الحديث القرآني الرمضاني الثالث 1444هـ
الحديث القرآني الرمضاني الثالث لسماحة آية الله الشيخ عيسى احمد قاسم – 6 شهر رمضان 1444هـ / 28 مارس 2023 في قم المقدسة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم ألهمنا فهم العقول، وتقوى القلوب والعمل الصالح، برحمتك يا أرحم الراحمين.
-علي بن إبراهيم، أخبرنا الحسين بن محمد إلى آخر السند، عن علي بن الحسن العبدي أيضاً إلى آخر السند، أنّه سأل-السائلهو الأصبغ بن نباتة- أمير المؤمنين “عليه السلام” عن قول الله عزَّ وجلّ (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير)، -في الآية الكريمة (ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)- أنْ قال علي “عليه السلام” وأصحابه، و”ليعلمن الكاذبين” أعداؤه.
الصادقون هم عليٌّ “عليه السلام” وأصحابه، -الآية الكريمة تقول (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)-، من هم الذين صدقوا؟
الصادقون عليٌ “عليه السلام” وأصحابه، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين) أي أعداؤه، أعداء علي “عليه السلام” هم المعنيون بأنهم الكاذبون.
-قال النبي “صلَّى الله عليه وآله” لعمّار، أنّه سيكون من بعدي هُنات -والهنات شرورٌ وفتن وفساد، فالنبي يُخبر بأنه ستكون بعده شرورٌ في الأمّة الإسلامية وفساد-: أنّه سيكون من بعدي هُنات حتى يختلف السيف بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضا، وحتى يتبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني عليّ بن أبي طالب، فإنْ سلك الناس كلّهم وادياً، فأسلك وادي علي، وخلِّ عن الناس، -أي تخلى عن الناس وابتعد عن الناس وامسك بطريق علي عليه السلام وولايته- يا عمّار، إنّ علياً لا يردّك عن هدى، ولا يردّك في ردى، يا عمّار طاعةُ عليٍّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله.
لماذا طاعة عليٍّ هي طاعة النبي؟ ثم إنّ طاعة النبي هي طاعة لله عزَّ وجلّ؟ ذلك لأنّ علياً “عليه السلام” لا يأتي إلا بما فيه طاعة الله، فإذا كان لا يأتي إلا بما هو طاعة لله عزَّ وجلّ، فإذن كلّما اتّبعنا علياً “عليه السلام” فعلينا أن نعرف أنّنا أطعنا الله عزَّ وجلّ.
-عن الحسين بن علي “عليه السلام” عن أبيه -الإمام علي عليه السلام- قال لمّا نزلت (ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) إلى آخر الآيات، قلتُ يا رسول الله ما هذه الفتنة؟، قال يا علي إنّك مبتلىً ومبتلىً بك، وإنّك مخاصمٌ فأعدّ للخصومة.
“مبتلىً “، ستواجه فتنة، ضغوطاً، تنكراً لمقامك، اعتداءً على مقامك، طرداً لك من موقعك، إلى آخره، هذا ابتلاءٌ لعلي “عليه السلام”، يبتليه في إيمانه، يبتليه في تمسّكه بحبل الله عزّ وجلّ، في إمساكه بالعروة الوثقى، لا تنفصل يده ولا قلبه ولا عينه ولا عقله عنها.
“إنك مبتلىً ومبتلىً بك”، هكذا هي الدنيا اليوم وغداً وأمس، كما أنّ المؤمن مبتلىً بأعداء الله، فأعداء الله مبتلون أيضاً بالمؤمنين، الأرض أفسح، الأمور أهنأ ، القلوب أشرح عند المشركين لو خلت الأرض من مؤمن، كلمة مؤمن فرعون لفرعون، لآل فرعون، وهو واحد، تضيق بها صدورهم، ويعتبرون نوع من المشاورة، فكيف والمؤمنون يقاومون مقاومةً قوية شرسة هادفة صُلبة، من الطبيعي كما أنت مبتلىً، ومن حولك كان فاسداً هم مبتلون بك أيضاً، وكلما كبرت الجماعة المؤمنة ونشطت في إيمانها كلّما تأذّى بذلكالكافر والمنافق والفاسق.
“إنّك مبتلىً ومبتلىً بك، وإنّك مخاصم، فأعدَّ للخصومة”.
اعدّ عقلاً صافياً، فطرة نقيّة، إرادة قوية، جِدَّاً جادَّاً، اعدّ نفسك قويّاً متحمّلاً صبوراً قادراً على أن ترى الأذى من الآخرين فلا يهزّك، هذا اعدادٌ لابد منه، عَلَيَّ وعليك وعلى الجماعة والأمّةالمؤمنة كلّها أنْ تعدّ نفسها، بدل أن تأنّ تحت وطأة أذى الآخرين حاول أن تترفّع ببناءك لنفسك على قوّة الضغط.
قال السيد محمد تقي الحكيم “رحمه الله وأجزل ثوابه” عميد كلية الفقه وعضو المجمع العربي في اللغة، يقول قال له بعض الطلاب بأنّ فلاناً -أحد المدّرسين- اسلوبه متجاوز لحدّنا، متجاوز لمستوانا، فقال لهم: حاولوا أن ترتفعوا إلى أسلوب أستاذكم ولا تنزلوا به.
فنحن نشكوا طبعاً من أمور كثيرة، لكن لو قوّينا أنفسنا وجدنا هذه الأمور قد سهلت علينا، هكذا الابتلاء، صعب ومهيب ومقلق للحياة ومدمّر للنفوس ما لم نبني أنفسنا بالمستوى الذي يناهضه ويتغلّب عليه.
هذه مدرسة عليٍّ “عليه السلام”، وهي مدرسة القرآن.
في الآية الكريمة نفسها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، قال عليٌ عليه السلام، قلتُ يا رسول الله، ما هذه الفتنة؟ قال: يا عليُّ بك.
أنت عملاق، والآخرون صغار، أنت متّقي، وآخرون في الأمّة على العكس، أنت تريد الله وتريد الناس لله، والناس يريدونك لهم، حتّى أنهم يريدون الله لهم فقط، أن يأخذوا فقط لا أن يعطوه، وبهذا تكون ابتلاءً لهم، وتكون سبب فتنة بالنسبة إليهم، يفتتنون بذلك، يفتن قبحَهم جمالُك، وصغرَهم علياؤك، وبذلك لابد أن يحسدوك، لابد أن يحاربوك، لابد أن يسقطوا قدرك، فأنت فتنة لهم، أنت سبب الفتنة لهم، بينما كان الواجب عليهم أن لا تكون فتنةً لهم وإنّما تكون قدوة، وأن يتّخذوك معلّما ومربياً وقائداً عظيما.
“قال يا عليُّ بك-أي تلك الفتنة بك-، وإنّك لمُخاصم، فاعدّ للخصومة”.
بتقوية ذاتك وتقوى من الله عزَّ وجلّ، لأنّ هذه الفتنة تحتاج من عليٍّ عليه السلام وإنْ قدر على البطش ولكنّ عليه أن يُعمل التقوى ويقبل الأذى في سبيل الله ومن أجل نجاح الرسالة الإسلامية في الأرض، عليه أن يصبر على أذى فاطمة عليها السلام، وعلى أذى آله “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”، وأذى أصحابه، بلال يُعذّب، وياسر يعذب وأم عمّار تعذّب، وهو يسمع وينظر ولكن يُمسك لسانه ويُمسك يده تقوى الله تبارك وتعالى، والحساب لنجاح الرسالة الإسلامية.
“قال يا عليُّ بك، وإنّك لمُخاصم، فاعدّ للخصومة. وقال علي (ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)
ويفسّرها بقوله “نحن أولئك”، يعني هم الذين أورثهم الله الكتاب، وهم الذين اصطفاهم من عباده لهداية الإنسانية وقيادتها على طريق الله عزَّ وجلّ، وإلى عليائهم وكمالهم.
اكتفي بهذا من الأحاديث حول الآية الكريمة.
ننتقل إلى الآية الأخرى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
هذه هي القراءة المشهورة في الآية، وهناك قراءةٌ أخرى منسوبة إلى عليٍ “عليه السلام”، وإلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
لو جئنا للقراءة الثانية، (فَلَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، الفتنة البلاء ماذا تُجلّي؟ تجلّي الإنسان لنفسه أولاً، فالنفس الصادقة، القلب الصادق، الإيمان الصادق المتغلغل في الأعماق، المترسخ، الثابت في الذات، تأتي الفتنة ليظهر على السطح من خلال العمل الصالح، من خلال الصبر على الأذى، المجاهدة في الله عزَّ وجلّ، ضبط اللسان، ضبط اليد، ضبط كلّ جارحة من الجوارح، حبس كلّ ذلك على ما يرضي الله تبارك وتعالى، كلّ شيءٍ محبوسٌ في هذه الذات يظهر أنّ كلّ شيءٍ في هذه الذات محبوسٌ في التصرّف فيه، التصرّف في هذه الجوارح، وما يحدث من جوانح ومشاعر في الداخل، كلّ ذلك محبوسٌ على مرضاة الله، يعني لا يتعدّى مرضاة الله، ولا يطلب شيئاً غير مرضاة الله، لا يميل شمالاً ولا يميناً عن خطّ الله تبارك وتعالى.
فيعلمون أنفسهم هنا على السطح، أمّا جائت الفتنة، أنا كنتُ أظنُّ بنفسي خيراً، وأرى نفسي بأني قادر على الصبر وعلى التضحية وعلى وعلى، تأتي الفتنة فتُعلّمني بأنّي لستُ هذا الشيء، وأنّي لستُ ممن يصمدون في الفتنة، فتُعلمني ذاتي، تكشف لي ذاتي، لا تكشف ذاتي للآخرين فقط، وإنما تكشف ذاتي لذاتي أيضاً، تتضح، الظنُّ كان ظنّاً خائباً والعياذ بالله، ظنّي في نفسي خيراً تُظهر الفتنة أنّه ظنٌّ خائب!
(فَلَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِين).
المشكلة تأتي في (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) -هي القراءة المشهورة، والتي أمرنا بالأخذ بها، نحن مأمورون أن نأخذه في صلاتنا وعباداتنا على ما جاء بين الدفّتين وفي الصورة التي وصلت إلينا من القراءات المشهورة التي اعتمدها المُثبِتون للنص القرآني في المصحف الشريف-.
هذه القراءة فيها (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين)، هذه الـ”ف” فيها ترتيب وترتُّب علم الله في ظاهرها الأولي، ترتُّب علم الله بالذين صدقوا وبالذين كذبوا على نتيجة الفتنة، الابتلاء، الاختبار. يأتي الاختبار فيظهر أنّ فلاناً صادقٌ في إيمانه، وأنّ آخر كاذبٌ في إيمانه، علمنا هذا مترتُّب على نتيجة الفتنة، هل علم الله عز وجل أيضاً مترتّب على النتيجة التي تنتهي عليها الفتنة؟ لا يجوز.
الله كامل لا ينتظر كماله شيئاً، إذا كان كمال الإنسان دائماً في نموّ، وكلّما تقرّب إلى الله كمُلَت ذاته بدرجةٍ أرقى، فإنَّ علم الله عزَّ وجلّ وكماله كلّه لا يقبل الزيادة مطلقاً، وإلاّ كان ناقصاً قبل ذلك.
كمالُ الله -كما هو- أزليّ، فلا يقبل أن ينقص أو يزيد، لا تؤثر عليه الحوادث ولا يحدث، قديمٌ لا يحدث، يحدث يعني يستجدّ، ما كان فيكون، ما كان قبل دقيقة الآن يكون كان، ما كان أزليّاً ثم جاء في نقطةٍ من نقاط الإمتداد الزمني، هذا حادث، علم الله لا يحدث، وجلال الله لا يحدث، كماله لا يحدث، لأنّه كاملٌ منذ الأزل، وإلا لو كان غير كامل أصلا الله لا يوجد، الله موجود وجوداً ذاتياً وهو موجود بكماله وجلاله وجماله، فإذن كيف الآية تقول (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) وتعطي نتيجة (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين) ، وكأنّ علمه بالصادق والكاذب لا يحصل إلا بعد نتيجة الفتنة، الفتنة تُعلِّم الله النتيجة؟ جلَّ وعلا عن ذلك، إذن ما معنى ذلك؟
الله عزَّ وجلّ علمه أزلي -ليست له بداية- كما هو الله عزَّ وجلّ ليست له بداية أو نهاية، علمه أيضاً ليست له بداية ولا نهاية، في الأزل، قبل الزمن، وقبل كلّ شيء، وبلا نقطة بدء، الله موجود،ويعلم بأنّه سيأتي القرن الواحد والعشرين وستولد أم، وسيأتي واحد من أم وأب اسمه عيسى وأنّه لن يصمد لا سمح الله أمام الفتنة، وأنّه كاذبٌ في دعوى إيمانه، أو أنّه سيأتي ويعلم الله عزَّ وجلّ أنّه سيصدق في إيمانه، ولن تعدل به الحوادث والمحن والامتحان الصعب -ونسأل الله ذلك لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين- وأنّها لن تعدل به عن خطّ الرضا الإلهي، هذا يعلمه.
علمُ الله موجود في هذه الحالة، لكن هل معلومه موجود ومتحقّق على الأرض، وهو صدقي أو كذبي؟ هل صدقي متحقق منذ الأزل؟ صدقي في الفتنة أو كذبي في الفتنة في دعوى الإيمان متحقق في الأزل أو الآن تحقق؟ تحقق الآن لم يتحقق في الأزل، فهنا العلم موجود وقديم أمّا المعلوم فحادث، المعلوم هو صدقي وصدقك، أو كذبي وكذبك -لا سمح الله-، هذا هو المستجدّ، أما العلم ليس حادثاً، الحادث هو المعلوم، أما العلم فقديمٌ أزليّ، هذا هو الصحيح.
علم الله ليس متحققّاً الآن، هذا موجود في الأزل -وهو أنّي سأكون كذا أو كذا-، أما كوني كذا فعلاً، فهذا حادث وهذا مستجدّ.
ثم قُلْ أنَّ الله عزَّ وجلّ عَلِمَ بأنّي قد وُلدتُ في اليوم الفلاني، اليوم الفلاني ليس الأزل، لو قلنا بأنّ الله عزَّ وجلّ يعلم بأنّي قد وُلدتُ في الأزل، هذه قضية صادقة أو كاذبة؟ كاذبة.
يعني يعلم الله بأنّي وُجدتُ أزلاً، والحقُّ أنّي لم أوجد أزلا؟ هذا صحيح؟ هذه البناية متى صارت؟ هذا العام أو قبل عامين أو ثلاثة؟ لا أدري، أمّا أنها حدثت في الأزل فهي لم تحدث، فهذا هو متعلّق العلم، متعلّق العلم حدث قبل سنة أو سنتين أو حدث في هذه اللحظة، أمّا علم الله به فهو قديم أزليّ، ولكن بما أنّه سيكون، لا بما أنّه كان وتحقّق على الأرض.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
ذكرُ الفتنة للذين من قبل أهل أمّتنا، (مِن قَبْلِهِمْ)، لماذا يُذكّرنا الله عزَّ وجلّ، ويُعلِّمنا بأنّ الإفتتان حدث لمن قبلنا؟ بإذن الله وسُنّة الله بأنّه افتتن الذين من قبلنا، يعني لا تظنّوا أنكم الوحيدون الذين فُتنتُم في الأرض، لقد فتنّا الذين من قبلكم، يعني يقول هذه سُنّة، وإذا علمنا أنّها سُنّة فعلينا أن نيأس من تغييرها، سُنن الله لا تبديل لها ولا تحوّل، لا تتبدل ولا تتحول، هكذا قضى الله عزَّ وجلّ بأنّ السُنّة التي فرضها طريقةً دائمة لا تتغيّر، السُنّة قانون تكويني ثابت على الزمن، يعمُّ كلّ المكان وكلّ الزمان.
إذا علمتُم بأنّ الابتلاء سُنّة،أن الإفتتان سُنّة، فأرفعوا أيديكم عن تمنّي أن ترتفع هذه السُنّة، لأنّ السُنن لا تبدُّل فيها، هذا الذكر (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) من أجل إعطاء هذا الدرس.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)
تذكّروا موقف الذين فُتنوا من قبلكم، ألم تكُن منهم طائفة صابرة صامدة بقوّة الفولاذ أو أقوى، مُقاوِمة.
يأتي في الآيات الكريمة أنّ أمّاً آمن ولدها برسول الله “صلَّى الله عليه وآله” فألحّت عليه بأن يعدل عن إيمانه، أن يتخلّى عن رسول الله صلى الله عليه وآله . أمّه المتغلغل حبُّها في قلبه، الذي يوحشه أن لا يراها يوماً واحداً، ويعزُّ عليه أن تغضب غضبةً بسيطة عليه، طالبته بالتخلّي عن اتِّباع محمد بن عبدالله رسول الله المصطفى “صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”، وقالت له إنْ فعلت هذا فذاك، وإنْ لم تفعل ما أكلتُ وما شربتُ وما أظلّني سقف حتى أموت فتُعيَّر بي بأنّه قاتلُ أمّه.
صبرت على ذلك يومين، فجاءها يقول لها: أمّاه، لو كانت لكِ ألفُ نفس، وخرجت نفساً تلو نفس، ما عدلتُ عن اتّباع رسول الله “صلَّى عليه وآله”، موتي مئة مرّة، ألف مرّة، وأنت العزيزة الكريمة عندي، ولكن لا تخلي عن خطّ الحق، خط الإيمان.
عمّن أتخلّى ولمن ألجأ؟ أتخلّى عن الله لإرضاء أمّي وإنْ عزَّت، لا يكون، ليس عقلاً.
من أين عطفُ أمّي بي؟ كيف صبرت عليَّ أمّي في طفولتي؟ وكيف تحمّلت المشاقّ في سبيلي؟ بأيّ نفسٍ؟ نفسٍّ وجّهها الله هذا التوجيه توجيهاً فطريّاً، فكلُّ نعمةٍ تأتيك من عبدٍ فلتذكر هذه النعمة ولتشكر صاحبها، لكن عليك أن تجعل شُكر العبد تابعاً لشكرك لله عزَّ وجلّ، ولإذن الله في أن تشكر هذا العبد، وإلا فالنعمة أصلاً من عنده.
غَفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.