خطية الجمعة (90)‏ ‏15 شوال 1423هـ – 20-12-2002م

مواضيع الخطبة:

رصيد العمر  –  الإسلام والسياسة   –  المناسبات الوطنية  –  إكراه على التبذّل

لمناسبات الوطنية الكريمة التي تؤكد على العزة والأصالة والرفعة والاستقلال الحميد إنما تُحيى بالمعنى الأكثر جدية من خلال التركيز علي هذه المعاني، والمشاريع العملية الشاهدة بالتقدم على مسار العلم، والعدل، والعمران، والمساواة الاجتماعية، والتحرر من سيطرة الأجنبي الغاشم.

الخطبة الأولى

الحمد الله الكافي ولا كافي غيره، الهادي ولا هادي سواه، مبدأ الفضل ومنتهاه، إليه مرد العباد، ‏وقضاء يوم الحساب، أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له، هو العدل الحكيم الذي لا جور في ‏حكمه، ولا خلل في صنعه، ولا نقص في حكمـته، ولا عبث في تدبيره، ولا إهمال في فعله.

وأشهد أن ‏محمداً عبده ورسوله، قربه وأدناه، واصطفاه وأعلاه، صلى الله عليه وآله الهداة.‏

عباد الله ليس أحد أولى من الله بأن يخاف ويرجى، بل ليس مع الله أحد يخشى ويتقى، ولنتق الله، ‏وتقواه في طاعته، وخوفه بتجنب معصيته. والتقوى مثمرة، وخير الثمر ثمر التقوى، وفي الحديث عن ‏رسول الله صلى الله عليه وآله: (من اتقى الله عاش قويا، وسار في بلاد عدوه آمناً) وعن غرر ‏الحكم : (من اتقى الله وقاه وكفى ثمرةً للتقوى) ما في قوله تعالى: ( إن العاقبة للمتقين). وتمتحن ‏التقوى عند سَورة الشهوة، وفوران الغريزة، وتأجّج الرغبة فعن الغرر: ( عند حضور الشهوات ‏يتبين ورع الأتقياء).

اللهم صلى على محمد وآل محمد، وارزقنا تقوىً حاجزة عن المآثم، دافعة للمكارم، تنتهي بنا إلى ‏رضوانك، ونستحق بها أمانك.‏

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات..
فليس من رصيد لأحد يملكه فينتفع به قبل رصيد العمر، ومن دونه، ‏فهو أساس كل رصيد، وما لنفس أن تكسب شيئا بلا حياة، وما قامت دنيا، ولا فاز فائز بآخرة بموت ‏وعدم، ويوم النوم يوم موت لا حياة، ويوم الهزْل يوم ضائع خاسر لا رابح، ويوم الأكل والشرب من ‏أيام الحيوان لا الإنسان، ويوم الإثم يوم للنار لا للجنة، وللهبوط لا الصعود.

ويوم اليقظة، والجد ‏والسعي، والعلم، والطاعة وحده هو يوم الحياة، والربح، والإنسانية، والرفعة، والجنة والخلود الكريم؛ ‏فقيمة أحدنا في نهاية الحياة من قيمة ساعات نومه ويقظته، هزله وجده، معصيته وطاعته، شره ‏وخيره. ووزنه وزن ما علم، وعمل ونوى وأضمر في كمٍّ وكيف. وإن يزذد امرئ وخيرا أو شرا بعد ‏يوم وفاة فإنما سبب أيام قضاها في الحياة. أما الموت فغير منتج مطلقاً، فلا تفرط في العمر، ولا ‏تلعب في الحياة. وإن تعمل فاعمل صالحا و إلا فالموت خير لك من الحياة.

ويوم النوم لا يثمر ما ليوم الجد، ويوم الجهل لا يثمر ما ليوم العلم، ويوم المعصية لا يعقب ما يعقبه ‏يوم الطاعة، ويوم الشهوة لا يعطي ما يعطيه نشاط الروح، ونحن غداً من جنس ما قضينا فيه الوقت، ‏و أمضينا العمر، و أنفقنا الأيام بلا تغيير إلا أن يرحم الله.‏
وهذا العمر ثوان عابرة، ولحظات راكضة، وآنات منصرمة محدودة العدد، محسوبة الأمد، لا عودة ‏للحظة من لحظاته، ولا تجدد لآن من آناته. وما أنا وأنت حاضرا ومستقبلا إلا هذه الثواني ‏واللحظات وما نعبئها من إدراك ونية وعمل في خطئه وصوابه، شره وخيره، طالحه وصالحه.

وأنت صادق عندما تقول أن كل ثانية عمر لنا نشهد فيه ولادة ويعرض علينا بنهايته موت. ولا يعلم إلا ‏الله كم كان لنا وعلينا من هذه الأعمار القصيرة المهمّة التي يتبعها نوع المصير الأخير.و من هذه الأعمار ما رفع، ومنها ما وضع، ومنها ما يأخذ إلى الجنة، ومنها ما ‏يأخذ إلى النار. منها ما يدخل في الصالحين الأخيار، ومنها ما يدخل في الأشرار الفجار. فاحسب ‏حسابك، وخذ حيطتك، ولا تكن من الغافلين.

وهذه وقفة مع كلمات منقولة عن أهل الحكمة:‏

‏1.‏ ‏(إن عمرك وقتك الذي أنت فيه) فلا تبن على زيادة، فتتوان عن استثمار ‏لحظتك القائمة، وآنك الحاضر. لحظتك أعطينها واللحظة الثانية لا يدري المرء أهي من عمره ‏أم خارج العمر الذي لا يعود.‏

‏2.‏ ‏(إن عمرك عدد أنفاسك وعليها رقيب يحصيها) وهو العليم بما ذهب منها وما ‏بقي، وأنت لا تدري مالك بعد نفسك الأخير من أنفاس ، ولست المهمل، أو المغفول عنك في ما ‏تقضي فيه العمر وتصرّف الأنفاس، فكل نفس يعني مسؤولية كبيرة، وقد يستتبع موقفا عسيرا، ‏وعذابا طويلا مريرا. وقد يعقبك جنة الخلد ورضوان الله ..

النفس الواحد ليس عملة صغيرة ، عملة ضخمة. تشتري بها حياة ‏الأبد سعادة ، أو يخلد بها المرء حياة الأبد شقاءً.
عمر النَفَس يمكن أن يصرف في كلمة بانية أو هادمة، مصلحة أو مفسدة، تُشعِلُ فتنة، أو تطفئ ‏نار حرب، تنحرف بالمسيرة قرونا أو تردها إلى الطريق، فلا يستهان بعمر نفس في حساب الله ‏العليم الخبير.

‏3.‏ ‏( ما نقصتَ ساعة من دهرك إلا بقطعة من عمرك) فالساعة إذن عزيزة، ‏والعمر دائماً في نقصان، والكثير الذي يعرضه النقص دائما قليل، والغاية التي لا يتوقف عنها ‏السير في ليل أو نهار قريبة، فلا بد أن يتجه النظر إليها، وينصب الحساب عليها. هذا لو علم ‏أنها على رأس مدى بعيد، فكيف إذا كان التوقع أن توافي السائر في أي لحظة من غير ميعاد، ‏وفي أي نقطة من نقاط الطريق؟!‏

‏4.‏ ‏(كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك) عمرك تستطيع أن تشتري ‏به ما لا تستطيع أن تشتريه بدرهمك ودينارك، ومالُك من دخل عمرك، وليس عمرك من دخل ‏مالك. وليست خسارة المال كخسارة العمر، فإن تعقب خسارة المال حسرة، فهي حسرة قصيرة، ‏أما خسارة العمر فحسرتها مقيمة، وعاقبتها وخيمة، وسطوها شديد، وعذابها مديد. وما أقل ‏الناس عقلا حين لا يبُذلون أموالهم إلا في ما يريح، أما أعمارهم فهم بها أسخياء في كسل وهزل ‏ولعب وعبث، وفي ما يؤدي إلى عذاب أليم مقيم!!!‏

اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واجعل عمرنا والمؤمنين والمؤمنات أجمعين مبذولاً في ‏طاعتك، مصونا عن معصيتك، بعيدا عن عبث الشيطان الرجيم، ممنوعا عن سرقة الضالين، واغفر ‏لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة برحمتك يا أحم الراحمين.

بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))

الخطبة الثانية

الحمد لله رب كل صغير وكبير، عالم كل خفي وظاهر، رازق كل غني وفقير، قاهر كل قوي وضعيف، مالك ما كان وما يكون، ولا كائن إلا بإذنه وهو العلي القدير، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالدين الحق، والهدى الذي تحتاجه الأجيال والأمم. صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله علينا بتقوى الله العلي القدير، العزيز الحكيم، الغني الحميد وهو القائل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} النساء/131. فتقوى الله حاجة العبد، وليست حاجة الرب { فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا }.

ولأن التقوى حاجة عامة لكل الناس، ولا صلاح لهم بدونها، ولا يبلغون سعادتهم بالتخلي عنها كانت وصيتَه سبحانه {للذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم} وعن نهج البلاغة: (أوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى رضاه، وحاجته من خلقه فاتقوا الله الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده). وتعبير وحاجته من خلقه (الوارد في كلمة النهج يراد بها تماماً عدم حاجة الرب إلى خلقه وعبيده. وهذا التعبير على منوال قولك لولدك حاجتي منك أن تستقيم لنفسك، وعلى حد قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} فمودُة الِاتّبَاعِ حاجة المخاطَب لا المخاطِب، حاجة الناس لا حاجة رسول الله صلى الله عليه وآله، والتقوى حاجة الناس لا حاجة الله عز وجل. فالله عز وجل نواصي العباد بيده، وهم أفقر الفقراء إليه، ولا خير بيدهم إلا من عنده، ولا ظهور لهم إلا من فضله، ولا يملكون نفعاً أوضراً لأنفسهم إلا بإذنه، وله الغنى المطلق، فهو يُعطِي ولا يعطى، ويُفتقر إليه ولا يَفتقِر.

اللهم ارزقنا التقوى، وجنبنا البلوى. اللهم صل وسلم على البشير النذير، والسراج المنير، وهدى الهادين، وخاتم النبيين والمرسلين محمدِ الصادق الأمين وآله الطاهرين.

اللّهم صل وسلم على أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب الوصي الأمين. اللهم صل وسلم على الهادية المهدية فاطمة التقية الزكية. اللهم صل وسلم على الإمامين الهاديين والوصيين الزاكيين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين.
اللهم صل وسلم على أئمة الهدى وأعلام الورى وقادة الدين والدنيا علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد ومحمد بن علي الهادي والحسن بن علي العسكري ورثة الأنبياء.
اللهم صل وسلم على مهديّ الأمة، وخاتم الأئمة، المرتضى والمؤتمن قائم آل محمد، محمد بن الحسن. الله عجل فرجه، وسهل مخرجه وأنصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً.

الله عبدك المولى له، المهتدي بهداه، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيلك وفّقهم وسددهم وانصرهم وذد عنهم يا قوي يا عزيز يا قهار.

أيها الأخوة والأخوات في الله؛ الحديث تحت عناوين ثلاثة:

العنوان الأول: الإسلام والسياسة:

يلتقي الإسلام والسياسية موضوعاً، وموضوعهما معاً هو الإنسان وعلاقته بنفسه، وبربه وبالآخرين، – هكذا أرى- ويلتقيان كذلك وظيفة إذا كانا على خط واحد، وإذا كان أحدهما صاعداً، والآخر نازلاً تقاطعا وتعارضا في أكثر الموارد وأهمها من حياة الإنسان وشؤونه، ومصالحه، وأهدافه، وعلاقاته، وأخلاقياته، وفكره، وهمومه، ومشاعره.

وقد جاء الإسلام يصوغ الإنسان، ويقود الحياة، ويبني مجتمعاً، وينشئ أمة، ويوحّد الناس على طريق التوحيد، ويكملهم بعطاءات هذا الطريق، ويقيم عدل الله في الأرض، ويحييها بتعاليم الوحي، ويجعلها مشرقة بنور السماء. وقيادة الحياة، وبناء المجتمع، وإنشاء الأمة وتوجيه الناس وصياغتهم؛ كل ذلك محل اشتغال السياسة.

فاعتزال الإسلام السياسة خرافة، وتقُّولٌ عليه بغير حق من السياسة، وبدافع سياسي معادِ محض، ربما أدى إلى تصديق برئ عند السّذّج. وعدم تدخل السياسة في الدين افتراء وزور مكشوف إذ لا يسع السياسة إلا أن تتدخل في شؤون الدين وهي تتحد معه موضوعاً، وتنسجم معه أو تعارضه في الوظيفة. فكلمة ما لله لله، وما لقيصر لقيصر كلمة كاذبة ساذجة، أو سياسيّة ماكرة يراد بها تخدير المتدينين على أساس الإيهام بعدم وجود تعارض بين المساحة التي يتناولها أمر الله ونهينه وتشريعاته، والمساحة التي يحكمها قيصر من حياة الإنسان ونشاطه، بعد التسليم أن لقيصر أن يستقل عن الله عز وجل في أي أمر من الأمور. والحق أن ليس لقيصر في الكون كله ملكاً يستقل به، وأن أمر الله ونهيه وتشريعاته تعمّ حياة الإنسان، فكلما جاء أمر أو نهي على خلاف ما لله من أمر ونهي في أي نقطة من حياة الإنسان ووجوده كان ذلك مكابرة لله، وتمرداً على شريعته.

والحق انه بمقدار ما تتحرف السياسة عن خط الدين يُعطّل الدين، ويلغى من ناحية عملية، وبقاء الدين في مساحة الحياة بمقدار ما توافق السياسةُ الديَن عليه من التشريعات والمواقف.

وقد استمر فصل الدين عن الحياة، وعطّلته السياسة في الكثير من المرافق وألغته في ساحات كبيرة. والأخطر من التعطيل التشويه، وقد ترافقا معاً منذ بعيد، ويتم التشويه بتسييس الإسلام، بدل أسلمة السياسة، ويكون التسييس باتخاذ دين الله مركباً للأغراض السياسية وكسب الرأي العام وتأييده، واستعمال الواجهة الدينية وسيلة فعالة لاستقطاب الجماهيري. وقد تكون هذه الواجهة شعاراً دينياً بلا مضمون، أو مؤسسة إسلامية للهيمنة السياسية على الدين، أو عالماً مغبوناً تستغفله الدنيا، وتكبر في عينيه زينتها. وقد عرفت هذه الأساليب وأجادت استخدامها دول في الغرب، ودول في الشرق في القديم والحديث، وحتى العالم الغربي العلماني لازال يقدر لهذه الوسيلة أهميتها في الظروف الخاصة، وعند المقتضيات الضرورية.

وقد أدى تسييس الدين على يد الدولة الأموية والعباسية إلى وجود نظرية تؤدى إلى نفى العدل الإلهي، وأخرى تنكر عصمة الأنبياء، وثالثة تأمر بطاعة أولي الأمر مطلقاً، وتحرم الخروج على السلطان الظالم ظلماً فاحشاً، والمخالف لأحكام الإسلام، والمناقض عملاً لأغراضه، وان شرب الخمر، وزنى، وارتكب أبشعب المنكرات. وأوجد تسييس الدين من برّر قتل الإمام الحسين عليه السلام، وأسقط الرأي الفقهي لمثل الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وبهذا التسييس بدّلت مفاهيم إسلامية كثيرة، وطمست أحكام شرعية، وتحول المنكر معروفاً. والمعروف منكرا.

أما موقف علماء الإسلام من مسألة السياسة والدين فلا يُتوقع فيه أن يختلف عن موقف الإسلام؛ فرؤيتهم رؤيته من حيث إن السياسة حقل من حقول الدين، وساحة من ساحات نشاطه وتربيته، وحيث لا يكون توافق تام بين السياسة والدين عملاً فدورهم التبصير، والتذكير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ما استطاعوا، وهم أكثر الناس تقديراً لحرمة الأنفس والأعراض والأموال، وتجنيباً للمجتمعات عن الفتن والاحتراب والخراب، وأشد الناس مراعاة لأحكام الله في هذه الموارد وغيرها، وأعرفهم بمسائل التزاحم، وانقسام الأمور إلى مهم وأهم على ضوء الشريعة، وكون التقديم للأهم على المهم، وأطلبهم للحافظ على الأُخوَّات الإنسانية، فضلاً عن الإسلامية، والوطنية. وهم مدركون لما عليه قيمة الدعوة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وما عليه خطورة العنف وإثارة القلاقل…

كل هذا صحيح وثابت ولا معدل عنه، وهم في نفس الوقت لا يقبلون أبداً، ولا يجوز لهم بتاتاً أن يجعلوا من أنفسهم أو يُتخذوا واجهات لتمرير أي مشروع لا يرون فيه موافقة الشريعة ومصلحتها المقدمة على كل المصالح، وليسوا مستعدين مطلقاً أن يكونوا وسيلة دعائية لغير ما يطمئنون بأن فيه مرضاة الله الملك الحق المبين، ويجب أن يكونوا يقظين جداً لالتفافات السياسة في هذه المجالات كلها، فلا يعينوا على دين الله بشطر كلمة ولا جزء من موقف.

الثاني: المناسبات الوطنية:

المناسبات الوطنية الكريمة التي تؤكد على العزة والأصالة والرفعة والاستقلال الحميد إنما تُحيى بالمعنى الأكثر جدية من خلال التركيز علي هذه المعاني، والمشاريع العملية الشاهدة بالتقدم على مسار العلم، والعدل، والعمران، والمساواة الاجتماعية، والتحرر من سيطرة الأجنبي الغاشم. وأي تعبير شكلي عن الفرحة لابد فيه من أن يكون من النوع الراقي والأخلاقي الكريم، وإلا كان شائناً، ومنافياً لاستقلال البلد ومصالحه.

والمناسبات الوطنية ما كان منها بناءً ومجيداً، رسمية كانت أو شعبية غير متهافتة في نفسها، فلا يهافت بينها لا على يد شعب ولا حكومة، ولا على مستوى الكلمة أو التطبيق. وهي لا تكون مبعث قلق ولا ارتياب، ولا يناسبها أن تأتي استفزازية أو مثيرة شكاً، ولا أن تحمل على ذلك قصداً.

وإني أرى من اللائق أن تتوافق الإرادة الرسمية والشعبية معاً على الاعتزاز بالوطن والعمل على سلامته وأمنه واستقراره، واحترام مناسباته البنَّاءة المجيدة، وارتباطه بدينه وتاريخه الإسلامي المجيد وقيمه، وعلى تكريم شهدائه، ورجال العلم الصالحين ممن مضى من أبنائه بالأساليب المختارة البناءة التي تشجع على الفضيلة والبذل والعطاء والإيثار، وتركز المعاني الإسلامية والقيم الرفيعة، وتساعد على التلاحم من أجل الخير والرفعة والتقدم.

الثالث: اكراه على التبذّل:

هناك إكراه على التبذّل… إلجاءٌ للاستخفاف بالدين، والخروج على العفة والشرف… امتهانٌ لكرامة المواطن… استغلال بشع لحاجة الإنسان… هناك أخلاقية عسكرية تركية في بعض المؤسسات التجارية في محاربة عفاف المرأة، وتدخل في حريتها الدينية. هناك إكراه على لباس التبذّل، والتخلي عن لباس العفة واللياقة من أجل لقمة العيش، والمرتب الشهري الذي يُتقاضى قبال التعب وصرف جزء عزيز من العمر، بعض البرادات في البحرين تفعل ذلك كله – حسب النقل المتكرر الذي يعطى الوثوق- فأي أخلاقية، وأي إنسانية، وأي ضمير، شريف، وأي قانون يحمل رائحة الإسلام العدل القويم الكريم يجعل التعرّي شرط اللقمة، والعبودية للقرارات المتعسفة ثمناً للعيش؟!

كفوا عن هذا أيها التقدميون الذين تتباكون على حرية المرأة وحقوقها المسلوبة، وكأنه في ما أرى تباكٍ لتكون المرأة ألعوبة. وإلا فأين التباكي على حرية المرأة من هذا الإكراه، والامتهان للكرامة؟

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الفتاة التي تخضع لمثل هذه المساومات الرخيصة والجائرة بتوهم الجواز للاضطرار مخطئة جداً، ومرتكبة للمحرم، فأين المضحى من أجله هنا من المضحى به؟! المضحى من أجله مال يسير حقير مغموس في مستنقع الذلة والهوان، والمضحى به دين عزيز, وشرف رفيع، وعفة وطهارة وكرامة. المضحى به رضا الله الذي لا يعدله أبداً رضا المخلوقين مجتمعين، ومن أجله تبذل الثروات، ويُضحى بالحياة، ودعوى انحصار الحياة في مثل هذه اللقمة الفاجرة دعوى بعيدة عن الانصاف والصواب، وفيها كثير من سوء الظن بالله الغني العلي القدير.

اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد واغننا واخواتنا المؤمنين والمؤمنات أجمعين بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وارزقنا اليقين برحمتك، والثقة بلطفك ورزقك، ونجنا من وسوسة الشيطان الرجيم، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا رحمن يا رحيم.

{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}

زر الذهاب إلى الأعلى