آية الله قاسم: من بيانات كربلاء عاشوراء “هيهات منّا الذلّة”
بسم الله الرَّحمان الرَّحيم
من بيانات كربلاء عاشوراء
هيهات منّا الذلّة
شعار كان من الإمام الحسين عليه السلام كلمة معلنة صريحة أمام من أراد له أن يذعن لغير الله في الوقت الذي جدّ فيه خطر هذه الكلمة كلّ الجدّ بما لا ريب فيه.
كما كان منه عليه السلام فكرة واضحة كل الوضوح الذي لا شوب فيه من غموض أو تردّد… فكرة راسخة متجذرة بجذر إيمانه وتقواه.
وهكذا كان عزماً ليس من فوقه عزم، وتصميماً لا يفوقه تصميم.
وكان موقفاً عمليَّاً لا تراجع عنه، ولا يمسَّهُ اهتزاز أمام أعنف الظروف، وأخطر الخطر، ولا يلوي عنه تهديد جدّي بالموت.
شعار استحق في وعي الحسين عليه السلام وإيمانه وإرادته أن يتخذه محوراً في كل المواقف والخطى والمنعطفات، وأمام أيّ بركان وزلزال.
كان وراء هذا الشعار الثوري الصارخ الراسخ خلفية إيمانية لا ينالها اهتزاز، وانتماءٌ لا شرف يعادل شرفه… انتماء العبودية الصادقة الشاملة في خضوعها للربوبية الحقَّة الكاملة.
عبودية تعيشها نفس الإمام الحسين عليه السلام وعياً ورضى واعتزازاً وعشقاً وذوباناً وتعلقاً وهياماً في الحب لربوبية الله وجلاله وجماله.
شعار وراءه تلك الخلفية وذلك الإنتماء وهما مصدره الذي لا تعرف نفس الإمام الحسين عليه السلام انفصالاً عنه، ولا يأتي عليها ميل عن خطّه الكريم.
وهو شعار كان قد تغذَّى به شهداء كربلاء من أهل بيت الإمام وأنصاره، والمرأة والطفل ممن كان مع الحسين عليه السلام. وكان الإقبال فيهم على مائدته بشهية روحيّة ونفسية عارمة، وإقبال شديد منقطع النظير، وذلك عن وعي ورشد وإيمان وعشق للإمام الحسين عليه السلام وقيادته وأصالة الشعار.
وما كانت الخلفية التي تغنى بها روح الإمام عليه السلام لشعار هيهات منا الذلة في حاجة إلى إضافة أو مزيد.
ومع ذلك كان الرفضُ النابع من الذات لعيش الهوان والذلة حيث يعني الافتراق عن طريق الله والدخول في طاعة اللئام والعبودية للعبيد، وزاد كبير من عطاء حجور طابت وطهرت، ووراث حميدة، وتربية عالية رشيدة، وروح تزودت من ذلك كله إباء وشهامة، واعتزاز بالكرامة، وهي معان كانت من الغرس الإلاهي في فطرة أهل العصمة عليهم السلام، ومن وحي انتمائهم الصادق إلى خط الله.
وأيّ ذلة تلك التي على مريدها من الإمام الحسين عليه السلام أن ييأس، والتي لا مكان لها في نفسه، ولا تدنو من نفس وراءها خلفيةُ الوعي والإيمان التي كانت تغنى بها نفسية الإمام الحق المختار من الله العليم الخبير؟
العزُّ عزٌّ ظاهر وباطن… عز مال وجاه وسلطان، وعزُّ ذات تجده من تعلق بالله ومعرفته.
والغنى بالعزّ الباطني للذات لا يبقى معه بريق للعزّ الظاهري، ولا للظهور في الناس مع ما تجده من ذلك العزّ النفس الذي تعمر به.
والذلة ذلّتان كما هو العزّ عزّان : ذلة نفس وهوانها، وذلة من افتقارِ يدٍ، وفقد موقع، وتضييقٍ من عدوٍّ لدود.
وهذا الذل لا يجعل من معتز بالله حقّاً يشعر بالهوان في داخله، ولا يملك أن يُرخص من قيمة نفسه، وأن ينال من معنويته.
تراه معتزاً بذاته، بانتمائه، لا يساوم على شيء منهما، ولا يجد ثمناً من الدنيا يغريه بالتنازل عن كرامته بمفارقة ما هداه إليه إيمانه من طريق.
وما رضيت نفس بالعزّ الظاهري واكتفت به، وكان كل لهثها إليه، واطمئنانها به إلّا لفقدها ما هو العزّ الحقّ الأسمى، والذي تجده النفس المؤمنة العالية من صدق عبوديتها وتعلقها بالله، والتي لا أنس لها بعز يخسرها من عزها به سبحانه شيئاً.
وتقديم العزّ الظاهري بالمال والجاه والأتباع والمواقع الدنيوية اللامعة يصاحبه ذل تعيشه النفس من نتاجه حيث يهون عليها التنازل عن كرامتها وشرفها ومقدَّساتها من أجل ذلك العزّ المأسورة لهواه. وهذا ما كان عليه الواقفون في مواجهة أبي عبد الله والمحاربون له، وعبيد الدنيا في كل مكان وزمان.
إن نفس العبد من عبيد الله إمّا أن تُقرِّبها الطاعة له فتغنى بعزّ من عزّه، وتستغني به، وإمَّا أن تبعِّدُها معصيتها عنه فتذل وتخزى.
نقرأ من مناجاة التائبين في الصحيفة السجّاديّة ” إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي، وجلّلني التباعد منك لباس مسكنتي وأمات قلبي عظيم جنايتي “.
فنفس تأخذ بالمعاصي فتبعُدُ عن الله عزّ وجلّ ترتكس في الذلّ، ويلبسها ذلك ثوبَ الهوان والمسكنة حتى تسترخص ذاتها فتجد لما بيد العبيد من أشياء الدنيا قيمة أكبر من قيمتها، وأغلى من الاحتفاظ بشرفها ومقدساتها.
وإذا عظمت الجناية وكبر الذنب وتكثر مات القلب، وليس من بعد موته شعور بمكانة للذات والكرامة، ولا اعتزاز بمعنوية إنسانية عالية.
بعد موت القلب نفس صاحبه نفس حيوان، وبهيمة تدخل كل مدخل سيء مهين من أجل لذائذ دنياها.
وكيف لا تهون نفس على صاحبها أمام أهل المال والجاه والسلطان والنفوذ وهي لا تجد باباً من دونهم تلوذ به، ولا قدرة تحميها، ولا غنى يكفيها ويثريها إلّا مما في يدهم وعن طريقهم؟!
وكيف تذل نفس أمام شيء مما في يدي الآدميين وهي تؤمن أن القوة لله وأنّ العزة لله وأن كل الأمر بيده.
واهمٌ من كان يطلب العزَّ وأسبابه من غير الله ومما في أيديهم وهذا ما تدركه النفس اليقظة فلا تجد من تلوذ به أو تعوذ حين تفرّط في علاقتها بالبارىء تبارك وتعالى وتطرد من حريم رحمته، وتحل عليها نقمته، ولكن ما لمن خسر علاقته بالله إلّا أن يقع في ظلمة الوهم فيطلب ما لا يملكه غيره سبحانه من عند من سواه.
تقول المناجاة ” فإن طردتني عن بابك فبمن ألوذ، وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ؟!! ”
لنعلم أنّ هيهات منّا الذلّة شعار لا يصدق في النفس إلا بمقدار مالها من إيمان الحسين عليه السلام، وتربيته، وجهاده على طريق الكمال في اتجاه الله القوي العزيز.
وهو شعار إذا صدق معه الناس وأخذوا بطريق الشرع، وانتهجوه في حياتهم صلحت الأوضاع، واستعيدت الكرامة، وعمّ العدل، واستقامت مسيرة الحياة.
هيهات منّا الذلّة لا يمكن أن يصدق من عابد مال أو جاه، أو موقع من مواقع الدّنيا المغرية، أن لا يصدق ممن يرى أن غناه وقوته وحمايته وخيره وشره بيد غير الله سبحانه.
هذا المخلوق بين أمرين فإما أن يذل لله سبحانه فيشعر بالعزّة في قبال من عداه، وإمّا أن ينسى الله فيذل لكل من سواه وما سواه ذلّاً يعيشه في داخله، وهواناً يملأ أقطار نفسه.
وهيهات منّا الذلّة شعار لكل مسلم صادق الإسلام، مؤمن بربه تبارك وتعالى حقّ الإيمان… شعار لا يستوحشه مسلم ولا ينكر عليه.
الشيخ عيسى أحمد قاسم
السبت 3 محرم 1437هـ
17 أكتوبر 2015م