الحديث القرآني الرمضاني – 1 رمضان 1440هـ / 07 مايو 2019
فيديو الحديث:
صوت الحديث:
نص الحديث :
حديث في ضوء القرآن الكريم (1) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
قم المقدسة – 1 رمضان 1440هـ / 7 مايو 2019م
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين
أبارك لكم وللأمّة الإسلاميّة جمعاء هذا الشهرَ المبارك الكريم، ونسأل الله جميعًا صيامَه وقيامَه وتقبله منّا وهو أرحم الراحمين.
اللهمّ اكتب لهذه الأمّة العزّة، والرّفعة، والنّصر، وأن تكون على خطّ هداها لا تفارقه ولا تبارحه، وأن تبلغ ما أراد الله لها من العز والكمال والرفعة وصبرها على خطّ القرآن الكريم، خطّ رسول الله الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
[حديثٌ في ضوءِ سورةِ الأنبياء] [تمهيد]
أعزّائي، اخترت للحديث أن يكون في ضوء سورة الأنبياء.
ابتداءً أقول: ما كان الله -عزّ وجلّ- أن يرسل رسلاً أو ينزل كتبًا أو يكلّف بتكليف لو أوجد هذا الإنسان مستغنيًا عن التّكليف، لو أوجده كاملًا في أقصى درجة يمكنه أن يبلغها، أو أوجده في أيّ مرتبة من مراتب الوجود كاملة أو ناقصة ممّا يُمكن أن تبلغه مخلوقاته، ولم يعطه الاستعداد والقابليّة لأن يتجاوز ما هو عليه مِن خلقة، مِن مرتبة خُلق فيها، لم يعطَ الفرصة والاستعداد لأن يبلغ إلى كمال أكبر من خلال جهده وجهاده، ومِن خلال منهجَة وضّاءة هادية، لو كان شيئًا من ذلك ما كلّف الله أحدًا أبدًا.
التّكليف حاجة العبد وليست حاجة الربّ، والتكليف ينفع لمن يأخذ به التكليف إلى الأمام، ما لو كُتب عليه أن يقف عند الحدّ الذي خلق عليه، فإنّه لا يُكلف في الحكمة والله أحكم الحاكمين، فنحن في الحياة أمام فرصة سانحة محدودة لأن نبلغ كمالًا لسنا عليه اليوم، لسنا عليه في مولدنا، ولسنا عليه في مرحلة شبابنا، ولا كهولتنا، مِن غير الأخْذ بمنهجَة الله -عزّ وجلّ- والتقيّد بها، نحن محتاجون إلى أن نعرف التّكليف، والتكليف قائم على مُكلِّف ومُكلَّف وعلى التكليف نفسه، لا بدّ من: “مرسَل ومرسَل إليه، ورسالة”، جئنا الحياة ونحن على فطرة تسوقنا إلى المرسِل -تبارك وتعالى- إلى الله عز وجل.
[فطريّة الدّين]
الدّين في أصله فطرة، والاندفاعة إليه، إلى المزيد من التّدقيق فيه، والبلوغ إلى درجة أكبر من معرفته، هذه الاندفاعة فطريّة، الإنسان مدفوع فطريًّا إلى المزيد من معرفة الله ومعرفة دينه، وليس هناك من حاجة معنويّة أكثر إلحاحًا على نفس الإنسان وعلى ضميره ووجدانه مِن التعلّق بالله -عزّ وجلّ- والتعلق بمعرفته.
[حاجة الإنسان إلى الدّين]
لو كنّا نتوفّر على المنهج الذي يبلغ بنا إلى الكمال ما احتجنا إلى رسالة، وما احتجنا إلى رسول، ولكنّ الإنسان في كلّ القرون التي قضاها جادّ كلّ الجدّ في الوصول إلى منهجة تنقذ حياته الدنيا، وتوفّر له أنّ يعيش السعادة في الدّنيا، أن يبلغ أقصى درجة من السّعادة التي تطيقها الدّنيا، ولا زال الإنسان يتقدّم ويتقدّم وقد تقدّم كثيرًا في كثير من أبعاد حياته، إلا أنّه لم يصل بجهده الجهيد إلى المنهجَة التي تقود حياته القيادة الصّحيحة، وتضعه على طريق سعادته، وكلما جاء له ازداد شقاءً وازداد حروبًا وازداد انتكاسات، وكلّما جاءت أطروحة أرضيّة سقطت تبيّن فشلها بعد حين، هذا على مستوى الدّنيا، أمّا إذا كانت آخرة فليس للإنسان علم بالآخرة وتفاصيلها ونمط حياتها وما تتطلّبه مِن استعدادٍ نفسيّ وعقليّ وأخلاقيّ لها، فالإنسان قاصر بشهادة الوجدان، بشهادة الواقع الخارجيّ، أن يبلغ بجهده منفردًا مستقلًا عن الله -عزّ وجلّ- إلى الوصول إلى المنهجَة التي تنقذ حياتَه.
مِن هنا، كان لا بدّ للإنسان مِن أن يأخذ بالدّين، بأن يعرف الدّين، ويتفهّم الدّين.
[التّكاليف طريق الكمال]
وطريقنا في الكمال هو التكليف، بلا تكاليف، بلا تجربة، بلا جهود، لا يبلغ الإنسان شيئًا من كمال بدنيّ، ولا فكريّ ولا روحيّ، كلّ أبعاد الإنسان -أبعاد وجوده- تحتاج إلى كمال، وكمال أيّ بعد من أبعاده يحتاج إلى تجربة وجهدٍ وجهاد.
[التّكليف والدّافعيّة]
والتكليف ثقيلٌ، فيحتاج الالتزام به إلى دافعٍ قويّ، يغلب ما عليه التكليف من صعوبة، ومن إرهاق، صلاة الصبح والقيام لها يحتاج إلى مجاهدة، الصوم يحتاج إلى مجاهدة، أيّ تكليف يحتاج إلى مجاهدة، فما لم يكن هناك دافعٌ قوي أقوى من ثقل التكليف لا يكون هناك من يقوم بتكليفه، هناك دافع أخلاقي للقيام بالتكليف، وهذا نادر جدًّا ولا يتوفر عليه إلا النّادر من النّاس، من هم أنبياء أو قريبون من مستوى الأنبياء.
سائر النّاس وكما هو المشهود لا يدفعهم إلى التكليف إلا الجزاء، حتّى بالنسبة للأمور الدنيويّة الحاضرة، العمل الذي لا أجر فيه وحيث لا يكون فيه جزاء أخروي ولا جزاء دنيوي يبقى عاطلاً، أيّ جنبة في جوانب الحياة لا يكون في القيام بما يسدّ الحاجة فيها من جُهدٍ لا تحصل على هذا الجهد من إنسان لا يترقّب أيّ نوع من الجزاء من وراء القيام بهذا الجُهد وتحمله التّعب والمشقة، فِعْلُ الإنسان قائم على ماذا؟ ما لم يكن تكوينيًا لا حيلة له فيه، ما دام هو إراديًّا فإنّ تحريك الإرادة يحتاج إلى غرض مقنع، إلى غاية مقنعة، إلى هدف ترضى به النّفس وتطمع فيه، ما لم توجد عِلّة غائية -كما يُعبِّرون- في الفعل لا يحصل هذا الفعل.
[الدّنيا دارُ الامتحان]
الدنيا ليست محلّ جزاء، الدنيا فرصة عمل، دار عمل، دار امتحان، أمّا الجزاء هو في الآخرة، كثيرون هم الأشرار هنا، والمفسدون في الأرض، كثيرون هم المفسدون، وكثيرون هم الطغاة، وكثيرون هم الظلمة، ويخرج من هذه الدنيا من غير جزاء مناسب، وكثيرون أيضًا من المؤمنين يخرجون أيضًا من غير الجزاء المناسب؛ إذ يتعذّب بالمرض، يتعذّب بالخوف، يتعذّب بالفقر، …إلى آخره، حتّى يموت، فلا يمكن لنا أن نقول أنّه حصل على جزائه، يُظلم ألفَ ظلم، ولا يُقتصّ له في أيٍّ من ظلاماته؛ فيخرج من غير ما يستحقّه من الجزاء.
[دار الآخِرة دار الجزاء]
الدّار الآخِرة هي دار الجزاء، فما لم يكن إيمان بالدار الآخرة، لا يكون تكليف، التكليف محتاجٌ إلى إيمانٍ بالله -تبارك وتعالى-، وإيمانٍ بحقّه في تكليف العبد، وإيمانٍ بنعمه وعظمته وجلاله وجماله وكماله، إيمان بالحاجة إليه، نحتاج إلى الخوف منه، إلى رجائه، إلى حبّه، هذا شيءٌ.
[دوافع القيام بالتّكليف]
والحبّ يدفع إلى القيام بمتطلّبه، أصل الحب ينشأ من دافع أخلاقيّ، والدافع للعمل على هذا الطريق هو الأخلاق، والدّافع الأخلاقيّ للعمل عند الإنسان هو الأقلّ مستوى، والأقل انتشارًا، والنّادرون من البشر، والصّفوة من البشر هم الذين يعملون بالدّافع الأخلاقيّ ومن منطلق حبّ الله -تبارك وتعالى- وشكر المنعم، الغالب في التحّرك هو دافع الخوف ودافع الرجاء، هذه ثلاثة دوافع هي الخلفية وراء أيِّ عمل، إمّا الحبّ، وإمّا الرجاء، وإمّا الخوف، فكلّ ذلك يؤدي إلى سدّ حاجة في النّفس، إلى التأمين في النّفس، إلى حصول النّفس على مأربِها، إلى شعور النفس بالرضا عن نفسها.
القيام بواجب الحبّ، وواجب الشكر، يعطي للنفس اطمئنانًا ورضًا بذاتها وشعورًا بقيمتها. القيام بما يؤمِّن من الخوف، يعطي للنّفس هدئتها، يعطي للنفس اطمئنانها، القيام بما يقضي حاجات النفس -أيّ حاجة من حاجاتها- يعطي راحة لها.
على كلّ حال، حبٌ، خوفٌ، رجاءٌ يؤدي إلى مطلبٍ من مطالب النفس، يسدّ حاجة من حاجات النفس، يعطي اطمئنانًا ورضًا من النّفس للنّفس، هذا هو الذي يدفعنا على طريق التحرّك في اتجاه أيِّ عملٍ من الأعمال وتحمل أيِّ صعوبة من الصعوبات.
فلذلك نجد أنّ أن الأعمال المعنويّة والتضحيات الكبيرة، من لها؟ لا يكون لها إلا من ازداد إيمانه بالله -تبارك وتعالى-، ومن ازداد إيمانُه باليوم الآخِر.
[محاور سورة الأنبياء]
سورة الأنبياء تهتمّ بهذا الموضوع اهتمامًا بالغًا، نحن نعرف أنّ القرآن كلّه، وكلّ الرسالات، وكلّ التكليف من أجل صناعة هذا الإنسان، البلوغ به للكمال، إلى أقصى كمالاً يُمكن أن يبلغه.
الإنسان هو محلّ الحاجة للتكليف، والتكليف لا يأتي إلا لصناعة الإنسان وليس لله -سبحانه وتعالى- أيّ نفع، السّورة المباركة تركز على ثلاثة المحاور:
1. محور النّبوة.
2. محور الآخرة.
3. والمحور الأصل هو: معرفة الله -تبارك وتعالى-، ورجائه، والخوف منه، وحبّه وعشقه -تبارك وتعالى-.
وتخوض السّورة معاركها الضارية مع جبهة الشرك، وجبهة الإلحاد والكفر، لتردّ كلّ الشّبهات، وتؤكّد روح الإيمان، والمعرفة الإيمانيّة في النفوس المتلقِّية.
نقرأ في السورة المباركة:
(1)
{بسم الله الرّحمن الرّحيم* اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }.
******
الآية تقول (اقترب) ولا تقول “قرُب”، وتقول (اقترب) ولا تقول “يَقترِب”، وتقول {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} ولا تقول “اقترب حساب الناس”، لماذا هذا؟.
أصل الاقتراب كما تؤدّيه كلمة (اقترب) تؤديه كلمة “قَرُب”، لكن قالوا بأنّ كلمة (اقترب) أبلغ وأكثر تشديدًا على القرب؛ لكون بنائها الحرفيّ أكثر وأزيد من بنائها من هذه الجهة، “قرب” ثلاثة حروف، (اقترب) خمسة حروف، أصل المعنى واحد، الزيادة في البناء اللفظي للتأكيد على المعنى المشترك، على المعنى الواحد وهو القرب والدنوّ، هذا الاقتراب أكيد، هذا الاقتراب مشدّدٌ عليه، بيننا وبين يوم القيامة، يوم الحساب قريبٌ منّا، ونحن قريبون منه.
يوم الحساب سهلٌ أو صعب؟
“اقتربت منك النّار” تأتيك صرخة، “اقترتب منك النّار”، ماذا تفعل؟ تسكُن؟ تبقى على وقارك؟ تبقى على هدئتك؟ أو هذا الإنذار يأخذ بك إلى جوٍّ جديد، إلى حالة نفسيّة جديدة، إلى حالة طوارئ، لا شك أنّك تدخل في حالة طوارئ لنداء “النار وصلتك”، نار الدنيا. “الموج الهائج قريبٌ منّا” ونحن على الساحل، البيوت قريبة من الساحل، ويهيج البحر، ويأتي الإنذار بذلك، فيضان النهر. “وراك الأسد”، ماذا تفعل أمام هذه النداءات؟ تبقى الإنسان الأول التي كنت على هدوءٍ وسكينة؟ وتبقى في تفكيرك الأوّل؟ أو تنتقل من تفكير إلى تفكير، ومن حالة نفسيّة إلى حالة نفسيّة، ومِن هدأَة إلى حالة إرباك وقلق والبحث عن النجاة.
صحيحٌ أنّ صورة النّار الدنيويّة في نظرنا أكبر من يوم الحساب، هذه النّداءات تفزعنا، أما {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، فقد لا تنال من نفوسنا مع الأسف الشديد، هل لقصورٍ؟ هل لضعفٍ في الإنذار في المنُذَر به؟ هل هو شكٌ في المنذر؟ شكٌ في علمه؟ شكٌ في صدقه؟ المُخبِر الله -عزّ وجلّ-، العليم الخبير، الشّفيق بعباده، يقول لي أنا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
هذا الاقتراب ما معناه؟
من وجوه الاقتراب -التي يذكرونها- أنّ الأمر حتميّ، مقضيّ، وما قضي به في حكم الله واقعٌ واقع، آتٍ آت، وكلّ آتٍ قريب، وإنّما البعيد ما جاء وهلك وذهب، أمس بعيد، أمّا غدًا فقريب، غدًا قريب؛ لأنّه آتٍ، أمس الذي ذهب بعيد، والحساب آتٍ آت بحكم الله تبارك وتعالى، فهو من هذه الجهة اقترب، اقترب كل الإقتراب.
(اقترب) -عند بعضهم- بمعنى أنه بمجيء رسول الله صلى الله عليه وآله تكون قد اقتربت الآخرة، وذهب أكثرُ الدنيا، أكثر الدنيا يكون قد ذهب، وما بقي منها هو الأقلّ، وبهذا المعنى تكون السّاعة قد اقتربت، الحساب قد اقترب.
هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: >جئتُ والسّاعة كهاتين<، السّبابة والوسطى، يعني متجاورتين، قريبتين من بعضهما البعض.
مرّة نأخذ الحساب بمعنى الحساب الأخروي، الأخير، وذلك يوم يبعث الناس، ومرة نلاحظ الحساب على مستوى حساب البرزخ، وكم بيني وبين حساب البرزخ؟ قد تكون ليلة، قد يكون أقلّ من ليلة، هذا الحساب قد اقترب فعلاً، هذا الحساب يمكن أن يكون بعد ساعة، فيكون حسابي قد اقترب، وللبرزخ حسابٌ وللمبعث حسابٌ آخر أكبر وأشمل.
(اقترب) وليس “يقترب”، يعني كأنّه لا زيادة على هذا الاقتراب، ومتى تقول للشّيء قد اقترب؟ “قد اقترب موعد العمل”، يقول لك أهلك “اقترب موعد العمل”، أنت غافل، باقي عشر دقائق، أما باقي عشر ساعات هل تقول “قد اقترب موعد العمل”؟ لا تقول ذلك، تقول “قد اقترب موعد العمل”؛ لأنّ هناك الفرصة بينك وبين الوصول إلى العمل نصف ساعة، وتقول لك وقد بقت خمسة وعشرين دقيقة أو نصف ساعة “قد اقترب العمل” أو “اقترب العمل”.
متى يقول الطلاب “اقتربت الدراسة”؟ أوّل العطلة، أو أواخر العطلة يقولون “قد اقتربت الدراسة”؟ فـ (اقترب للناس) وليس “يقترب”، كأنّ الاقتراب قد حصل بكامله.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}:
صُوِّر الحساب هنا مُطالِبًا، والنّاس مطالَبون، وحُسب النّاس مطالبين، والطالِب يطارد المطلوب، يوم الحساب عنده كلام مع الناس، وعنده تدقيق مع الناس، عنده محاسبة مع الناس، فيطلبهم، ويندفع في اتجاههم، وهم يفرّون منه، ومن منّا لا يفر من يوم الموت ويوم الحساب؟ ولكن هذا الفرار لا يفيد، قد اقترب منهم الحساب، فالحساب هو المُطاِرد وهو الطالب، فأنت لستَ متروكًا لاختيارك، أنا لستُ متروكًا لاختياري، لا أختار ساعة اللقاء مع الحساب وأن أسعى إليه أو لا أسعى إليه، كنتُ أنا اقتربتُ للحساب، يُمكنني أن أتوقّف لا أقل حتّى لا أكمل المسافة، ولكن الأمر ليس راجعًا لي، الأمر في يد مالك الحساب -تبارك وتعالى-.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}:
بما هو عليه من مسؤولية كبرى، بما هو عليه مِن خطرٍ شديد، بما يُنذر به يوم الحساب نفسه، من خلودٍ في النّار، من شقاءٍ دائم، كلّ ذلك قد اقترب، هل من نفسٍ يقظة؟ هل من حريصٍ على مستقبله؟ هل نحن نفكر في المستقبل القريب؟ نفتقر أو نغنى؟ نأمن أو نخاف؟ ننتصر أو ننهزم؟ ننجح في الامتحان أو لا ننجح؟
ننجح في الامتحان المدرسيّ أو لا ننجح؟ هناك مسألة أكبر من ذلك كلِّه، هناك مستقبل أعظم من هذا كلِّه، ويجب أن يُنسينا لو كنّا بين أن ننسى هذا أو ننسى ذاك، إنّما ننسى هذا لذاك، ولا ننسى ذاك لهذا، على أنّ يوم القيامة ويوم الحساب يطالبنا بأن ننجح، يطالبنا بأن نسعى لأمننا، بأن نسعى لعزنا، بأن نسعى لنصرنا في هذه الحياة الدنيا. النجاة في يوم الحساب بأن نعمل على عزّنا، وعلى غنانا، وعلى مجدنا، وعلى نصرنا في هذه الحياة، هذا هو الطريق.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}:
ليس الحساب..حسابهم، لماذا هذه الإضافة؟
قد يكون للحيوان حسابه: الحيوان في بعض الأحاديث محاسَب، ولكن ذاك له حسابه، والإنسان له حسابه، الإنسان بعقله الكبير، بمواهبه العظمى، بما جائه من رُسل، بما أعطيَه من التفات إلى الآيات، بهذه الدروس التي يتلقّاها في كلِّ ساعة من ساعات الحياة، حسابه غير حساب الآخرين، وما ينتظره حساب ليس على مستوى حساب الحيوان، حساب على مستوى الإنسان.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}:
يقتربُ، “اقترب لطلاب الإبتدائي امتحانهم”، و”اقترب لمقدّمي الدكتوراة امتحانهم”، فهل هو امتحان واحد؟ ليس هو امتحانًا واحدًا، فما هو حساب النّاس فوق ما هو حساب الحيوان بدرجات ودرجات ودرجات، فالاستعداد للحساب من الإنسان لا يكون استعدادًا لو كان استعدادًا عن قصد ما تتطلّبه إنسانيّته، وما يتحمّله من مسؤوليّته، وما أعطيَه من مواهب، ما أعطيَه من مواهب واستعدادات، وما أُهِّل له، يتطلّب منه الاستعداد الكبير ليوم حسابٍ يتناسب مع هذه الاستعدادت الكبيرة، والمواهب الكبيرة، والعطاءات الإلهية الجمّة العالية.
وأنت مُتَعَلِّم، قد أعطيت فرصة التعلّم، أعطيت فرصة سماع التّكليف الشرعيّ، غير الإنسان الذي في البادية لم تكن أمامه فرصة معرفة، وفرصة علمٍ يرفع من مستواه، ونحن اليوم نتحمّل مسؤولية كبيرة في ظلّ هذا الزمن الذي تيسّر فيه الوصول إلى الأحكام الشرعيّة والتكاليف الإلهيّة.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}:
النّداء، أو الإنذار من الله العليم الخبير القادر الذي لا تقف أمام عظمته أي قوّة، ولا يصمد أمام عذابه أيّ ممن كان له شدّة وصبر وتحمّل، ولا أعلمَ منه -سبحانه وتعالى- بيوم الحساب وما يعنيه يوم الحساب.
هذا الإنذار تُفتح له الآذان، تُفتح له الأفئدة، تستفزّ النفوس، يخرج بالإنسان من كلّ حالة راحة واطمئنان إلى حالة قلق وحالة فزع وحالة تعامل مع أكبر طارئ، وكأنّ هذا الطارئ العظيم قد حلّ به، بينما تقول الآية الكريم{..وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}، إنذار طفل، صرخة طفل، بم تقارنها؟ طفلٌ تحتمل فيه الخطأ واللعب وما إلى ذلك، يقول لك هناك عدوٌ جاء لك، قد لا تعطيه أيَّ اعتبار، لا تعطيه أيَّ اهتمام، إنسان معروف بالمزح، معروف بالكذب، يُنذرك، يبشّرك، قد لا يعني إنذاره ولا تبشيره بالنّسبة إليك شيئًا، لكن يأتيك من إنسانٍ لا يقول إلا صدقًا، إنسان معروف برجاحة العقل، بالحكمة، بالوقار، بالصّدق، يأتيك الإنذار منه بشيء من هذه الأشياء الخطيرة، فكيف تتعامل معه؟ فكيف بالإنذار يأتي من الله-تبارك وتعالى-؟
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}:
الغفلة من أين جاءت؟ نحن فطرةً لدينا التفات باحتمال الآخرة، وكلّ نفسٍ تُدرِك خطر ما بعد الآخرة، بعد مجيء الرسل والكتب وما إلى ذلك، فكلُّ نفسٍ تحتمل ولو احتمالاً ضعيفًا بالآخرة، وهذا الاحتمال الضعيف بلحاظ قوة المحتمل، وخطورته، وشدّته، وما يُتوقع من خلودٍ في النّار، وشقاءٍ دائم، وعذاب أليم، يستغرق كلّ وجود الإنسان بعد آخِر لحظة من هذه الحياة، ووجوده ممتدٌّ بلا انقطاع، هذا الاحتمال الضّخم، والخطر الشّديد العنيف جدًّا، يجعل من الاحتمال الصغير شيئًا كبيرًا جدًّا في قيمة الاحتمال الكبير بالنّسبة لهذا الأمر، يجعل هذا الأمر وكأنّ الخبر عنه مؤكّد، يعني: يُحدث فزعًا في النّفس، توقّعًا كبيرًا في النّفس، حذرًا كبيرًا في النّفس، فمن أين تأتينا هذه الغفلة؟
الغفلة لأنّ هذا الاحتمال يذوب ويتلاشى ويظلّ إلى حدّ الذّوبان بسبب ما يستغرقنا من هموم الدنيا، مخاوف الدنيا، رغبات الدنيا، الدنيا برعبها، الدنيا بزينتها، تصرف بنا كل الانصراف عن الآخرة والتفكير فيها والتعلّق بها والحساب لها.
{..وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}:
كأن هذا الأمر العظيم لا شيء، ولا يعطونه من وقتهم، ولا من فكرهم، ولا من اهتمامهم، ولا من جهدهم، ولا من مالٍ ولا من أيّ من نعمة من نعمهم شيئًا، الآخِرة في حُكم الصّفر في حساب هؤلاء النّاس الذين استغرقتهم الدّنيا، وكبُرت في أنفسهم حتّى أنست الآخّرة وأنست الله -تبارك وتعالى-، أنست الناس ربهم -تبارك وتعالى-.
{… مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}:
الذّكر يأتي مرة من الله، ومرّة يأتي من عبدٍ من عبيد الله -تبارك وتعالى-، والذكر من عبيد الله مرة يأتي من صادقٍ مُجيدٍ للكلام، قادرٍ على التّأثير، بليغٍ في كلماته واضحٍ في فكرته، دقيق فيما يقوله، ومرّة يأتي من إنسانٍ عادي، الذّكران لا يستويان من عبدٍ إلى عبد، هناك ذكرٌ مؤثّر يملك قوة كبيرة من التّأثير، وهناك ذكرٌ حظّه دون ذلك، أمّا الذكر من الله فلا ينقصه شيئًا، يعني على مستوى فاعليّة الذكر، فاعليّة كاملة تامّة لا ثلمة ولا نقص فيها، إذن العيب كلّ العيب والنّقص كلّ النّقص في القابل، المؤثّرُ قدرتُه على التّأثير كاملة وناجزة وفعليّة، أمّا المتأثّر فقلبه مسدود، نفسه منصرفة، لا يستقبل من نور هذا الذكر ولا من وعي هذا الذكر شيئًا، فهنا يكون هذا الذكر المؤثر كـ(لا ذكر).
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ}:
جديد، مستجدّ، مرّة تأتي التوراة، وأخرى يأتي الإنجيل، ومرّة يأتي القرآن، هذه السّورة من القرآن، وتتلوها السّورة الأخرى، وهذه الآية وتتلوها الآية الأخرى، يأتي سورة بعد سورة ونورًا بعد نورٍ، آيةً بعد آيةٍ، وإبلاغًا بعد إبلاغٍ، كلّ هذا المستجدّ وهذا التّذكير الدّائم والمستمرّ وكلّ تذكير بوحيه كافٍ، كلّ ذلك لا يعطي تأثيرًا في تلك النّفوس السّادرة، والقلوب الغافلة، والأرواح المكروثة.
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم…}:
الذّكر من الربّ، والربّ خبيرٌ بمربوبه، عليمٌ بمربوبه، بما يعتمل في نفسه، بما يحتاج إليه، بما يؤثِّر فيه، بما يضرب على الوتر الحسّاس عنده، يعلم بكلِّ خلجة من خلجات نفسه، بكلِّ خطرة من خطرات قلبه، بكلِّ نقطة ضعفٍ، بكلِّ نقطة قوّة، بكلِّ مدخل من مداخل الشيطان فيه، فالذّكر الذي يأتي من الربّ -تبارك وتعالى- متوفّرٌ على الرّؤية الواضحة الكاملة لكلِّ ذلك، ولمعالجة كل ذلك، وهو كامل يمتلك من قوة التّأثير ما لا يمكن الشك فيها أبدًا.
الكلمة من الله -عزّ وجلّ- تأتي فتتصدَّع منها الجبال، ويتفجَّر منها الصّخْر الأصمّ، أمّا القلوب القاسية فهي لا تتأثّر.
ونحن مسؤولون عن قساوة القلب ولِينه، عن انفتاح القلب وانغلاقه، عن وعيَ القلب وغفلته، مسؤولون عن كلّ ذلك من خلال كلِّ كلمةٍ نقولها، كلِّ موقفٍ نقفه، من خلال كل علاقة نبنيها ونهدمها، من كلِّ صداقة نختارها، من كلِّ ولاء ومن كلِّ عداء يكون لنا مع هذا الطرف أو مع ذلك الطرف.
قلوبنا تسقط قابليّتها بالموقف، بالكلمة، بالنّظرة، بالنيّة، وترتفع قابليّتها بكلّ شيء من ذلك، فنحن نملك ما نقول، ونملك ما نفعل، ونملك إرادتنا، كلّ ذلك من الله -تبارك وتعالى-، فنحن مسؤولون.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمَين.