الحديث القرآني (الليلة الأولى) – 1 رمضان 1446هـ

*نص الحديث القرآني لسماحة آية الله قاسم في المجلس القرآني الذي يقيمه في مجلسه خلال ليالي شهر رمضان المبارك – الليلة الأولى (1 رمضان 1446هـ):
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
الصلاة والسلام على حبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم أيها الأخوة الكرام ورحمة الله وبركاته.
حديثي يكون في ليالي معدودة، وموضوع الحديث مقاطع بقدر الليالي من أكثر من سورة، هذه الليلة أبدأ بمقطع وإذا انتهى هذا المقطع يأتي مقطع من سورة ثانية وهكذا، والحديث فيه تركيز على القرآن الكريم، وحضوره الرئيس وهو التوحيد، والتوحيد هو مدار محور الحركة الإنسانية الرشيدة الناجحة التي تحلّق بالإنسان إلى مستوىً لا يمكن له أن يحلّق فيه ما لم يكن توحيد وما لم يكن قرآن.
أبدأ بهذا المقطع من سورة الفرقان:
بسم الله الرحمن الرحيم
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (*) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (*) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا).
الفرقان ما هو؟
هناك فرقان وفارق، وفرق بين الفارق والفرقان فيما يقول بعض المفسرين.
الفارق يكون بين كلّ شيئين أو أكثر بينهما فاصل، في كم، في لون، في طعم، فاصل في فائدة، وظيفة، وما إلى ذلك، أي نوع من الفواصل، حين يكون هناك فاصل بين شيئين يأتي أن نقول أن بينهما فرق.
أما الفارق فعند الكثيرين لا يستعمل إلا فيما هو للتعبير عن الفاصل بين ما هو الحق وما هو الباطل. في موضوع الفاصل بين الحق والباطل يأتي لفظ وتعبير “الفرقان”.
قضية “الفرقان” يعني أمامنا باطل وحق، وما يفرز الحق عن الباطل، لا يبقي اختلاطاً ولا يبقي اشتباهاً ولا غموضاً بالنسبة لما هو حق وبالنسبة لما هو باطل.
تقابلٌ مكشوف، الفرقان يكشف هذا التقابل ويُعطي وضوحاً تامّاً، ويرفع كل حيرةٍ واشتباهٍ فيما هو حقٌّ وما هو باطل، بحيث يُريك الحقّ حقّاً والباطل باطلاً، تكون رؤيتك للحق كرؤيتك للشمس ورؤيتك للباطل كرؤيتك للشمس.
القرآن الكريم هذه وظيفته، له وظيفة رئيسة وهو أن يفرز الحقّ عن الباطل، يفصل بينهما، لا يُبقي أيّ لونٍ من التردّد ومن الحيرة ومن الغموض فيما هو حقٌّ وفيما هو باطل، فيكون الإنسان هنا في هذه الحياة على بصيرة ووضوح تامّ ويعيش الحياة بالنسبة لرؤية الحق والباطل نهاراً، لا يبقى عنده تردّد، يعرف الطريق تماماً، طريق الحقّ وطريق الباطل، الطريق الموصل إلى السعادة، الطريق الموصل إلى الشقاء.
ليس فوق كتاب الله عزَّ وجلّ، ليس هناك بيان، وليس هناك توضيح لقضية الحقّ والباطل كما هو وعلى مستوى ما يأتي من كتاب الله تبارك وتعالى. التوراة فرقان، القرآن فرقان، وليس من السماء كتابٌ إلا وهو فرقان. ولكنّ الفرقان هنا المعني به القرآن، بعضهم يذهب إلى أن الفرقان المعني به كلّ الكتب السماوية.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)
البركة معناها الخير الكثير المتعاظم والثابت الدائم، صفتان، صفة الكثرة الكاثرة، وإذا قيل بركة يعني معناه هناك خير كثير دفّاق وعظيم وفي تعاظم، هذه البركة، وأيضاً هذا الخير ليس منقطعاً، مستمر دائم فيّاض متدفق لا ينقطع.
البركة التي في الفرقان هي من هذا النوع، بركة لا تنقطع، لا تُحدّ، ليس لها عمر محدد، ولا حدّ محدد.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)
تبارك على وزن تفاعل، يعني التعاظم المستمر، العظمة، الشرف الكبير، فكِّر في أيّ نوعٍ من أنواع الخير تجده في كتاب الله تبارك وتعالى.
خيرٌ للعقول، خيرٌ للقلوب، على مستوى الحياة، على مستوى الروح الإنسانية، على مستوى الدنيا، على مستوى الآخرة، على مستوى الفرد، الأسرة، المجتمع، على مدى كلّ الحياة، وعلى مدى كلّ الآخرة، فهو خيرٌ لا انقطاع له، دائماً في استمرار، دائماً في تعاظم، وكلّما استطاع الإنسان أن يرتفع بمستواه العلمي وجد من بركات القرآن ما لم يكن يعرف.
كنز القرآن ليس له حدّ، كلّ كنز له حد، كنز القرآن لا يتوقف عطاؤه، لا يتوقف الإنسان عن اكتشاف الجديد منه، كنز القرآن ومن كنوز القرآن ما دام على طريق التقدم في علمه، أي نوعٍ من العلم؟ كلّ حقول العلم تعطي القدرة على اكتشاف الجديد الجديد من الكنوز القرآنية التي لا ينفد عطاؤها.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)
لا يتكلم عن بركة قرآن، المنزّل للقرآن تبارك، وواضح جدّاً أن اللامحدود في الكمال، ليس مثل بركاته بركات، لا مثل خيره خير، لا حدود لخيره ولا لعطائه، لا حدود لعلم، لا حدود لقدرة، لا حدود لرحمة، لا حدود لحكمة، إلى آخره، كلّ صفةٍ من صفات الكمال يمكن أن تكون للإنسان ولكن على محدوديةٍ وتبعيّة، يعني تابعة ومعطاة من الله، وهي شيءٌ من نورٍ محدود، من نور الله تبارك وتعالى، فكلّ البركات هي بركات الله عزَّ وجلّ، وكلّ الخير منه.
أنت أمام كتاب من ذلك العظيم، من مصدر لا تنقطع خيراته، لا قدرة محدودة، ولا علم، ولا أيّ صفةٍ من صفات الكمال، ولا ذات يمكن أن تنقطع، أن تهلك، فكتابك التي تقرأه بهذه الكلمات والحروف، هو كتابٌ لابد أن يأخذ صورة عظمى في قلبك، نفسك، عقلك، عنه تعرف أنه سفينة، هذا الكتاب الكريم يقود الحياة كلّها إلى خير ما تكون عليه هذه الحياة، يصل بها إلى مدىً من الكمال، إلى مستوىً من الرفعة، من الثراء الفكري، النفسي، الاطمئنان، الراحة، الخير الكثير العام في كلّ جوانب الحياة، وفي كلّ لحظةٍ من لحظات الآخرة، هذا الكتاب سفينةٌ يقودك إلى هذه المحيطات من الخير، وهذه المحيطات من البركات.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)
جاء ليس من إنسان شحيح، محدود العلم، محدود القدرة، محدود النظرة، محدود الحكمة، تغالبه نفسه، يعيش القصور الكبير، هذا من الكامل، هذا الكتاب من الكامل، كل الكتب الأخرى غير السماوية مصدرها المحدود، المتعرّض لكثير من الجهل، هو جاهل أساساً، هو ضعيف أساساً، هو مغلوب لنفسه أساساً. أما الكتاب الذي يأتي سالماً من كلّ العيوب، من كلّ القصور، من المحدودية في النظرة، من غلبة الهوى، أو من شيءٍ من الهوى إنما هو الكتاب الذي يأتي من الله عزَّ وجلّ.
تتقدّم الدنيا في علمها التقدّم الكبير العظيم، يصل الإنسان إلى آفاق بعيدة من العلم ولكن تضلّ هذه الآفاق أو تضل رحلة الإنسان العلمية وسيره في الآفاق البعيدة العلمية سيرٌ يقوم به عقل ناقص، يقوم به قلب مضطرب، محدودية النظرة، ومعه العواطف، والأهواء، وما إلى ذلك، أما الكتاب السالم من كلّ هذه العيوب هو كتاب الله عزَّ وجلّ.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ)
نزّل، هذه الآية الكريمة وأمثالها، هل جاءت بعد تمام القرآن، أو جاءت والقرآن لا زال يتنزّل؟
طبعاً جاءت والقرآن لا زال يتنزّل، فكيف يأتي “نزّل الفرقان”، يعني نزّله كلّه؟
طبعاً قسمٌ قد تنزّل حقيقةً، في الخارج حدث تنزّل لهذا القرآن، وقسم لم يتنزّل، ولكن ألم يكن في إرادة الله عزّ وجلّ أن ينزل؟ بلى، من الأبد كان في إرادة الله أن ينزل هذا القرآن. علم الله ليس متأخراً، وإرادة الله لا تتأخر عن وجوده تبارك وتعالى، إنما تنفيذ الإرادة، تحقق الفعل للمراد يؤجله الله لزمن، وما قرّر الله وجوده هو موجود في الحقيقة، كأنه قد تحقّق، ليس بعد إرادة الله بأن يكون شيءٌ بعد سنة إلا وهو كائن، إلا وأنه لابد أن يكون، فكأنه حصل، فكأن ما لم ينزّل من القرآن نزّله الله عزَّ وجلّ، فما نزل في أوّل البعثة، مثله ما تنزّل في آخر البعثة، لا فرق بين الإثنين في قضية اللابديّة من الحصول الخارجي لما أراد الله أن ينزله من كتاب.
ولذلك جاء “نزّل” وليس سينزّل، لأنّ كون الله عزَّ وجلّ قد أراد أن تنزل هذه الكلمة أو مثل هذا الفعل ولو بعد مليون سنة فهو في عداد ما تنزّل، في عداد ما تمّ تحقيقه في الخارج.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)
هو يفرّق بين الحقّ والباطل في أمر الدين، يعني لن تجد شيئاً من الباطل مختلطاً بما هو الحق في دين الله.
هناك آيات محكمات وهناك آيات متشابهات، والآية المتشابهة غير واضحة المعنى وما هو مرادها من معنيين أو ثلاثة معاني محتملة، فكيف القرآن فرقانا؟
بعضهم يرى هكذا، أنه فرق بين الراسخين في العلم، وبين غير الراسخين في العلم. الراسخون في العلم أنبياء، أئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أحمعين).
بالنسبة للمتشابه ليس متشابه عنده، هو متشابه عند غير الراسخين في العلم، أما الراسخون في العلم فليس عندهم متشابه، المتشابه عندهم معروف مؤدّاه ومراده حتى لو لم يقفوا على المحكم.
يأتي بالنسبة لغير الراسخين، يبقى المتشابه متشابهاً ما لم يُرجع فيه إلى المُحكم، بوجود المحكم لا يكون المتشابه متشابهاً إلى الأخير. بمجرد الوقوف على المحكم يرتفع المتشابه، لا يبقى فيه تشابه.
إذن القرآن كلّه بنفسه فرقان، لا يحتاج إلى حديث المعصومين ليفرق بين الحق والباطل، التفريق بين الحق والباطل في أيّ قضيةٍ من القضايا وفي أيّ أمر من الأمور يكفي فيه القرآن الكريم حين نضمّ متشابهه إلى محكمه، حين نرجع مشتبهه إلى مدرسة محكمه.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ)
ليس رسوله، لم يقل رسوله وإنما عبده.
وما الرسالة إلا نتيجة العبودية. إذا كانت الرسالة شريفة أو شرفاً عظيماً فإنّ منبع هذا الشرف هو العبودية الصادقة، لولا العبودية الصادقة لما جاءت الرسالة.
العبودية ماذا تعني؟ تعني التشبه بالله عزَّ وجلّ في صفاته بحسب ما هو ممكن، وبحسب ما أقدر الله عبده عليه من هذا التشّبه. علم، الله عالم. عبوديتي، أن أتحصل على شيء من العلم، أن أأخذ بهذا العلم. القدرة صفة من صفات الله عزَّ وجلّ، عبودية الإنسان أن يطيع الله في طلب القدرة ليكون له شيءٌ ولو ضئيل من القدرة، وقدرة الله تبقى غير محدودة، وتبقى قدرة الإنسان محدودة.
شيءٌ محدود من القدرة، شيءٌ محدودٌ من العلم، شيءٌ محدودٌ من الرحمة، شيءٌ محدود من الحكمة، شيءٌ محدودٌ من التقدير الصحيح، إلى كلّ الصفات، هذا هو الإنسان المطيع، العبد لله.
العبد لله ماذا يعني؟ تخلُّق بأخلاق الله عزَّ وجلّ. أكبر مقام هو مقام العبودية لله عزَّ وجلّ.
أنت تطيع أعظم تقي، أعظم فقيه، هو أعظم تقي، هو أعظم فقيه، هو أعظم حكيم. يرتفع مستواك أو لا يرتفع؟ يكون لك شأن أو لا يكون لك شأن غير الآخرين؟
القرب من الله ماذا يعني؟ طبعاً هو قرب غير مكاني. محبوبية من الله، أخذ شيئاً محدوداً من صفات الله فكان قريباً منه، هذا قرب نسبي، فلان بعيد، فلان قريب، يعني فلان له من صفات الكمال مقدار، فلان الثاني له من صفات الكمال مقدار أكبر، ثالث له مقدار أصغر، أيهم الأقرب لله عزَّ وجلّ؟ صاحب القدر الأكمل من صفات الكمال، المتوفر على صفات أكثر وأتمّ كمالاً هو الأقرب لله، رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما معنى قربه لله تعالى؟
يعني لا يوجد واحد في الناس عنده شيءٌ من الكمال بقدر ما عند رسول الله.
طبعاً الكامل الأتمّ من أخيه الثاني، الثالث، الرابع، يكون أقرب من الكامل المطلق، وإن كان يبقى في ذاته ليس شيئاً، وهو كمال مستقى ومعطى من الله تبارك وتعالى.
(عَلَىٰ عَبْدِهِ)، هذا مدح لرسول الله، تعظيم لرسول الله، إعظامٌ لشأنه. هذا ليس عبد الطاغوت، ليس عبد التاجر الفلاني، ليس عبد العالم الفلاني الكبير، هذا عبد الله، هذا ليس عبد جبرئيل، هذا عبدٌ اللا محدود، عبد الكامل المطلق في كماله، ماذا ستتوقع من هذا العبد؟ رفعة شأن، عظمة، جمال، جلال، وإن كان محدوداً، إلا أنه ليس من جمال مثله عند الآخرين.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ)
هذا مَنٌّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نزّل الفرقان عليه.
(لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)
التفت هنا إلى عُدّة النذارة، إلى زاد النذارة، إلى ثروة النذارة، إلى امتياز المنذر، ماذا عند هذا المنذر؟
…….. درس في المدرسة؟ في جامعة؟ أكاديمية؟ ألّف ألف كتاب وكان له مستوى؟
هذا نزّل عليه الفرقان، كلّه هدى، عدل، بصيرة. الحياة بكلّ جزئياتها مكشوفة أمام هذا الكتاب، وتنكشف لهذا الكتاب. النفس الإنسانية بدقائقها، الكون كلّه بكلّ ذرةٍ من ذرّاته، ليس شيءٌ منه يخفى على الله عزَّ وجلّ. كتاب صادر من عالم بالكون علماً لا يغيب، لا ينقطع، شامل، ليس هناك من غموض في الكون أبداً أمام هذا العلم، علمٌ ليس يبقى عند صاحبه سؤال أصلاً.
كتاب الله جاء من عند الله المطلق في علمه، المطلق في حكمته، المطلق في رحمته، المطلق في قدرته. هذا كتاب يمكن أن تصوغه الأرض؟ إمكانات الأرض؟ علماء الأرض؟ علماء الدهر كلّه؟ لا يمكن.
نحن أمام دين يقوده هذا الكتاب.
الكتاب الذي لا يفلت شيءٌ من العلم ولا يتخلّف شيءٌ من العلم عنه، متوّفر على كلّ العلم، على الرؤية الكونية الممتدة بلا حدود زمنية ومكانية، موقعي في الكون ما هو؟ وزني في الكون ما هو؟ وزن ذراتي ما هو؟ هذا كلّه معلوم لمصدر هذا الكتاب الكريم.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ) ليكون هذا العبد بعد هذا التأهيل التام الشامل الذي يعطي العصمة، ويعطي الرؤية الواضحة اليقينية غير المضطربة، غير المتغيّرة، يوجد النفس المتيقنة بالهدف، سلامة الهدف، سلامة الطريق، شرف المهمّة، التأهيل الشامل لعقله، لقلبه، لجسمه، لروحه العظيمة، هذا التأهيل بعده يكون نذيراً للعالمين.
نحن نفخر بنذير أو مبشّر لفقيه كبير تقيّ ورعٍ نظيف السيرة، نفخر بهذا، فكيف الحال مع المطلق تبارك وتعالى في كماله، من قائد المسيرة الإسلامية إذا أسلمنا حقّاً وصدقاً؟ كتاب الله الذي هو من عند الله، فقائدنا الفرقان، يعني الله يقود خطواتنا.
أمة لا يمكن أن تبلغ أمّة أخرى تتخلّف عن الإسلام مبلغها، ولكننا نجهل أنفسنا ولا نقدّر، مع الأسف الشديد أن النفس تنصرف إلى عظمة المال، عظمة الجاه، وتنسى العظمة الحقيقية.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)
أين البشارة؟
طبعاً، الرسول نذيرٌ بشير. القرآن نذيرٌ بشير. الآية تكتفي بالنذارة وتسكت عن البشارة.
إذا تمّت وظيفة النذارة، واستجاب لها المنذر، إذا تمّت هذه النذارة واستفدتُ منها، وامتثلت لها، وأخذت بها، وبنيت حياتي عليها، هنا يأتي دور البشارة.
القاعدة العقلائية أن دفع الضر أهم من جلب النفع.
حين أُهدّد بنارٍ أمامي يبقى شبر واحد وتطالني، وورائي فرصة عمر طويل، لو لم أهرب وكان عدم هروبي مترتب عليه وجود عمر طويل، ماذا سأقدّم في ذلك الوقت؟ نفسي هل ستهمّ لمحاولة الهروب من النار أو ستفكّر في إضافة عمر إلى عمرها! طبعاً الهروب من النار.
دواءٌ له أحد أثرين، الطبيب يقول ذلك، إما أن يطيل في عمرك مئة سنة أو يميتك في هذه اللحظة، ماذا تفعل؟ النفس ماذا تتخذ من موقف عملي؟
على كلّ حال، النذارة فيها عامل تخويف، يعني هذا الفرقان يقول لنا إنْ تعرضوا عن الله عزَّ وجلّ فأنتم أمام مصير مهول أبدي، لا تجدون فيه لحظة راحة أبداً، لا على مستوى الجسد، ولا على مستوى الروح. الروح في عذاب، والجسد في عذاب.
صحيح هناك بشارة بالجنة، لكن خوفي من النار أكثر من طمعي في الجنة.
عندما يقولون لي ليس هناك جنة، لكن هناك أمن. الجنة التي ترتاح فيها تماماً غير موجودة، لكن موجود أنّك لا تلقى عذاباً، أيّهما أشدّ؟ أن أهدّد بمقابلة عذاب خالد أبدي؟ أو حور عين وما إلى ذلك؟
لا أريد الحور العين.
يُحتمل هذا ويحتمل هذا، أمامي مصيرين، لو قبلت أن يعطوني في الدنيا بساتين، وأنا مريض شديد المرض، أو يقولون لي لن نعطيك هذه البساتين سنعطيك الصحة، إذا أنا عاقل سأذهب للصحة ولن آخذ البساتين.
على كلّ حال، النذارة كافية، وهي الأساس في الدفع للدين.
إنسان يقولون له غداً صباحاً أنت غير موجود، إذا فعلت الأمر الفلاني أنت صباحاً غير موجود. سبب موت حتمي. ومرّة يقولون له هناك فعلٌ يجعلك غداً سعيداً جدّاً أو يكسبك موقعاً جديداً وما إلى ذلك، الإثنين دافعان، لكن الأول يرعبه أكثر، يبلغ من نفسه ومن دافعية هذا الرعب، للامتناع عن المخالفة بشكل أكبر جداً.
على كلّ حال، القاعدة العقلائية، يقولون دفع الضرر أولى من جلب النفع. طبعاً هذا غير قاعدة التزاحم التي تنظر فيها إلى الأهم والمهم، لأن في قاعدة التزاحم إذا كان الضرر أهم تقدمه على غيره، إذا كان النفع أكبر أيضاً تقدّمه.
مثلاً في عملية من العمليات، تؤثر مثلاً على إصبع مقابل أنها مثلاً تبرؤك من مرض القلب، نذهب لإجراء العملية، لأن الحفاظ على سلامة القلب أهم من الصبعة التي تعاق.
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)
“للعالمين” إنس وجن، وتشمل كل أصحاب العقول، الملائكة غير مكلفون حتى يبعث لهم الرسول، الثابت أن المخاطبون بالتكليف هم من أهل الأرض جن وإنس،
(لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)
يعني رسالة الرسول تتسع للعالم كلّها، وصالحة في ذاتها لحكم العالم في كلّ حالات تطوره، فالرسالة دائمة لأن الرسول الذي جاء بالرسالة رسالته مفتوحة على كلّ الزمن وعلى كلّ المكان.
وغَفَرَ الله لي ولكم.