كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني الدُّعائي الخامس – ليلة 26 رمضان 1445هـ
نص حديث سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم على هامش انعقاد المجلس القرآني الدُّعائي في منزل سماحته بمدينة قم المقدسة “شرح دعاء أبي حمزة الثمالي” – (الجلسة الخامسة) الجمعة 5 أبريل 2024 / 25 رمضان 1445هـ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
اللهم اهدنا بهداك وتولّنا برعايتك وكفايتك
اللهم ألهمنا الفهم والتقوى والعمل الصالح.
(وَلَمْ يَزَلْ وَلايزالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ يَأْتِيكَ عَنّا بِعَمَلٍ قَبِيحٍ فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ أَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعِيداً، تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ، أَنْتَ إِلهِي أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْما مِنْ أَنْ تُقايِسَنِي بِفِعْلِي وَخَطِيئَتِي، فَالعَفْوَ العَفْوَ العَفْوَ سَيِّدِي سَيِّدِي سَيِّدِي)
لا زالت ولا تزال رحمة الله تلاحق العبد، تنقذه من عثراته، تدفع عنه غواياته، تصحح له مسلكه، تطهّر قلبه، تأخذ به إلى سواء السبيل بعد زللٍ يتبعه زلل، وخطأٌ يتبعه خطأ.
يذنب العبد مرّة وثانية وثالثة، وتتوالى منه الذنوب، ولا تتركه رحمة الله عزَّ وجلّ لنفسه الأمّارة بالسوء ولشيطانه الغويّ الرجيم، ولسعي الضالّين المضلّين، وكأّن العبد يريد أن يقاطع الله، ويريد أن يستثيره عزَّ وجلّ -وحشاه أن يُستثار-، ويُقدم العبدُ على عناده لله ويتمادى في المعصية بحيث لا ينقطع خبر ذنبه ومعصيته وجحوده وكفره عن الله عزَّ وجلّ، ولا ينقطع ملكٌ كريمٌ عن رفع سوءات وسيّئات هذا العبد إلى الله عزَّ وجلّ، وبهذا كأنّ العبد يريد أن يُعلن لله كفره ويتحدّاه ويُنكر نعمه عليه، هذا كلّه لا يؤثّر على موقف الله العزيز الحكيم العليّ القدير الغني الحميد، موقف الرحمة من هذا العبد.
(فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ أَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ)
أنواع النعم وألوان الآلاء، من مادي ومعنوي، من خاصٍّ ومن عام، من صغيرٍ وكبير.
(فَسُبْحانَكَ ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعِيداً)
من أين تأتي هذه المعاملة المحسنة من الله عزَّ وجلّ على أثر المعاملة السيئة من العبد إلى الله تبارك وتعالى، ورأى هذا التعامل الرحيم الكريم المشفق من الله عزَّ وجلّ.
(فَسُبْحانَكَ)
نزاهة عن كلّ نقص، تعامل الله مع كلّ من عبده، مع الخلق كلّهم من منطلق كماله.
نحن مبتلون بالنقص، بالقصور، بالمحدودية، بالانفعالات، بالحاجات المختلفة، فلابد أن ينعكس هذا الابتلاء فينا، ينعكس على تعاملنا مع الآخرين.
أنا لو أردتُ أن أكون كاملاً ما استطعت -ومحالٌ أن أكون كاملا-، ولا يأتي التعامل من الكامل كما يأتي التعامل من الناقص، نقصي ينعكس على نفسي، ينعكس على مشاعري، ينعكس على تفكيري، ينعكس على أسلوب تعاملي مع الآخرين.
لو أردتُ أن أكون محسناً لما استطعتُ أن أستقيم على هذا الطريق بحسب ذاتي الناقصة، بحسب مشاعر النقص والمحدودية والفقر والاضطراب الذي يحكمني.
والفقير لابد أن يعيش حياةً مضطربة، فإمّا أن يغنى بذاته أو أن يستغني بغيره.
وإيماننا له درجات، وكلّما قلّت درجة الإيمان كلّما زاد اضطراب النفس واستحكم فيها هواها وأضلّتها حاجاتها ومحدودياتها.
(فَسُبْحانَكَ)
أنت منزّه أن يصدر تعاملك مع العبيد المجانين من روح الانتقام، من روح القسوة، من غير مقتضى الحقّ، ومقتضى العدالة، بل من مقتضى الإحسان، فلذلك الكثير الكثير الكثير أن لا تقابل سيئاتنا بالعدل وإنما تقابلها بالعفو والعفو منك إحسان.
(فَسُبْحانَكَ ما أَحْلَمَكَ)
هذا الموقف -موقف الرحمة على أثر معصيتنا، موقف الشفقة على أثر جفائنا، موقف اللين على أثر استكبارنا، ماذا ورائه؟-، (ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيدا)، الحلم والعظمة والكرم كلّها صفات راجعة للقدرة، للغني، للكمال -والله كامل تبارك وتعالى).
(ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعِيداً)
على مستوى الحياة، هو مبدئ ومعيد، وعلى مستوى النعم هو مبدئٌ ومعيد، يبدئ النعمة ويعيدها ويكررها وتتدفق على يده باستمرار رحمةً بالعبد، ولو جاءت النعم وأغرقت الإنسان إغراقاً وانقطعت عنه في اللحظة التالية لكانت في شقاءٍ كبير.
(ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعِيداً)
كرمه لا يتوقف، عطاؤه لا ينقطع، رحمته متواصلة.
(تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ)
ثناء على صفاته العليا، وكلّ صفاته عليا، وكل صفاته كاملة.
لا ثناء من نبيٍّ ولا مَلَك يفي بما أنت أهله من الثناء، ولا من أحدٍ من خلقك يُحصي آلائك.
(وَكَرُمَ صَنائِعُكَ وَفِعالُكَ، أَنْتَ إِلهِي أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْما مِنْ أَنْ تُقايِسَنِي بِفِعْلِي وَخَطِيئَتِي)
واحد عادي في الناس، عادي في علمه، عادي في فهمه، عادي في حلمه، بسيط في مستواه، ليس له موقع متميز في العلم والفهم والحلم والكرامة والعزّة والمجد والسموّ. أحضرُ مجلسه وأنا على جنايةٍ وذنب، ويعرفُ منّي توافه وسيئات وسوء أدب، هذا من المرتقب منه أن يُقايسني بفعلي وخطيئتي، تأتي معاملته لي على مستوى فعلي وخطيئتي وسوئي وجهلي وبلاهتي.
أمّا وأنا قد دخلت على رجلٍ حكيم، عزيز، رفيع الشأن، عميق المعرفة، قلبه مليءٌ بالرحمة، غنيٌّ بالحكمة، له قلبٌ يُشفق على الضالّ بضلاله، همّه أن يرفع من شأن الآخرين ويصحح وضعهم، نفسيتهم، تفكيرهم.
(أَنْتَ إِلهِي أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْما مِنْ أَنْ تُقايِسَنِي بِفِعْلِي وَخَطِيئَتِي)
لا ينزل لمستواي، لا يلحظ ضعفي وجهلي وسوئي إلا وقد لحظ قبل ذلك أن يصحّح هذا منّي، فلذلك تأتي معاملته لي معاملة شفقة، معاملة هداية، كلمات مُنقِذة، يطعّم حديثه بالتقدير ليكون هذا التقدير مشجعاً للاستجابة لنصحه وما إلى ذلك.
فالله عزَّ وجلّ بكماله -وهو يعرف كمالي وهو الكامل، ويعرف نقصي وقصوري وتقصيري- يعاملني معاملة المُحسن الذي يظهر منه الحبُّ لي والشفقة عليّ والرحمة بي إنقاذاً لي، ولو قايسني وقايس أيّ أحدٍ غيري بفعلي وفي كلّ الزمن واللحظات لما قام أحدنا من خطأه، ولما عاد في يومٍ من الأيام إلى رشده، ولما أصاب سداداً بعد ضلالٍ وغوايةٍ وتيه، لكنّها رحمة الله عزَّ وجلّ وحكمته.
(أَنْتَ إِلهِي أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْما مِنْ أَنْ تُقايِسَنِي بِفِعْلِي وَخَطِيئَتِي)
الكرم كما ينعكس على العطاء يولّد العطاء وقضاء الحاجة، الكرم أيضاً منتجٌ للسماح، والترفُّع والتسامح في العقوبة وعدم التسرُّع في العقوبة وعدم الأخذ بشدّة إذا كان في اللين وسيلةٌ لعودة الرشد وعودة الصلاح وهدى النفس.
يُنادي (فَالعَفْوَ العَفْوَ العَفْوَ) مؤكداً الطلب بعد تأكيد للحاجة الملحّة الشديدة للعفو، وللعلم الأكيد واليقين التام بأنّ الله عزَّ وجلّ قادر. قادرٌ على تصحيح هذه النفس، ليس العفو الذي يعني عدم المجازاة على السيئة فقط، ولا يعني محو السيئات من سجّل السيئات ليوم القيامة، وإنما يعني عفواً يأتي على كلّ ما في النفس من آثار الذنب، والذنبُ دائماً ينحدرُ بصاحبه ويُسقط قابلياته، وينحطُّ بمستواه العقلي والنفسي والروحي، ويُحدِثُ في القلب ظلمات، عفو الله يُذهِب ظلمات الذنوب من القلوب وتأثيرها السلبيّ على العقول، وتكديرها للأرواح.
(فَالعَفْوَ العَفْوَ العَفْوَ)، تأتي كلمة (سَيِّدِي سَيِّدِي سَيِّدِي).
في الخلق سادة، ولكن ما من سيّدٍ في الخلق إلا وسيّده الله، لا سيادة في الأصل لأحدٍ من الخلق على الإطلاق، ليس سيّداً من لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا.
سيّدي لا يستطيع أن يضرّني بشيء؟ سيّدي رسول الله السيادة الأصلية وهو لا يملك أن يدفع عنّي سوءاً؟ ولا يقضي لي حاجة بل ولا لنفسه؟ رسول الله عبد، جبرئيل وأكبر من جبرئيل عبد، وليس سيّداً، هذه سيادة تشريعية من الله عزَّ وجلّ لحكمة الله ولنظم أمر العباد، وهي محلٌّ رفيعٌ رفيعٌ ومقامها أعلى مقام.مقام لرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) أعلى مقام، لكن تبقى مقاماتهم في قيمتها من منطلق أنّها مقدّمةٌ لهم عند الله تبارك وتعالى.
فـ(سَيِّدِي سَيِّدِي سَيِّدِي)
يُنادي بها العبد ربّه وهو مؤمنٌ بأنّه لا سيّد غيره، وبأنّ سيادته مطلقة على مستوى التكوين وعلى مستوى التشريع، وأنّه لم تكُن ولن تكون سيادةٌ لغير الله عزَّ وجلّ لأحدٍ سيادة أصليّة غير تبعيّة على الإطلاق، ولذلك إذا قَدَّرنا إحسان أيّ عبد، عطاء أيّ عبد، فلابُّد أن نُري إحسانه وعطاءه ورحمته وكرمه وعنايته لرحمة الله، لفاعلية الله، لعطاء الله تبارك وتعالى، فيبقى المعبود الذي لا معبود غيره، وكلُّ الرسل والأوصياء والملائكة والجن والأنس عبادٌ له؛ هو الله تبارك وتعالى.
يكبُر الفقيه المرجع، يكبُر أيُّ عالمٍ في فنّه، ويكبُر الكريم من الخلق في النفوس، والقويّ، إلى آخره، إلاّ أنّ أحداً منهم لا يصحُّ عقلاً، وجداناً أن يزاحم ذكره ذكر الله، أن يزاحم قوّته، قدرته، كرمه، لا يزاحم ذكر شيءٍ من هذا لهذا العظيم في نظر الناس؛ ذكر الله تبارك وتعالى. هذا شعاعٌ بسيط لنورٍ لا ينطفئ ولا يُحَدُّ من نور الله تبارك وتعالى، وهو نور الله تبارك وتعالى.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
ونسأله المغفرة والرحمة والهداية والصواب وغفران الذنوب وتسديد الخطأ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.