الحديث القرآني الرمضاني – 9 رمضان 1435هـ / 07 يوليو 2014م
سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة الشورى)
الحلقة الثامنة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن قيمة ثواب الدنيا بالنسبة إلى ثواب الآخرة وقيمة ما عليه أمر الدنيا من أمر الآخرة، وما يساويه نعيمها من نعيم تلك الدار الباقية “والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل أن يجعل أحدكم أصبعكم في اليم” اليم: هو البحر أو لجت الحر، هو البحر الذي لا يدرك قعره ولا شطئاه، بمعنى سعة وسعة شديدة، فالآخرة يم والدنيا ما يعلق بأصبع واحد من ماء لو وضعها صاحبها باليم، فما يساوي هذا العالق من الماء بأصبع واحد إلى البحر اللجي والذي لا يدرك عمقه ولا شطئاه؟
فلننظر كم نركض وراء الدنيا وكم نعزف عن الآخرة؟ وكم نستسهل السعي والتعب وبذل الجهد من أجل الدنيا؟ وكم يشق علينا أن نصلي ركعتي الصلاة؟! أنظر إلى نفوسنا، هنا فرصتان في الدنيا فرصة راتب عشرة الألف دنيار وفرصة راتب بمائتي دنيار فأين يكون السعي ولأي راتب وأين التعلق والإنشداد؟ وهذا نغفلة في الآخرة وكأن وعد الله ليس بوعد صادق عندنا، وكأنه كلام من الكلام الجزاف أوخيال من الخيال، إن وعد الله حق وصدق وهو القادر والصادق تبارك وتعالى وهو الكريم، عسى النفس أن تنتبه وتسعى لما وعد الله تبارك وتعالى.
“والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل أن يجعل أحدكم أصبعكم في اليم فلينظر بما ترجع؟” ماذا تأخذ هذه الأصبع من اليم؟ وماذا يساوي هذا الذي أخذته الأصبع من اليم؟ فالمقايسة والأوزان والأحجام تبتني عليها مواقف، ومن قاس قيمة الدنيا إلى قيمة الآخرة وجد أن قيمة الدنيا فاقدة للقيمة أمام قيمة الآخرة، وكان عليه الموقف الذي ينسجم مع هذه الرؤية.
قوله تعالى: “فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”[1].
المتاع: هو محل الانتفاع، وهو شيء ينتفع به، هي حياة دنيا وليست عليا، قريبة وليست عليا وليست ذات قيمة، مرة من الدنو ومرة من الدنيه بمعنى الوزن الصغير والوزن الحقير، والدنيا كما هي قريبة بالنسبة للآخرة، هي دنية بالنسبة لعلو الآخرة وسموالآخرة، وهذا المتاع متاع للحياة الدنيا فكيف سيكون؟ فإذا كان الأصل هو دنيا قليلة القيمة وحقيرة الشأن فكيف سيكون متاعها؟ أيكون أكبر منها قيمة؟ وهل سيكون له التقدير أكبر مما هو له وهو الدنيا؟ لا، إنما يأخذ متاع الدنيا تقديره ووزنه مما هو من أجله ومن غايته وغايته الدنيا، وهو من أجل الدنيا، فإذا كان من أجله هذا المتاع دانيا فسيكون هذا المتاع بالضرورة دانيا. وهو كثير وعظيم، وقصور وحقول ومزارع وكنوز، وشهرة ومواقع، وأمر ونهي، وبذخ ولذات، وكل هذا شيء بالقياس لما في الآخرة هو دني وقليل حقير.
” فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا “[2]، هذا رزق وهو مبسوط للمؤمن والكافر وللمتقي والفاسق والفاجر، وقد يفوق كافر مؤمنا في هذا الرزق وتفوقه عليه لا يعني الكرامة من الله عز وجل، وإنما التفوق هنا قد يعني البلاء والمصيبة، وكل هنا كما في الآخرة يأخذ بحسب ما بذل وأجهد نفسه، فللجهد والتضحية والبذل من أجل الدنيا مردود.
فأنا أريد أن عمل في اليوم نصف ساعة، وأنت تريد أن تعمل في اليوم خمس أو ست ساعات والمردود مختلف، والكافر يجد ويجتهد وينصب ويتعب ويفكر في الدنيا كيف ينتج، والأمة الكافر تحاول أن تكتشف جديدا في الأرض، وتستفيد مما تكتشفه من قوانين فاعلة في الأرض فلابد أن تعظم ويعوضها الله عز وجل ويعطيها مردود جهدها.
وأما أمّة مؤمنة كسولة وخاملة، وشباب ماسك للفراش، ساهرا في الليل سهرا لا قيمة له ويمضي نهاره نوما، فهذه أمة لا تنتج، فالدنيا تتبع قوانينها، وكذا في الجهد للآخرة ، فمن بذل للآخرة وجد، ومن لم يزرع لم يحصد، ولكن أجمع خير الدنيا كله وأعطه واحدا من الناس فكم سينتفع به؟ فالرزق الحقيقي هو ما أنتفع به، فلو أن عندي عشرين مليون ونفعي مقتصر على مائة دينار، فالرزق الحقيقي لي هو مائة دنيار، فالدنيا ليست مسرحا للذات مفتوحة ولا نهائية بل لها مدى وحدود، وهنا بطن لا يتسع إلا لخمس لقمات والسادسة تضره، وكل أنواع اللذت محدودة كما ونوعا وأمدا، وكم لذة أعقبت حسرة على مستوى البدن وسببت مرض خطيرا.
“فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى”[3]، لمن ما عند الله ذلك الخير والأبقى وهو خير في ذاته، وفي نوعه وفي طيبه ونقاءه وصفائه وفي خلوصه للفائدة، فلا يحمل أي توع من المضرة، فهنا أحسن الأكل وأحوطه نظافة لا يكون بمردود سيء، وكل مؤكلاتنا تحمل نافعا وتحمل بذور شيئا مؤثر عى البدن سلبا، هناك الرزق طيب خالص في طيبة، فلا مردود سيء جسمي ولا عقلي ولا روحي، وهنا من الأكل ما له مردود سيء روحا وفكريا وجسميا ودبنيا ونفسيا، وأما هناك أكل طيب بلا شيء من مردود سيء على الإطلاق. فيلتذ هنا بخمرته ليسكر ويذهب عقله وتتلوث روحه، ويأكل الأكلة اللذيذة ليقول بعدها آه وألماه، والدنيا هكذا.
ولكن هناك لا شيئا من هذا على الإطلاق، طيب في ذاته، خير ف ذاته من زاد الدنيا ومن خير الدنيا ولا يعطي إنعكاس غرور في النفس ولا يخلق حالة من بطر، ولا ينسي الله عز وجل، ولا يُنسي النفس ربها تبارك وتعالى، ولا ينحط بخلق، ولا يقعد بهمه، ولا يشد إلى الأرض، ولا يصرف عن الباري سبحانه وتعالى، ولا ينسيك جمال الله. وهنا أءكل أكلا حلالا طيبا فيثقل البطن فينشغل الذهن وتتكدر الروح وتضيق النفس ولا شيء من هذا في زاد وخير الآخرة.
غنى الآخرة لا يمكن أن تتحمله نفس في الدنيا، وجمال في الآخرة لا يمكن أن تتحمله نفس في الدنيا، وموقع كريم في الآخرة لو حصل مثله في الدنيا يمكن أن يجعل صاحبه ينسى ما هو عليه من آدمية محدودة، ومن إنسانية فقيرة.
“وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى”[4]، الدنيا كلها وليس بالقياس لعمري وعمرك محدوة جدا جدا، وخيرها محدود جدا جدا وضيق جدا جدا، ولو نظرنا إليها في نفسها ولو تمتد بلايين السنوات، فكم يساوي بليون بليون من عمر الأبد الذي لا توقف للامتداده ونهره سيال على دوام، فالدنيا محدودة وكل محدود لا يساوي شيئا من إلا محدود.
“خَيْرٌ وَأَبْقَى” أتفضل أن تسكن أحستن قصر لشهر واحد أو بيتا متوسط الشأن لمدى مائتي؟ لا شك أن بيت متوسط مائي سنة خير من أحسن قصر لشهر واحد، وهذا المثل متنازل فيه كثيرا وأمر الدنيا والآخرة ليس كذلك، أن هنا كوخا وفي الآخرة قصر، وكوخ الدنيا متداع بعد أيام، وقصر الجنة ثابتت على الدوام، فنفس تقدم هذا على ذاك نفس تشك في الله عز وجل قبل أن تزهد في عطائه.
“خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا”[5]، أين الفريق الآخر البلاييني من الكفار ومنالمنكرين لله عز وجل والذين قدموا الدنيا على الآخرة؟ لقد استوفوا نصيبهم في الدنيا التي رضوا بها عن الآخرة، وبمقدار ما يرضى عبد الدنيا مقدما لها على الآخرة يفقد نصيبه من نصيبه في تلك الباقية، ومن أخلص للآخرة غيرُ من خلط بين أمر الدنيا والآخرة بالاهتمام الكبير فأعطى هما كبيرا للدنيا وهما كبيرا كبرا للآخرة، صاحب الهم الأقل في الدنيا حظه في الآخرة أكبر، لا يقال لك ولي أقطع اهتمامك بالدنيا بحيث تقعد فيها وإنما أعمل فيها ولكن بهمة الآخرة وقصد الآخرة وروحها.
“لِلَّذِينَ آمَنُوا ” تلك دار خالصة للذين آمنوا، وهو إيمان ينتج التوكل “وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”[6]، والتوكل: هو تفويض الأمر إلى الله عز وجل، والمتوكل يأخذ بالأسباب من غير أي درجة من الاعتماد النفسي والركون إلى الأسباب، فهذا السبب لا يعطيه في ذاته أي فاعلية وأن كانت قليلة، فالأب والأم سبب والشمس سبب والمال سبب والأرض سبب والأكل سبب والشرب سبب،والسلاح والحصن سبب، ولكن مرة أنظر إلى هذه الأسباب بما هي هي وأعطيها قيمة في ذاتها وأنها تنفع وتضر وتحمي وتذراء، وأن الدواء يعالج، والطبيب ينق في نفسه.
مرة كل رؤيتي أن الله ينقذني بالطبيب وأن الله يشفيني بالدواء، وأن الله يطعمني بالطعام، ويرويني بالماء، وإرواء الماء لي بفيض الله، والماء في ذاته لا يملك أن يرويني، والطعام في ذاته لا يملك أن يُشبعي، والدواء في ذاته لا يملك أن شفيني وهو الآن بما هو دواء لا يحتفظ بدوائيته بصفت كونه دواء إلا بمدد من الله وفاعلية من الله عز وجل.
هذا الطبيب الحاذق الذي يجري عملية معقدة في القلب أو المخ لا يملك مخه ويملك عقله لحظة، ولا يمك خبرته الي اكتسبها على مدى سنين، ولا يملك فاهلية فكره، ولا يملك أن لا تغفوا عينه، ولا يملك أن لا تشل يديه، بل كل حركته وتفكيره وقوته تتنزل عليه من الله عز وجل آن فآنا، فالمعالج والشافي والمنقذ ليس الطبيب ولا السكين بل هو الله عز وجل، والآلة هي ليست المنقذة وإنما هي طوع إرادة الطبيب حسب السبب القريب المنظور في النفس، والطبيب نفسه هو آلة بيد إرادة الله عز وجل، وهكذا شأن الدواء وشأن الأرض التي تنبت، وشأن الماء الذي يقوم على وجوده النبات، وكل شيء من الأسباب فاقد في ذاته للعطاء وما وما عطائه إلا من خالقه تبارك وتعالى، وخلق الشيء لم يحدث مرة واحدة وإنما خلق كل شيء يحدث حينا حينا، وآنا آنا، وحالا حالا.
“فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا “[7]،وأنا أقف أمام رصيد كبير، وأمام قصور أملكها، وأمامي مزارع وحقول وبساتين تحت سيطرتي وسيارات ضخمة عليّ أن أقنّع هذه النفس وأذكرها إن متاع الدنيا إنما هو متاع للدنيا الدنيه القليله، ومتاع منقضي ومؤقت، وينبغي أن لا أربط نفسي به، وأن لا أعبده، وأن لا يصرفني عن ربي الله تبارك وتعالى، ولأنظر للنفوس الكبير مثل سليمان عليه السلام وما ملك والذي لا سعة ملك ولكن أعطاه الله نفسا مؤمنة تكبر ذلك الملك، ولكن أنا هل أتحمل ملك سليمان عليه السلام أو أجن؟ قد أصاب بالغرور وأصاب بروح الطاغويته، وملك سليمان عليه السلام هذا لا يساوي شيئا بالنسبة لملك الآخرة، فلابد أن تكبر سليمان وتعظم وتعظم لتتحمل ملك الآخرة ولو كانت هي في وزنها الحقيقي بمقدار ما ملك في الدنيا، لو كان سليمان عليه السلام على وزن إنما يتحمل في أقصى ما يتحمله هو ملكه الذي ملكه في الدنيا فهذه نفسية لا تصلح لتحمل ملك الآخرة، فلابد أن يكون سليمان عليه السلام في الآخرة في نفسيته وعقليته وفي تعلقه بالله وفي شوقه إليه أكبر بمرات بمرات ومرات بما عليه في الدنيا.ولو خرجنا من هذه الدنيا بوزن ويعطينا الوزن الذي نستطيع أن نعايش به نعم الآخرة.
“فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ” شيء بمعنى من كل شيء، فرض ما تفرضه في الدنيا من أحسن ورد وأحسن جمال وأكبر ميزانية وأبحث عن هذا كله وضعه مع بعضه البعض وكله شيء قليل لما عليه شأن الآخرة وخيرها.
“وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”[8]، هذه النفس المتوكله على الله تشعر بإسناده، مسلِمة في أمرها إلى أقوى قوي وأقدر قادر وأرحم راحم وأعلم عالم وأغنى غني، ومطمئنة إليه وإلى قدره وإلى حكمته ورأفته فهذه نفس لا تضطرب ولا تهلع ولا تجزع ولا تستكين ولا تهزم، فما أقوى وما أشدها ولكن ليس في ذاتها وإنما من خلال توكلها على قوة القادر الذي لا قادر مثله، والغالب الذي يغلبه غالب
كلك ثقة وكلك اطمئنان ويقين بأن أباك ملوك الملوك وأقوى من في الأرض لا يتخلى عنه، وتعرف أن عين أبيك تحرسك، وأن يده تطال من يريد أن تطالك يده، وأن أباك مشفق عليه وراض عنك فأنت لا تخاف، وما شأن أبيك الملك هذا في ملكه وفي قوته وفي قدرته وسلطانه إلى جنب الله تبارك وتعالى، ألا نرى أن إبراهيم عليه السلام كان قويا، وأن النبي صلى الله عليه وآله كان قويا، وأن رسول الله لا تهزمهم قوة ولا يضعفون أمام إغراء ولا تهديد ولا يستوحشون من قلة النصير، والنبي إبراهيم عليه السلام على عظمته ومعه لوط ونفر قليل ممن آمن به، ويقابل الدنيا كلها بكل كبرياء وعنوان وبكل شموخ، فهذا ليس غرور أرض ولا اعتماد على قوة ذاتية وإنما توكل على الله سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين
[1] سورة الشورى، الآية 36.
[2] سورة الشورى، الآية 36.
[3] سورة الشورى، الآية 36.
[4] سورة الشورى، الآية 36.
[5] سورة الشورى، الآية 36.
[6] سورة الشورى، الآية 36.
[7] سورة الشورى، الآية 36.
[8] سورة الشورى، الآية 36.