خطبة الجمعة (104) 25 محرم 1424هـ – 28-3-2003م
مواضيع الخطبة:
الدعاء (2) – ذكرى الإمام السجّاد – الحرب المدمّرة التي يشنها بوش وبلير
التضليل الإعلامي الذي قد يحدث هنا أوهناك بأن أمريكا أفزعها ظلم صدام للشعب العراقي، وتدمير البعث لثروات العراق، ولإنسان العراق هذا الإعلام يجب أن يُستقبل بالاحتقار، وأن يستقبل بتهمة الخيانة، وبتهمة التآمر
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا ينال عزّه، ولا تطال قدرته، ولا يُثلم ملكه، يعزّ من يشاء ويذل من يشاء، وهو العزيز الحكيم، وعلى كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أرسله للهداية والإيمان، والعدل والإحسان، والأمن والسلام، وبلوغ السعادة والجنان. صلى الله عليه وآله الكرام.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي لا يظلم أحدا، وإنما يخاف من عدله وسطوته الظالمون، ولا ييأس من رحمته إلا المسرفون، من الغارقين في الذنب، المستكبرين عن التوبة. ألا إن عذاب الله شديد للعاصين، ورحمته قريب من المحسنين، وثوابه عظيم للمتقين.
فروا عباد الله من عذاب الله، وارغبوا في ثوابه، فليس المصير إلا إلى أحد أمرين، إما سعادة أو شقاء، وما أسفه أن يُقدَّم الشقاء على السعادة، والعذاب على الثواب، وعذاب الله ليس له رادٌّ من دونه، وثوابه لا يمنع منه أحد، ولا يبلغ تصورّه أحد.
اللهم اجعلنا لا نقدم ثوابا على ثوابك، ولا نفرُّ من عقاب بعقابك، واكفنا والمؤمنين والمؤمنات الضُّر، وجنبنا الشر، وأخصصنا برحمة بالغة منك يا كريم، وصلى اللهم على محمد وآله الطاهرين يا رحمن يا رحيم.
أما بعد فقد تقدم في الجمعة السابقة شطر من الحديث بشأن الدعاء، وهذا شطر آخر التركيز فيه على شروط الإجابة للدعاء، وموانع منها مما تتضمنه النصوص.
الشروط:-
وقبل ذكر شيء منها نقرأ قول الصادق عليه السلام المنقول عنه: (احفظ آداب الدعاء…. فإن لم تأتِ بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة..).
فهذه الكلمة تقرر أن للدعاء شروطاً، والمشروط كما نعرف عدمٌ عند عدم شرطه، فلا إجابة إلا بأن يتوفر الشرط.
من هذه الشروط:
أولاً: معرفة الله عز وجل، قال قوم للصادق عليه السلام: ندعو فلا يستجاب لنا. وكأنهم يسألون لماذا؟ قال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه).
من دعا الله عز وجل وهو يرى ضيقا في قدرة الله عن إجابة دعوته فهو لا يعرف الله، ومن دعاه وهو يتهمه بالشح، فهو لا يدعو الله سبحانه وتعالى، و من يرى مدعوّه محدودا فهو لا يدعو الله سبحانه وتعالى.
المطلوب هنا ليس معرفة الله الحقّة، فمعرفة الله الحقة لا يبلغها أحد أبداً. إنما المعرفة التي يمكن أن تشير إلى الله عز وجل بعض إشارة على مستوى هذا الإنسان، والمعرفة بالله عند الإنسان على درجات، ولكن حين يكون الداعي إنما يتوجه بدعائه لمن يراه أنه يمكن أن يُستغفل، ويمكن أن يُغش، فهو لا يدعو الله سبحانه وتعالى.
وعن أبي عبدالله عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: “فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي” 168/ البقرة بخصوص الفقرة الأخيرة وهي “وَلْيُؤْمِنُواْ بِي” يعلمون أني أقدر على أن أُعطيهم ما يسألون).
ثانيا: إفراده سبحانه بالدعاء:
ولو توجه أحدنا بالدعاء إلى الله عز وجل وشريكٍ آخر يرى أن له استقلالية في استجابة الدعاء، وأنه أهل لأن يقضي حاجته من دون الله، أو أن الله يحتاج إليه في إجابة هذا الدعاء فَقَدْ فََقَدَ دعاؤه شرطا من شروط الإجابة.
لا إله إلا الله، هذا هو الحق، وحين يتوجه أحدنا بدعائه إلى إلهين فالله تبارك وتعالى لا يقبل منه هذا الدعاء ولا يجيبه.
عن الصادق عليه السلام: (واعلم أنه لو لم يكن الله أمرنا بالدعاء لكُنا إذا أخلصنا الدعاء تفضّل علينا بالإجابة، فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء).
فهذا الإخلاص للدعاء، يعني توحيد الله سبحانه وتعالى في دعائنا إليه. الله عز وجل واحد ويجب أن يوحِّده المسلم المؤمن، ذاتاً، وصفات، وفاعلية، وتأثيرا وعبادة ودعاءا. توحيد الله مطلوب على كل الأصعدة والمستويات، ومن كل الحيثيات، وإلا فهو توحيد ناقص.
والدعاء مجال من مجالات توحيد الله سبحانه وتعالى، فإخلاص الدعاء يعني أن نوحد الله في دعائنا، وأن لا نقصد بالدعاء أحداً غيره مطلقا. وقضية الشفاعة والإستشفاع هي أمر آخر ليس داخلاً في الشرك.
ثالثا: تصديق الدعاء بالعمل:
“… وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ” 40/ البقرة
كما تتجه إلى الله برغبك، عليك أن تتجه إلى الله برهبك، وإذا أردت الدعاء فانظر إلى موقفك من الله؛ أنت تريد من الله عز وجل أن يقضي كل حاجاتك، فهل أنت مستجيب إلى الله في كل ما أمر ونهى؟ بقدر ما تستجيب لأمر الله ونهيه تكون قد حققت شرطا مهما من شروط الدعاء “..أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ..”.
وعن الرسول صلى الله عليه وآله: (الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر). آلةُ الرمي تتطلب وتراً، والوتر هو الذي ينطلق بالسهم إلى المسافة المطلوبة، ويحقق الإصابة للغرض، والدعاء بلا عمل ليس آلة كاملة للاستجابة. الآلة الكاملة للاستجابة دعاء مرتبط بالعمل الصالح، بالإستجابة لله عز وجل في أمره ونهيه، وحين يفتقد الدعاء العمل الصالح يكون كالآلة الفاجرة عن بلوغ المطلوب التي لا يمكن أن يصطاد بها لأنه ليست الآلة الكاملة الصالحة للرمي وبلوغ الغرض.
(سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن قول الله تعالى: “أدعوني أستجب لكم”، فما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: إن قلوبكم خانت بثمان خصال: أولها أنكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا…..
فأي دعاء يستجاب لكم مع هذا وقد سددتم أبوابه وطرقه؟!) فمن أبواب استجابة الدعاء، وصعوده إلى الله مقبولا مجابا، هو العمل الصالح. فمن قصر في عمله، ولم يستجب لله في أمره ونهيه، فقد أوصد الباب على دعائه، وأن يصل إلى الله عز وجل مقبولا.
رابعا: انطلاق الدعاء من القلب:
وانطلاق الدعاء من القلب هو أقرب إلى المقومات منه إلى الشروط، فتكاد حقيقة الدعاء تنتفي كما سبق في الحديث السابق إذا كان دعاءً من طرف اللسان، ولقلقة على مستوى اللسان. حقيقة الدعاء من مقومها أن يعيشه القلب شعورا جادا، أن يشعر القلب بالحاجة إلى الله، وأن يتوجه إليه وحدَه، وأن يكون فراره إليه لا إلى
غيره…. أن يشعر قلب المرء بالعبودية الخالصة التي هو عليها، وبالربوبية الكاملة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وبأنه الأهلُ ولا أحد أهلٌ سواه لتوجه الحاجات والمطالب وإجابتها.
عن الرسول صلى الله عليه وآله: (لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب ساه) وفي أوصاف أخرى في أحاديثهم عليهم السلام لاه، غافل، قاس، فقلب غافل، لاه ساه، قاس، دعاؤه لا يستجاب، لأنه في الحقيقة ليس بدعاء.
وعنه صلى الله عليه وآله: (اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها الرحمة)، وعن الصادق عليه السلام: (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك، ووجل قلبك فدونك دونك فقد قصد قصدك) يتحقق القصد إلى الله عز وجل في هذه الحالة. القلب القاصد هو القلب الذي استولى عليه الشعور بالحاجة والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى،
وعاش بالكامل التوجُّه إلى الله، وتوحيد الله سبحانه وتعالى بحيث لا يرى غيره ربا، ولا قادرا مجيبا، ورقة القلب شعور بالانكسار، بالضعف، بالتضعضع، بالدونية، بالاندكاك، شعور بالفقر الكامل، وحين يرق القلب وينكسر، ويشعر صاحبه بالضعف والوهن، وأن لا رافع لوهنه، ولا قاضي لحاجته إلا الله سبحانه وتعالى فحينئذ يتحقق معنى الدعاء، وحينئذ يكون هذا الدعاء مؤهلا إلى أن يرتفع إلى الله عز وجل.
وعنه عليه السلام أيضاً: (إذا رق أحدكم فليدع، فإن القلب لا يرقُّ حتى يخلص). إذا كان القلب على طريق التوجه إلى الله، فإن رأى الله سبحانه وتعالى عظيماً، ورأى نفسه ضعيفا رقَّ وضعف وانكسر، وهذه الرقة والضعف والانكسار تحمل معنى الإخلاص لله عز وجل إذ رقته لأنه لا يرى من نفسه شيئا، ولا يرى من غير الله أحدا شيئا، لا يرى قدرة ولا فاعلية ولا علما ولا حكمة ولا رحمة ولا لطفا إلا من جهة الله سبحانه وتعالى. وإنه كلما رأى أحدنا ربه سبحانه وتعالى رق قلبه وانكسر، وشعر بالضعف من جهة، وبالقوة من جهة أخرى، فنظرته إلى ذاته تجعله ضعيفا مندكَّا منتهياً، ونظرته إلى الله عز وجل ولطفه ورحمته تنعش فيه الأمل، وتحيي فيه روح الثقة، وتنهض بوجوده إلى أن يقوم على قدم.
وهناك موانع من الدعاء أذكر بعضها على ضوء الأحاديث:
1. الذنب:-
عن الباقر عليه السلام: (إن العبد يسأل الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيُذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك وتعالى للملك لا تقضي حاجته، واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني). إن هذا العبد قد تأهّل من كل الجهات لاستجابة الدعاء، وتوفر على الشروط، وانتفت الموانع، وتحققت منه حقيقة الدعاء فكان من شأنه أن تُقضى حاجته.
وقضاء حاجة العبد قد يكون عاجلا وقد يكون آجلا، والمقدِّر لذلك هو الله حسب الحكمة.
ولكن يعقب الدعاء ذنبا فيكون هذا الذنب مانعاً عن الإجابة، ويأتي الأمر من الله عز وجل إلى الملك بحرمان العبد ما سأله، وكان من شأنه أن تجاب دعوته بهذا المطلب، ذلك لأنه تعرَّض لسخط الله عز وجل، ومن تعرض لسخط الله استوجب الحرمان من رحمته حيث أنّه يسدُّ على نفسه باب الرحمة.
2. أكل الحرام ومظالم العباد:-
أكل الحرام ومظالم العباد يعدّ مانعا من موانع استجابة الدعاء:
عن الصادق عليه السلام: (إذا أراد أحدكم أن يستجاب له فليطب كسبه، -فليجعل كسبه طيبا – وليخرج من مظالم الناس، – أمران: المانع الأول أكل الحرام، المانع الثاني: مظالم الناس في ذمة العبد- وإن الله لا يرفع دعاء عبد وفي بطنه حرام، أو عنده مظلمة لأحد من خلقه). وهذا يكشف السر عن كثير من تخلف الإجابة في حالنا. وعنه عليه السلام – أي الصادق -: – ولنلتفت إلى هذا الحديث، ففيه تنبيه حساس – (إذا ظُلم الرجل فظلّ يدعو على صاحبه قال الله جلا جلاله: إنها هنا آخر يدعو عليك، – ظلمك فلان فأنت تدعو عليه لظلمه إياك، ولكنك ظلمت آخر والآخر يدعو عليك كما تدعو على من ظلمك – إن ها هنا آخر يدعو عليك، يزعم أنك ظلمته، فإن شئتَ أجبتك، وأجبت عليك، – تخيَّر أن أجيبك فأنتقم لك من عدوك، وأن أجيب دعوة المظلوم الذي ظلمته فأنتقم منك له، فكما تطلب النقمة على من ظلمك لظلمه، فأنت تحل عليك النقمة لظلمك – وإن شئتَ أخرتكما فتوسَّعكما عفوي) أي فيسعكما عفوي، فأيهما تختار؟ والعاقل لا يختار هنا إلا توسع عفو الله للإثنين. إذاً فلنحذر كثيرا من أن ندعو على الآخرين ممن ظلمونا لأن هذا قد يستوجب النقمة علينا لما ظلمنا. ويمكن قراءة الحديث (..فإن شئتُ أجبتنك وأجبت عليك، وإن شئتُ أخرتكما فتوسعكما عفوي) وقد تكون القراءة الأولى أكثر مدلولا.(1)
3. مناقضة الدعاء للحكمة:-
تدبير الكون لو تُرك لدعواتنا لانهدم، فالكون قائم على الحكمة، والتدبير التدقيق، ونحن ندعو بحسب ما تذهب إليه أفهامنا وأهواؤنا، وأفهامنا قاصرة، وأهوائنا غاوية، ولو اتبع فعل الله عز وجل ما حكم به العباد لانتهوا، وانتهى الكون كله.
وكثير من دعائنا قد يأتي مناقضاً للحكمة، أنت حين تدعو بأن لا يمرض أحد من المؤمنين مطلقا، وأن لا يتوفى مؤمن على الأرض، هذا مخالف للحكمة، مخالف لما أراد الله سبحانه وتعالى بالإرادة الحتمية لهذا الكون من الوجود والفساد، فقد حكم الله سبحانه وتعالى على الأنفس أن تموت بحكمة، ودعاؤك هذا يتجه إلى غير خط الحكمة فلا ترتقب إجابته.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: (إن كرم الله لا ينقض حكمته)، فلذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة. الله عز وجل لا ينظر إليه المؤمن الحق من حيث وصف واحد، الله عز وجل يراه المؤمنون بكل أسمائه الحسنى، فنحن نرى الله عز وجل قادرا، وإذا جمدنا على رؤية الله عز وجل من حيث قدرته فحسب صار لنا توقع أن يفعل كل ما تتسع له قدرته سبحانه وتعالى، وإن كان ذلك على خلاف الحكمة، وعلى خلاف الرحمة.
الله عز وجل؛ المؤمنون العارفون ينظرون إليه بكل أسمائه الحسنى، ولا يقفون حائرين أمام أي فعل من أفعاله، فإيمانهم بكماله عزّ وجل يكفيهم عن التساؤل الوجه والحكمة لأي فعل من الأفعال الصادرة عنه.
4. أن لا يكون في ما يغضب الله عز وجل:-
عن الرسول صلى الله عليه وآله: (من تمنى شيئا وهو لله عز وجل رضا لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه)، أما إذا تمنيت شيئاً يسخطه الله، فلا ترتقب الإجابة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واكشف كروبنا، واعطنا من فضلك ما يتجاوز آمالنا، واغفر لإخواننا المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات ومن كان له حق خاص علينا منهم، ووالدينا وأرحامنا وجيراننا وارحمنا جميعا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))
الخطبة الثانية
الحمد لله الكبير المتعال، ملك لا تشبهه الملوك، جبار لا تقوم لأمره الجبابرة، قهّار لا يناهضه قهّار، كل ملك من دونه مملّك بالملك المجعول الزائل، وهو الملك بذاته حقيقة وملكه لا يزول.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العلي العظيم، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أولاه من لطفه ما رفع به شأنه، وقدّمه على غيره، وجعله قدوة لمن سواه، وحجة على من عداه صلى الله عليه وآله الهداة.
عباد الله علينا بتقوى الله فإنها شفاء القلوب، ودواء الصدور، وجلاء الأرواح، وهدى البصائر، ومنار الطريق، وجادة النجاة، ومفتاح النجاح، والصراط الآخذ إلى الجنة. وسفهت نفس لا تخشى الله، وخبثت روح امرءٍ لا يتقيه، وما كان لأسرة ولا مجتمع أن تأمن العلاقات فيهما، وتتوثق الروابط، وترعى الحرمات، وتصان الحقوق، وتحفظ الأمانات في حال كما في حال التقوى، وخلت حياة فرد أو أمة من قيمتها العالية ما خلت من التقوى، وفقدت ما فقدتها دورَها الكبير في الإيصال إلى الجنة والرضوان.
اللهم لا تفرّغ حياتنا من معناها، ولا تقف بها دون غايتها من رضوانك والجنة.
اللهم صل على البشير النذير، والسراج المنبير، خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطبيبين الطاهرين. اللهم صل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. اللهم صل وسلّم على النقية التقية، فاطمة الزهراء المهدية. اللهم صلّ وسلّم على الزكيين النقيين، والإمامين الرضيين مولانا الحسن بن علي ومولانا الحسين.
اللهم صلّ وسلّم على سادتنا الأباة، وقادتنا الولاة علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأئمة الهداة.
اللهم صل وسلّم على إمام الزمان، وشريك القرآن، والمبين الأحكام، وناشر الأمن والسلام محمد بن الحسن المنتظر البدر التمام.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا يسيرا، وأنزل عليه البركات، وضاعف على يده الخيرات، يا عزيزُ يا حكيم، يا رحمن يا رحيم.
اللهم الموالي له، الآخذ بمنهجه، الممهد لدولته، والفقهاء المرضيين، والعلماء الصالحين، والمجاهدين المضحين في سبيلك، وسائرَ المؤمنين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم، وبلغهم من الخير مناهم، وادفع عنهم، وكد لهم ولا تكد عليهم يا رحمن يا رحيم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات..
فإن هذا اليوم يوافي ذكرى وفاة الرابع من الأئمة المعصومين الهداة، الذين فرضت طاعتهم على الأبيض والأسود من أبناء البشرية، وهو الإمام السجّاد عليه السلام الذي تمثل إمامته وإمامة آبائه وأبنائه المعصومين عليهم السلام هدىً للناس، وأماناً من الضلال والضياع والشقاء، وبها يفتح الله على عباده بركات من السماء والأرض وينجِّيهم من العذاب، ويجزل لهم الثواب.
وحقّ أهل البيت عليهم السلام ثابت على مدى التاريخ على هذه الأمة، ومحبتهم من الدين، ومن ناصبهم العداء فقد فارق في ذلك كل المسلمين.
ثم أنه قد توفي أسبوعنا هذا سماحة العلامة الشيخ سليمان المدني (رحمة الله عليه)، والطريق إلى الآخرة طريقنا جميعاً، ومن تقدم فهو نذير لمن تأخر، والسابق عظة وعبرة للاحق وحجة عليه، وإن الدنيا ما جمّعت إلا وفرّقت، وما أضحكت إلا وأبكت،وما ولدنا إلا لنموت، وما جئنا إلا لنذهب. وأرى في المرحوم الراحل إلى رحمة ربه أنه كان شديد الذود في مناقشاته ومطارحاته عن عقيدة الإسلام والإيمان، وكأني به يقتحم النقاش اقتحاماً في هذا الميدان، ولقد شارك بدور فاعل في إبطال أكذوبة النيابة الخاصة عن الإمام المنتظر – عجل الله فرجه الشريف – التي أُريد لها أن تفسد الدين، وتضِلَّ المؤمنين في البحرين وغيرها. رزقه الله شفاعة محمد وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام وأسكنه فسيح جنانه.
ونأتي الآن للحرب المدمّرة التي يشنها بوش وبلير على العراق والأمة وأضع الحديث عنها في هذه النقاط:
1) موقف واضح:-
أهداف الحرب معلنة لا تحتاج إلى تأمّل ودراسة:
فقد أعلن القوم بأن مطلوبهم السيطرة على العراق، وفرض ثقافة جديدة على الأمة، وإعادة رسم خارطة البلاد الإسلامية لإحكام القبضة عليها. هذا أمر معلنٌ بلا مواربة.
هذا جانب، والجانب الآخر هو أن هناك وحشية على الأرض، لم تترك طفلا ولا شيخا ولا عجوزا، وأتت على بعض المؤسسات الأهلية، ولم تفرِّق بين جندي ومدني.
وفي ظل الأهداف المعلنة، والوحشية الشرسة موقف الأمة يكون واضحاً جداً من هذه الحرب العدوانية التي يشنها الطغاة على الأمة كل الأمة، وهذه الحرب ليست على نظام البعث في العراق، إنما هي على العراق بكلّ مقدراته، على العراق بتاريخه الكريم، بدوره الرسالي، بموقعه العزيز في الأمة، هي حرب في الحقيقة على العراق بما هو جزء من الأمة، وحرب على الأمة كلها.
في ظل هذه الحرب بأهدافها الدنيئة، وبوحشيتها القاسية، لا ضبابية في موقع الأمة فيما ينبغي؛ فالتعاون مع هذه الحرب حرام كل الحرمة. ومن أعان بشطر كلمة فهو شريك في الإثم، وقد نصب نفسه عدوّاً للأمة عند الله سبحانه وتعالى.
إقرار الحكم الكافر على العراق خيانة كبرى للأمة، وجريمة لا تُغتفر لمن عمل على تنفيذها من كل المسلمين، الحكم القائم حكمٌ فاسد، وحكمٌ مدمِّر، ولكن ليس البديل له أن يحكم الغازي الكافر الذي أعلن أنّ هدفه هو الاستيلاء على مُقدَّرات الأمة ومقدُراتها.
2) حلمٌ كاذب:-
هناك حلمٌ كاذب قد يعيشه وهم البعض، وهو أن أمريكا جاءت لتنقذ شعب العراق، وأن درجة الإيثار والتضحية بلغت عند أمريكا وانجلترا حداً يتجاوز ما هو عند كثير من المؤمنين، وبلغت من شفقتها أن تدفع بأبنائها وبملياراتها وبأسلحتها لإنقاذ الركع السجود، وأن تنقذ مآذن العراق، ومساجد العراق، والقلاع الإيمانية في العراق، من يد حاكم العراق الآني شفقة على أمة الإسلام والقرآن. ما من بلد إسلامي الآن يقوم بمثل هذا الدور، وإذا رأى حاكم في دولة إسلامية أن يدفع بأبناء بلده وبثرواتها على طريق تخليص بلد مسلم آخر فإن هذا الصوت منه تعارضه أصوات، أما أمريكا التي بلغت في وهم البعض بأنها قد تَطهَّر قلبها، ونقت روحها، وأنها تشبعت بكل القيم الإنسانية والإيمانية بما يبلغ بها هذا الحد من التضحية فذلك أمرٌ لا يستقيم مع عقل ولا شعور ولا واقع. أمريكا جاءت غازية، جاءت مستعمرة، جاءت بأهداف خبيثة، وليس بعد إعلانها إيضاحٌ يطلب.
3) جوّعوه ليركّعوه ويشتروه:-
فالتضليل الإعلامي الذي قد يحدث هنا أوهناك بأن أمريكا أفزعها ظلم صدام للشعب العراقي، وتدمير البعث لثروات العراق، ولإنسان العراق هذا الإعلام يجب أن يُستقبل بالاحتقار، وأن يستقبل بتهمة الخيانة، وبتهمة التآمر. شعب العراق جوَّعه نظام البعث، وجوعه النظام العالمي ليركعوه، وليشتروه بثمن بخس، جاؤا له بالفطائر، وما يسمى بالسندويشات من لحم الخنزير، ولحم الكلاب، والجبنة المحرمة ليشتروا عباقرة العراق، وأفذاذ العراق، ورجالات العراق، مقدرات العراق، تاريخ العراق، إيمان العراق، عزة العراق، هذا الثمن الدنيء، هذا الموقف الساقط من أمريكا وانجلترا موقف يشبه الموقف الأموي حيث أن أكرم بيت على وجه الأرض قد سُبي، ثم جاء أتباع بني أمية يتصدقون على الفاطميات بما هو شيء دنيء من الطعام. العملية تعود كما كانت، وتأتي أمريكا لتستلب عزة الأمة وكرامتها، وخيراتها، وانتماءها، وثقافتها، مقدّمة طعما صغيراً، ولقمة عيش دنيئة ذليلة، مغموسة بالذل إلى أقصى حد، وهذا الإذلال لشعب العراق الذي مارسته حكومته، ويمارسه العالم الكافر لن يستلب عزة العراقيين، ولن يجعلهم ينسون الحسين عليه السلام وإباءه، لن يجعلهم ينفصلون عن إشعاعات مراقد الأئمة عليه السلام، وهي إشعاعات إيمانية وإشعاعات عزة وكرامة، تعطي إباءاً وعزة وشموخا وفولاذية وقدرة على المقاومة، ولن يذل العراق أبداً. ربما انتهت حكومته وهذا خير، ولكن العراق لن ينتهي، العراق سيقاوم، العراق سيجالد، العراق بإيمانه، العراق بانتمائه، العراق بشموخه أكبر من كل القذائف الحارقة التي تسقط على رؤس أبنائه، أكبرمن كل التدمير، أكبر من كل الفتك. سيثبت التاريخ بأن للعراق موقفا إيمانيا لا يتراجع، وبأن الخط الإيماني الذي اختاره العراق وكل الذين اعتنقوه، وكل الذين عشقوه لا يقدم سالكوه دنيا على آخرة، ولا يرضون بعيش ذليل غامر، وبحبوحة حياة مادية ذليلة تسلبهم إيمانهم، وإنتماءهم إلى الله سبحانه وتعالى. كل هذه الأمة ستقاوم، كل هذه الأمة ستجالد، كلها ستنتفض، كلها ستقول لا، لا على المستوى اللسان فحسب وإنما على مستوى الموقف العملي، وإن وصل الأمر إلى بذل الدم، من كل الأمة، وإلى أن تتحول ملايين من أبنائها إلى أشلاء وركام.
لن نستسلم للغزو الكافر، ولن نرضى بأن نسلب إسلامنا، لن نرضى بأن نسلب انتماؤنا الحضاري الكريم، لن ننفصل عن قرآننا، لن ننفصل عن محمد صلى الله عليه وآله، لن ننفصل عن أئمة الهدى، لن ننفصل عن رب العباد جميعاً.
نعم، جوّعوه ليركّعوه، جاؤوا ليشتروه، ولكنّه لن يركع، ولن يقبل أي ثمن، وسيبقى قويا، وستبرهن الأحداث أنّ رجالات في العراق، وأن أفئدة في العراق ملؤها الإيمان لا يمكن أن تتراجع عن خط محمد (ص)، عن خط الحسين عليه السلام.
4) لن تستريح حكومة أمريكية أو عميلة:-
أي حكومة أمريكية أو عميلة لأمريكا تفرض على العراق لن تستريح، ولن تثبت لها قدم، سقوط النظام قد يكون سهلا، ولكن استقرار حكومة أمريكية أوحكومة عميلة لأمريكا أمر مستحيل في العراق، يأبى إيمان العراق، وتأبى عزة العراق، وتأبى شهامة العراق، وتأبى إرادة الإيمان في العراقيين أن تُحكم القباب المقدسة، ومآذن ذكر الله من قِبَلِ الكافر. ولن تثبت قدم لأمريكا في أفعانستان ولا في فلسطين، ولا في العراق، ولا في أي بلد آخر، والتاريخ والمستقبل لنا، وزمام الأمور سيكون تماما بيد القرآن والسنة إن شاء الله. ونسأل الله عز وجل أن يكون ذلك عن قريب.
5) ماذا لو كان وفاء من القيادة:-
أنتم تجدون تضحيات العراقيين ومقاومة العراقيين، وأن مقاومة العراقيين قد أذهبت بحسابات أمريكا، وقد ألغت معادلات وخطط أمريكا للحرب، وهي مضطرة أن تستبدل بخططها خططاً أخرى هذا والعراقيون يُضللون، هذا والعراقيون يُسلبون عزتهم من نظامهم، هذا والعراقيون تجري محاولات الإذلال لهم منذ بعيد، هذا والعراقيون يبعّدون عن خط الإيمان، فكيف لو أنّ التربية في العراق، وفي كل بلاد المسلمين استمرّت تربية إسلامية؟ وكيف لو كانت قيادة حكيمة رحيمة تفي إلى الشعب؟ وتنمي إمكانات الشعب، وقدرات الشعب؟ وكيف لو كان الشعب يحتضن حكومته، ويؤمن بحكومته؟ ولو كانت تلك الحكومة مؤمنة، مخلصة، لاحتضنها الشعب وتفاعل معها. لو كانت قيادة وفية، وشعب محتضن لتلك القيادة لاستحال على أمريكا أن تغلب هذا البلد الإسلامي إلا أن تحرقه حرقا كاملا.
لا يمكن لجنود الكفر الذين تدفعهم المطامع المادية، والذين قد لا يؤمنون بالحرب التي يخوضونها والذين يدفعون دفعاً قسرياً إلى هذه الحرب لا يمكن لهؤلاء أن يقاوموا روح الإيمان؛ روحا تتصل بالله سبحانه وتعالى، تؤمن بخطها كل الإيمان، وترى أن حياتها الكريمة مرهونة باستمرار هذا الخط.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وانصر أمّة الإسلام على الغزاة الكافرين، ورُدَّ عنها كيد الطغاة الظالمين من مستكبرين ومنافقين، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن كان له حقّ خاص علينا منهم يارحمن يارحيم، ياجواد ياكريم.
“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأمر ليس كذلك، والأقرب هي القراءة الثانية.