الشيخ عيسى قاسم: أربع مراحل من سيرة الصّحوة والاحتجاج
الكاتب / نادر المتروك
في أوّل الثّمانينات من القرن الماضي، وخلال الموسم الثّقافي لجمعيّة التّوعية الإسلاميّة (التي تأسّست رسميّاً في العام ١٩٧٢، وتم حلّها للمرة الثّانية في يونيو ٢٠١٦)؛ ألقى الشّيخ عيسى قاسم كلمةً وُصفت فيما بعد بـ”الكلمة النّاريّة”، حذّر فيها السّلطات في البحرين من الإمعان في “الاستفزاز” الأمنيّ، وقال “إننا لا نُستفزُّ ولا نحبّ أن نستفِز”. بعد الانتهاء من كلمته، وصفَ المرحوم السّيد محمد حسين فضل الله، الذي كان مُشاركاً في الموسم، الشّيخَ قاسم بأنه “فقيه الكلمة”، وهو الوصفُ الذي ظلّ لصيقاً بالرّجلِ الذي سيُشكّل الظاهرةَ الرّمزيّة الأبرز في تاريخ الحركةِ الإسلاميّة المعاصرة في البحرين والخليج.
سرعان ما حلّ النّظامُ جمعيّة التوعية، واعتقل عدداً من قياداتها وكوادرها، وتعرّض الشّيخ قاسم لمضايقاتٍ أمنيّة حالت دون خروجه من البلاد. بعد هدوء العاصفة، إلا قليلاً، تجدّد الحضور الرّمزي للشيخ قاسم، وخاصة بعد استشهاد السيد أحمد الغريفي في حادثة سيّارة مدبَّر في يوليو ١٩٨٥م. جالَ الشّيخ قاسم في مراكز الاحتفالات الدّينيّة في العاصمة المنامة وبقيّة البلدات، وكانت صلاتُه في مسجد الخوّاجة بالعاصمة علامةً على المحوريّةِ التي بدأ يُشكّلها في الحراك الدّيني النابض في البلاد، فيما كان لبيانه السّاحر والأبويّ، وشخصيّته المليئة بالإتقان والهدوء والتّواضع والحزم؛ الدّورَ في جعله مركزَ استقطابٍ للجميع، وخاصة المجموعات الشّبابيّة التي تعاطت معه باعتباره مرجعيّة حركيّة فاصلة، وتؤخذ منها المواقف الحاسمة والقرارات المصيريّة.
قبيل اندلاع انتفاضة التّسعينات (ديسمبر ١٩٩٤م)، سُمِح للشّيخ قاسم بالسّفر، حيث غادر إلى قم (إيران) لإكمال دراساته الدّينيّة العليا. قبل مغادرته، استأمن محرابَه في جامع الإمام الصّادق بمسقط رأسه الدّراز، للشّيخ علي سلمان، الذي كان وقتها شابّاً لا يعرفه كثيرون. من هذا المحراب، برز الشيخ سلمان في المحيط العام، وتأكّد حضوره الشّعبي مع دوره الميداني في العريضة الشّعبية الـمُطالبة بإعادة العمل بالبرلمان، والتي وصلت أوجها في العام ١٩٩٤م، حيث واجهتها السّلطات أمنيّاً، واعتقلت الشّيخ سلمان، ليُنفى خارج البلاد بعد شهر من الاعتقال، وعلى وقْع انتفاضةٍ استمرّت قرابة العقد من الزّمان.
خلال أحداث انتفاضةِ التّسعينات، تمركزت قياة الحراك في المرحوم الشّيخ عبد الأمير الجمري، الذي وجد في جامع الصّادق بالدّراز منبراً لمخاطبة النّاس، والتّعاطي في مجريات الشأن السّياسي الساخن. بعد الإعلان عن “ميثاق العمل الوطني”، وإنهاء حقبة القمع الأمني، ومع عودة المنفيين في العام ٢٠٠١م، رجعَ الشّيخ عيسى قاسم إلى البلاد، واستلمَ مجدّداً جامع الدّراز، لتبدأ المرحلة الثّالثة من السّيرة العامة للشيخ قاسم، حيث بدأت المرحلة الأولى مع مشاركته في بناء الدّولة الحديثة بالبحرين عبر عضويته في المجلس التأسيسي الذي وضع دستور ١٩٧١، وعضويّة البرلمان الذي حُلّ في العام ١٩٧٣م. أمّا المرحلة الثانية، فبدأت مع حلّ البرلمان وحتّى الحلّ الأول لجمعية التوعية إلى حين مغادرته البلاد في العام ١٩٩٢م نحو قم المقدّسة.
في المرحلة الثّالثة من سيرته، ركّز الشّيخ قاسم على إعادة بناء الحركةِ الإسلاميّة في البلاد، وعلى قاعدةِ الرّمزيّة الشّاملة التي تُعنى بمزاولةِ الإرشاد التّوجيهي للعمل السياسي والدّيني العام. خلال الأعوام من ٢٠٠١ و٢٠١٠م، واجهَ الشّيخ قاسم، ومن منبر صلاة الجمعة في جامع الدّاز؛ أبرز القضايا التي شغلت المجتمع المحلي، وكان لخطابه الطّابع المركزي الذي شكّلت مفرداته استعادةً للحيويّة المؤثرة للتّيار الدّيني في البلاد، إضافة إلى كونه أنجزَ ترسيخاً للشّعبيّةِ الغالبة لهذا التّيار، وعلى النّحو الذي برز من السّجالات الحادة التي أثارها، وفي أكثر من موضوع، مثل قضيّة العلمانيّة والعلاقة بعلماء الدّين و(الفقهاء)، الشّباب والحداثة، قانون الأحوال الشّخصيّة، المشاركة والمقاطعة في الانتخابات.
خلال هذه المرحلة، ترسّخت أكثر المرجعيّة المحليّة للشّيخ قاسم، واستطاع أن يتخطّى العديد من الصّعاب والإشكالات التي تراكمت مع نشوء المجموعات والجماعات والتّيارات الجديدة، والتي أرادت أن تتحرّك باجتهاداتٍ مغايرة وعلى غيرِ النّمط المنهجي الذي تميّز به الشيخ قاسم في هذه الفترة، والذي أخد طابع التكثيف الدّيني، والمسايرة السّياسيّة، والحرص على التمايز الأيديولوجي.
مع ثورة الرابع عشر من فبراير ٢٠١١م؛ تركّز خطابُ جامع الدّراز في الموضوع السّياسي، وانحاز الشّيخ قاسم – دون تردّد – لمطالبِ الثّورة، وعبّر عن إضافةٍ صارمةٍ في معارضةِ القمع الحكومي واستنكار تعدّياته على الأرواح والمقدّسات والشعائر الدّينيّة، واحتضن الحراكَ الشّعبي مع الإسهام التأسيسي في الدّفاع عن مطالبه، ودحْض مشاريع النّظام.
في هذه المرحلة الرابعة التي تستمر حتّى اليوم؛ قدّم الشّيخ قاسم وضوحاً كاملاً في مشروعه السياسي والدّيني، وقدّم رؤاه المتوافقة مع المطالب السّياسيّة للمعارضة، كما سجّل تثبياً لا هوادة فيه في استقلاليّةِ المنبر الدّيني عن الجهاتِ الرّسمية، ورفْض أيّ هيمنة للدّولة على المساجد والمآتم.
بالمقارنة مع المراحل السّابقة، أجرى الشّيخ قاسم خطوةً متقدِّمة في المفاصلة مع دائرة النّظام. شكّل ذلك إزعاجاً كبيراً لرموز النّظام التي سعت – في المرحلة الثالثة من سيرة الشيخ قاسم – إلى التقرُّب منه واحتوائه، حيث زاره ملكُ البحرين في المستشفى أثناء خضوعه للعلاج، كما زاره ولي العهد، نجل الملك، في منزله، وجلسَ القرفصاء في مجلسه المتواضع. إلا أنّ ذلك لم يُجدِ نفعاً في “استمالة” الشّيخ أو تحييده، وهو ما ظهر مع ثورة ١٤ فبراير، حيث هوجم الشّيخ قاسم رسميّاً، وعلى نحو غير مسبوق، وقد هدّده وزيرُ العدل في أغسطس ٢٠١١م بمنْعه من الخطابةِ، وذلك في رسالةٍ مكتوبة وُجّهت إليه، واحتج فيها الوزيرُ على الجمع بين الموقع الدّيني والخطابة في الشأن السياسيّ.
كانت هذه الرّسالة بدايةَ الحملة الرسميّة ضد الشيخ قاسم، وهي شكّلت “الضّوء الأخضر” للتصعيد المتتالي ضدّه وضدّ منبره الدّيني وخطابه السياسيّ.
استهداف الشّيخ قاسم كان واضحاً للجميع. في ٢٤ أغسطس ٢٠١١م؛ أُقيم تجمّع جماهيري في مأتم السنابس، تحدّث فيه السيد عبد الله الغريفي الذي استهجن الحملة ضد الشّيخ قاسم، ورفضَ الاتّهامات الموجهة ضدّه، وقال إنه “رمز كبير” و”قامة” محليّة وعالميّة. إلاّ أن الحملة لم تتوقف، وكان الواضح أنّ مشروع السلطة ماضٍ في التّضييق على المواقع والمراكز والرمزيّات والشّعائر الدّينيّة، وتحت عنوان “فكّ” الارتباط بين السياسة والمنبر الدّيني، و”قطْع” إمدادات المؤسسة الدّينيّة للحراك الشّعبي.
وفي الوقتِ الذي تمدّدت هذه الحملة، وأخذت ضراوتها في الإساءة لشخص الشّيخ قاسم، فإنّ ردود الفعل كانت “بطيئة” وغير منسجمة، وغلبها الإيقاعُ الخطابيّ، وكأن الأمر “فوق طاقة الرّد”، وكان اللافت أن خطّة الهجوم لم تتوقّف حتّى عندما احتجب الشّيخ قاسم عن منبر جامع الدّراز، وذلك بعد حادثة تعرّضه للانزلاق ودخوله الممستشفى في ديسمبر ٢٠١٤م، حيث بدأ الشّيخ محمد صنقور باستلام المنبر، إلى أن تمّ منعه حكوميّاً في يونيو ٢٠١٦م في إطار حزمة “الحرب” المعلنة، والتي تمدّدت من الجامع، وعادت إلى شخص الشّيخ قاسم مجدّداً بإسقاط جنسيّته والتّهديد بترحيله قسراً.
تواجِه بلدة الدّراز هذه الأيام حصاراً يختلف عن تجارب الحصار العسكريّ التي تعرّضت لها معظم بلدات البحرين خلال سنوات الثورة. القوات المدجّجة التي تحيط بمداخل البلدة، ليست في مهمّةِ مداهمةٍ عاديّة، أو اقتحام معهود ومتكرّر كلّ يوم وليلة. هناك أمر أخير باقتلاعِ هويّة هذا الوطن وإنجاز التّطبيق “الشّفاف” و”الكامل” لمشروع “الإبادة”، كما تقول المعارضة. تتحفّز القوّات طيلة الوقت. المعتصمون قالوها كلمةً واضحة للشّيخ: “لن نغادر، وهذه كربلاء وقائدها قدوتنا”. حلفاء النّظام “الكبار” حاضرون في لبِّ المشهد. يُجْرون التّعديلات كلّ ساعة، ويُسهمون في أدّق تفاصيل الخطوة المرتقبة التّالية باتّجاه البلدة. جامع الصّادق لازال محتجّاً على النّظام، حيث أعلن أئمة الصلاة في البلاد عن تجميد إقامةِ الصلوات استنكاراً لإغلاق السلطةِ جمعية التوعية وإقرار قانون حظر الخطابة السياسيّة في المساجد. المصلّون حوّلوا وجْهتهم إلى الباحةِ المقابِلة لبيت الشّيخ قاسم الذي لم يُفْصِح بعد عن كلمته “النّارية” الأخيرة. الضّجيج العبثيّ لا يتوقّف من صحف النّظام ومواليه في الداخل والخارج، والإدانات والاحتجاجات الواسعة حوّلت البحرينَ من جديدٍ إلى بؤرةِ الاهتمام الدّولي، فيما يلوح في الأفق شبحُ المجازر التي تفجّرت من “دوّار اللؤلوة” ومحيطها.
هذه ليست المرّة الأولى الذي يكون الغموضُ هو الحدث الأوّل في البحرين. ولكن حصار الدّراز يُحرِّك الحدثَ لمزيدٍ من الغموض الذي يحتملُ كلّ شيء، ونقيضه: انكسارُ شوكة القوات المحتشدة أمام صمود الدّراز وأهل البحرين وعلمائها، أو توغّل القوّات باتّجاه منزل الشّيخ وارتكاب “الجريمة”. أو: تغيير الحلفاء للخطّةِ وإلزام النّظام على التّراجع، والاحتماء بالمربع الأوّل، وانتظار استلام أمر العمليات الجديد، أو الذّهاب إلى نهاية الخطّةِ وابتلاع سُمّ الانتحار الجماعي. هو صراعٌ متبلِّد قصْداً بين الإقدام والإحجام. وهذا، بذاته، جزءٌ من خطّة المعركة: استنزافُ الاحتمالاتِ، وتجميدُها في الوقت نفسه. في مثل هذه الحال، وحيث يكون الحصارُ معنويّاً قبل أن يكون عسكريّاً، فإنّ الطريقَ الأمثل هو قلبُ الطّاولة من أعلى، ومن الزّواية التي لا يتوقّعها النظامُ، وحلفاؤه. وفي ذلك مخاطرُ وتحدّياتٌ، سيكون حسبانها والتدقيق في سلبياتها وإيجابيّاتها هو المدخل الذي يُحدّد للبحرين طريقَ الخروج من النفق، أو الدّخول إليه أكثر.
http://www.nourjadeed.org/PostDetails.aspx?id=01459cbc-3aae-11e6-9400-000d3a21e6c5