خطبة الجمعة (83) 25 شعبان 1423هـ – 1-11-2002م

مواضيع الخطبة:

أسس المنهج الإلهي  –  ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”  –   الجمعيات الإسلامية

نعم، لا بد من الوعي الكامل بما هو الإسلام، وما هو غير إسلام، حتى إذا رفعنا راية الإسلام نرفعها حقيقة، ونبشر بتعاليمها تبشيرا صحيحا. حتى يصح المسار العاطفي، وحتى يصح المسار العملي للأمة لا بد من قبل ذلك أن يصح المسار الفكري وصحة المسار الفكري، في الأمة مربوطة بمتانة فهم القرآن والسنة

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا لمعرفته، ودلَّنا على طريق عبادته، ورسم لنا الطريق الموصل إلى جنّته، وفتح السبيل السالك إلى رضوانه. والحمد لله الذي بيَّن لنا شرائع الدين ومنها صوم شهر رمضان، شهر الإسلام، وشهر الطهور، وشهر التمحيص، وشهر القيام.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله جعله رحمة باقية، ونوراً دائماً، وهدى قائماً. صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي من قبلكم بتقوى الله الذي إليه مرجع كل نفس، وهو الملك الحق المبين، وأن نكون من طائفة في الناس، دون طائفة؛ أن نكون من المتقين الذين قال عنهم سبحانه “إنّ المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر” 54 – 55/ القمر، وأن نفر من المجرمين ففي كتاب الله العزيز الحميد “إن المجرمين في ضلال وسُعر. يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر”. 47 – 48/ القمر. واليومُ يومُ العمل، وغداً يوم الحساب، واليوم يوم الزرع، وغداً يوم الحصاد.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا من أهل التقوى، وجنّبنا أن نكون من أهل الضلالة والغوى، وارزقنا البراءة من المجرمين، والفوز في الدنيا والدين.

أمَّا بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات فهذه أفئدة المؤمنين قد بدأت تستقبل أنوار المطلع الكريم لشهر رمضان المبارك، وتستعدُّ لأن تتوضأ من فيوضاته، وتتربى كثيراً على عطاءاته وبركاته. وبهذه المناسبة الشريفة، وعلى أبواب هذا الموسم الفيَّاض بالأنوار الإلهية السخيَّة، وبدروس الروح الثَّرة، وما يقوّم حياة النَّاس من معانٍ كبيرة، وأسس متينة، نقف مع بعض النصوص الكثيرة الهادية في موضوع الشهر الكريم:

قوله تبارك وتعالى: “شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان”.
اقتران الأطروحة والممارسة:

القرآن هو الأطروحة، وشهر رمضان هو شهر الممارسة الجادة والتطبيق للأطروحة، والإسلام يقرن دائما بين الأطروحة القويمة وبين السلوك المستقيم، والأمة لا يمكن أن تنهض ولا يمكن أن تنبعث الانبعاثة الكبرى، ولا يمكن أن تقوم على قدم، قوية وهادية ورائدة إلا بأن تقرن بين الأطروحة القويمة والسلوك المستقيم، لا يكفي أن ننشط، أن نطالب بالحقوق، أن نتقدم على دروب العلم، أن نعبئ كل الوقت عملا وجدا، أن نقاوم في الأرض الشر: كل الأرض، وكل الشر، فيما نحسبه شرا. لا يكفي كل هذا لأن تتقدم الأمة حقا، ولأن تحقق إنسانية عالية نموذجية في الأرض، وتكون بحق رائدة الأمم، وليس من خلال القوة العسكرية الغاشمة، إنما تكون رائدة لتهدي، ولتبني، ولتصحح، ولتأخذ بالإنسان على الطريق الصاعد إلى الله، فهذا الأمر لا يمكن أن يتم من خلال حركة عشوائية، ولا من خلال نشاط مكثف يبعد ويميل عن خط الإسلام.

الآية القرآنية الكريمة تربط بين نزول القرآن الكريم وبين شهر رمضان الذي هو لون من الجهاد الصابر… والجهاد الهادف… الجهاد الواعي… الجهاد مع النفس، وهو منطلق الجهاد كلّه. هذا الربط يقول للأمة: بأنكم لا تتمسكون بالقرآن حقّاً حتى تطبقوه، ولا يمكن أن تطبقوه حتى تفهموه، ثم لا نستطيع أن نفهم القرآن إلا من خلال علم صار توارثه عن طريق الأمناء على الكتاب؛ أهل بيت العصمة صلوات وسلامه عليهم أجمعين، وفي ظلّ مدرسة تفسيرية تأخذ قواعدها وأصولها ومرتكزاتها من مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

“…وبيّنات من الهدى والفرقان” لا بد أن تعيش الأمة وعي التمييز بين ما هو قرآني وغير قرآني، وهي تبحث عن الهدى وتطلب اعتناقه لا بد أن تفهم القرآن، ثم لا بد أن تعمل المقاييس القرآنية لتميز بين الفكر الصائب والفكر الخاطئ. الأمة الإسلامية لا يمكن أن تكون إسلامية بحق وهي تتلقف أفكار الغرب، وتعيش الغبش والضبابية في الرؤية الإسلامية. لكل الذين يريدون أن يتحركوا في سبيل الله، ولكل الذين يدعون الأصالة لا بد لهم من الانكباب على فهم الثقافة القرآنية أولاً، وإلا فلا يتحدثوا للمجتمع. لكي يتحدث للمجتمع وباسم الإسلام تقضي الأمانة جداً أن نفهم الإسلام وأن لا نتحدث إلا بمقدار ما نفهمه منه، كل الذين يتقدمون الصفوف باسم الإسلام تحتم عليهم المسؤولية الكبرى والأمانة الإلهية أن لا يقولوا كلمة باسم الإسلام وهم يشكون في إسلاميتها وعليهم، أن يشكوا كثيرا قبل أن يلموا إلماماً كبيراً بالثقافة الإسلامية. وفي موارد الحكم الشرعي الفرعي الجزئي فليتقِ الله الأخوة كل الأخوة الذين يقولون بما لا يعلمون، والذين يخرجون عن تخصصاتهم غير الفقهية ليقولوا في مجال الفقه كثيرا.

نعم، لا بد من الوعي الكامل بما هو الإسلام، وما هو غير إسلام، حتى إذا رفعنا راية الإسلام نرفعها حقيقة، ونبشر بتعاليمها تبشيرا صحيحا. حتى يصح المسار العاطفي، وحتى يصح المسار العملي للأمة لا بد من قبل ذلك أن يصح المسار الفكري وصحة المسار الفكري، في الأمة مربوطة بمتانة فهم القرآن والسنة.

عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا حضر شهر رمضان قال:

“سبحان الله! ماذا تستقبلون؟! وماذا يستقبلكم؟! قالها ثلاث مرات….”.
سبحان الله أسلوب تعجبي للتأكيد، ماذا تستقبلون؟! أسلوب إنشائي للتقرير وهو يحمل تأكيداً، وماذا يستقبلكم؟! تعبير كسابقه. وتكرار القول ثلاث مرّات إضافة تأكيد للتأكيدات الأخرى، فهو كلام مؤكّد، مسّيج، محصّن يريد أن يضعنا أمام هذه الحقيقة، وهي أننا نستقبل أمرا عظيما، وضيفاً كريما، وموسماً ثرا، نستقبل مدرسة من مدارس الوحي، وموسما غنيا فيّاضا من مواسم التربية الإلهية، وشهرا زخّارا بالمغفرة والرحمة والبركات، وهدية من هدايا الله لعباده المؤمنين، يصنع بها أرواحهم، ويصلح قلوبهم، ويبني صفوفهم، ويضعهم على الطريق. والشهر الذي هذا شأنه، وهو أكبر الشهور، وأعظم الشهور عند الله له استقباله الخاص، وإذا كان هو موسم روح، وميعاد مغفرة ورحمة، وفاتحة خير عميم، وموسم تربية إلهية لإنسانية الإنسان، فلا بد أن يكون استقباله استقبالا خاصا يتناسب وطبيعته.

أنت لا تستقبل موسماً من مواسم الثقافة الجافة، ولا تستقبل موسما من مواسم الطعام والشراب، ولا تستقبل موسما من مواسم فرحات الدنيا، أنت تستقبل موسما تمتزج فيه العطايا بالمسؤولية، تستقبل رسالة عملية كبرى من الله، وتدخل تعاملا مع موسم تربوي رسمته يد الإله، فكيف نستقبل هذا الشهر؟

أما كيف كان عظيماً؟ فلنقرأ في ذلك بعض الحديث:

فمن عظمة الشهر “… فأجهدوا أنفسكم فإن فيه تقسيم الأرزاق، وتُكتب الآجال، وفيه يكتب وفد الله الذين يفدون عليه، وفيه ليلةٌ العمل فيها خير من العمل في ألف شهر” –– عن أبي عبد الله (ع). تريد دنيا؟ ما أهم أمر يقع في قلبك من أمور الدنيا؟ أن يمد في أجلك، أن يدر عليك الرزق؟ فيه تكتب الآجال، وتقسم الأرزاق. ما أشرف غاية تتطلع إليها؟ ما أكبر مستوى يمكن أن يحلّق في رحابه إنسان ويلتحم بآفاقه؟ “وفيه يكتب وفد الله الذين يفدون عليه” أن تكون وفد الله، أن تكون ضيف الله ضيفا فعليا، أن تُقبل وفدا يتقدم العباد إلى الله، متاح لك أن تنال هذا الشرف في هذا الشهر الكريم. تريد عضوية في هذا الوفد؟ دنياك كلها بلا طاعة لا تكسبك عضوية هذا الوفد، وطاعتك هي حسب التي تكسبك عضوية هذا الوفد.

يتشرف الدنيويون بأن يكون أحدهم وفداً لروسيا، وفدا للبيت المسمى بالبيت الأبيض، ويتشرف المؤمنون أن يكونوا من وفد يفد على رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله، فكيف بأكبر وفد؟ أكبر وفد هو وفد يفد على الله مرضيا. اللهم وفقنا أن نفد عليك مرضيين.

وهذا موسم يعطينا هذه الفرصة يا أخوان. “…وفيه ليلةٌ العمل فيها خير من العمل في ألف شهر” الف شهر تساوي ثلاثا وثمانين سنة وثلث السنة، وقد تكون هذه المدة كلها يقظة، وكلها عملا دؤوبا. ليلة واحدة في شهر رمضان المبارك تعدل هذا العمر الطويل من أعمار الناس. تكفي هذه الليلة لأن نقوم ونقعد، ونقوم ونقعد، ونقوم تكريماً لهذا الشهر، وأن نمسك بدرب الجدّ من غير تراجع.

والقلوب هي الأهمّ. الجوارح يجب أن تَعبُد، لكن بحيث تكون وراءها عبادة الجوانح، عبادة القلوب.
ومن دعاء زين العابدين (ع) “السلام عليك يا شهر الله الأكبر – أكبر من شهر زواجك، أكبر من شهر يعود فيه أحبّتك من سفر بعيد، أكبر من شهر تكون فيه النقلة في حياتك من فقر متقع إلى غنىً واسع – ويا عيد أوليائه…”. أولياء الله يهمّهم أن يحبّهم الله، وأن تكون حياتهم معراجاً لرضوان الله، وهم ينفتحون على فرصة واسعة من نيل المغفرة والرحمة والرضوان في هذا الشهر فهو الشهر العيد.

ومن خطبة منقولة عن رسول الله (ص) “أيّها الناس قد أقبل إليكم شهرُ اللهِ بالبركة والرحمة والمغفرة، يطرق عليكم الأبواب، لو طرق عليك الباب طارق بوظيفة كبيرة من وظائف الدنيا بهدية مليون دينار، بهدية أرض خمسة كيلوات في خمسة كيلوات، كيف تكون؟ هذه بركات الله، مغفرة الله، رحمة الله، هذا الشهر يطرق علينا أبواب بيوتنا، ويخاطب فينا عقلنا ووعينا، ويتحدث لوجداناتنا، وأفئدتنا أن هبوا، أن قوموا مستبشرين مستقبلين لفيوضات هذا الشهر الكريم – ، شهر هو عند الله أفضلُ الشهور – يستمر السياق حتى يأتي هذا القول – ….. هو شهر دعيتم على ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله: أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب…..”.

فرصة واسعة جدّاً جدّاً، وموسم مشبّع بالروحيات، وهناك ألطاف إلهية خاصة تغطّي أفق الأرض، وفعاليات تحيط بالإنسان المؤمن تذكّره بربه، تنبّه فيه جانبه الروحي، إذاً يترتب على ذلك شيء.

ولذلك يأتي عن الباقر (ع) عن رسول الله الأعظم (ص) “… فمن أدركه فلم يُغفر له فأبعده الله….”. دعاء(1) من رسول الله فيما تُنقل الكلمة على هذا الذي يأتي عليه شهر رمضان ولا يتأهّل لمغفرة الله، على سعتها، ومغفرة الله في شهر الرحمة والمغفرة، وفي ظلّ هذه الأجواء.

إذا لم يتأهل شخص لتلك المغفرة فأبعده الله عن رحمته. لماذا؟؟ هذا الذي يحرم من مغفرة الله في هذا الشهر لا يكون إلا أخسّ إنسان، لا يكون إلا بنفس حشرية، بنفس هي نفس الدود، و إلا فلو كانت له إنسانية لغطّته رحمة الله الواسعة في هذا الموسم المشبّع المهيّء بأجواء المغفرة.

النقطة الثانية: كيف نستقبل هذا الضيف؟

كأنّ الوقت لا يسع، ولكن ونحن ندخل هذا الشهر الكريم نحاول أن نخلع كل أثواب الجاهلية ونلبس حلل الإيمان، وأثواب الجاهلية ظلمات للقلب والروح، وأثواب الإيمان أنوار للقلب والروح. بهذا نستقبل شهر رمضان.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد وتجاوز عنا وعن اخواننا المؤمنين والمؤمنات، واجعلنا من أهل شهرك الكريم بحق… ممن يُراعي حرماته، ويفوز ببركاته، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وأقربائنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا أهل الخير كله، ويا أهل التقوى والمغفرة يا رحيم يا كريم.

بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق الأشياء، وقدَّر آجالها، وبسط الأرزاق، وهدى إلى سبلها، وفرض التكاليف وأحسن تقديرها.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهلُ العبادة، لا أهل لها دونه، ومرجع العباد لا مرجع لهم سواه، أوَّل قبل كل أول ولا أوليَّة له، وآخِر بعد كلّ آخِر، ولا آخِريَّة له، جلَّ وعلا ربنا وهو العلي العظيم. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله زكّاه واصطفاه، وهداه سبلَه، وأودعه وحيَه، وحمَّله رسالاتِه. صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي التي أُشفق عليها من غضب الله بتقواه، وطلب رضاه، وأن لا تستوقفنا الأحداث ما صغر منها وما كبر عن السير المعنوي للآخرة، – وفي قراءتكم للصحف اليومية، وانكبابكم على هذه القراءة ما قد يكون صارفا عن ذكر الله فالتفتوا أيُّها الأخوة – ولا حدث مطلقا يصرف أهل التقوى عن الآخرة. ولا خير ولا شر، من خير الدنيا وشرها، ولا فرح ولا حزن فيها، ينسيهم ما يستقبلهم بعدها.

اللهم لا تجعلنا ممن تستغفلهم الدنيا وأهلُها -والدنيا تستغفل وأهلها يستغفلون – أو ينسون مسؤوليتهم فيها. اللهم صلّ على محمد وآل محمد هدى العالمين، وخاتم المرسلين، وحبيب قلوب المؤمنين، والرحمة من ربّ العالمين. اللهم صل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. اللهم صلّ وسلّم على الهادية المهدية فاطمة الزكية. اللهم صلّ وسلّم على إمامي الهدى، وعلمي التقوى، النقيين الزكيين الحسن بن علي وأخيه الحسين.

اللهم صل وسلم على أئمة المسلمين وهدى العالمين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري الراضين المرضيين.

اللهم صل وسلم على ولي العصر، والمبشر بالنصر، وقائد الهدى، وإمام التقوى، المرتضى والمؤتمن، محمد القائم بن الحسن. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعلنا جنداً له وظهيراً.

اللهم الموالي له، المعادي لأعدائه، المهتدي بهداه، الممهد لدولته، والفقهاء الأتقياء، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين من أهل الإسلام، والعاملين في سبيلك أيدهم وسددهم وثبِّت على طريق الهدى خطاهم، وحقّق أمل الأمة فيهم يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيّها المؤمنون فأتناول في حديثي هذا بعض القضايا التي يهمُّ تناولها:
القضية الأولى:

‌أ- من كلمات المسؤولين الأمريكيين وأفكارهم:-
كلمة، مضمونها على الأقل هو هذا:

1. إنّ الولايات المتحدة تريد أن تكون قوة محررة تكرِّس نفسها لإحلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي.

تمشياً مع فكرة أن الديموقراطية هي المنقذ؛ أمريكا المكرّسة نفسها لإحلال الديموقراطية كيف تبارك الديموقراطيات وإن كانت مزوّرة في كل الدول الصديقة، وكيف تقدم دولاً لا ديموقراطية فيها مطلقاً على دول تأخذ بقدر كبير من الديموقراطية ؟! والجواب أنّ المهم هو المصلحة، والديموقراطية المطلوبة في العالم الإسلامي نوع ديموقراطية تحدده المصالح الأمريكية وتقوده شخصيات يراد لها في مثل العراق أن تكون مفصّلة على مقاس كرزاي.

والحرية المخطط لها للعالم الإسلامي، والتي تسعى أمريكا لتركيزها ليست هي الحرية السياسية، كما تعلمون جيداً، وإنما هي حرية الاستهتار الجنسي الساقط وتطاول الوسائل الإعلامية، وكل الألسنة الساقطة على الدين ورموزه وقيمه ومقدَّساته، وطرح الأفكار الإلحادية والتحلليَّة كما تشاهدون تماماً في أكثر من مكان. الحرية التي يراد أن تُثبّت في عالمنا الإسلامي على اليد الأمريكية هي حرية فوضى الجنس، هي حرية شتم الدين، هي حرية التعدي على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم، وأنتم تقرأون في بلاد سرت فيها هذه الحرية كلمات تنال من قدسية الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وتنال من شأن الله العزيز الحكيم.

هناك حسب المسموع في بلد إسلامي عريق ويتجه للإسلام على طريق الكفاح المر ويواجه الدنيا من أجل إسلامه، ومن خلال بعض العناصر الفاسدة تأتي هذه الكلمة: لنا حق أن نخرج في مظاهرات ضد الله، ويريد أن يحاكم بديموقراطيته الغربية اللهَ، يريد أن يحاكم بحريته الخالق العظيم، هذه هي الحرية التي تبشّر بها أمريكا وتعطيكم إياها.

2. “إن هناك عناصر إصلاحية في العالم الإسلامي نريد دعمَها” هل يظن أحدٌ أن العناصر المعنية عناصر دينية خيّرة تريد للأمة أن تعيش أصالتها والاعتزاز بهويتها والحفاظ على قيمها وثرواتها، وولاء أبنائها لها؟! أو هل تظنون أن هذه العناصر التي تدعمها أمريكا عناصر وطنية أو قومية تراعي المصلحة القومية والوطنية قبل مصالح أمريكا؟! طبعاً لا هذا، ولا ذاك.
العناصر المدعومة هي العناصر التي تعمل على التغريب والأمركة لهذه الأمة، وتعمل ليلاً ونهاراً على تركيز الفكر الأمريكي والأخلاقية الأمريكية المبتذلة على الأرض في بلاد المسلمين، وتسوق بما تنتج من إثم وضلال، وزور القول، وفحش الكلمة، وبما تروج له من أرذل السلوك الشباب والشابات في ديار الإسلام إلى هاوية السقوط الخلقي، ورذيلة الزنا، واللواط والعربذة المنفلتة. هذه هي العناصر الإصلاحية التي تتوجه أمريكا بدعمها في عالمنا الإسلامي. وعلى ذاك اعرفوا أصحاب الشعارات.

3. “التفوق الأمريكي في الجانب العسكري يفرض مسؤوليات لتأمين محيط آمن تزدهر فيه بعض القيم”.
لا بد أن تكون هذه القيم هي التبعية الذليلة لأمريكا، وقبول استنزاف ثروات البلاد الإسلامية، والسقوط في أحضان السياسة الأمريكية النفعية، وأنواع الانحلال الخلقي الذي بدأ يقتحم على المسلمين مواطنهم موطناً موطناً، ومدينة مدينة، وقرية قرية، وبيتاً بيتاً، وهو انحلال واسع يقف الأمريكان أمامه في بلادهم عاجزين عن التخلص من آثاره الفتاكة، ويتوقعون له أن يُلقي بهم رخيصين في مزيلة التاريخ. السلاح النووي ممنوع عن البلاد الإسلامية، التقدم التكنولوجي ممنوع عن البلاد الإسلامية، التقدم العلمي ممنوع عن البلاد الإسلامية، المسموح به التبذل الخلقي، الإيدز، الفحشاء، الحفلات الماجنة في الجامعات وفي كل المحافل، المخامر. هذا هو المصدر لنا.

ثانياً: النفط هو القيمة العليا:-

حضارة المادة لا خلق ولا إنسان ولا قيم فيها إلا قيمة المنفعة، والمنفعة تتركز بدرجة كبيرة اليوم في النفط. والاختلاف والتوجس من بقاء النظام العراقي وذهابه لتحل محله السيطرة الأمريكية منشؤه نوع القسمة والحظوظ التي قد تتفاوت كثيراً في ظل هذا الطرح أو ذاك، هذه النتيجة أو تلك.

ولا فرق بين أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا وحتى حكومات عربية في هذا الأمر. هناك حكومات عربية تصرّح بأنها ستخسر نفط العراق المتدفق عليها حين تقوم حرب وتطلب تعويضا عن ذلك، وإذا حصل التعويض فلا بأس بضرب العراق، وحسن ضرب العراق.

إذاً والعالم هذه قيمه، وهذا انحطاطه لا بد أن يواجه درساً تكوينياً عاماً وفجيعة شاملة، ولا بد أن يقوم على أنقاض هذا الكيان العالمي المنهار نظامٌ إلاهي عادل يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونوراً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً وشراً، والقيادة لإمام العصر عليه السلام.
ومن ناحية عملية فعلية لا يعمل على نقل الأخلاقية “الغربية المهترئة، والتحلل الغربي ونظام العلاقات الأسرية في الغرب وخصائص الحضارة المادية هناك إلى أرض الإسلام إلا خائن لبلده وقومه وأمته.

ثالثاً: موقفان مخجل ومشرف:

يُتوقع من الجامعة أن تكون مركز إشعاع علمي وروحي، وموقعاً من المواقع التي تغذي المجتمع بقيم حضارته الإنسانية الراقية، وتعمل على إعداد الشخصية الإنسانية المتكاملة، والمواطن القدوة علماً وإيماناً وخلقاً وفاعلية صالحة، وروحية مشعة، وإرادة صلبة خيرة، وتستعيد عزّة الأمة وكرامتها وريادتها من خلال أفواج الخريجين والخريجات ممن قد تم بناؤهم بناء رصينا في جميع أبعاد الشخصية الإنسانية المتكاملة وفي مقدمتها البعد الإيماني والعلمي والخلقي.

ومخجل جدّاً، وسيء جداً لأن تخطط الجامعة للأجيال المسلمة ومنها الجيل الحاضر لأن تكون رقاصة شهوانية متحللة مخمورة مأسورة لسُكر الهوى، وسكر الشراب، وسكر الخوف الأمني، وسكر التضليل الثقافي، وكل مخدِّرٍ قتال.
ومشرّف جدّاً هذا الموقف الخلقي الكريم للطلاب والطالبات الذي وقفوا من منكرات الجامعة مع صوت الدين وصوت الضمير، وصوت الأمة المسلمة التي ترفض القذارة والتحلل والسقوط، وترى في هذه المحاولات مخططاً رهيباً للقضاء على هويتها ومصادرة حاضرها ومستقبلها، وعبثاً مكشوفاً بواحدة من أغلى شرائحها؛ شريحة الشباب والشابات، واستئصالها لقوة هائلة من قواها.

إن الجامعة ملك المجتمع وتتغذى بأمواله، وقوامها من أبنائه، وهو مجتمع مسلم وسيبقى مسلماً إن شاء الله، وهذه الأجواء المعادية للإسلام إما أن يراد منها محاربة الإسلام في نفوس الطلاب والطالبات وهدمه نهائياً لمصلحة الحضارة المادية والبلاد الأجنبية، أو حرمان الشباب المسلم والشابات المسلمات من الفرص الدراسية لتبقى حكراً على هواة الغرب وصنائعه. ومن حق المجتمع المسلم أن يسائل أصحاب القرار في الجامعة عما يُفعل بأمواله، وبفلذات كبده، وبدينه، ومصلحته، واستقلاليته، وهويته وحاضره ومستقبله.

في جواب لمسؤول اجتمع الطلاب به لمناقشة أحداث الرابع والعشرين من أكتوبر الحالي في الجامعة، وما حفلت به من مظاهر يشمئز لها الضمير الديني والخلقي، وتمثل استهزاءاً بدين المجتمع وقيمه، وحين اعترض الطلاب على اللباس المتهتك الذي ظهرت به بعض الفتيات المشاركات قال المسؤول بأن ما تراه لباساً غير محتشم، يراه غيرك وهو يُظهر مواضع الفتنة ويسلط الضوء على أماكن الإثارة من جسد المرأة ويخاطب الشباب بلغة الغريزة الصارخة، ويستثير ويستفز حيوانية النفس محتشماً -إذا كنت تراه غير محتشم فغيرك يراه محتشماً – وهذا جواب خطير يريد أن ينسف القيم، ويعتبرها تقديرية نسبية؛ المرجع فيها الهوى والرأي الشخصي، ولا مرجعية في ذلك لله ولا للرسل والدين. وهذا مبدأ خطير، يعني لا دين على الأرض، يعني: أرض ليست لله، أرض لهوى شخص خلق هواه الغرب، أرض لامرأة – والحديث لا يعني الفتيات المشاركات – قد تتسلم ألوف الدولارات من أجل تعطي مثالا في التعري. ولرجل متهتك فاسق بقلمه وتصرفه هو داعية حضارية للغرب وعميل حضاري للغرب.

والنظرة التي طرحها هذا المسؤول، هي نفس النظرة الغربية التي يراد أن تحاكم بها القضايا، ويقضى بها في مختلف الأمور، وهذا يعني بالضبط الإلغاء الجذري للأمة العملاقة ودينها وقيمها.

إننا نستنكر كل الاستنكار أن تحوّل الجامعة إلى ملهى، وإلى مخمرة، وإلى مركز إفساد خلقي، وتضليلٍ فكري، وأن تكون عدواً لدوداً لدين المجتمع وأخلاقيته وقيمه واستقلاله.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وسلِّم لنا ديننا ودنيانا، واكفنا شر ما يعمل الظالمون في الأرض، واغفر لنا، ولأهل الإيمان والإسلام ولوالدينا وأرحامنا وأقربائنا وجيراننا وكل ذي حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

بسم الله الرحمن الرحيم.
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فيما يظهر.

زر الذهاب إلى الأعلى