خطبة الجمعة رقم (79) 27 رجب 1423هـ – 4 أكتوبر 2002م
مواضيع الخطبة:
الدنيا(2) – مبعث الرسول – مرجعية الاجتهاد –
وقود الدين – الرأي الشرعي في الانتخابات وغيرها
خلق الإسلام الإنسجام في داخل الشخصية الإنسانية للفرد، وفي داخل الأسرة وفي داخل المجتمع وهو قادر على أن يخلق الإنسجام في كل الدنيا إذا مكّن من قيادة الحياة
الخطبة الأولى
الحمد لله حمداً يوافق رضاه، ويكون سبيلاً للمزيد من رحمته، ووسيلة لتواتر ألطافه، والفوز برفيع الدرجات من كرامته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مبلغ لِمِدحته، ولا إحصاء لجليل نعمه من أحد من خلقه.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالدين الأتم، والهدى الأعم، والشريعة الأكمل. صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.
عباد الله اتقوا الله، وتذكَّروا أنَّ ما من نعمة إلا من عنده، وما عصاه أحدٌ إلا بإساءة النعم من فيضه، وما أطاعه أحدٌ إلا بما في يده من آلائه، والتوفيق من فضله، فإن يُذنب أحدنا فبتحريف النعم، وإن يستقم فبتوفيق مضاعَفٍ من المنعِم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعل نعمك عندنا مشكورة، وأياديَك مقدَّرة، ولا تجعل نعمك عندنا على أيدينا نِقَماً تنتهي بنا إلى غضبك، وتصير بنا إلى لظى نيرانك يا كريم يا رحيم.
أما بعد فعودة للحديث عن الدُّنيا في كلمات من أُمِّ الحِكَم، عن مصادر الحكمة الذين لا يُجارَون علماً ولا هدى ولا حكمة.
هكذا تفعل الدنيا:-
“…. فارفض الدنيا فإنّ حبَّ الدنيا يُعمي ويصم ويبكم ويذلِّ الرقاب” (عن أمير المؤمنين عليه السلام).
“قال الله لداوود: يا داوود. احذر القلوب المعلّقة بشهوات الدنيا فإن عقولها محجوبة عنِّي”.
هكذا تفعل الدنيا، حبها يذهب بعقل الإنسان، حينما يُعمي لا يعمي البصر الحسّي إنما يعمي البصيرة، والبصيرة أغلى، وحينما يصم يصم سمع القلب، وحينما يبكم يبكم صوت الفطرة في الذات، معنى ذلك أن الدنيا لا تبقي من إنسانيتنا شيئاً حين يكون تعلّقنا بها، ولو أعطى أحدنا حبّه الدنيا حتى حلالها فضلا عن حرامها لصرفته عن بناء نفسه، وأعمته عن رؤية ذاته. الدنيا يجب أن نبقيها دائما كما تقدم جسرا للآخرة ومزرعة خير لها.
القلوب التي تتعلق بشهوات الدنيا عقولها تفقد الرؤية لله، (..عقولها محجوبة عنّي) كل عقل قادر على أن يرى خالقه، وليس شيء أقدر على رؤية الخالق من العقل، ولكن هذا العقل يقوم بينه وبين رؤية الله حجاب، حتى أن النملة ترى ربها والعقل الكبير في الإنسان تعمى بصيرته ويُحجب عن رؤية الله. ذلك من حب الدنيا، من إعطاء الذات لشهوات الدنيا.جرب أن تركض وراء شهوة فستجد أنك خسرت من إنسانيتك ما لا تقدّر.
حبّها يتعب فيها ويشقى:-
“من تعلّق قلبه بالدنيا تعلّق قلبه بثلاث خصال: هم لا يُغني، وأمل لا يُدرك، ورجاء لا ينال” “الصادق(ع)”.
نحن نطلب الدنيا من أجل أن نسعد فيما نرى، بينما التعلق بالدنيا دنيا الشهوات ودنيا اللذائذ بحيث يبيع أحدنا نفسه للذة والشهوة لينسى دوره الخلافي في الأرض، يخرج بالدنيا عن وظيفتها مرتين: نحرم فيها بناء الذات، ونخسر لذتها ونشقى. نعم بدل أن نسعد بها نشقى.
إذا اجتمع الهم وهو هم لا يغني، ولا يوصل إلى المطلوب أتعب وإذا كان الركض وراء أمل ميؤوس من الوصول إليه أشقى، وكثيرا من الناس ما تتحطم شخصياتهم لطموح أكبر من الإمكان، وطموحُ أن يجمع أحدنا الدنيا كأول من يجمعها، وكأكبر جامع لها طموح لا يصل إليه أحد فإنه قد يستغنى في جانب ولكن يكون أدنى من غيره في جوانب أخرى. الدنيا ليست المال فقط… الدنيا أمور كثيرة وقد يجتمع بيد من جانب منها ما لا يجتمع بالأيدي الأخرى، لكن هذه اليد تفتقد الكثير الكثير مما للآخرين. فحين يكون الطموح أن نكون أكبر رقم في الدنيا فإن السائر على درب الدنيا لا يشبع (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال)، ولكن فرق بين المنهومين منهوم يكمل، ومنهوم تتناقص شخصيته، طالب المال تتناقص شخصيته إذا كان المال هدفا له، وطالب العلم تكمل شخصيته إذا كان هذا العلم لله لا لغيره.
“من تعلّق قلبه بالدنيا تعلّق قلبه بثلاث خصال: هم لا يُغني، وأمل لا يُدرك، ورجاء لا ينال”. “إنه ما سكن حب الدنيا قلبا -على خلاف المكتوب في المصدر الذي رأيت، والقراءة الصحيحة (قلباً) كما قرأتها – إلا التاط بثلاث: شغلٌ لا ينفذ عناؤه، – طالب الدنيا دائماً في كدح، حتى في فراشه وهو يكدح فكرياً من أجل الدنيا ويشتعل هم الدنيا في داخل نفسه ويدخل في حساباتٍ دنيوية لا تفتر- وفقر لا يدرك غناه، – هذا المليونير فقير فقرا لا يدرك غناه، الفقير بما في يده وهو يتطلع إلى مائة دينار حين تتيسر له المائة دينار يغنى، أما الفقير في نفسه والذي يطلب كل الدنيا فإن هذا الفقر لا يغنيه شيء؛ لأن الدنيا لن تكون كلها بيد واحدة، على أن الطامع في الدنيا لو تضاعفت له خمس مرات وأكثر لم يشبع، فهنا فقر مشكلته أنّه لا غنى معه – وأمل لا ينال منتهاه”. “من كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها” وهو تعب في كلّ دنياه، تعب عند مفارقته للدنيا كذلك. فرقٌ بين سلمان المحمدي الذي لا يترك إلا ما تحتقره العيون -وهذا الرجل وهو على هذا الحال يحاسب نفسه عند الإحتضار على أن ما تركه لا تقصده عين بنظرة لضآلته وسقوط قيمته- فرقٌ بين هذا الرجل وهو يغادر الدنيا، وبين رجل رفهت الدنيا بيده، وهو يرى الدنيا كل جنته، وهو منشد إليها تمام الإنشداد هنا تكبر الحسرة ولا شك.
لا ترخص نفسك الغالية، أنت خليفة الله، أنت من سُخِّرت له السماوات والأرض، من أجل العبد الصالح والناس الكمل خلقت هذه الدنيا، وحين يبيع أحدنا نفسه بالدنيا فقد أرخصها إلى حد الإسفاف والسفه، الدنيا ما هي؟ ذهبٌ، فضةٌ، خيلٌ، حقول، طائرات، جمال مادي، إلى غير ذلك.. هذا مخلوق للإنسان. حين يتحول الإنسان عن مكانته العليا من بين كل هذه الكائنات ليبيع نفسه بثمن بخس منها، ماذا فعل بنفسه؟ تقول الكلمة الأتيه عن أمير المؤمنين عليه السلام أين الأحرار الذين لا تشتريهم الدنيا؟ “ألا حرٌّ يدع هذه اللماظة- بقية الطعام في الفم، دنيانا كلّها عند أمير المؤمنين عليه السلام هي كبقية الطعام في الفم- لأهلها –أي الساقطين، أي أهلها السفهاء؛ الذين فقدوا وزنهم- إنّه ليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها” هذه وصية إمامكم لا تبيعوا أنفسكم إلا بالجنة. وبم حلت الجنة وبما سمت، وبما اشتهاها أمير المؤمنين عليه السلام؟! هل بحورها؟ بأنهارها بأشجارها؟ لا وإنما برضوان الله فيها، وهو الأكبر وهو مطمع أمير المؤمنين عليه السلام.
عظام يتسامون:-
هذا وصف لرسول الله صلى الله عليه وآله “فأخرجها من النفس –أخرج الدنيا من النفس، رسول الله صلى الله عليه وآله نقّى نفسه من الدنيا، أي من التعلّق من الدنيا وحب الدنيا-، وأشخصها –أي أبعدها، إبعاد قهر قسر، فالإشخاص كأنه إبعاد قسري. أبعدها باختيارها، بقرار صارمٍ منه صلى الله عليه وآله وسلم- عن القلب، وغيَّبها عن البصر- غينها عن عالم الداخل وحتى عن عالم الخارج. ستارة فيها تصاوير على باب البيت أمر بإزاحتها بإزالتها حتى لا يقع بصره على هذه الدنيا المغرية. رسول الله المعصوم لا يريد أن يبتلي بالنظر الظاهري المادي للدنيا أتسطو الدنيا على نفسك يا رسول الله لو رأيتها؟ أو أنك تقول لنا احذروا أيها الضعفاء؟-، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه –رسول الله رأى ملك كسرى وقيصر يصير بيد المسلمين فلم يأخذ من نفسه، وهو يبشر به المسلمين، وكان الحاكم الذي لم يضع حجرا على حجر.. إنه المعلم الذي يريد أن يلقّننا درساً نحتاجه إلى الأبد.
“إنّ دنياكم لأهون من ورقة في فم جرادة تقضِمُها –ما مقدار الورقة التي يحملها فم الجرادة؟ وما تنال الجرادة من هذه الورقة بقضمها؟ الدنيا العريضة بكلّ ما تطلع عليه الشمس يقول علي عليه السلام أنها أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. لماذا؟ لأن نفسه عملاقة، لأن عقله مفتوح، لأن إحساسه بذاته حاضر، لأنه الإنسان الكامل، أما أنا الذي تجتذبني الدنيا فلأني صغير، لأنني منسحق الذات. مالعلي ولنعيم يفنى”. هو علي هذا؟! علي الكبير ينساق وراء نعيم يفنى، وله نفس تبقى؟
كبار صغار، وصغار كبار:-
الكلمة في الظاهر عنه عليه السلام:”أيّها النّاس إنما أخبركم عن أخ لي كان من أعظم النَّاس في عيني عظيم” في عين علي عليه السلام، ماهو هذا الأخ؟ وكان رأس ما عظُم به في عيني صغر الدنيا في عينه….”. لم يلفت نفس أمير المؤمنين عليه السلام من هذا الأخ علمه، موقعه الاجتماعي، موقعه السياسي، عَرْضُ الدنيا في يده وعَرَضها وإنما الذي جعله كبيراً في نفسه أن الدنيا صغيرة عند ذاك. هذا صغير في الحيثيات التي تهتم بها المجتمعات المادية التي تنظر إلى أوزان الناس على أساسها، كبيرٌ في شيء؛ في صغر الدنيا في نفسه. لكن أتدري متى صغرت الدنيا في نفس هذا؟ إنما صغرت الدنيا في نفسه لأن نفسه عالية، أما المال ماذا يفعل في النفس؟ المركز الاجتماعي والاجتماعي ماذا يفعل في النفس؟ ماذا يعطيها؟ فلان في الابتدائي اسمه فلان، حين يقطع مراحل العلم يسمى آية الله العظمى، ماذا فعلت في نفسه آية الله العظمى؟ غيّرت واقعه؟ ذاته؟ إن كان في ذاته صغيرا، وقد يكون أصغر منه في الابتدائي، سيبقى صغيراً وإن أخذ عنوان آية الله العظمى. قد يكون مزيد العلم قد صغر به، ذلك لو كان في الابتدائي يقف موقف الرجولة أمام إغراءات الدنيا ومطامعها، وبعد كونه آية الله العظمى ينخدع للدنيا أو ينهزم أمامها.
“من كرمت نفسه صغرت الدنيا في عينه” (علي.ع.). ومن هذا المنطلق كبر ذلك الذي صغرت الدنيا في عينه في نفس أمير المؤمنين عليه السلام، لما دلّ عليه صغر الدنيا في عينه من كرامة نفسه وسموّها.
في حديث المعراج –أرجو أن نركّز ذهننا جيّداً جيّداً على هذه الكلمة- “يا أحمد-الرسول صلى الله عليه وآله، من خطاب الجليل له كما في الرواية، أو هو خطاب جبريل…- فاحذر أن تكون مثل الصبيّ –أنت بوزنك الكبير، احذر أن تكون مثل الصبي، يا فيلسوف يا فقيه يا صاحب موقع سياسي، يا صاحب موقع اجتماعي، يا أصحاب كل المراكز، يا من قطعتَ الحياة الطويلة تجربة وخبرة ودراسة احذر أن تكون مثل الصبي- إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبَّه –الصبي ما شأنه؟ كل عقليته وكل ذاته ينساها لرؤية الأخضر والأصفر، وعند رؤية الألوان. أنا عندما أنسى نفسي أمام رؤية سيارة، أمام رؤية بيت، أمام رؤية حقل، أمام رؤية أي شيء صغير أو كبير من الدنيا أكون صبيّاً يا أخوان. – وإذا أعطي شيئاً من الحلو والحامض اغترّ به”. الدنيا هي طعام وشراب ونكاح وألوان وأزياء وموضات؛ فأي شيء منها يسحرك ويكون ثمن شخصيتك فأنت صبي، فاحذر أن تكون صبياً.
وصيَّة الأمير:-
ألا نقول أنّه أمير المؤمنين عليه السلام؟ وأننا مؤمنون؟ واخترناه إماماً؟ هذه وصيته:
“احذروا الدنيا فإنها عدوة أولياء الله، وعدوة أعدائه – هي عدوة لأولياء الله، وعدوة لأعداء الله-، أمَّا أولياؤه فغمَّتهم –لما يرون فيها من ظلم وغمط حق، وعلو الصغير، واحتقار الكبير، إلى آخر أخلاقيَّاتها المتردية، وتغمّهم من ناحية أخرى أنها تقف في طريقهم وهم يعرجون إلى الله -، وأمَّا أعداؤه فغرّتهم”. كيف هي عدوّة لأعدائه؟ حوّلت الرجال صبية، وأذهبت العمر العزيز، وجعلت الإنسان المؤهل لأن يكون أكبر من الملك أخس من الحشرات، فكيف لا تكون عدوّة لهم؟! وكيف لا يبغضونها لولا غفلتهم وتفاهتهم؟!
اللهم صلّ على محمد وآل محمد واهدنا بهداهم، واسلك بنا درب الطاعة الذي سلكوه، وانأ بنا عما نأيت بهم عن معصيتك، والاغترار بدار الغرور، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقّ خاصٌّ علينا من أهل ملّتك ولعموم أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا غفور يا رحمن، يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
الخطبة الثانية
الحمد لله العالم أزلاً الذي لا يعزب عن علمه ذرة في السموات والأرض وهو بكلّ شيء محيط، لا يتغير علمه، ولا تطرأ عليه زيادة ولا نقصان. بعلمه تقوم الكائنات، وينتظم الكون، وتصل المخلوقات أرزاقها، وتنحفظ لها أقدارها، وتنتهي عند آجالها.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ما من خالق غيرُه، ولا ربّ سواه، شكره واجب بِفَطِر العقول، وعبادته ثابتة في المعقول والمنقول. وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، ما نطق بغير الصدق، وما جاء بغير الحقّ، وما حارب إلا جوراً، وما حكم إلا عدلاً. صلى الله عليه وآله وزادهم شرفاً وكرامة.
عباد الله أوصيكم ونفسي – وهي أحقُّ من أُوصي- بتقوى الله خالق العباد، ومالك الرّقاب، الذي لا يُغني رضا من كان عن رضاه، ولا ينفع مع غضبه رضا من عداه، وكيف يضرّ غضب المملوكين إذا رضيَ الخالق، أو ينفع رضا المقهورين إذا غضب القاهر؟! إنَّ أحداً لا يرجو خيراً، وغير الله له واجد، وهو سبحانه له فاقد، أو أنّ غير الله به سخيٌّ، وهو سبحانه به بخيل. هو الواجد للخير الذي لا يجده المخلوقون، الجواد بالعطاء الذي يبخل به المرزوقون.
من الغمة، السراج المنير والبشير النذير عبدك المصطفى محمد وآله أهل الهدى. اللهم صلّ وسلِّم على إمام المتقين علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. اللهم صل وسلم على المختارة من النساء للمباهلة والكساء؛ أمتك الطاهرة فاطمة الزهراء. اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الطاهرين، والسبطين الزكيين عبديك الحسن بن علي بن أبي طالب، وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وقدوات المؤمنين الهادين المهديين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري حكام الدنيا والدين.
اللهم صلّ وسلّم على منتظر المؤمنين وإمام المسلمين والرحمة من ربّ العالمين الزكي بن الزكي القائم المهدي. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً قريباً، واملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. اللهم سدّد وأيد وانصر الموالي له، الممهد لدولته، المنتصر لقضيته، المعِدّ لأيامه، والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء والمجاهدين الأوفياء من خَدَمَة الإسلام وأنصار الإيمان سددهم وأيّدهم وانصرهم يا قوي يا عزيز.
أما بعد فهذه أفكار لا بد منها:
1- اليوم ذكرى مبعث الرسول صلى الله عليه وآله، وحلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. حلال محمد إنما تلقّاه من ربّه، وحرامه إنما تلقاه من ربه، وعلم الرب لا يحول، ولا يطرأ عليه طارئ يغيره، لذا لزم أن يكون حلال محمد حلالاً إلى يوم القيامة، وحرامه حراماً إلى يوم القيامة. ما ثبت أنه حلال محمد يجب أن يبقى حلاله، وما ثبت أنه حرام محمد يجب أن يبقى حراماً، والقضيَّة قضية إثبات فقط. هذا يجب أن يكون واضحاً لكلّ مسلم، ومن لم يسلّم بهذا فلا معنى لإسلامه، لا معنى لإسلام من يؤمن بأنّ هذا الحكم حكم الله في العباد، ومع ذلك يقول لهذا الحكم: لا. الإسلامُ حكمً، وما اصطدم في حكمه لا بضرورة من ضرورات الحياة، ولا بمصلحة من مصالحها. ما كانت هناك مصلحة اجتماعية، ومصلحة دنيوية تصب في نفع الإنسان وقد عطّلها الإسلام، بل نشط الإسلام الحركة المادية إلى أقصى حد، وطور حركة الإنسان في الحياة، ودفع بها إلى الأمام، وسبق أن خالق الآخرة ورب الآخرة، هو خالق الدنيا وربّها ورعاية الله للإثنتين.
تقدمت الحركة المادية في الحياة على يد الإسلام ولا تاريخ في الغرب ولا في الشرق يمكن أن ينكر ذلك، بل سرت الحركة، وتحرك المسار الفاعل للإنسان في هذه الحياة على يد الإسلام في الأرض غير الإسلامية، وشع نور العلم، ونور الحركة الدؤوبة للإكتشاف والاختراع في كل العالم وذلك ببركة الإسلام. الإسلام وهو يدفع بمسيرة الحياة إلى الأمام يضمن أن تبقى على خط القيم، وقد برهن على نجاح ليس فوقه نجاح على قدرته على خلق الانسجام بين متطلبات البدن ومتطلبات الروح.
خلق الإسلام الإنسجام في داخل الشخصية الإنسانية للفرد، وفي داخل الأسرة وفي داخل المجتمع وهو قادر على أن يخلق الإنسجام في كل الدنيا إذا مكّن من قيادة الحياة.
يُسأل: ماذا يريدون أن يغيّروا من الإسلام وفي الإسلام وهم مسلمون؟ مرة يكون الحديث مع غير مسلم، ومرة يكون الحديث مع إنسان مسلم، وحديثنا مع الإنسان المسلم الذي يقتضي إسلامه أن تكون بيننا وبينه مشتركات إسلاميَّة تكون هي الأساس في المناقشة. مسلم معناه أنّه مؤمن بالله، مؤمن بعصمة رسول الله (ص) وصدقه. على هذا الأساس، على أساس أنك مؤمن بالله، مؤمن برسول الله يكون النقاش، بعد أن أعلنت إسلامك.
هؤلاء النّاس وهم مسلمون ماذا يريدون أن يغيروا من الإسلام؟ الإسلام عقائد، وما كان عقيدة ثابتة في الإسلام وعلى مستوى الضرورة يكون إنكاره إنكارا للإسلام، ولا فرق بين أن نكذّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما جاء به، أو أن نكذّبه ونرد عليه الحكم في جزئية واحدة، ذلك كفر، وهذا كفر.
لو قال أحدنا لرسول الله أنا لا أقبل أن أصلي المغرب ثلاثاً، وأنا لا أراك صادقاً في هذا النقل، أو أنّك مشتبهٌ، لحُكِم بكفره بلا أدنى إشكال عند كل المسلمين. فالعقيدة الثابتة الضرورية بين المسلمين من أنكرها حكم على نفسه بالكفر عند كل المسلمين.
وإذا أنكر عقيدة من عقائد المذهب أخرجه أهل المذهب من هذا المذهب، هذا واضحٌ جدّاً، فهل نريد أن نجتهد في العقائد؟ لا يسعنا. هناك أحكام شرعية فرعية، كالصلاة والصوم والحج وما إلى ذلك، وكل أحكام المسائل، هذه الأحكام منها:
ما هو ضروري أيضاً، لا يغفل عنه إلا السذجة، الغفّل، الذين لا قدرة لهم على الالتفات، أما المسلم كل مسلم متأدّب بأدب الإسلام أو يعرف أساسيات الإسلام، يعيش جوا إسلاميا يعرف أن الصلاة واجبة والصوم واجب. هذا الحكم الشرعي الفرعي الضروري نريد أن نغيّره؟ لا يسعنا ذلك لأن في تغييره ردّاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وتكذيباً له، أو هو تكذيب لله مباشرة.
أحكام شرعية مقطوع بها عند الفقيه نفسه. الفقيه الذي يقطع بحكم من الأحكام لا يسعه أن يخرج عليه لأنه أيضاً في خروجه عليه خروج على الإسلام بحسب علمه هو نفسه.
أحكام شرعية دليلها اجتهادي.
هناك طائفة من الأحكام الشرعية الفرعية دليلها اجتهادي، وليس دليلها وجدانيا كما في لغتهم. المسائل الشرعية الفرعية ذات الدليل الاجتهادي هذه تكون محل الاجتهاد والاجتهاد ليس تشهياً إنما من أجل الوصول إلى ما هو واقع حكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم.
المرجعية مستوى اجتهادي يشهد به المختصون:
مرجعية الاجتهاد تتطلب مستوى فقهيا عالياً، واختصاصاً لا يعرف قيمته ومقداره إلا المختصون، وهذه الدرجة قد يدّعيها الشخص لنفسه وهو يعرف من نفسه ذلك فهو معذور بينه وبين الله عزّ وجل بالنسبة لنفسه، أما الآخرون فالدعوة لا تكفيهم إذا لم توجب لهم قطعاً أو اطمئناناً، وإذا حصل لهم الدليل من الخارج كالشياع أو البيّنة غير المعارضة ببيّنة أخرى ثبت ذلك.
مسألة الاجتهاد تخضع لقوانين وضوابط معيّنة ولا بد من مراعاتها، ثم العقلية المجتهدة التي يُقبل منها لا بد أن تكون عقلية إسلامية، يعني تعيش جوِّ الإسلام، مشبّعة بالقيم الإسلامية، تؤمن بالإسلام، تمتلك حسّاً إسلامياً، لها رؤيتها الإسلامية. يجوز أن يكون هناك شخص شيوعي ويدخل الدراسة في قم أو في النجف الأشرف فيبلغ درجة الاجتهاد من ناحية فنّية، لكن هذا لا يكون مرجعاً للأمة، إنّه مجتهد من ناحية القوانين الفنّيّة البحتة فقط لكن روحه ليست روح مجتهد. مرَّ في كلمة هنا أن لغة القرآن والسنة ليست لغة للعقل فقط، هي لغة تخاطب الذات الإنسانية بكل أبعادها، وأهم بعد فيها البعد الروحي، فحين يفتقد البعد الروحي، يفتقد هذا الإنسان من آلة فهم القرآن والسّنة بُعداً مهمّاً جدّاً وعنصراً أكيداً، فلا بدّ من كون العقلية عقليّة إسلامية.
ويشترطون في التقليد عنصر التقوى، عنصر العدالة، وإلا فليكن عالماً لنفسه، لا يسمع منه ولا يُؤخذ منه برأي.
2. وقود الدين:-
من جهة أخرى: ذكرى الإمام الكاظم عليه السلام كانت قريبة منّا، ذكرى استشهاده صلوات الله وسلامه عليه. وهي تذكّرنا بأن هذا الدين في قيامه وفي استمراره احتاج ويحتاج دائماً إلى وقود، ووقود الدين أغلى الرؤوس، وأطهر النفوس، وأكبر الشخصيات وبهذا استقام. متاعب الأنبياء، مشاقهم، نصبهم، كدحهم، استشهاد الأئمة عليهم السلام، العمالقة من الأنصار بما أعطوا، وقوافل الأولياء المضحّين المستشهدين في سبيل الله هو ما يمثّل وقود هذا الدين. وسيستمر الدين يطلب وقوداً، ويطلب تضحيات، ويطلب قوافل من الشهداء، والأمة الإسلامية غنيّة بهذا العطاء، وسيستمر عطاؤها على طول خطّ التاريخ ليبقى الدين وكلمة الله هي العليا.
الدين وهو لا يصادر رغبة من رغبات الحياة الدنيا الصالحة، ولا يواجه دافعاً من دوافع الإنسان المادية بالكبت… الدين وهو يطلق مسيرة الحياة لينعم الأحياء، وليعيشوا كباراً في الدنيا بدنياهم وبأخراهم، ليسكنوا المسكن اللائق بنفس أكبر منه، ويركبوا المركب الفخم ولكن بنفس أفخم منه، وبإيمان أكبر تصغر أمامه المادة وهذه سياسة الدين؛ أن يعطي للدنيا تقدّمها، ويعطي لها ازدهارها، ولكن يبقى الإنسان هو سيّد الموقف دائماً في الدنيا لا أنّه عبدٌ لأشيائها – الدين وهو يفعل ذلك إلا أنّ الشياطين وإخوان الشياطين لا يرتاحون لهذا الأمر، الشياطين وأخوان الشياطين وطغاة الأرض تقوم ربوبيتهم على إنكار ربوبية الله، ولا يرضون إلا بأن يكونوا أربابا، فالدين يواجه جبهة صلبة عنيدة شرّيرة متدفّقة مع تدفّق الأجيال، فمن هنا احتاج إلى الوقود من كبار الرؤوس ومن أعظم الشخصيات الإنسانية وإلا فالإنسان السوي بفطرته يحتضن الدين، لا أنه يحاربه حتى يحتاج الدين إلى هذه التضحيات.
3. قرأتُ في مقال صحفي:-
أن للعلماء تأكيداً بأنّه لا يوجد رأي شرعي في المشاركة في الانتخابات وعدمها. وأقول عن هذا الذي ذُكر: بأنّه خطأ؛ فالعلماء لم يقولوا ذلك ولا يجوز لهم أن يتفوهوا بمثل هذا الكلام، إذ ما من حادثة إلا ولله سبحانه فيها حكم. فكيف يقولون بأنه لا حكم شرعي هنا؟! ما من حادثة إلا ولله سبحانه فيها حكم.
وسكوت العلماء في المسألة ليس لأنهم لا يرون لها حكماً، ولا يعرفون الحكم أو الموضوع، وإنما لأنهم رأوا سكوتهم حكماً في حقِّهم.
4. وقّع بوش بأن القدس عاصمة لإسرائيل، ولكن المسألة تتوقف على توقيع الأمة. إذا كان قد تأخر توقيع بوش الرسمي على كون القدس عاصمة لإسرائيل إلى هذه الأيام، فإنه قد كان توقيعه منذ بعيد نية، وسلوكا، ومحاولة سياسية، لكنّ القرار ينتظر أن تستكين إرادة الأمة، فإن تستكن إرادة الأمة ينجح توقيع بوش، وإن تصمد إرادة الأمة فسيرتد ذلك التوقيع خاسئاً.
5. استمرار الانتفاضة الفلسطينية: للصبر والصمود والإيمان بالقضية، ولاستمرار الظلم الصارخ المستفز، لا لكفاية الفرص ولا لدعم الأمة ونصرة الأمة الكافية.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وافعل بنا ما أنت أهله، وأنت أهل الخير كله، ولا خير إلا من عندك، وأنت المعروف بالرّحمة والمنّ والإحسان، ولا تفعل بنا ما نحن أهله فإنا أهل العقوبة والطرد والإهمال. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمسلمين ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا رحيم يا رحمان يا حنّان يا منان.
.بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)