الحديث القرآني الرمضاني السابع 1444هـ
الحديث القرآني الرمضاني السابع لسماحة آية الله الشيخ عيسى احمد قاسم – 16 شهر رمضان 1444هـ / 07 ابريل 2023 في قم المقدسة
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
المؤمنون يدعون إلى الله، ويحاولون أن يستجمعوا قلوب الناس كلّها على محبّة الله، عبادة الله، التوكّل على الله، نشر منهج الله في الأرض، إلى آخره.
الكافرون أيضاً لهم دعوتهم، ولهم سعيهم الحثيث في هذه الدعوة وجدّيتهم وبذلهم.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا)
نحن ندعوا الذين كفروا لاتّباع سبيلنا، وهو سبيل الإيمان إن شاء الله، والتقوى والعمل الصالح، هم أيضاً يدعوننا لـ أنْ نتّبع سبيلهم، سبيل الكفر هو سبيلٌ تمليه قضية الكفر، فلا سيادة لأحدٍ على الإنسان، لا سيادة إله، ربما لا خالقية عندهم، لا ألوهية، لا منهج إلهي، لا رسل، لا كتب، والإنسان سيّد نفسه على الاطلاق، ليس لأحدٍ أن يملي عليه أيّ سلوك، أي قول، أي قضية، حرٌّ حريّة مطلقة يعمل ما يريد ويترك ما يريد، ويطلق من الكلام ما يشتهي، يشتم ويسب وما إلى ذلك ما لم يعرّضه كلامه وسلوكه لخطر دنيوي فله أن يفعل ما يشاء بحكم نفسه.
الكفر يعطيك فرصة أن تنهب، أن تستغل، أن تستضعف، أن تتآمر على أي أحد، أن تنهب الدنيا كلّها لجيبك، هذا كلّه يبيحه الكفر.
قضية الزنا، اللواط، مثلية، ما إلى ذلك، كلُّ ذلك لا شطب من حمرة عليه، لا يوجد خط أحمر دونه ويمنع منه، تفضلوا لهذا السبيل، دعوتهم لنا أن نسلك هذا السبيل.
نمتنع، لماذا تخافون؟ إن كان هناك ربّ، وإن كان هناك آخرة وهناك عقاب، فلا تخافوا، أيّ مسؤولية، أي حمل ثقيل، أي تبعة مؤذية نحن نتحمّلها عنكم، خطاب الكافرين للمؤمنين، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، همّكم أن تنجوا من النار، همّكم أن لا يصيبكم أذى، هذا الكدّ والكدح فيما تسمونه سبيل الله، من أجل ماذا؟ فراراً من النار ومن العقوبة؟ من أجل حياة مديدة بعد هذه الحياة، لو كان هذا فيه شيءٌ من الصدق، لو كان هذا سيقع فنحن نتحمّل وزر خطاياكم.
يقولون (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، هذا الأمر لمن؟ الأمر لأنفسهم بأن يحملوا خطايا المؤمنين، أمره لنفسه يعني إلزامه لها، فهو يُسائل نفسه بعد ذلك، هو يتحمّل مسؤولية المحاسبة لنفسه، وهو يعاقب نفسه على أساس أنها لم تفي بوعدها وعهدها ولم تتمثل أمره، (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، هذا شدّة الإلتزام، ليس “سنحمل خطاياكم”، لا، هناك أمر ملزم من أنفسنا بأن نحمل خطاياكم أيها المؤمنون الخائفون من عقابٍ تنسبونه إلى خالقٍ رازقٍ مالكٍ مدبّر لمخالفته.
ماذا يقول عنهم الكتاب الكريم؟ ماذا يقول عنهم ربّ العباد؟
يكذّبهم تكذيباً واضحاً (وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ)، ولا يحملون شيئاً بسيطاً من خطاياهم، (إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، هذا الوعد منهم كاذب، لماذا؟
كشيء أوليّ، يقول الله عزَّ وجلّ: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، هذا بين المؤمن والمؤمن، وفي العادة في الحياة الدنيا أنّ المؤمن ذو تحمُّل، وأن ليس غريباً على الأمّ أن تفدّي نفسها لولدها، وأن يقف الأخ مع أخيه في أشدّ المواقف صعوبة، وأن يحنو الأب على ولده ويرمي بنفسه إلى الموت دونه، وأن تُخلص الزوجة إلى زوجها وتقف معه موقفاً منتصراً له وبقدر جهدها، وأن يفدّي الإبن أباه، كلُّ ذلك ليس غريباً على المؤمنين، وهؤلاء المؤمنون يوم القيامة يفرّون من بعضهم البعض لشدّات العذاب، هو يوم من هوله تضع ذات الحمل حملها لا بإرادتها، الكافر هنا عند الضيق يفرّ، في الدنيا يفرّ، فكيف لو رأى ذلك العذاب؟ وكفاه أنّه أهلٌ للعذاب، هو يحمل همّ عذابه أو عذاب الآخرين؟
هذه قضية، القضية الثانية:
تكذيبهم بأنّ قضية التحمُّل عن الآخر، ينافي (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)، عدل الله عزَّ وجلّ قاضٍ بأن لا يحمل أحدٌ ذنب أحد. هنا موجود، يُحكم على شخص من عائلة كبيرة جانٍ على الدولة، قد لا يُعذّب وحده، إنما ينال العذاب والأذى كلّ العائلة، وربما امتدّ للعشيرة، هذا في الدنيا، أما في قانون الله، وفي عهد الله (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)، النفس المذنبة -يعني التي من شأنها أن تذنب- لا تحمل ذنب الآخر أبداً، لي ذنوبي، إذا أذنب عليَّ ذنوبي، ولكن لا أتحمّل ذنب ولدي ولا زوجتي ولا أبي ولا إلى آخره، لا يوجد تحمُّل.
كافر، ومعادٍ لله عز وجل كلّ العداء، ومحارب لله كلّ المحاربة، وله خطاياه، لكن لا يحمّله الله عزَّ وجلّ وِزر عمل الآخر، حين يأمر الآخر ويدعوه ويستحثّه ويعاهد بأن يتحمّل خطاياه، هذا فيه إغراء للآخر بأن يقوم بالفساد، ويعصي الله عزَّ وجلّ، بأن يرتكب الذنوب الصغيرة والكبيرة، هذه الدعوة يتحمّلها لأنّها نشرٌ للفساد، أما تطبيق الآخر لما أمر به هو ودعاه له فيحمله هو، قال له أزنِ، إشرب الخمر، شرب الخمر، زنى، من يتحمّل القيام بهذه الأفعال المشينة؟ هو مرتكبها.
كون الكافر أمره بأن يفعل هذا لا يعفيه من العذاب، الكافر ليس أشد من إبليس وسوسةً وإغراءً بالفساد، لكن هذا لا يعفي المطيع لإبليس ولا تعفي وسوسة النفس عن عقاب الله عزَّ وجلّ، لأنّ عندي ما أردّ به على هؤلاء، لأنّ الله مكنني أن أرفض وسوسة الشيطان ووسوسة النفس الأمّارة بالسوء، فأنا أتحمل وزر نفسي في طاعة الشيطان، في طاعة المضل من الجن والمضل من الإنس، لكن من أضلّني، عقوبته عليه وعقوبتي عليّ وله عقوبته وهي عقوبة وسوسته وأمره وإكراهه وإجباره لي على المعصية، هذا هو عدل الله عزَّ وجلّ، كافر محارب لهذا الحد، لكنه لا يعاقبه بشيءٍ ليس هو المسؤول عنه، هو مسؤول عن الأمر، ولكن ليس مسؤولاً عن الارتكاب نفسه، عقوبة للإرتكاب وعقوبة للأمر، عقوبة التزيين والتكريه والحثّ والتثبيط وما إلى ذلك، هذا كلّه على فاعله وهو الضال المضل، وأما المأمور بهذا والموسوس له عليه عقوبة الفعل وإرتكابه.
الآية الكريمة تقول (إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
هم كاذبون جملة إسمية فيها تأكيد أقوى من الفعلية، (إنّ) فيها تأكيد، مؤكد فظي، اللام الداخلة على “كاذبون” أيضاً فيها تأكيد، تكذيبهم-تكذيب الله لهم- تكذيب مشدد بأكثر من صيغة ولفظ. صيغة الجملة الاسمية وإنّ واللام.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)
قبل هذه الآية الكريمة، كلام الآيات السابقة، تشير بأن الأمم أصاب الأنبياء منهم التكذيب. حوربوا، افتتن المؤمنون معهم، قد مرت الفتن الكبار على الأنبياء قبله من أممهم، وقد فتنوا من أمم قبل أمّة رسول الله “صلَّى الله عليه وآله”.
لماذا تعبّر الآية الكريمة بأن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما -وهي تقصد 950 سنة-؟ لماذا هذه اللفة (ألف إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)؟ لماذا لم تقل الآية الكريمة 950 سنة؟
المقام مقام الإشعار بطول مدّة دعوة نوح عليه السلام، وقع ألف سنة وهي خانة فوق المئات دون وقع 950 سنة، ألف سنة إسحب منها خمسين، الخمسين جزء بسيط بالنسبة للألف سنة، فلا يوجد هدم كبير للألف سنة، يعني هيبة الألف سنة لا زالت على وزنها تقريباً، مَن استكثر ألف سنة بقت في نفسه كثيرةً بعد رفع الخمسين منها.
فهذه قفزة على خانة المئات، فالغرض هنا أن تستقبل النفوس السامعة، المخاطبة؛ مدّة المكث واللبث لنوح “عليه السلام” في قومه باستكثار، باستهضام، باستكبار.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)
هنا موجود إرسال، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ)، هذا اللبث يأتي بعد الفاء، (فَلَبِثَ)، الفاء هنا فاء التعقيب، والإرسال قبل واللبث بعد، اللبث هنا هو زمن الدعوة، أما عمر نوح ليس ألف سنة إلا خمسين عاما، يعني فترة قبل الإرسال مسكوت عنها، ومختلف في تقديرها عند المفسرين، وكذلك عندهم أنّه عاش بعد الألف سنة إلا خمسين عاماً، بعضهم يوصل عمر نوح إلى ألفين، وبعضهم أقل من ذلك.
الدعوة هي ألف سنة إلا خمسين عاماً، لكن نعرف أن قبلها شيء -قبلها عمر- بدلالة فاء التعقيب التي أعقبت الإرسال بالبعث، جاء البعث بعد الإرسال فعمر الإرسال غير داخل في مدة البعث.
الآية الكريمة تقول (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)
السنة في اللغة العربية، هذا اللفظ مقترنٌ بالقسوة، بأن يكون زمن الـ12 شهراً مصحوباً بشدّة الحياة وقسوتها والمحن، ويعبر عن الجذب بالسنة، لماذا هذا الاختيار؟ وأن يعبّر عن الـ950 بالسنة ولم يختر لفظ العام؟ ذلك لقسوة هذه المدّة دمدة دعوة نوح عليه السلام- وشدّتها وهولها ومتاعبها الكبرى ونصبها وثقلها على نوح “عليه السلام”، كلّها جهاد من جهته، وكلّها عناد من جهة قومه، تكذيب وتسخيف واستهزاء إلى آخره، 950 سنة تعب، جدّ، ومقابلة بالتعب الشديد وعدم النتائج المغرية، في نهاية الـ950 (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل)، أنت تزرع وتتعب من الصبح إلى الليل، ويأتيك حاصل فترتاح، لا يوجد حاصل تحزن. البحار يدخل البحر يوم يومين ثلاثة أربعة، شهر شهرين، صيده سمكة واحدة ، تتحطّم نفسيته، يصاب باليأس الشديد، لا يوجد أحد يؤذيه بشكل مباشر، لكن مطلبه لا يحصل عليه.
نوح “عليه السلام” لا المطلب وهو هداية الناس التي يتوقّعها ويحبّها ويبذل من أجلها بأمر الله عزَّ وجلّ، ومع ذلك هناك أذى كثير، واستهزاء، يمرّون عليه وهو يصنع السفينة فيناله الاستهزاء والسخرية، وهذا العناد والمضادّة له من قوم كثيرين له، كل ذلك كان متعباً، لذلك عبّر عنها القرآن الكريم “سنين” ولم يعبّر عنها “أعوام” الخالية من هذا المعنى.
انظر، خمسين السنة التي لا يوجد فيها شدّة، عبّر عنها (إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)، مستثى منه ألف سنة لما فيه من شدائد ومعاناة صعبة، إلى آخره.
أما المستثنى فعبّر عنه بخمسين عاماً، لأنّ فيه راحة بالنسبة للمدة السابقة.
المدة السابقة فيها الاطمئنان بوعد الله عزَّ وجلّ، وتوقّع الثواب العظيم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)
الطوفان ماء، ريح، ظلام، ربما حتّى موت، هذه الأشياء وأمثالها حين تتحرّك بقوّة وسرعة هائلة وتغطي مساحة كبيرة، ويصعب منها الفرار، وتضيق بها النفوس، وتلوّح -وأكثر من تلوّح- تهدد بالموت الجدّي، هي طوفان، خوف قد يغطّي العالم، يمكن أن نسمّي “كورونا” بأنّها طوفان، طوفان كرونا، لانتشارها الواسع والخوف منها وتهديدها بالموت إلى آخره.
طوفان نوح “عليه السلام” هو طوفان مائي، جائهم الطوفان وهم ظالمون، يعني 950 سنة دعوة وهم ماكثون على الظلم طوالها، ظلم الكفر، عناد الرسالة، محاربتها، أذى نوح “عليه السلام”، تماديهم في باطلهم، بقوا على ظلمهم طوال هذه المدة، هذا كان فيه إشعار بأن ينالهم العذاب، ليس في حالة توبة، لو تابوا قبل لما نالهم هذا الطوفان، هناك استمرار على الظلم، الاستمرار على الظلم هو سبب تنزيل عذاب الله على الناس، حين يكون ظلمٌ وتكون توبة قبل ما قدّر الله من العذاب بعد مدّة معينة، إذا جاءت التوبة ترفع العذاب، فالطوفان لم يأتهم في حال تراجع بعد توبةٍ، بعد استذكار عظمة الله، وقدرة الله فلنحذر الظلم حذراً شديداً، ولنحذر الاستمرار على خطّ الظلم، ولنحذر بصورة مكثّفة من الاستمرار على خطّ الظلم.
وغَفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.