خطبة الجمعة (66) 24 ربيع الثاني 1423هـ – 5-7-2002م
مواضيع الخطبة:
الحسد – الرأي الشخصي والرأي الشرعي – أمريكا والعالم
أمريكا الأقدرُ نووياً، والأقوى فتكاً، والأطولُ يداً في نهب ثروات الشعوب، لذلك لا بد أن تكون سيدة العالم أخذاً بنظرية هي الأكثر تخلفاً في فلسفة الحكم وهي الفلسفة التي تعطي حق الحكم للأطول ناباً والأحدِّ ظفراً والأشدّ تهوراً وفتكاً على طريقة حيوان الغاب.
الخطبة الأولى
الحمد لله وليّ الحمد وأهله ومنتهاه ومَحَلّه، لا حمدَ إلا له، ولا شكر بالذات إلا على نعمه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا هدى لأحدٍ من دونه، ولا نجاة لأحد إلا بطاعته، ولا عصمة لأحد إلا به. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله هادياً، وارتضاه للنّاس معلّماً، وللأُمم قائداً ودليلاً. صلى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
عباد الله .. أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأن يكون تعويلنا عليه، وثقتنا به، وأن نستغني به عمن سواه، ولا يستوقفنا ما في يدِ العباد من رزقه، ولا تتقطّع قلوبُنا على ما فاتنا من زينة الحياة الدُّنيا، ولا يستهوينا السعي إليها فينسينا ما هو أبقى، وأن نجدّ فيها لإصلاح أمرنا، وبلوغ خير الآخرة وهو أسمى. وما أجدر بمعتبر أن ينظر في أحوال الماضين ممن كان رحيلهم من الدنيا بعيداً، أو كان فراقهم لها قريباً، ممن بنوا وعمّروا وأترفوا وتبْذّخوا، وكان لهم الجند والحراس، والكلمة الماضية على الناس، وكان بأسهم شديداً، وملكُهم مديداً، فذهبوا ليسكنوا جُثثاً هامدة، وأشلاء مبدّدة، وعِظاماً بالية، ورميماً ذائباً بعد المَرائي الجميلة، والوجوه النضرة، والحركة العامرة، قبوراً موحشة، وحُفَراً بائسة، قد انقطع من الدنيا عملُهم، ونُسي فيمن نُسي ذكرهم، لا ينقذهم مما هم فيه من أهوال البرزخ ما كان لهم من ملكٍ باذخ، أو عزٍّ شامخ، أو سلطانٍ عريض، أو قوةٍ ضاربة … فماذا تريد أيُّها الإنسان من مستوى مادي، وماذا تتطلع إليه من هذه الدنيا أكثر مما كان لملوكها وجبابرتها وذوي الجاه الممتدّ فيها، والثروة الطائلة التي تُمثل مادة شهواتها؟! وهل يُعطيك هذا كلّه الخلود، وهل يُنجيك من الهرم والمرض والفناء؟ وهل ترى منه أنيساً في قبرِك، ومدافعاً عنك في ملحودتِك، ومنقِذاً لك في يوم يكون فيه نشر الخلائق وحشرها لحساب وعتاب وعقاب،؟! لا تطلب جمع الدنيا، واطلب من حلالها ما يُصلح شأنك، وشأن من يعنيك أمره، وما تعود به على محتاج المؤمنين ومعوِزهم، وأنفق حياتك فيما يصلح به أمر أمّتك، وتفوز به برضا ربك، تكُن ممن كسب الحياة، وكان من المفلحين.
أما بعد ..
فالحديث عن مرضٍ عضالٍ باعثه الكبير حب الدنيا، والتغالب عليها، والذوبان فيها .. الحديث في الحسد القتّال الفتّاك المدمّر:
مرضٌ عيبٌ:
الأمراض المعروفة المألوفة لا تمثل عيباً ولا ثلمةً في الشخصية الإنسانية، ويبقى المريض عزيزاً كريماً محبوباً، ويبقى المقدر الموقّر، أما هذا النوع من المرض فيمثّل حِطّةً وخِسّة وعيباً، ألا وهو الحسد. تقول كلماتهم (ع) بهذا الصدد “الحسد دأب السُفَّل ( السُفَّل هم السفلة) وأعداء الدّول” ميزان الحكمة مج3 ص422، فالحسُّاد أراذل الناس، و أعداء الخير في الناس. فمن العيب كل العيب أن يسمح أحدنا لنفسه بأن تكون صفتُه صفةَ السّفّل.
“الحسد عيب فاضح” فهو يكشف عن سوء طويّة، ويكشف عن انحدار في الهمة، وعن معاداة في الخير، عن قلب أسود، ورؤية ضيقة. يكشف عن شخصية لا تحب انتشار الخير وارتباطها الأكيد بالشر.
“رأس الرذائل الحسد” فإذا يفترق هذا المرض عن الأمراض الأخرى المألوفة أن تلك لا تمثل عيباً وهذا المرض يمثل العيب والسقوط والرداءة.
مرض وأثم:-
مرض وأثم، الأمراض الأخرى مع الصبر تستتبع الأجر خاصة إذا كان هذا المرض لم أكن أنا المريضَ متسبباً فيه. نعم قد لا نؤجر على مرض نتسبب فيه لأنفسنا، ذلك بأن نهمل قواعد الصحة ونسعى بأقدامنا إلى الأماكن الموبوءة، ونخالف ما فيه الحفاظ والوقاية، فإذا ما مرض أحدنا من هذا الطريق ربما أوقع نفسه في التعب، وحرم نفسه الأجر. أما مرضٌ يأتي الشخص على غير إرادة أو في حين غفلة من الأمر إذا صبر عليه أُجر، وربما قطع مسافات في مقامات الآخرة، وصعد درجات لصبره على المرض الذي ابتُليَ به من غير أن يريد، أما هذا المرض وهو الحسد، فلا يستتبع إلا الأثم عند الله سبحانه وتعالى.
” ثمرة الحسد شقاء الدنيا والآخرة”، “الحسد مقنصة إبليس الكبرى” يوقِعُ من خلالها الكثيرين في شباكه ويستطيع من خلال هذه الثّغرة أن يذهب بإيمان المؤمن وينتهي به إلى الكفر والإلحاد، وهناك قصة مرعبة في هذا المجال، قد لا يُحسن ذكرُها، انتهت بصاحبها فيما يُنقلُ، من بعد إيمان وعلم غزير إلى كفر في آخر نَفَسٍ من أنفاس الحياة يلفظه ذلك الشخص الكبير العملاق في نظر الناس، وهي ليست من القِصص التصويرية، وإنما هي من معطيات الواقع كما في نقل بعضهم.
” ثمرة الحسد شقاء الدنيا والآخرة” لأنّ الحاسد لا يجد راحة داخله، دائماً قلبه في غليان… في تقطّع لنعمة الغير فالحاسد على غناه، وعلى موفور صحته، وعلى ما تمتلأ به يداه من خيرات الدُّنيا يعيش في داخله أوحش المشاعر، وأسود الأحاسيس، ويرى الدنيا بمنظار أسود ما دام محسوده على نعمة.
” الحسود غضبان على القدر” فكم يسقط بالحسد إيمان المؤمن، وكم يفصل بينه وبين إيمانه؟! فإذا كان الحسود غضباناً على القدر فهو غضبان على حكمة الله، غضبان على قِسْمَة الله، غضبان على الله سبحانه وتعالى وكيف يقرُبُ من الله شخصٌ يغضب على الله عز وجل؟ فاذاً هو مرض وإثم.
مأكلة للجسم والروح:-
“لله در الحسد فما أعدله ! بدأ بصاحبه فقتله” أفرضه صحيح الجسم قويّ البُنية، مع ذلك يعيش عيشةَ المرضى، وربّما أخذ به الحسدُ على طريق المرض الجسدي الفعلي، ويرى في الحياة درجة من السعادة الفرق بين الصحيح والعليل؟ الفرق بين الصحيح والعليل أنّ الصحيح يتمتع بصحته، وذاك في حالة فقدٍ للصحة، يفصل بينه وبين رؤية الحياة السعيدة، حين تتحول الحياة الى شقاء في نظر الانسان وبالفعل، وحين تسودّ أقطار نفسه ويعيش حياة الإبتئاس، وحياة الكآبة، وحياة الحزن، حين تتمزّق نفسُه لنعمة الغير، أليس هذا بالمريض فعلاً؟ أليس هذا بالمكدود في مشاعره المكدود في نفسه؟ ولو كان المرض الجسدي لا يُسبب لنا أتعاباً نفسية كبيرة لهان أمرُه، فان أخطر ما في المرض إذا كان بدنياً هو أن يستولي على مشاعر النفس ويُفقدها لذتها في الحياة. ماذا تقولون في إنسان تقرّر الفحوص الطبية بأنه صحيح الجسد بالكامل، وأنه موفور الصحة بالتمام لكنّه يعيش الشعور بالمرض، ويعيش الشعور بالإقتراب والدنوّ من القبر؟ ماذا تقولون في المقارنة بين هذا الشخص وشخص آخر يعيش علّة في بدنه لكنه يعيش شعوراً مُفعماً في نفسه بالسعادة؟ نفرض ذلك لخفاء مرضه، أو لأنه شديد الإيمان، موصول القلب بالله، لا يجد من مفارقة هذه الحياة خسارة كبرى، ما دام مطمئناً برحمة الله ومُبشَّراً من الله عزّ وجل بالجنة، من هو السعيد من هذين الإثنين ومن هو الشقي؟ الحسود وإن كان صحيح الجسد لكن يكفيه حسده مرضاً عضالاً يأكل من نفسيته ويفسد عليه سعادته، ويجعله الشقاء في داخله.. “لله در الحسد فما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله، فلأول ما يؤثّر الحسد على صاحبه بإشقائه في الدنيا قبل الآخرة.
” لا يطمعن الحسود في راحة القلب” مُفاصلة كاملة، فلا يمكن أن يلتقيَ هذان الأمران راحة قلب وحسد. القلب الذي يعيش الحسد، لا يمكن أن يعيش الرّاحة.
” الحسد يفني الجسد” ولا شك أن هناك ترابطاً في وجود الإنسان بين الفكر والشعور والبدن، وبين الصحة البدنية والصحة النفسية ترابط شديد، وأنّ أمراضاً من أمراض البدن تأتي انعكاسات لأمراض من أمراض النفس. والحاسد إذا لبس النظارة السّوداء في داخل نفسه ليرى الحياة سوداء كلّها، يسقط وخسر كل أمل بالسعادة في الحياة، ومثل هذا الشعور لابد أن ينعكس على الصحة البدنية فتظهر أمراض ليست لها في الأصل عللٌ جسدية وإنما منبع هذه الأمراض هو سقم النفس ثم تأتي طبعاً الإستجابة البدنية، في صورة أمراض يصاب بها البدن نفسه.
“الحسد يفني الجسد”، “الحسد يذيب الجسد”، “الحسود أبداً عليل” هذا بالنسبة للجسد وبالنسبة للروح الأمر هو الأخطر.
“إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب” فيوم أن تبدأ عملية الحسد وتبتلي بها النفس يكون فيه الإيمان في عدّ تنازلي، وكلما تفاقم داء الحسد في الداخل، كلما اضمحل نور الإيمان وخفت ضؤه.
” آفة الدين الحسدُ والعجبُ والفخرُ” فهذه آفات تأكل الدين وتقضي عليه، ” ألا أنه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم، وهو الحسد، ليس بحالق الشعر – الحسد لا يحلق الشعر-، لكنّه حالق الدين” عن الرسول (ص). لو فرضنا الدين، صفة لصيقة بالنفس تتحملها المشاعر، ويتحملها الفكر، هذه الصفة لها حالق وهو الحسد كما للشعر على الرأس والبدن حالق وهو الموسى.
عداء مع الخير:-
“الحاسد يفرح بالشرّ ويغتم بالسرور” أأذى ما يؤذي الحاسد للآخرين أن يجد موطناً من مواطن السّرور عندهم. فرحة الغير غمّه، وسرور الغير حزنه، فهو يعادي كل مظاهر الحياة، وكل مظاهر التقدم، وكل مظاهر الإزدهار، الحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة وهو يعادي حركة الحياة وإيجابيتها، يعادي أي تقدم لأنه يبقى مريضاً ما دام الخير موجوداً في يد الغير، والمريض يطلب شفاءه بأي ثمن فإذا كان الثمن لشفاء هذا المريض الحاسد، هو أن يذهب الخير من الآخرين، فكل سعيه إذاً أن يذهب الخير من يدِ الآخرين. الحسد ليس صفة متقوقعة داخل النفس، إنما الحسد صفة تعبر عن ذاتها في الخارج بكل الوسائل التدميرية لحياة الآخرين، الحاسد ما دام يجد أنّ حركة الغليان والحرارة الحادّة في داخله لا تبرد إلا بخسارة الآخرين وبأذى الآخرين، فهو يسعى دائماً وأبداً في كيد الآخرين.
” ألا لا تعادوا نعم الله، قيل: يا رسول الله ومن الذي يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون” فهؤلاء يعادون نعم الله ويسعون للقضاء عليها.
صفة نفاق:-
” المؤمن يغبط بأن يتمنى من عند الله من الخير مثلها عند الآخرين، مع بقاء ما عندهم من خير لهم، يتمنى للآخرين بقاء خيرهم وزيادة الخير لهم، ويتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يرفع عوزه وأن يقضي حاجته، ويخلصه من مرضه، فهو لا يتمنى للناس شرًّا أبداً، وإنما يتمنى استكمال الخير لنفسه مع بقاء الخير في يد الآخرين –”إن المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط” عن الصادق (ع) .
ماذا وراء الحسد؟
الحسد صفة نفسية لها منبع، هذا المنبع هو ضعف في الإيمان، وانفصال للفكر والشعور عن الله عز وجل. إذا وثق العبدُ في الله وتوكّل عليه، ورأى أنّ الخير والشر بيده وأنّ قسمته عادلة، وأنه لا يعطي إلا لحكمة، ولا يمنع إلا لحكمة كان ذلك عاصماً له من صفة الحسد. أيُّها الأخوة في الكلمات عنهم (ع) ما مفداه أن من الناس من لا يصلحه في علم الله إلا غناه هذا الإنسان لو كان فقيراً لخسر إيمانه، فحفاظاً على إيمانه، يعطيه الله عز وجل الغنى لأن الله عز وجل يعلم أن الغنى لن يبطره، وإن الفقر سيخسّره إيمانه، فما دام الله عز وجل يحبه ويريد أن يكافئه يغنيه، ومن الناس من تكون مكافأته من الله عز وجل بإفقاره، لعلم الله عز وجل بأنّ هذا الفقير لو كان على غنى لخسر كل إيمانه، ولكان المال في يده أداته وطريقه إلى النار، وفتك بنفسه، قبل أن يفتك بغيره، وأفسد بماله نفسه وماله وأهله، فرحمةً بهذا العبد يجعله الله عز وجل فقيراً، وهو القادر على أن يجعله غنياً. وخذ هذا المثال في الصحة والمرض وفي الأمور الأخرى. ألا تجدون أيها الأخوة أنّ من بين الناس من يقتله ذكاؤه، والشهادة العليا التي يستطيع من خلال ذكائه أن يتوصل إليها؟! فضعف الإيمان منبع دفّاق لكل الصفات الخسيسة ومنها هذه الصفة الساقطة صفة الحسد، وضعف الإيمان يبعث على حب الدنيا والتنافس عليها، والحسد قرين حب الدنيا، والتنافس والاصطراع عليها وعلى موائدها المنقضية، وإنَّ الأنانية الضيقة وراء الحسد، والأنانية الضيقة، وعدم الانفتاح على مصلحة الغير، والاختناق في الرؤية، كلُّ ذلك يقوم على أرضية من ضعف الإيمان.
والآمال الكبيرة أيها الأخوة مع الهمة الصغيرة سبب فعال في نشوء صفة الحسد. من الناس من تكبُر آمالهم، ولكنهم يتطلعون أيضاً إلى تحقق الآمال عن طريق الاسترخاء وطلب الراحة، والآمال الكبيرة تتطلب جهوداً ضخمة مضنية، فالذين يعيشون الآمال الكبيرة من غير أن يقبلوا الضنى والرهق والنصب والسعي والجد المرهق يسببون لأنفسهم مشاكل نفسية كبيرة يقعون صرعى لها، ومن هذه المشاكل مشكلة الحسد. فعندما يكون الإنسان مليئاً بالطموحات البعيدة، والآمال الكبيرة المجنحة على أنه لا يعطي لمثل هذا الطموح ما يستحقه من الجهد والتعب ومواصلة السعي يعيش في داخله حالة من الكآبة واليأس ولأنه يريد أن يكون واحداً من الكبار ولا يجد سبيلاً من خلال استرخائه وطلبه الدعة والراحة أن يكون واحداً من الكبار فهو يحسدهم، ويتمنى أن لا يكون في الأرض كبير واحد على الإطلاق. فكيف يتقدمه الآخرون ويصلون إلى ما يتمناه وهو غير قادرعلى الوصول؟.
صغار في صورة كبار
من هم أيها الأخوة؟ زعماء، علماء كبار، مفكرون. الزعماء السياسيون، أصحاب الجاه حين يكونون من الحسدة حسدهم يعني أنهم صغار وموقعهم يلفت إلى أنهم كبار ويعطيهم فرصة الكبار الذين يستطيعون أن يفعلوا في المجتمع ما لا يستطيع أن يفعله الآخرون. فئة الزعماء، فئة القادة سواء كانوا رؤساء دول أو كانوا زعماء شعبيين يتعبون المجتمع ويرهقونه حين يكونون على صفة الحسد. فصفة الحسد تعني أنهم صغار… تعني أنهم حقراء… تعني أنهم دونيون فإذا كانوا على دونية وحقارة إلى حدٍّ بعيد وهم يتبوؤن مواقع كبيرة فهم ينفسون عن مشاكلهم النفسية، ويعبرون عن مشاكلهم النفسية، وعن معاناتهم في صورة تخريب إجتماعي، وفي صورة خلق عداوات شرسة في المجتمع وانقسامات خطرة، إنّ تحاسدهم وسعيهم إلى المناصب على غير خط القيم ومع إلغاء أي قيمة من القيم لا بد أن يغرق المجتمع في المآسي الكبيرة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد وطهّر قلوبنا من النفاق، وعملنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وباعد بيننا وبين كل خلق سيء مما يبعّد عنك، ويطمع فينا عدوّك الشيطان الرجيم، واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولواليدنا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق اذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد اذا حسد)
الخطبة الثانية
الحمد لله المحمود بلا أمد، المشكور بلا عدد، المنزَّه عن صفات الإمكان، لا يحدّه مكان ولا زمان، حاكم غير محكوم، قاهر غير مقهور، لا تأتي عليه الأحوال ولا تغيره الدهور. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة دائمة متصلة.
عباد الله أُوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله والخروج من هوى النفس إلى طاعة الربّ، فإن نُمكِّن من أنفسنا هواها لا تُفلِح، وإن ننسق وراء رغائبها لا يكون لها نُجْح، وأمر الله ونهيه يبلغان بالعبد إلى الغاية، وينتهيان به إلى خير نهاية، ومتابعة الهوى تُرهق وتُغرق، وطاعة الله تُنقذ وتُرفق. فهذا هو الشيطان وجنده صنيعةُ الهوى وقد ملأوا الأرض فساداً، وأرهقوا أهلها، وهم مرهقون، وكثيراً ما يُهلِكون وهم هالكون. وها هم الأنبياء والرسل والأولياء وهم من أهل طاعة الله، وعطاؤهم في الناس هدى وعدل وصلاح وإخاء ومودَّة، وهم على نصبهم أرضى النَّاس نفساً، وأكثرهم اطمئناناً، وأشدّهم في الحياة رضى وأحسنهم عاقبة، والسائر على طريقهم ناجٍ، والآخذ بمنوالهم رابح.
اللهم خذ بيدنا على طريق طاعتك، وجنبنا أهل معصيتك، واكفنا غواية الشيطان، وكيد أهل الضلال. اللهم صلّ وسلّم على أمين وحيك، ومبلّغ رسالاتك، ودليل جنتك، والقائد إلى رضوانك، الرسول المؤيّد، نبي الرحمة محمد وآل محمد. اللهم صلّ وسلّم على إمام المتقين عليّ أمير المؤمنين. اللهمّ صلّ وسلّم على أمتك وكريمة رسولك المعصومة النقيَّة فاطمة الزكية. اللهمّ صلّ وسلّم على إمامي المسلمين، وقدوتي المهديين الحسن بن علي وأخيه الحسين. اللهمّ صلّ وسلّم على أعلام التقى، وورثة الأنبياء، وأئمة الهدى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري القادة النجباء. اللهمّ صلّ وسلّم على من يملؤها عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً الوليّ العالم والمنتظر القائم. اللهم عجّل فرجه وسهّل مخرجه وانصره وانتصر به، وأعزّ به المؤمنين واقمع به الكافرين والمنافقين. اللهم الموالي له، السائر على نهجه، الممهد لدولته مَكِّن له وادفع عنه وبلِّغه مأموله من ظهور دينك، وعِزِّ أوليائك، والفقهاء العدول العاملين المجاهدين في سبيلك، وكلَّ الذائدين عن دينك وأهلَ طاعتك أيدهم وانصرهم نصراً عزيزاً.
أما بعد فأكثرُ من وقفة مع أكثر من موضوع:-
1. تقييمات تحتاج إلى دقَّة:-
أسأل أمِنَ الصحيح لنا إذا كنّا إسلاميين أن نستسلم في رؤانا لمخزوننا الشخصي من أفكار وآراء وإحساسات باطنية، وقناعات داخلية وهي في القسم الكبير منها قد وجدت سبيلها إلى داخلنا من عطاءات البيئة الثقافية المصنوعة بالطريقة والكيفيّة التي خطّط لها أعداؤنا الحضاريون، وشارك في صناعتها جهلُنا وضعفُنا وتربيتنا التي تعاني من كثير من القصور والتقصير؟! هذا المخزون نسمّيه مخزوناً شخصياً أثّرت عليه عوامل بيئية وعوامل تربوية وعوامل ثقافية يدخلها كثير من النقص وكثير من التشويه ويكثر سوؤها، أمِن الصحيح أن نستسلم لهذه الرؤى؟! ثمّ أمن الصحيح أن نقرأ الآخرين كتاباً أو خطاباً، ورأياً وموقفاً ونحكم عليهم بالفهم الذي يمليه هذا المخزون المغشوش المطّرب؟!
الحقّ أنّه ليس صحيحاً هذا ولا يلتقي مع وصف كوننا إسلاميين. بل الصحيح بعد أن آمنا – كما هو المفروض – بعصمة الكتاب والسَّنة ومرجعيتها اعتقاداً، أن نبحث دائماً عن فكرِنا المبدئي في المسائل التفصيلية إن وُجِد، أو نسعى جاهدين لبناء هذا الفكر، وأن نتعرف بدرجة أكبر على ما يقدّمُه الكتاب والسنة والنظر الدقيق فيهما من فهم، ويقرّرانه من رؤية، ويؤديانِ إليه من حكم لتكون هذه الحصيلة منطلقنا في ما نكوِّنه من رؤى، وما نصدرهُ من تقييمات لِما نسمع ونقرأ ونشاهد.
أمِنَ المقبول للمؤمن أن يقول مثلاً بأن الكاتب الفلاني أو المفكّر الفلاني أو الفقيه الفلاني لا يُعجبني لأنه لا يرى جواز الغناء، والآخر الفلاني يعجبني لأنه لا يرى حرمته؟
ما هو مقياس هذا القول؟ أهو الموافقة للرأي الشخصي والميل النفسي بعيداً عن الفهم التخصّصي المبني على التعامل العلمي الدقيق مع الكتاب والسنة؟ لئن كان هذا هو المقياس فهو غير موافق للإيمان وفيه استغناء عن المصدرين التشريعيين الكريمين وردٌّ لقول الله جلا وعلا ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم.
أم أن المقياس في القول بأنّ رأي فلان المجتهد يعجبني، ورأي فلان المجتهد لا يعجبني هو دعوى أن المجوز للغناء مثلاً أدق رأياً وأكثر تطابقاً مع كتاب الله وسنة المعصومين عليهم السلام؟ لو كان هذا فإنه لا يقوله إلا من كان له رأي اجتهادي اختصاصي مستقل مستنبَط من المصادر الشرعية المقرّرة يستطيع به أن يميّز بين آراء المجتهدين الآخرين في المسألة، ولا يقوله من كان بعيداً عن مستوى الإجتهاد.
وهل للفتاة المؤمنة أن تقول بأن القائل بهذه الدرجة من الحِجاب المتشدّدة أو المخفّفة هو أسدُّ رأياً من صاحبه الذي يقول بخلافها؟ وأنني معه لا مع الآخر؟ واضحٌ أنّ هذا لا يصح إيماناً ولا علماً، والصحيح أن تقول بأن كلاً منهما رأي اجتهاديٌّ، ويحتمل في كلّ منهما أن يكون أقرب إلى الواقع الشرعي ما لم ينكشف يقيناً مخالفة أحدهما للواقع.
نعم إنّ لأي مؤمن أو مؤمنة لم يبلغا حدّ الإجتهاد بعد أن يُحرزا شروط التقليد في شخص معين، وتقرر القواعد الفقهية صحة رجوعهما إليه في أخذ المسائل الشرعية وتقليده أن يقولا عما حكم به من جواز أو حرمة في هذا الموضوع أو ذاك طبقاً لاجتهاده بأنه حجة في حقِّهما وأنهما معذوران في ما يأخذان به من رأيه الإجتهادي في المسائل الدّاخلة في الإجتهاد.
ولنلتفت إلى أن ما يمكن أن يصطدم بمسبَّقاتنا الشخصية وأذواقنا التي قد لا تتفق مع الإسلام بسبب حالة الغزو الفكري والنفسي والتربية العامة المنحرفة عن كثير من واضحات الكتاب الكريم والسنة المطهرة لا يقتصر على ما نقف عليه من آراء المجتهدين، بل إنّ عدداً من الآراء والمفاهيم والأحكام التي لو قد سمعناها من رسول الله (ص) أو أمير المؤمنين (ع) مباشرةً لوجدناها تخالف آراءنا الشخصية وتتصادم مع أذواقنا ومسبَّقاتنا التي اكتسبناها من ثقافتنا التي دخلها كثير من الغريب، وتربيتنا العامة التي شُبِّعَتْ بكثير من السيء. وهل نردّ قول رسول الله (ص) الذي نسمعه منه مباشرة لأنه لا يوافق فهمنا الشخصي وذوقنا المكاني أو الزماني الخاص مثلاً؟! وكم لنا من مسبَّقاتٍ فكريّة وثقافية وبيئية وتربوية ستجعلنا لا نتفق مع آراء وأحكامٍ ستأتي على لسان الإمام القائم عجّل الله فرجه؟ فماذا سنفعل يا ترى عندئذ؟!
أسنتنازل له عن هذه الآراء لأنها ليست مقياس الحق أم سنقاومه مقاومة شديدة فضلاً عن الإستعصاء عليه ومعاندته؟!
ولو راجعنا وجداننا لوجدنا أن الناس بمستوياتهم العادية يختلفون مع الكثير من أهل الإختصاص والرأي في القانون الوضعي والطب والهندسة والفلك وكل العلوم المعقّدة التي قد لا توافق فهمهم العادي وميولهم الشخصية. فهل من حق إنسان عادي أن يُصدر حكماً بتقديم عالم من علماء الطبيعة أو الطب مثلاً على مقابله في الرأي لمجرد أن الأول يوافق رأيه وفهمه العادي وذوقه الشخصي والثاني يختلف معه؟!
2. أمريكا والعالم:-
أمريكا الأقدرُ نووياً، والأقوى فتكاً، والأطولُ يداً في نهب ثروات الشعوب، لذلك لا بد أن تكون سيدة العالم أخذاً بنظرية هي الأكثر تخلفاً في فلسفة الحكم وهي الفلسفة التي تعطي حق الحكم للأطول ناباً والأحدِّ ظفراً والأشدّ تهوراً وفتكاً على طريقة حيوان الغاب.
ومن هذا المنطلق تُعطي لنفسها حقّ التنصيب لحكومات العالم وعزلها وإجبار الشعوب بأن تكون نعم عندها هي نعم عند أمريكا بالضبط.
وتُعطي لنفسها أن تَسأل ولا تُسأل فليس لأيّ محكمة دولية وإن خضع لقضائها كلّ العالم البشري أن تطال سلطتها ولو جُندياً أمريكياً يخرج على كل القوانين الدولية ويرتكب جرائم حرب في أي بقعة من العالم إلى حدِّ السرف واللعب بقيمة الإنسان.
ومن المنطلق نفسهِ تحصد عشرات النفوس البريئة في الحادث الأخير في أفغانستان وتجرح مئةً أو أكثر وتحول عرس الآمنين مأتماً وفجيعة ويكبر عليها أن تعتذر بكلمة. وكيف يعتذر السيّد للعبد؟!
فأمريكا تهدف إلى استعباد العالم في الكُرة الأرضية كلها وأمريكا تنشر الرعب، وأمريكا تمارس الإرهاب، وأمريكا تنسف القيم، وأمريكا تتعامل باستهتار بالغ مع إنسانية الإنسان، وأمريكا تعادي الشعوب والأمم، وأمريكا تعادي نفسها وتسعى إلى الإنتحار. وإلا فما معنى أن تفزع وترعب وهي الأقوى من بين دول العالم في كل مناسبة من مناسباتها الوطنية، وفي مواطن كثيرة وتعيش حالة الإستنفار… أليس هذا من معاداتها للعالم؟ أوليس هذا أيضاً من عداوتها لنفسها؟ إنّ الله عزّ وجل يقول في كتابه المجيد: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النّاس}. والفزع العام، والرعب العام بعض الفساد الذي ظهر بما كسبت أيدي الطغاة في الأرض من ظلم وتدمير للقيم.
ولتعلم أمتنا الإسلامية أنّ هدف الأمريكيين لا ينتهي بتسجيل الإنتصارات العسكرية وسحق الشعوب وحرق الأرض واستعباد الأجسام، وإنّما هذا كلُّه مقدمة للسيطرة الفكرية والشعورية والثقافية الشاملة والإستلاب الحضاري، والإستيلاء الحضاري لأنّه الضمانة الأكبر لاستمرار تدفُق خيرات وناتج عرق هذه الأمة في جيوب أعدائها، والرضى بالتبعية الذليلة للغازي من غير مقاومة ولو على المدى البعيد، أو مشاكلَ قد تسبب شيئاً من الصداع للسيد الأمريكي، وتزعج راحته المطلوبة.
وإذا عرفنا الهدف فعلى الأمّة أن تقاوم الغزو بكلّ قوة وإصرار على كل المستويات ومن مختلف مواقع أفرادها وجماعاتها كالمستوى الفكري والثقافي بما يدخل في ذلك من عادات وتقاليد وأنماط سلوكية مصدَّرة لنا في كل المجالات. وعلينا أن نصرّ على خط الإستقلالية الحضارية ولا نتنازل عن هويّتنا. وإن مقاطعتنا للبضائع التجارية الأمريكية على أهميتها لا تعدُ شيئاً أمام مقاطعة المستورد من الأفكار المعادية والسلوك الغازي، والأقلام العميلة، والتحركات التخريبية على المستوى الفكري والإنساني في مجتمعاتنا.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد وارحمنا بمحمد وآل محمد وثبّتنا على طريق محمد وآل محمد. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ووالدينا ومن كان له حقّ خاص علينا يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
{إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.