّض النفس لو أُغفلت ولم تكن لها مراقبة من عقل ودين، وتأنيب وتأديب في موضعه، وتشجيع ودفع في موضعه لأن يؤول أمرها إلى الزيغ والانحراف.
وقد تَخِفُّ حدّة الصراع في النفس بين أمر الدنيا والآخرة بِغَلَبة أحدهما عليها وركونها إليه بما يُريحها بدرجة من تعب الصراع([1])، وإن خسِرت كلَّ الخسران، أو ربحت كل الربح في موافاتها للآخرة([2]).
ولا ينتهي صراع النفس بين الأمرين في صالح الآخرة وبالخلوص لله سبحانه إلّا في نفوس مرحومة بالرحمة الخاصّة([3])… نفوس معصومة مصطفاة لله تبارك وتعالى.
ومن غير هذا النفر مستويات إيمانية عالية تتمتّع بدرجة كبيرة من الانتصار على المزاحِمات الدنيويّة للاستقامة على طريق الغاية للحياة والاهتمام بأمر الآخرة فتجد راحةً كبيرة في الدنيا ودرجات رفيعة من نعيم الآخرة([4]).
ومزاحمة الدنيا للتوجُّه الأخروي في النفس كما يكون بسبب مشتهياتها ولذائذها يكون كذلك لما قد تُكلّفه الاستقامة على طريق الحقّ من متاعب وشدائد المواجهة لمشقّة المحاذير الدنيوية التي تتهدّد أمن الإنسان، ولقمة عيشه، وتعرِّضُه لألوان العذاب، ويترصّده من خلالها الهلاك.
فقد يكون من ثمن الاستقامة على طريق الحقّ سِجنٌ مؤبد، إقلاق أمني دائم، ملاحقة مستمرة من التوعّد والوعيد، قتل شنيع.
وتحدٍّ من هذا النوع الصبرُ عليه أشدّ على النفس من الصبر عن كثير من اللذائذ والمغريات، وكثيرًا ما تتعرّض النفوس للانهزام أمام هذه المحن ولنسيان أمر الآخرة. والثباتُ في هذا الأمر وفي كل أمر آخر يحتاج إلى مجاهدة مستمرة للنفس وإلى عصمة من الله الذي نسأله ألّا يتركنا لأنفسنا وألّا يكلنا لها طرفة عين.
وإنَّ الصراع من هذا النوع إما أن تقبل فيه النفس بخسارة الحياة الدنيا وهي غالية عليها أو بخسارة الآخرة التي لا تقوم لها خسارة ولا تعدلها خسارة([5])، ولكن البصر كثيرًا ما يزيغ في هذه المواقف، والنفسُ كثيرًا ما تعمى، وإلّا لم تُقدِمْ نفس على خسارة الآخرة أمام أكبر خطر من أخطار الدنيا العابرة([6]).
أكبر صراع يتعرّض إليه الإنسان، وتمرُّ به النفس الإنسانية هو الصراع الذي تعيشه بين أمر الدّنيا والآخرة، وأخطر خيارٍ وأشدّ خسارة، وأكبرُ ربح، وأفدحُ هزيمةٍ، وأعظم انتصار هو ما يتعلّق بهذا الصراع. إنه الصراع الذي يتحدَّد بنتيجته المصير.
وهو الأساس في الصراعات الأخرى، ومن رَحِمِه تنطلق أنواع كثيرة من الصراع([7]).
ونجاح النفس في صراعاتها الأخرى من نجاحها في هذا الصراع، وفشلها فيها من فشلها فيه، فلنجدَّ في تحقيق نصر متفوِّق لنا في هذا الصراع الرئيس المُرتَكَز.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من عبادك المرحومين الذين غلبوا هوى النفس، وكيد الشيطان، وكلّ مضلّ عدوٍّ لدود، واستقاموا على طاعتك، ولم تمِلْ بهم الرغائب ولا الشدائد عن قصدك يا الله يا رحمان، يا رحيم.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}([8]).
الخطبة الثانية
الحمد لله شديد الرّحمة بمن رحم عباده، المحسن لمن عدل فيهم، وبمن سعى في خيرهم. ولا مفرّ لظالمهم من عذابه، والجائر عليهم من عقابه. وما منهم من يغلب قَدَره، أو رادٍّ لإرادته. وكلهم مغلوبون لأمره، مقهورون خاضعون لمشيئته، أذلّاء بين يديه، منتهون إلى حكومة عدله، ومصيرهم إليه، مستجيبون رغمًا عليهم لحكمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله للفلاح طريقه، وللخسار طريقه. ولا علم لأحد بطريق الفلاح، وطريق الخسار كعلم الله الخالق المحيط بكلّ شيء قُدرةً وعلمًا، وبكلّ مؤثّر وتأثير، الخبير بأسرار النفوس، وما يُصلح أو يُفسد، وما تنتج الأسباب عاجلًا وآجلًا، وما تُطيق الجوارح، وتحتمله الجوانح.
فلا خيار لمن أراد فلاح نفسه، وحُسن حاله، وهناءةَ منقلبه، والحاضر المريح، والمستقبل الرابح إلّا بأن يأخذ بما اختار الله له من الدين القويم والمنهج اللاحب وشرّع من الشريعة الغرّاء، وما هدى إليه من الطريق.
فلنأخذ عباد الله بالمنهج الذي رضى لعباده، والدين الذي ألزم به، والشريعة التي دعا إليها.
لا تعدلوا عباد الله عن تقوى الله خوفًا أو طمعًا في أحدٍ من العباد الذين لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا لأنفسهم أو غيرهم إلّا بإذنه فليس من الحكمة ولا العقل أن يُترك رضا القويّ لرضا الضعيف، وأن يُهمل أمر الحكيم لأمر السّفيه، وأن يُقرِّب الطمع صاحبه للفقير بإغضاب الغني. وكلّ القوة والغنى والعلم والحكمة الحق إنما هي لله وحده.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل لنا رضا على خلاف رضاك، ولا كُرهًا على خلاف ما تُحبّ، ولا عدوًّا ممن ترضى، ولا حبيبًا ممن تكره، ولا سَعيًا أو ميلًا لرضا من فيه رضاه غضبُك، ولا خذلانًا لحقّ، ولا انتصارًا منّا لباطل، ووفّقنا لأصدق الطاعة وأخلص العبادة لك، وتقبّل ذلك منّا يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي لك، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأخوة والأخوات الأحبّة في الله فإلى عنوانين:
ارتباكٌ أو سخرية؟
من حق المواطن أن يسأل هذا الذي يجري على يد السلطة من الارتباك، أو من سخرية بالشعب؟
استدعاءات تشمل الأحرار والحرائر، وتوقيفات، وتحقيقات، وإهانة وازدراء، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تصل رسائل المشاركة في الانتخابات إلى زوج المرأة الموقوفة والسجينة وأبيها وأخيها وأهلها من رجالٍ ونساء بالمشاركة في الانتخابات وكأنَّ هؤلاء النساء الموقوفات والمسجونات من المنبوذات حتى عند أعزّ عزيز عليهنّ، ويأتي مثل ذلك في حقّ أحبة وأهالي الموقوفين والسجناء من الرجال.
هؤلاء السجناء والسجينات ليسوا منبوذين ولا مجرمين. إنهم أحرار طالبوا بحقوق هذا الشعب، وهم محل اعتزاز الشعب الحرّ، ومحل تقديره([9])، وهذه هي شيمة الشرفاء الأحرار، وشأن الإنسان المؤمن والمواطن الغيور على وطنه الذي يحب الخير لشعبه وأمته.
أليست هذه الدعوة الموجهة لأهالي السجناء والسجينات من أحرار وحرائر هذا الوطن من غير حقٍّ هي دعوة مُمعِنة في إهانة المواطنين… دعوةٌ تريد من المواطن أن يُوقّع على وضع مؤلم له، ظالم في حقه، مُقِضٍّ لمضجعه، ومباركة له وتشجيعه، وإعلانٍ لتأييده لاستمرار السجن والأذى والتعذيب لعزيزه وحبيبه من ولدٍ أو أخٍ أو زوجٍ مثلًا؟([10])
هنا يُسأل: أهذا ارتباك في الموقف الحكومي بسبب ظروف الانتخابات وما تتوقعه الحكومة من حجم المقاطعة لها، أم هو المبالغة في السخرية من المواطنين، أم هما الأمران معاً؟!
ولأي شيء يرجع هذا التهافت الواضح بين دعوى أنَّ الانتخابات حرّة ومن أجل الديمقراطية وترسيخها كما عليه إعلام السلطة، وبين أن يُمنع على المواطن المعارض المقتنع بعدم جدواها، وبضررها على الشعب إبداء رأيه فيها إلى أن يبلغ الأمر حدّ التهديد والوعيد لمن يبدي رأيًا معارضًا، أو يظهر كلمة بهذا الشأن؟!
الحكومة تُعطي بهذه الديمقراطية الغريبة لنفسها الحق في أن تقول ما تشاء بشأن هذه الانتخابات تشجيعًا على المشاركة فيها لانجاحها الانجاح الإعلامي المطلوب لها، وأن تُهدّد وتتوعد المتخلّف عنها تخويفًا وإرعابًا خارج الدين وحتى خارج الدستور والقانون، وتمنع في الوقت نفسه إبداء أيّ رأيٍ سلبي بشأنها.
وفي هذا برهانٌ قاطع لصدق هذه الديمقراطية ولعمل المجلس النيابي القادم على إيجادها وتركيزها!!
ومن ديمقراطية السلطة في هذا الوطن، ومن عدلها، واحترامها للدين أن تحكم على الكلمة الدينية لنصرة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن منكر السياسة، والدفاع عن حرمة المسجد والقرآن والصلاة بعقوبة المتفوّه بها في مسجدٍ من مساجد الله، وتُحشّد ضدها كلّ أتباعها من الإعلاميين، كما تعدّها تنجيسًا للدين لتدخلّها في السياسة([11])، أما الفتاوى التي تُعين السياسة لتحقيق مآربها، والمباركة لما تراه السياسة، وكثيرًا ما ترى السياسة الحقَّ باطلًا، والباطل حقًّا، وكثيرًا ما ترتكب السياسة من ظلمٍ وانتهاكٍ للحقوق والحرمات، أمَّا تلك الفتاوى فهي فتاوى مباركة، ومثابٌ عليها من السلطة، وتُنشر في الصحف شبه الرسمية والموالية، ويُروّج لها([12]).
يا أهل السياسة فعلتم كلَّ ذلك، وتفعلون، وكل ذلك عدلٌ منكم، وديمقراطية تقدمة.
ويا أهل السياسة خاطبتم الأموات فضلًا عن الأحياء بالمشاركة، وأوصلتم خطابكم بها إلى بيوت السجناء وهم في مقابر السجون وأنتم لا ترجون النتيجة المطلوبة لكم من ذلك.
وما كان هناك حاجة لشيء من هذا كلّه ولا غيره لإنجاح الانتخابات الإنجاح الحقيقي وكثافة المشاركة فيها لو كانت انتخاباتكم غير هذه الانتخابات، وليست بتصميمها وهندستها وهدفها المرسوم لها من قبلكم الذي لا يزيد الطين إلا بِلّة، والمشكلة إلا عمقًا وتركّزًا واتساعًا.
انتخابات من النوع الذي يؤمّل فيها المواطن خيرًا يندفع إليها ولو وُجِدت متاعب في طريقه للمشاركة فيها، وانتخابات لا تحمل معها إلا اليأس والبؤس والتأزيم لا يُحرّكه إليها شيء ولو فُرش الطريق إليها بالسجاد الفاخر والرياحين.
التعويل في المشاركة والمقاطعة ليس على الإعلام والإعلام المعاكس المضاد، وإذا أثّر هذا الإعلام أو ذاك([13]) على القليل من المواطنين وإذا دفعت المصالح الشخصية بعض الأشخاص إلى المشاركة، والعصبية بعض الأشخاص إلى المقاطعة فإنّ الوعي والتقدير الدقيق لمصلحة الوطن ومضرّته من هذه الانتخابات هو الذي يحدد موقف الكثيرين من مسألة المقاطعة والمشاركة.
وإذا أعطت تهديدات الدولة للمعارضين للمشاركة والإشاعات بالأضرار اللاحقة للمتخلّف عنها دفعًا وانخداعًا تحت عامل الخوف للبعض للمشاركة فإن الأحرار الناظرين إلى خير الوطن كُثْرٌ إن شاء الله([14])، وهؤلاء إذا كانوا على رأي المقاطعة فلن تفصلهم عن رأيهم هذه المحاولات، ويرونها محاولات فاشلة.
الناس ينتظرون إنتخابات غير هذه الانتخابات يظنّون فيها خيرًا ليزحفوا للمشاركة فيها زحفاً، ويتسابقوا مسرعين لها، وهي انتخابات الحلّ الحقيقي لا غيرها.
الإرهاب ما هي أسبابه؟
الإرهاب هذه الظاهرة الخطيرة المدمِّرة التي تجعل العالم كله اليوم في رعب ومحكوماً للقلق وإرهاق الأعصاب ما هي مناشئ تكوّنه واستمراره، ومن هو المسؤول عنه؟
من ناحيةِ الكيانات الإرهابية: قد تكون دينية، أو قومية، أو قِطرية، أو قبلية، أو طبقية، أو سياسية على مستوى المظهر والمواجهة، ولكنَّ الجاهلية التي تقف وراء هذه الكيانات والتمظهرات هي واحدة، منشأها أرضي ماديٌ ونظرة منفصلة عن الدين الإلهي الحقّ وقيم السماء.
ولنذكر جملة من هذه الأسباب وخلفيتها القريبة في الأكثر ثم الخلفية الأكثر بُعدًا.
وهذا عددٌ من الأسباب القريبة:
- عدوانية بعض النفوس:
هناك نفوس بشرية من أي طبقة أو قومية أو قِطر وإنتماء، لها ميلٌ شديد للعدوان، مما يُمثّل ظاهرة مَرضِيَّة لها أسبابها الخاصة. هذه النفسية لها قوة اقتضاء لأن تجعل صاحبها إرهابيًّا ومصدرًا من مصادر حركات الإرهاب.
- التربية السيئة الحاقدة:
وهي تربية مساعدة جدًا على تكوين نفسية عدوانية من النوع الذي تقدم ذكره.
وذكر التربية السيئة الحاقدة سببًا مستقلًا لظاهرة الإرهاب عن سابقه لأهميته ودوره الفعّال في نشوء هذه النفسية التي قد تكون لها أسبابها الوراثية، وأشد ما يكون التأثير للتربية في هذا المجال حين ترتبط باسم الدين والمقدّس، وتُنشئ حقدًا جاهليًا باسم الدين.
- روح السيطرة وحب الظهور والتسلط التي تصبغ بعض النفوس بقوة.
- انتشار حالة العوز المادي التي تهيئ العنصر البشري المُنفِّذ لخطط الإرهابيين، والمشاركة في الدفع لتبني الإرهاب.
- الأديان المحرّفة والدعوات الدينية المرتبطة بها، والفتاوى المنطلقة منها.
- الفتاوى من أصحاب المستوى العلمي والمظهر الديني ممن اشترتهم السياسة المادية، ووظّفتهم لتنفيذ خططها.
- المناهج الدينية الطائفية المفرّقة من وضع السياسات الأرضية التي تخدم أغراضها الخبيثة في بث الفتنة تمكينًا لسيطرتها.
- الظلم الذي يمارسه عددٌ من الحكومات في حق شعوبها أو فئات خاصة منها.
- إنشاء منظمات إرهابية بصورة مباشرة من حكومات طاغوتية للدفاع عنها، وارباك أوضاع شعوبٍ وأقطار وأمم مستهدفة لها، وانتقامًا من الحركات المضادة لها من شعوبها نفسها.
- الروح القوميّة أو القِطريّة أو الطبقيّة أو القبليّة المتجاوزة لكل الحدود المعقولة. فهذه الروح إذا وصلت إلى حد العصبية الغالبة على النفس اتخذت كل وسيلة ومنها الارهاب في إرواء عطشها لضمان ما تتطلّبه، وتدعو إليه.
ويرجع الكثير من هذه الأسباب إلى مكر السياسة الأرضية الدنيوية التي يقف خلفها وخلف كل الأسباب الأخرى أساساً، الانفصال عن هدي السماء، والدين الحقّ، والشريعة الإلهية، والقيم المعنوية الجليلة، والانشداد إلى المادة والحياة المادية، وتجهيل المجتمعات، وصناعة التحريف الديني المنطلق من الانبهار بالحياة المادية والأهداف الدنيوية التي يدفع في اتجاهها.
اللهم لا تجعلنا من المفسدين في الأرض، ولا الراضين بالفساد، ولا الساكتين عليه، ولا ممن يميل إلى الظلم وإخافة العباد، ونشر الرعب فيهم، واجعلنا ممن يحبّ العدل، ويعمل به، ويدعو إليه، ويحبّ للناس الخير والأمن والاستقامة، ويسعى في ذلك لنكون من المحبوبين عندك، المرضيين لديك يا عظيم يا جليل، يا جميل برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين المرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم الشهداء والموتى منّا وشهداء الإسلام في كل مكان، واشف الجرحى وداوِ المرضى، وردّ الغرباء ؛ غرباء المسلمين والمؤمنين إلى أوطانهم سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([15]).
[1]– الصراع إذا انتهى في النفس بدرجة ما -والصراع متعب للنفس- وجدت من هدوئه النسبي راحة نسبية، الصراع في النفس يشقيها، يتعبها، يرهقها.
[2]– وليس معنى انتهاء الصراع في النفس، وارتياحها في هذا الصراع أنها تكسب السعادة، ربما كان انتهاء الصراع فيه مصرعها الكبير، وخسارتها الكبيرة؛ حيث ينتهي الصراع بغلبة حب الدنيا على أمر الآخرة.
[3]– ينتهي تماما الصراع في نفسي، في نفس أمثالي؟ بعيدٌ، إلا في نفس المعصوم ومن رحمه الله سبحانه وتعالى برحمته الخاصَّة.
فأنا أحتاج دائما للمراقبة، أحتاج لالتفاتي للنفس؛ تشرّق، تغرّب، تستقيم.
[4]– فلنعمل على هذا لنجد راحة في الدنيا ونربح نعيم الآخرة.
[5]– نكون أحيانا بين أمرين؛ بين أن نقبل بخسارة الحياة الدنيا نهائيا، أن نسترخص البقاء فيها، وبين أن نخسر الآخرة لنحتفظ بالحياة الدنيا.
[6]– كم سيبلغ الخطر؟ فليكن أشدّ خطر، النفسُ إذا كانت مفيقة، وكانت صحوتها عالية تقبل بكلّ خسارة دنيوية، وخطر دنيوي درأً لخسارة الآخرة.
[7]– المنتصر فيه منتصر فيها، والمنهزم فيه منهزم فيها.
[8]– سورة العصر.
[9]– وهم أحبةٌ من أحبته العظام.
[10]– تدعوني للمشاركة في الانتخابات وابني أو ابن ابني أو ابن ابنتي أو أخي أو ابن عمي سجينٌ ظلمًا عندك؟ ماذا تريد أن تقول لي؟
(هتاف جموع المصلين: مقاطعة مقاطعة).
تريد أن تقول لي بأن سجينك البريء ظالمٌ وأنا عادل، وأن أقول ذلك معك وهو قول كاذب مقلوب ؟!
(هتاف جموع المصلين: هيهات منا الذلة)
تريد أن تقول لي أفعل ما أشاء بابنك بإبن بنتك، بأخيك، بابن ابنك، بابن عمك، بابن خالك، وعليك أن تُذعن وتخضع وتسجد إليّ؟
(هتاف جموع المصلين: لن نركع إلّا لله).
[11]– كلمة دينية تُقال في نصرة الدين هي تنجيس للدين، هذا من جهة.
[12]– فتوى تناصر السياسة وظلم السياسة دينٌ قويم، ودليلٌ على طهارة الدين، وعدل الدين ورقيّه، وكلمة دينية ليست بمستوى الفتوى تقال في نصرة الدين تنجيسُ لدين الله، هذا قول السياسة.
[13]– إعلام حكومة أو إعلام معارضة.
[14]– في هذا الوطن.
[15]– 90/ النحل.
(( إضغط هنا للاستماع للخطبة صوت ))