الحديث القرآني (الليلة الخامسة) – 15 رمضان 1446هـ

*نص الحديث القرآني لسماحة آية الله قاسم في المجلس القرآني الذي يقيمه بمجلسه خلال ليالي شهر رمضان المبارك – المحاضرة الخامسة (قم المقدسة / 15 رمضان 1446هـ):
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين
اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد
أقرأ من الآية السابعة إلى الآية السادسة عشرة تقريباً -من سورة الفرقان- ما يتعلّق بتُهمٍ وأكاذيب وأقوال مهاجمة لرسول الله “صلى الله عليه وآله” من تكذيبٍ له وغير ذلك، حتى نتلقّى الجواب من القرآن الكريم على هذه المفتريات.
(وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشِي فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ لَوۡلَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَلَكٞ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا)
هذا القول يتناسب مع الفكر الوثني.
قالوا بأن الإنسان يعيش حياته مغموراً في الشهوات، في الأرضيات، أفكاره، أمانيه، تطلعاته، كلها من وحي الأرض، من وحي المادة، وكلّما ارتبط الإنسان بالمادة كلما خفّ حضوره الروحي، وكلّما انفصمت علاقته بروحه الإنسانية الكريمة وبعالم الغيب العظيم، فهو بهذا الواقع ليس مؤهلاً للارتباط بالغيب وحمل رسالة الله عزَّ وجلّ إلى الأرض، وحتى عبادة الإنسان إلى الله لا يصحّ أن تكون عبادةً مباشرة، إذا أراد أن يعبد الله عبد الشيء الذي يقرّبه إلى الله، يتخذ من عبادته زلفى وقربةً إلى الله عزَّ وجلّ.
الوحي من الغيب، الكتاب من عالم الغيب، تنزّل هذا الكتاب على البشر بما هو مرتبط ومنشدٌّ كلّ الانشداد إلى التراب وإلى موحيات التراب، وهذا التنزّل على من هو منكبٌّ على الأرض وما فيها مقطوع في نظرته عن الأرض وعن السماء؛ شيءٌ غير مناسب.
الكتاب وهو من الله ومن عالم الغيب يحتاج إلى روحٍ مؤهلة، حاضرة، وبذلك يأتي هذا القول، هذا الاستنكار، وهذا الاستهزاء والتهكّم في كون واحداً من البشر يجرأ على ادّعاء الرسالة من الله تبارك وتعالى، (وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِيَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ).
هناك مفارقة بيّنة جداً بين وظيفة الرسالة وبين أكل الطعام والمشي في الأسواق والخضوع للحاجات المادية، فأساساً وعلى كلّ تقدير لا يصحّ أن تتنزّل رسالة إلهية على واحدٍ من البشر، هذا ما تقوله الوثنية.
(مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ)
سموه رسولاً وهم لا يؤمنون بأنه رسول، يعني هذا المدّعي للرسالة، تسميته هنا نوع من التهكّم والاستهزاء.
واحد لا يعتقد في رجل أي أهلية فيقول “مالِ هذا الفطحل يفعل هكذا؟”، هو لا يراه فطحلاً ولا يرى أنّ له رأياً يمكن أن يُحترم ولا شيئاً من علم، ومع ذلك يسميه فطحل، يقول “أهلا بالفطحل” استهزاءً به.
هذا التعبير منهم (مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ) هو على هذا النسق.
(مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ)
شيء عادي وصحيح أن يأكل بشر طعام، ولكن أن يأكل الطعام وتنزل عليه الرسالة الإلهية ويتحمل تبليغها ويقوم بأعباء الدعوة إليها، يعني أنت تعطي موقع رئاسة أكبر جامعة في الأول ابتدائي، هذا مثل صغير بإزاء واقع أن تأتي رسالة إلهية من علم الله ووحيه وعليائه إلى شخص يأكل الطعام، وأكل الطعام وراءه شيء كما نعرف. هذا الشيء الذي نتخفى به إذا جاءتنا دعوته، ونلوذ بالتغيّب عن أنظار الناس بسببه.
(وَيَمۡشِي فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ)
يمشي في الأسواق للتكسب، رسول الله “صلى الله عليه وآله” يدخل الأسواق لتدبير معيشته، ويدخل الأسواق للدعوة، ولمراقبة وضع الناس والفات نظرهم إلى أخطاءهم وضلالاتهم في المعاملات وغيرها.
ثم يأتي الاقتراح والسؤال: (لَوۡلَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَلَكٞ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا)
هنا تنزُّل في قولهم، كانوا لا يرون صحّة أن تأتي الرسالة على قلب بشر مطلقاً، كان ملكاً أو غيره، قويّاً، كان صاحب جاه اجتماعي واسع، كان خامل الذكر، على كلّ الأحوال ولو ارتقى من ناحية مادية، إلا أن الرسالة لا تكون له، لكن بعد ذلك يقولون حتى لو جاء معه ملك لا تكون له، وقالوا إذا جاء معه ملك نقبله، فالملك هو الذي يحمل الرسالة ويمثل الواجهة لهذا الدين والرسالة، ويكون الوجه الذي يقابله المدعوون للرسالة لأن له وقعاً في نفوسهم غير وقع البشر. البشر ليس أهلاً، ولذلك الرسالة نقول عنها بأنّها تُشرِّف قدر الإنسان، ليس قدر الإنسان المرسل فقط، بل الإنسانية كلها، هذا من بني الإنسان، أنت كنوع كريمٌ بكرامة هذا الرسول، كرامة بمقام الرسالة الذي منحه الله لواحدٍ من النوع الإنساني.
(لَوۡلَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَلَكٞ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا)
ليكون سبب تصديق له، سبب احترام له، تقديرٍ وثقةٍ به.
ما هو نظركم إذا صار البشر ملك؟ يسابق الملائكة في طاعة الله وفي ارتباط قلبه بالله عزَّ وجلّ وانصراف قلبه كلّه له؟
(أَوۡ يُلۡقَىٰٓ إِلَيۡهِ كَنزٌ أَوۡ تَكُونُ لَهُۥ جَنَّةٞ يَأۡكُلُ مِنۡهَا)
دعنا نتزّل أكثر مما تنزّلنا، قبلنا أن يكون ملكاً، نضيف إليكم نقبل أن يكون منه كنز يغنيه عن طلب لقمة العيش والسعي إليها والاشتغال بها والمزاحمة عليها والتنافس في سبيلها، فليكن له كنز يغنيه عن كلّ ذلك، وعن الدخول في النزاعات على اللقمة وسُبل التوفّر عليها. هذا شيء.
ليس هناك كنز، على الأقل تكون له جنّة، بستان كبير يغنيه عن أيّ كسبٍ وكدّ ويقضي كلّ حاجاته ويحميه من أيّ تعرّضٍ للفقر، ولمذلّة الفقر وضعف الفقر.
هذا ليس عنده جنة ولا كنز ولا مَلَك، هذا إذا تنزّلنا بأن نقبل الرسالة مع أحد هذه الأمور أو جميعها، ولكن الرجل ليس عنده شيءٌ من هذا.
يضيفون إلى هذا: (وَقَالَ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا)
هنا أقام الوصف الصريح مكان الضمير ولم يكتف بأن يعطف مقولة جديدة لمقولات من قالوا تلك المقولات السابقة، وإنما قال (وَقَالَ ٱلظَّٰلِمُونَ) إبرازاً لشدّة ظلمهم فيما ادّعوه من أنه رجل مسحور. كلّ تلك الدعاوى ليست صحيحة، ولكن اتهام الرسول بأنّه مسحور وهو في قمّة الفكر القويم والاستقامة النفسية والعروج الخلقي، وقد برهن على ذلك وقالوا عنه ذلك وشهدوا بعقله الكبير وأمانته وصدقه ووثقوا فيه وصاروا يأتمنونه، كل ذلك قبل أن يعلن رسالته “صلى الله عليه وآله”.
أين ذهب ذلك التاريخ؟ أين ذهب ذلك التصديق وتلك الثقة؟ هل خان أمانة؟ هل سمعوا منه كذبة؟ هل رأوا منه رأياً باطلاً، ألم يحلّ مشاكلهم مثل مشكلة وضع الحجر؟ أو أن ينقذهم من مواقف محرجة، كل ذلك قبل الرسالة.
(وَقَالَ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا)
غلباء على عقله بسحر ساحر فصار من أثر السحر يتوّهم أن ملكاً يأتيه، وأنّ كتاباً يتنزّل عليه من الله عزَّ وجلّ، إنسان مصاب بجنون أو مصاب بسحر جعله في حكم المجنون، هل يُتّبع؟
إذن من السخف أن يُتّبع، يريدون أن يحذروا من هذا التحذير، أيُّها المدعوون للإسلام انتبهوا، فإنّ الداعي للإسلام رجل مسحور، عقله غير حاضر عنده.
ونعجب الآن من أي دعوى سخيفة جداً توجّه من حكومة محلية أو من غير حكومة محلية من الطغيان العالمي لداعيةٍ من دعاة الإسلام ولو كان على مستوى فكري وروحي وخلقي محلّق، وعلى بصيرة كبيرة.
أكبر إنسان، أعظم إنسان، هذه تهمٌ وجّهت إليه.
(ٱنظُرۡ كَيۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَٰلَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلٗا)
مثّلوا به أن مهمته أن يأكل الطعام والشراب وما إلى ذلك، إما اعتبرنا هذه تمثيلات، أو تعني أن الأمثال هنا الصفات، المثل الصفة، ضربوا لك هذه الأمثال أي الصفات الساقطة، الصفات الدونية.
(ٱنظُرۡ كَيۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَٰلَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلٗا)
بضرب هذه الأمثال لرسول الله تمادوا في الضلال أي تمادٍ لا يسمح لهم بأن يهتدوا سبيلا، يعني وصلت النفسيات والعقليات والأخلاق إلى حدٍّ من السقوط سدَّ على هؤلاء الناس الاهتداء إلى أيّ سبيلٍ من سبل النجاة.
(فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلٗا)
ضيّعوا كلّ المقاييس التي تهدي إلى أيّ سبيل قويم، فخسارة نفسية عندهم، سقوط ذريع، صاروا لابد أن يُنبذوا إذا بقوا على هذا المستوى، وهؤلاء هم اليوم القادة في العالم.
جواب القرآن الكريم هنا مختصر.
(تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَيَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا)
هذا في الدنيا أو في الآخرة؟
هم طلبوا القصور والجنات في الدنيا، طبعاً المعني ليس قصور الآخرة وليس جنات الآخرة، وإنما في الدنيا، لأن في إعطاء هذه الأشياء ردّ على تساؤلاتهم وشروطهم لقبول الرسالة، يأتي معه ملك وكنز وجنة ولا يمشي في الأسواق يتكسب ولا يحتاج إلى ذلك، هذا الجواب عليه ليس بعطاءات الآخرة وإنما بعطاءات الدنيا.
(تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ)
“تبارك” هو مصدر الخير الذي لا حدود له، لا يعجزه أن يعطيه خير من ذلك.
(بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا)
هذه الطلبات المتقدّمة منبعها هو اعتقاد القوم بأنّه لا رسالة تكون إلا بهذه الأمور؟ وأنّ الرسالة تتوقّف على توفّر هذه الأمور؟ حامل الدعوة الإلهية تتوقّف أهليته لحمل هذه الدعوة على أن يكون له كنز؟ أن تكون له بستان كبير غني بالفواكه؟
هذا الطلب منشأه هذا أو منشأه غير ذلك.
كأنه إضراب هنا، (بَلۡ) للإضراب عن شغل سابق إلى ما يخالفه، السبب ليس هذا، السبب الحقيقي هو تعلّق النفس بالدنيا، وعدم القدرة لهبوط النفس على مفارقة شهواتها، والفرار من هذا بأن تُقنّع النفس، إلى قناعة مفارقة التزام الشهوات، هنا موجود فطرة تضادّ هذا الميل للشهوة، وهذا الانشداد الأكيد لممارسة الشهوات والأهواء، فما الحيلة عند النفس؟ أن يُقنّع نفسه بأنه لا حساب ولا كتاب ولا آخرة أصلاً.
نحن الواحد منّا عندما يمعن في المحرمات، ويمعن في الارتباط بها، ولا يترك محرماً إلى وارتكبه، هنا النفس يهبط مستواها، وترتاح من عقيدة اليوم الآخر، وإلا الارتباط بالشهوات وحضور اليوم الآخر والخوف من اليوم الآخر والتصديق به، يصير تهافت، عندما أصدق باليوم الآخر لا أستطيع الاستمرار في المعاصي، لا تملك المعاصي أن تستهويني، الخوف يغلب، فلابد أن نتخلص من عقيدة يوم الآخرة، فيأتي التشكيك باليوم الآخر، وإذا حصلت على إشكال أو شبهة أتعلق به لأريح نفسي، وفي هذه الحياة لا يضايقني التفكير في الآخرة ويعرقل ارتباطي الشديد بطلب الشهوات والمفاسد.
(بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ)
هذا ما اختاره عدد من المفسرين، مفسرون آخرون يقولون، تستعظم ما سمعته من تهم لرسول الله وأقوالٍ جارحة مؤذية، لكن لا تعجب. هناك أكبر من ذلك، أنّهم كذّبوا بالساعة على وضوح الساعة.
الضمير لا يرضى، يسأل دائماً عن نهاية هذه الحياة وماذا بعد نهايتها، ولا يوجد كافر لا يمرّ عليه هذا السؤال، هذا السؤال المركوز بمليون مسمار في فطرة الإنسان عن اليوم الآخر، عن فراغ يعني؟ الفطرة لا تعمل بشيء غير مرتبط بالخارج، الإنسان من يصل لسن 14 يفكر في الزوجة ويتنبه عنده الحسّ الجنسي، لو لم يكن هناك جنسين هل يأتيه هذا؟ عبث يصبح. أي شعور فطري ليس فيه شيءٌ من العبثية.
حب الولد.. تمضي سنة على زواجه، بدأت النفس تعمل، لماذا؟ لأن التناسل ضروري لبقاء الحياة، هناك وظيفة وراء هذا الميل للولد، إذا لم يكن عندي ميل للولد لماذا أتحمل؟ ميل للزوجة وميل للولد لاستمرار الحياة. إن أُعدم الميل للزوجة انقطعت الحياة، والآن المثليون قطّاع حياة، يقطعون الحياة، وإنْ بقي الميل للزوجة ولم يهتم بالولد ولم يفكّر فيه ولم يطلب، نذهب لعلاج، لقراطيس، ونطلب أي حيلة، ونحن لا ندري هل سيكون هذا الولد دمار لنا أو لا، ويمكن أن يكون دمار لنا ومنعه الله عزَّ وجلّ، ذاك قتله الخضر حتى لا يؤذي أبويه بعد ذلك، أنت لم ترزق ولد لربما كان هذا الولد يعصر قلبك، فلم يأتي، ولكن تظل المشكلة النفسية لدينا والله يثيبنا على هذا التعب النفسي.
فالفطرة ليس فيها شيءٌ من غشّ ولا عبثية، وما من شيءٍ في الفطرة إلا وتحتاجه الحياة. بناء الحياة، دوام الحياة، استقامة الحياة.
التفكير في الموت، الكون كلّه مملوء آيات أنفس وآفاق، كلّها تقول أنّ الله موجود، الله قدير، لأنه من دون ارتباط بالله أنت خاسر.
(بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا)
بعضهم يقول تكذيب بالساعة أكبر من الأقوال الباطلة الفاسدة المقاومة للحق مما سبق.
(وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا)
مجهّزة لمن كذّب بالساعة سعيرا، وسعير هي النار المستعرة أي المشتعلة الملتهبة.
(وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا)
هذا المصير الخطر غير عادي، الخطر فوق ما نتصوّر، الخطر وهو مؤكد، ولو فرضنا أنه محتمل احتمالاً خفيفاً فهو لشدّة خطر هذا الخطر مأخوذٌ به، لابد أن نحسب عنده حساب.
لو صار عندي 10% أنّ هناك قيامة، ووراء المعصية عذاب، ووراء الطاعة ثواب. 10% فقط. فكري يجبرني أن أراعي هذا الاحتمال، وأن أحسب حسابي لهذا الاحتمال.
أنت أمام خطر مثلاً أن تخرج من الباب وهناك احتمال 10% أن هناك أسد، خبر جاء أعطاني قيمة 10% من الصدق، لا أقطع بتكذيب خبره، أتوقّف، أبحث، أفكّر، عندما أقول لا وأخرج، هذه شجاعة ليست في مكانها. هذا ليس أسد ولا غير أسد، هذه نار أبدية، فالخطر بالغ من الحجم المهول بحيث يردع أيّ نفسٍ معها شيءٌ من عقل أن تتوقف عن الإقدام عليه.
(بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا)
“وأعتدنا” هنا ليس للجمع وإنما لإظهار القدرة والعظمة.
هات لك ملايين لا تحصى، هذه النار أقوى منهم، قدرة الله فوق كلّ شيء.
(وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا)
والتكذيب على مستويين: مستوى نظري وعملي، ومستوى عملي فقط.
في تساهلي بالصلاة، بالخمس، بأي واجب من الواجبات، في تساهلي بارتكاب المحرمات، هو نوع ودرجة من التكذيب بالساعة.
وأكرّرها، رؤية الآخر تحبس الرجل وتطلق الرجل، رؤية عذاب الآخرة يحبس عن الحرام، ورؤية نعيم الآخرة تدفع للتضحيات وللصبر والقوة والمقاومة وما إلى ذلك.
(إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظٗا وَزَفِيرٗا)
وهل النار ترى؟ طبعاً ليس على الله ببعيد أن يجعل النار ترى، وقد تكون الرؤية رؤية هؤلاء الذين يواجهون دين الله ويكابرون ويكذبون بالرسالات وهزئوا باليوم الآخر وكذبوا به.
-عندهم- أن هذه الرؤية وكأن النار تراهم، سماع التغيظ والزفير يجعلهم وكأنهم يرون النار، تغيظاً يورثهم علماً بأنّها النار، كما يعطيك شعاع الشمس علماً بطلوع الشمس.
(إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بعيد)
كم هذا البُعد؟ الله العالم. (سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظٗا وَزَفِيرٗا) وقد يكون السماع سماع الأذن وقد يكون سماع علم كما هو العلم الذي يحصل بسماع الأذن سماعاً حقيقياً واضحاً.
المهم أن هذا التغيّظ والزفير يصل إلى القلوب، ولا تؤمن به فقط بل تتيقن به.
الغيظ هو أشدّ الغضب، وغضب النار مأخوذ من غضب الله ويعبّر عن غضبه تبارك وتعالى، الآية تقول (تَغَيُّظٗاً) وهو معلن، مرّة غيظ مكتوم، ومرّة غيظ يشبه بزئير الأسد لمن انقضّ عليه من فريسة كما يقول صاحب الميزان، هو لديه تغيظ ولديه إظهار لهذا التغيظ، بحيث ترعب قبل الافتراس. عذاب قبل عذاب الافتراس، هذه الزأرة من الأسد التي تزلزل قلبك من بعيد، وتهدّ أركان الشخص. تغيّظ النار هكذا.
والزفير هو أخذ النفس. في حالة شدّة عندما يضيق الصدر، الزفير يرتفع صوته حتى تنتفخ الأضلاع. يعني النار بالغة حدّ الغضب الشديد المشتعل على هذا المجرم، كأنّ قلبها محروق على هؤلاء المجرمين الذين حاربوا دين الله عزَّ وجلّ في الأرض.
(إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظٗا وَزَفِيرٗا)
هل تبقى الحالة حالة محاولة فرار؟ محاولة هجوم من النار وفرار من العاصين الكافرين والمنافقين؟ أو تنقطع هذه الحالة؟
(َوإِذَآ أُلۡقُواْ مِنۡهَا مَكَانٗا ضَيِّقٗا مُّقَرَّنِينَ دَعَوۡاْ هُنَالِكَ ثُبُورٗا)
لا تستمر هذه الحالة هجوم وفرار، يأتي أمر الله بأن يلقوا منها كما تلقى الزبالة.
(أُلۡقُواْ مِنۡهَا مَكَانٗا ضَيِّقٗا)
لكن النار واسعة جداً، التعبير منها “هل من مزيد”، فكيف يكون مكاناً ضيقاً؟
بكرباته، بآلامه، بخوفه، برعبه، بحضور الحقارة النفسية لصاحبها، بخوف الله المزلزل. مكان ضيّق، أنت تكون في أوسع قصر، تأتيك مضايقات نفسية، يهدد وجودك شيء في هذا القصر، فيتحول هذا القصر الواسع إلى مكانٍ ضيّق. يأتي من تفسير الضيق هذا المعنى.
الضيق هو مساحة، لكن التعبير هنا لا يعني أن النار ليس فيها مكان، وإنما اللحظة الواحدة تقتل، في الحياة الدنيا اللحظة الواحدة من هذا الضيق تقتل.
يُدفعون إلى النار -كما في بعض الأحاديث-.
هل رأيت الرمح؟ فيه أعلى وأسفل، أعلى فيه موضع للسهم، وأسفل هناك ثقبة توضع فيها حديدة، هذه الحديدة تطرق وتطرق حين إدخالها حتى يمكن أن تدخل في هذه الثقبة، فالدفع إلى النار كأنّهم في إحساسهم كالحديدة التي توضع في أسفل الرمح وتطرق، لو كانت تشعر بهذا الطرق كيف تكون؟ هذا السوق الجبري، كلّ مشاعرها ضد أن تدخل النار، لو كان بيدها أن تفدي بكلّ العالم من أجل أن تنجو من دخول النار لفعلت، لا أب ولا أم ولا أخ، ولا عزيز ولا ذليل، كيف الشعور تتصور؟ كيف شعور هذا الإنسان؟ فلنحذر تلك النار.
صحيح أن الشيطان يوسوس، يزين، يقبّح، يُنسي، يذكّر بما هو شر، صحيح أنّ هناك شهوات وموجود مضلين، وموجود جند الشيطان، موجود المستكبرون والطغاة، ولكن علينا ألاّ ننسى ذكر الله تبارك وتعالى، وعلينا أن لا نهزأ بالنار، وأن نخاف النار ونخاف الله مالك النار الخوف الذي لا يفارقنا لحظة، ولو استطعنا -ولن نستطيع- أن لا نغفل عن خوف النار لحظة واحدة لكان علينا أن نفعل.
وغَفَر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.