وقفة مع بعض أيات الذكر الحكيم “4”- 20 أبريل 2020
صوت الحديث :
نص الحديث :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم أمّة الإسلام والقرآن
الحديث حول الآيات المتقدمة، وبالتحديد حول الصابرين الذين بشّرهم الله تبارك وتعالى بالبشرى العظيمة، والذين عيَّنهم في كونهم أنّهم إذا أصابتهم مصيبةٌ (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
تقدَّم الكلام في الآية الكريمة هذه، في جملتها الأولى (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ)، وبقي الكلام في قوله عزَّ وجلّ (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، والجملتان إسميَّتان، (إِنَّا لِلَّهِ) جملة إسمية، (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) جملة إسمية، وتدّل على الثبات.
(إِنَّا لِلَّهِ) تفيد المُلك لله عزَّ وجلّ، كما تفيد انحصار الملك في الله عزَّ وجلّ، وأنّ المُلك لله وحده، أنّنا مملوكون ليس إلا لله وحده، وهو مُلكٌ ثابت لا تزلزل فيه.
(وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). أُكِّدَت المُلكيّة لله عزَّ وجلّ لنا في الآية الأولى لكوْن الجملة إسمية، وبتقديم (إِنَّا) على لفظ الجلالة لتحصُر كوْننا مملوكين لله تبارك وتعالى.
وعندما جاءت إلى الرجوع أكّدَته أيضاً وحَصَرَته في الله عزَّ وجلّ بنفس القوة، وما اكتَفَت بالتأكيد الأول ليكون التعبير مثل “إنّا لله ونحن راجعون إليه” مثلاً، وإنّما قالت (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) لتؤكد كوْن الرجوع له سبحانه وتعالى، وأنّ هذا الرجوع لابد أنْ يكون كما أُكِّدت المُلكية في الجنبتين.
فالجملتان إسميَّتان كما سَبَق. الأولى تفيد المُلك والثانية تفيد الرجوع، وتفيدان ثبوت المُلك وثبوت الرجوع، وأنّهما مُؤكدَان ولا ريب فيهما. كما تفيد حصرهما في الله عزَّ وجلّ، هي ملكيةٌ لله وحده، ورجوعٌ لله وحده.
والجملتان إقرارٌ من العبد للربّ على مشهدٍ من الخلق، ولإلزام النفس بمقتضيات مملوكيّتنا لله، وكوننا راجعين إليه، فكوْني مملوكاً لله له مقتضياته، وكوني راجعاً لله له مقتضياته وهي من نفس النوع.
المُلكيّة لله تقتضي حقّ التصرّف لله تبارك وتعالى بالمطلق في مملوكه وهو أنا وأنت، ولا اعتراض على تصرّفه في مُلكه.
والرجوع إليه يجعل محاسبتي ومراقبتي ليوم الرجوع إليه، وأنّ مصيري ينتهي بالرجوع إليه، فكلُّ ما يحدث منّي في هذه الحياة سأُسئل عنه يوم الرجوع إليه، فلا يكون لي حسابٌ لجهة، ولا لقريب، ولا لبعيد، ولا لقويّ، ولا لأيّ مخلوقٍ فوق الحساب لما سيسألني به، أو مثل ذلك الحساب، بل لا تكون لي أيّ محاسبة لأحدٍ دونه سبحانه وتعالى، رضاه وغضبه.
وتقتضي الجملتان أيضاً الصبر كلّ الصبر على ما قدَّر الله وقضى، (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) لأنّ المُحاسبة من الله عزَّ وجلّ ستنصبُّ على رضاي وغضبي بشأن ما قضى عليَّ وقدَّر، وستكون المحاسبة أيضاً على كلّ تصرّفٍ أتصرّفه، وعلى كلّ موقفٍ أقفه ممّا يحدث لي من مصائب وتحدياتٍ ومشاكل وصِعاب، فإنْ صبرتُ على قضائه وقدَره، وإنْ صبرتُ على طاعته وعن معصيته كان الفوْز وإلاّ كانت الخسارة العظمى، فهنا لابد أن أصبر، إنّ مقتضى هذا الفهم أن أصبر على الطاعة وأنْ أصبر عن المعصية وأنْ أُواجه ما قدَّر الله بالرضا والتسليم، وذلك لمعرفتي بجلال الله وجمال الله وكمال الله ورحمة الله وغنى الله عن تعذيب عباده.
ولابد أن أصبر لأنّ الصابر سيتلَّقى الثواب العظيم، وسينعم بعطاءات لا تُحدُّ ولا تُحصى.
فالآية الكريمة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) تُعطي دفعاً شديداً وقويّاً لحالة الصبر، وحالة الانضباط، وعدم المخالفة للشريعة الغرّاء، والاستمرار على الطاعة ومفارقة المعصية.
وللتشرُّف والطمأنينة، (إِنَّا لِلَّهِ)، عبدُ المَلك فيما يراه العبيد في الناس الذين يرضون بالعبودية للخلق، فيما يرضاه بعض عبيد الله من العبودية للخلق، عبدُ المَلك يفخر على مَن يتبع المَلك، والمُنتسب لأشرف الشرفاء يفتخر على من ينتسب إلى مَن دونه، والمرتبط بالغنيّ غير المرتبط بالفقير، وإذا كانت العبودية لأي شيءٍ من دون الله مُذِّلَة وتُسبِّب احتقاراً وتَضَعُ من شأن الشخص فإنّ العبودية لله ترفعُ من شأنه، هي عبوديةٌ تعني الإنشداد إلى الكمال، تعني الإنشداد إلى الكامل المُطلق، إلى مَن تُسَبِّح له السماوات والأرض، إلى مَن لا يلحقه نقص تبارك وتعالى، فحين نعبُد الله عزّ وجلّ، هذه العبادة نطلبُه بها، فحين نطلب الله نحن نطلب الكمال، حين أطلب رضا شخصٍ من الناس، فليكُن هذا الشخص ذا خُلق وذا مواصفاتٍ عظيمة ولكنّه شيءٌ من نقص، فطلبي له ليس طلباً للكمال الخالص، إنما يكون طلبي له طلباً مشوباً بطلب نقص، لأنّ رضاه سيكون في هذا النقص الذي هو عليه. الصادق الذي قد يكذبُ أحياناً كما أنال رضاه بالصدق حيث يروق له، يكون عليَّ أنْ أطلب رضاه بالكذب الذي يروق له، وإذا كان عادلاً في الأغلب لكنّه يظلم أحياناً فإنّه سيتطلَّبُ طلبي لرضاه أن أظلم أحياناً، أمّا الله الكامل فحين نعبُده ونطلب رضاه لا يأتي علينا أنْ نطلب نقصاً، أنْ نطلب ظلماً لنُرضيَ الله عزَّ وجلّ، لابد علينا في طلبنا لرضا الله عزَّ وجلّ ألاّ نطلب إلاّ ما هو كمال وما يعطي رِفعةً لنا ويزيد في شأننا.
من هنا كانت العبودية لله عزَّ وجلّ شَرَفاً والعبوديةُ لغيره لا تبلُغ ذلك الشرف بل تحطُّ بالإنسانية. كلّما كان ذلك الإنسان أكثر نقصاً كلّما كانت العبادة إليه وطلب طاعته فيه نقص لمن يطلب طاعته.
فـ(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) لابد أن تملئنا بروح العزّة وبروح الإحساس بالشرف وتعطينا طمأنينة النفس لأننا على خط الكمال دائماً. وإذا كنتُ لله والله غيرُ ظالم، وإذا كنتُ لله والله كريمٌ غير بخيل، وإذا كنتُ لله تبارك وتعالى وهو رحيم فلابد أن أطمئن، وإذا كان رجوعي لله الغنيّ الحميد الذي خلقني فسوَّاني، وأعطاني وشفَاني وكفَاني ورعَاني كلّ حياتي فماذا أترّقب من الرجوع إليه؟ هل يظلمني؟ هل ينقصني حقّي؟ هل يقسوا عَلَيّ؟ لا شيء من ذلك.
فالآية الكريمة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) تملأ نفس المؤمن بالطمأنينة وبحالة الارتياح والثقة بالله عزَّ وجلّ.
هذه الآية الكريمة تُعطي قوة في نفس الإنسان المؤمن لمواجهة كلّ خواطر الشرك والتمرّد، أُشرك بمن؟ بمن فيه خيري ومَن عنده دفع شرّي ومن هو رحيمٌ بي، وبمن هو كامل، وبمن هو تُسبِّح له السماوات والأرض!
أتمرّدُ على مَن؟ على مَن كلّ ذرّات وجودي بِيَده، على مَن لا رزق لي إلاّ من عنده.. لا مجال للتمرُّد. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، أتمرّدُ على مَن سأقف أمام حسابه ذليلاً صاغراً حقيرا؟ وعلى مَن في معصيته ناري وعذابي وشقائي الأبديّ؟
(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)
والآية مَن أقرَّ بها، أقرَّ بمضمونها صِدقاً عَنَى ذلك أنّه يُعلن لكلّ الخلق موقفاً صُلباً من أيّ دعوةٍ تأتيه، من أيّ قوّةٍ من القوى للخضوع والخنوع لمخلوقٍ من المخلوقات، وتقضي هذه الآية عند مَن أقرَّ بمضمونها حقّاً على كلّ بواعث الاستكبار في النفس، والضعف في النفس، والخنوع لغير الله من النفس.
والحمد لله ربِّ العالمين.