وقفة قرآنية : آية الله قاسم – ١٥ شهر رمضان ١٤٤١هـ
*نصّ “الوقفة القرآنية” لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم التي يبثُّها مركز المقاوم للثقافة والإعلام عبر منصّاته في مواقع التواصل الإجتماعي خلال ليالي شهر رمضان المُبارك – ليلة الاحد 15 رمضان 1441 / 9 مايو 2020م:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على الأخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات.
الكلام عن الحسنة والسيِّئة بمعنى الخير والشرّ حيث يحدث للإنسان.
الآية الكريمة تقول (فما أصابك من حسنة فمن الله)، أي تنسب الحسنة إلى الله
الحسنة -عزيزي- هي مِّنَّةٌ مِنْ الله تبارك وتعالى خالصة.
كما سَبَق مِنْ أنَّ أصلَ التسبيب لها هو مِنْ عند الله، وكلّ ما استعملته في هذا التسبيب هو من عند الله عزَّ وجلّ، وافاضة الخير نفسه على السبب الذي ارتكبته هو بفعل الله عزَّ وجلّ، وكلّ شيءٍ من ذلك من خلقه وإبداعه وكرمه وعطاءه.
الآية الكريمة تقول: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) – سورة الأنفال، الآية 17.
هذا في واقعة بدر، خطاب للجيش الإسلامي بعد إنتصاره.
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)، حرب صعبة سالت فيها دماء المسلمين، عملت فيها سيوفهم في العدوّ، واجهوا العدوّ المواجهة القويّة الصلبة الصارمة، وسقَط قتلى على أيدي المسلمين وبسيوفهم، مع ذلك تقول الآية الكريمة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)، سَلْبٌ كامل عن قَتْل المسلمين للمشركين الذين همْ قد قتلوهم في الخارج. المسلمون قتلوا الكُفّار في الخارج وبحسب العيان، ومع ذلك تقول الآية الكريمة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ).
كلّ ما في يد الإنسان الجندي المسلم والمقاتل المسلم هو مِنْ عند الله عزَّ وجلّ قبل لحظة أنْ يُقاتل ولحظة أنْ يُقاتل، كلّ قوةٍ مِنْ قواه، عقله، تفكيره، إرادته، قوّته العضليَّة، حركة يده، كلّ ذلك مِنْ الله عزَّ وجلّ.
فلمَّا كان الله المصدر الأوّل والمُفِيض لكلِّ جزئيّة مِنْ جزئيّات التي سَبَّبَت هذا النصر أو هذا القَتْل، لذلك يكون الله عزَّ وجلّ هو الذي قَتَلَهم، وهذه الأيدي وهذه السيوف إنَّما هي أسبابٌ وراءها قدرة الله عزَّ وجلّ وإرداته وفَيْضه.
(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)، الرواية تقول أنَّ رسول الله “صلى الله عليه وآله” قبل بداية المعركة بين قُريْش وبين جيش الإسلام أخذَ بقبضةٍ مِنْ حَصّيَّات، وفي روايةٍ أخرى أَمَرَ عليَّاً “عليه السلام” أنْ يُعطِيَه قبضةً منه، فكلّ ما فعلَه رسول الله أنَّه رمى بهذه القبضة مِنْ الحَصّيَّات في جهة جيش الشرْك، إمّا في وجوههم أو مِنْ جانبيْهِم ومِنْ خلفهِم -على اختلاف الروايات-، تقول الرواية مَنْ أصابه حصى مِنْ هذه الحَصّيَّات الصغيرة كان قد قُتِل، وهو قدَرٌ مِنْ الله عزَّ وجلّ أنْ يكون القتلى مِنْ كُفَّار قُرَيْش بهذا القَدَر.
الروايتَان تقول بأنَّ هذه الحَصّيَّات أحدَثَت في عيونهم ما أحدَثَت فصاروا لا يُبصرون المسلمين، وهنا المسلمون بعد ذلك صاروا يغتالونهم اغتيالاً لأنَّهم لا يستطيعون أنْ يُقاوموهم، وعلى أيِّ حال كان لهذه الحَصّيَّات دورٌ كبيرٌ فاعلٌ في تحقيق النصر، طبعاً كان هناك الملائكة، وهناك إنزال المطر بدرجةٍ معيَّنة لا تضرُّ، تُصلِح الأرض ولا تحوِّله إلى زَلَق، وغَشْية النوم، وما إلى ذلك من أسبابٍ كانت مِنْ بين الأسباب التي أَعطَتْ النصر للجيش الإسلامي.
كما سَبَق، هناك سيوف المسلمين مِنْ جهة، وهناك تخطيط رسول الله “صلى الله عليه وآله” وحكمته، ورباطة جأشه، وتدبيره المعركة، وقيادته الحكيمة، وما إلى ذلك، كلّ هذه الأمور لم تُعْطِها الآية بَالاً، وقالت (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)، والشطر الأوّل قَالَت (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ).
وما كانت حكمة رسول الله، وما كان قِتال المُقاتلين، ولا كانت شجاعتهم، ولا بأس عليٍّ “عليه السلام”، ولا أيّ موقف مِنْ مواقف البطولة للمسلمين، ولا أيّ موقف مِنْ مواقف الحكمة والصواب والرؤية الثاقبة لرسول الله ورباطة الجأش وقدرته على التحفيز، كلُّ ذلك ما كان ليفعَل شيئاً لوْلا إرادة الله بالنصر للجيش الإسلامي.
(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)، هذا ليس إنكاراً للرمي الخارجي، وليس إنكاراً للقتال الخارجي. المسلمون قاتلوا فعلاً، والآية الكريمة لا تُنكِر عليهم ذلك، والرسول “صلى الله عليه وآله” رَمَى، ودَّبَّر، وخطَّطَ، وقَادَ القيادة الحكيمة الشجاعة وأعطى شِدَّة البأس للمقاتلين والعزيمة الكبيرة، والآية الكريمة لا تُنكِر عليه ذلك، وتُجازيه على ذلك، وتُجازي المسلمين على قتالهم، إلاّ أنَّها تريد أنْ تقول أنَّ التقدير والقضاء الحقّ إنَّما هو لله تبارك وتعالى، وكلُّ شيءٍ لا يُمكن له أنْ يَحدُث في هذا الكوْن إلاّ بإذن الله وفيْضه، فلا غرور ولا استكبار ولا تبجُّح، حتّى تأتي سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا)، هنا هل يأتي الإحتفال والغرور؟ ونحن حقَّقنا النصر؟ وكَسَرنا شوكة العدوّ؟ وإنَّنَا لا يُمكن أن نُجَابَه؟ وأنَّنا الجيش الذي لا يُغلَب؟ -كما تقول إسرائيل بأنَّها الدولة التي لا تُكسَر والإرادة التي لا تأتي عليها إرادة- هذا كلُّه لا وجود له بعد مجيء النصر. إذا جَاءَ النصر وحَصَل الفتح لا يَصحُّ أنْ يأتي عند المسلمين، أيْ الغرور والتبجُّح وإسناد الفعل إلى النفس والمَنّ على الله عزَّ وجلّ، لـَ إنْ جَاءَ أمْرٌ مِنْ هذا بشكلٍ مُهَّذب وبشكلٍ مدروس يلتقي مع حكمة المسلم وهادفيَّته الإلهيّة، يأتي لتربية الناس، لدفعِهم إلى الأمام، إلى التشجيع، إلى إعطاءهم المعنويّة، وتحفيزهم إلى مواصلة الدَوْر، وليس لإسناد الفعْل للنفس وإظهار التبجُّح وغَلَبة الغرور على النفس.
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، نَزِّه الله عن أنْ تكون شريكاً له في تحقيق النصر، أنْ تُسنِد لنفسك دوراً شريكاً في نصر الله لكم، إِسْنِد النصر كلّه إلى الله عزَّ وجلّ، نَزِّه الله عن الحاجة لِمَنْ يُعينه، على مَنْ يُعضِدُه، على مَنْ يَستَنِد له الله سبحانه وتعالى في شيءٍ صغير، الله هو المالك، الله هو القادر، الله هو المُسيطر، الله هو الذي يُعطي ولا يُعطَى، هو الذي يفعل للناس خيرَهم ولا يفعل أحدٌ لله خيرا، فالله عزَّ وجلّ فوق كلِّ عطاء وفوق كلِّ حاجةٍ وفوق كلِّ أنْ يلجأ إلى أحد، أو يستغيث بأحد، أو ينتصر بأحد.
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، وأنتَ تُسبِّح إِحمِد ربَّكَ على تسبيحكْ، إِحمِد ربَّكَ على أنْ رَزَقَكَ فَهْمَ التسبيح والتنزيه لله عزَّ وجلّ، وزَوَّدَّكَ بهذا الشعور بإرجاع الأمر كلّه لله، واَحمِد ربَّكَ على ما حقَّق لكَ مِنْ النصر، لأنْ ليس لَكَ شيءٌ مِنْ هذا النصر وصناعته لولا فيْض الله وإذْن الله تبارك وتعالى.
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، أكثر من أنْ تُسبِّحَه، وتحمَده، ولا تُعطي للنفس مجالاً أبداً أنْ تُظهِر غروراً أو أنْ تشعر بالغرور، وبأنَّها فاعل، وبأنَّ لها أيّ شيءٍ من الإستقلالية، أكثر من هذا إستغفر ربَّك.
ما بَلَغ دوْرك مِنْ إخلاص، ومِنْ جَهْد، ومِنْ جدِّيَّة، ومِنْ فاعلِّيّة، ومِنْ تأثير، فأعتَبِر نفسك بأنَّك لم تَفِ بحقِّ الله تبارك وتعالى، وأنَّ نِعَم الله عليكَ أكبَر، وأنَّ هذا مِنْ توفيق الله عزَّ وجلّ.
وإذا لم يَكُنْ رسول الله “صلى الله عليه وآله” أصابه شيءٌ مِنْ إسناد الفِعْل لنفسه، فإنَّ مُقاتلاً مُسلماً يمكن أنْ يقول كم كنتُ شجاعاً في الحرب، كم كنتُ جريئاً، وما إلى ذلك، وعليه هنا أنْ يشعر بأنَّه أذنَب حين أسنَد هذا الدوْر الشجاع لنفسه فيستغفِر، والنصر يستتبِعُ أو يُعطي مجالاً للشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء أن يُوَسوِسا للإنسان بأنَّ له دَوْرَاً، وأنَّه شارك في تحقيق النصر وما إلى ذلك، هذا كلُّه فيه درجةٌ وأخرى من الشرك بالله تبارك وتعالى، فإذنْ عليكَ مع كوْن النصر قد تحقَّق، عليك في الظاهر وأنَّك خَدَمتَ الإسلام، وخَدَمتَ الدين، وخَدَمتَ المؤمنين، وحَقَّقتَ ما حَقَّقت، وبَذَلتَ ما بَذَلْت، وضَّحَيْتَ ما ضَّحَيْت، إلاّ أنَّه مع ذلك، وتخلُّصاً مِنْ تأثير هذه المشاعر السلبيّة الشيطانيّة عَليكَ أنْ تَستَغفِر، (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).
أنتَ بعد تحقيق النصر تحتاج إلى أنْ تطلُب التوبة مِنْ الله، تحتاج إلى أنْ يرحمكَ الله برحمته ولا يُحاسبكَ على مشاعر ساقطة وشيطانيّة ومُنطلقة مِنْ جهل ومِنْ غرور النفس وكيْدها، هذا فعْل الله عزَّ وجلّ.
وهذا هو الكوْن كلُّه، وكلُّ أحداث الكوْن، وكلُّ خيرٍ فيه، وكلُّ شرٍّ فيه، محكومٌ لقدرة الله وإرادته وقضاءه وقدَره، وما الأسباب إلاّ ستاراً لقدرته وفاعليَّته تبارك وتعالى، بحيث تَستُر عيوننا عن رؤية قدرته وسلطانه، نشتغل بالأسباب وعلينا دائماً أنْ يكون نظرُنا ونفوسنا وقلوبنا مُنشَّدَّةً إلى مُسبِّب الأسباب ومالِك الأسباب الذي تَقِفُ قدرته وراء كلِّ حدثٍ كبير وصغير، وراء كلِّ خيرٍ، ووراء كلِّ شرّ، وإنْ سبَّبنا لأنفسنا نحن المشاكل الصغيرة والكبيرة حيث نُخالِف أمراً مِنْ أوامره أو نَهيَاً من نواهيه.
لو قامَت كلّ أنظمتنا الحياتيّة على منهج الله، مِنْ نظام أُسرَة، مِنْ نظام إجتماعي، مِنْ نظام إقتصادي، سياسي، إلى آخره، لكُنَّا وجدْنا أنفسنا في جَنَّةٍ في هذه الدُنيا بما تُطيق له الحياة الدُنيا مِنْ جَنَّة.
غفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.