خطبة الجمعة (65) 17 ربيع الثاني 1423هـ ـ 28 -6-2002م
مواضيع الخطبة:
فقر الأيدي النفوس – معاملة الإنسان – اليوم
العالمي لمناهضة التعذيب -كبر الإنفاق – ازدواج الجنسيَّة
أتدري متى بنى التاجر الفلاني قصره الذي تريد أن يجاريه قصرك، ومتى أقتني سيارته التي تريد أن تحاكيها سيارتك، وأثاثه الذي لا تهدأ حتى يكون لك ولو ما يشبهه؟! إنما كان له ذلك بعد أن بنى مستوى مادياً يسمح له بذلك وإلا لو تعجّل لكان المدين مثلك، والفقير مثلك، والحائر مثلك.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم. عليم بما خلق، لطيف بما برأ، لا خالق من دونه، ولا بارئ سواه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل من عداه فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قوله صدق، وفعله حق ، وإقراره فعل الغير حكم. صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وسلاماً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، وأن نضع اليوم الآخر نصب أعيننا فإن لنا معه موعداً لا يخلف، ولن تذهب بنا الأيام والليالي على غير طريقه، ولن تقف بنا دون غايته، ولا مركب لنا إلا مركب ينتهي بنا إليه. ولا زاد لأحد ذلك اليوم إلا زاد التقوى والعمل الصالح، ولا نجاة لأحد فيه قد حرم نفسه من مغفرة الله. ومن الناس من تمر به الطريق إلى الجنة بعذاب في البرزخ مقيم، ومنهم من يمكث في النار أحقاباً متعاقبة قبل أن يشم من الجنة ريحاً، أو يلقاه منها نسيم. والجنة منازل لا يُعرف التباعد بينها مكانة وكرامة لتماديه، بالتباعد بين منازل يشهدها الناس في هذه الحياة.
وما ربحت نفس كان لها من حياتها الدنيا كلّ ما يعرفه الآخرون من لذائذها، وقد خسرت بذلك من الآخرة بعض منازل المكرمين، وويل لنفس انقطع بها عن الجنة السبيل، أو وجدت من سوء ما فعلت من أهوال البرزخ ما تذوب له الصخور، أو أقام بها شقاؤها في النار ماكثة دهوراً وأحقاباً وأهل الجنة فيها يهنأون.
ألا من يبادر إلى النجاة … ألا من يبادر إلى مغفرة الله … ألا من يبادر إلى عطاء الله … (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله واستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاّ الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) 133-136 آل عمران.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد واجعلنا لا نبتغي عن سبيلك حولا، ولا عن جوارك في الآخرة من منازل الدنيا بدلا، ولا يقف بنا عن جنتك مأرب، ولا عن رضاك مطلب يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين.
أما بعد .. أيها المؤمنون والمؤمنات فهذه جملة من النصوص المروية عن معادن الحكمة، وخزنة الوحي في الناس – أهل بيت النبوة – تتحدث عن نوعين من الفقر، فقر الأيدي، وفقر النفوس.
فقر الأيدي:-
1. الإيمان والفقر في مواجهة:
“كاد الفقر أن يكون كفرا” عن الرسول (ص) والصادق (ع) كما في ميزان الحكمة ج7 ص498، “اللهم اني أعوذ بك من الكفر والفقر، فقال رجل: أيعدلان؟ – يعني يساوى هذا بذاك حيث تستعيذ منهما يا رسول الله في عرض واحد؟ – قال: نعم” عن الرسول (ص) المصدر.
فهنا تناف أساس في نظر الإسلام بين مجتمع الإيمان ومجتمع الفقر، وكما هو تناف في مفهومه هو في نظامه وهو في سيرة قادته، وهو في كل تطبيقاته وفي الحس المركز في شعور الإنسان المؤمن الذي يعيش حالة الإيمان. والموقف من الكفر هو الموقف من الفقر في المنهج الإسلامي مواجهة ومحاربة ومطاردة. والأمر هو كذلك عند الرساليين، وكما تقاس إسلامية المجتمع إلى درجة الكفر وعدمه، كذلك تقاس في الحالات الاختيارية إلى درجة الفقر وعدمه. الأول على مستوى العقيدة والثاني على مستوى التطبيق.
2. عدوّ فتاك:
“الفقر في الوطن غربة”، إنّ الفقر مذهلة للنفس، مدهشة للعقل، جالب للهموم”، “الفقر هو الموت الأكبر” عن الصادق (ع)، “الفقر أشد من القتل” عن الرسول (ص)، “القبر خير من الفقر” عن علي (ع).
كيف ترون أن يقف الإسلام من المؤمن في غربته؟ من الموت الأكبر يتهدد المجتمع؟! مما هو أشد من القتل؟! مما القبر خير منه؟! أيقف الإسلام نظاماً، أيقف الإسلام رجالا، أيقف الإسلام تطبيقا، من كل ذلك موقف مكتوف اليد؟! أم إنّ الإسلام يقف الموقف الجاد على مستوى العقيدة؟ وعلى مستوى الشعور، وعلى مستوى التربية، وعلى مستوى التحشيد العملي، على مستوى التعبئة الاجتماعية العامة في مواجهة مع الموت الأكبر، مع ما هو أشد من القتل؟ مع ما القبر خير منه؟!
الإسلام يقف بكل قوة في وجه الفقر الذي يعد في الوطن غربة. وهل يرضى الاسلام لأبنائه أن يعيشوا بشعور الغربة وشعور الكآبة وشعور الوحشة وشعور فقد الاستقرار حتى في الوطن؟! وهل يرضى لأبنائه أن يعيشوا حياةً هي أشد من الموت الأكبر… هي أشد من القتل؟! حتى يتمنوا أن يذهبوا إلى القبور بدل أن يكونوا على ظهر الأرض للفقر؟! الرساليون أيضاً كما تهمّهم كل هذه المشاكل، يهمهم أمر الفقر الذي قد يزيد عليها. فالمجتمع المؤمن لا يكون مجتمعاً مؤمناً، والرساليون لا يكونون رساليين فعلاً حتى يحملوا من هم الفقير ما يحملونه من هم أمام الموت الأكبر، أمام ما هو أشد من القتل، أمام الغربة في الوطن، أمام ما القبر أحسن حالاً منه.
الفقر والشخصية الإنسانية:
عن أمير المؤمنين (ع) في نصيحته لابنه الإمام الحسن (ع) ” لا تلم إنساناً يطلب قوته، فمن عدم قوته كثر خطاياه، يا بني الفقير حقير لا يسمع كلامه – الإمام (ع) لا يقرر أن الفقير حقير في ذاته، وانما يقرر أن الفقير برغم علو ذاته وسمو ذاته يراه المجتمع حقيراً. ولا يريد (ع) لمؤمن أن تنتهبه العيون على أنه موجود حقير – ، ولا يُعرف مقامه-. لو كان الفقير صادقاً يسمونه كاذباً، ولو كان زاهداً يسمونه جاهلاً، يا بني من ابتلي بالفقر ابتلى بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله، والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه، فنعوذ بالله من الفقر”. الفقر يتغلغل بأثره القاتل إلى أعماق إنسانية الانسان، إلى مراكز العزة والكرامة في ذاته، إلى مكان الشعور والتفكير إلى كل خلجة من خلجات النفس تريد أن تشعر بالعزة، وتريد أن تشعر بالكرامة في المجتمع. هذا الفقر يؤثر على دين هذا الإنسان، على اعتزازه بإنسانيته وبدينه، يفقُد من كمال عقله، يرق دينه حتى لا يقاوم ولو سهماً ضعيفاً من سهام الشياطين. هذا كله على مستوى الشأنية والاقتضاء بمعنى انّ الفقر في نفسه يستدعي كل ذلك سواء وجد نفساً صلبة مقاومة من الفقير تتفوق على كل الضغوطات، أو وجد نفساً مهلهلة من الفقير تخترقها هذه المشكلات. المهم أن الفقر فيه اقتضاء أن يفعل كل هذه المآسي في نفس الفقير، ومن الفقراء بالطبع من هو أعز ملايين المرات من أغنى الأغنياء.
اذاً معالجة مشكلة الفقر على المستوى العام، أو على المستوى الفردي، أو على المستوى الاجتماعي الجزئي، تقع على طريق بناء العزة والكرامة، والدين والشخصية القوية، والدور الاجتماعي المؤثر، فإذا أردنا مجتمعاً قوياً عزيزاً كريما يشعر بشخصيته الإيمانية المتفوقة، ويؤدي دوره الاجتماعي والرسالي الفاعل، فلابد لنا بصفتنا مجتمعاً مؤمناً، وبصفتنا رساليين إلى أن نواجه وبكل ما أوتينا من قوة مشكلة الفقر في الحدود الضيقة، وفي الحدود الواسعة الممتدة. ومن هذا المنطلق فنحن حين نطالب الدولة بالدين نطالبها، بالدنيا لأن الدين والدنيا في نظرتنا الإيمانية والإسلامية المتكاملة مترابطان ولا يقوم أحدهما على معزل من الآخر.
أحاديث تحتاج إلى تأمل:
هذه أحاديث تعطي فيما يبدو وابتداء قيمة للفقر فلا بدّ لها من تفسير:
“الفقر أزين للمؤمنين من العذار على خدّ الفرس” العذار هو بمنزلة العارض في وجه الرجل، زينة خدّ الفرس، والحديث عن” علي (ع) والصادق (ع). “الفقر فخري وبه أفتخر ” عن الرسول (ص) ما الفقر فقال: خزانة من خزائن الله، قيل ثانياً: يا رسول الله ما الفقر؟ قال: كرامة من كرامة الله، قيل ثالثاً: ما الفقر؟ فقال عليه السلام: شيء لا يعطيه الله إلاّ نبياً مرسلاً أو مؤمناً كريماً على الله تعالى”.
بصورة إجمالية كل بلاء يصبر عليه، ويمر به العبد بنجاح هو من الخير الكثير عاقبة(1)، ولكن تبقى العافية مع الخير خيرا، والبلاء ليس أمنية، والساقطون في البلاء هم الأكثر.
شر وأشر:-
(1) توضيح: إنّ الفقر وهو بلاء شيد عندما يمتحن إيمان المؤمنين فيجده متيناً سميكاً لا ينال من يكشف عن حسن الإيمان وروعته وصياغته للشخصية الإنسانية من الذوبان والانهيار فالجمال ليس في الفقر نفسه وإنما في تمام الصورة منه في فاعليته المدمّرة، ومن الإيمان في مقاومة الباهرة، وقدرته على التجاوز بالشخصية من أكبر الامتحانات وأربح النتائج. وهكذا تُفهم بقيّة الأحاديث من هذا النوع.
“ضرر الفقر أحمد من اشر الغنى” ضرر الفقر حين يقف عند حد ألم الجوع، مثلاً وقرص البرد، وافتراس عيون بعض أبناء المجتمع للفقير بما هو شخص دون الآخرين، حين تقف الأضرار عند هذا الحد، فإنها أضرار لا تقاس ببطر الغنى وأشر الغنى حيث يفسد الدين. الغنى مبعث البطر، والفقر مبعث الذلة فإذا ما سطى الفقر على الذات، ولم يؤثر على مواقع العزة والكرامة والدين فيها، وبقي الفقير محتفظاً بإبائه وشموخه الإيماني ودينه فانه لن يصاب بالكثير، كما يصاب الغنى الذي أبطره غناه، فأخرجه عن خط الله ليلتقي أخيراً مع أحجار جهنم في قعرها.
فقر الأنفس وغناها:
1) فقر لا تعالجه الثروة:-
“سئل الإمام الحسن بن علي عليهما السلام: ما الفقر؟ قال: شره النفس إلى كل شيء” أقول ولا أرى من أكثر الأغنياء إلا فقراء حيث يصابون بالشره إلى كل شيء، ومن كانت نفسه تتعلق بما ليس في يده دائماً وأبدا، لا يقنعه ما في يده وان كبر. الفقير الذي بيده دينار يتصرف فيه التصرف الحكيم، ويقتنع بلقمة الخبز البسيطة، وبالثوب الواحد، هذا الإنسان ليس فقيراً بالمعنى الأعمق، والغني الذي يمتلك من الملايين ومن الثروة ما يسد الآفاق حيث يشعر بالفقد ويشعر بالحاجة إلى ما ليس في يده يعيش أكبر معاني الفقر.
عن الرسول (ص) ” أفقر الناسَ الطمع” يعني ما الذي أفقر الناس؟ أفقرهم الطمع والطمع يفقر بمستويين: طمع خمسة أفراد في مجتمع مليوني يحول هذا المجتمع إلى مجتمع فقراء، هذا وجه. الوجه الآخر: أن الطماع لا يشبع ويعيش الشعور دائماً بالفقر.
“أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر” وتلتقي هذه الكلمة عن رسول الله (ص) بكلمة أخرى منقولة عنه (ص) “اخشوشنوا فان النعم لا تدوم.” نعم “أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر”. تطلعك إلى أضخم سيارة، إلى أحدث طراز في البيوت، إلى أحسن مأكل، إلى أحسن مشرب، إلى كل الشهوات يقتلك يحولك إلى كمّ هزيل، يرخّصك، يأسرك يدلك، يحوّلك ألعوبة في يد الأعداء، وفي يد الظروف الإعصارية، هنا تحدثت من خلال الأحاديث عن فقر لا تعالجه الثروة، وأتحدث من خلال الأحاديث كذلك عن غنىً لا يهدمه الفقر، ولنبحث عن الغنى الذي لا يهمه الفقر، فان ظرف الغنى والفقر المادي لا نملك أسبابهما، بالكامل ومهما توقينا من فقر المادة، فربما وقعنا فيه، وما هو الضمانة الأكبر هو غنى النفس من الداخل.
الكلمات عنهم (ع) وهم معلمو الحياة ومعلمو كل الآدميين تقول “رب فقير أغنى من كل غني” لماذا؟ هذا يعرف ذاته الإنسانية… يعرف ربه… يعرف ما يملك من إيمان وقيمة الإيمان. اشتكى أحدهم إلى الإمام الصادق (ع) فقره فقال له: هل تبيع حبك وولائك لنا بالدنيا قال لا قال: من يملك الدنيا فقير؟ أفقير من يملك الدنيا؟ من يملك ما لا يشترى بالدنيا ليس فقيراً. صاحب الإيمان يرى من نفسه أنه يملك ما لا يبيعه بالدنيا فكيف يشعر بالفقر وكيف يشعر بالذلة والهوان. (1)
(1): المنقول ما يقارب الحديث في مضمونه.
نعم غنى النفس لا يهدمه الفقر، وغنى النفس لا ينبت، ولا يكبر، ولا يستقر، ولا يشتد ولا يقوى، ولا يملأ أقطار النفس إلاّ حيث يملأ أقطارها الإيمان.
“رب فقير أغنى من كل غني” “أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر” لأنك ستكون غنياً في الداخل، “رب فقير أعز من الأسد” ونحن نعرف أن أصحاب ملايين، وأصحاب كراسي، ورؤساء جمهوريات تشتريهم أمريكا بمليون دينار، أو ببليار دينار أو بأقل من ذلك أو أكثر، ونعرف أن من الفقراء على المستوى المادي من لا تستطيع أمريكا أن تشتريه، ولا تشتري موقفاً واحداً منه بكل ما تملك.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد وأخرجنا من فقر النفس وفقر اليد، وأغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك يا كريم. اللهم واغفر لنا ولوالدينا ومن يعنينا أمره، وكل ذي حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات، ولأهل الإيمان والإسلام، يا غفور يا رحيم يا تواب يا كريم. اللهم ردّ علينا عبدك وابن عبديك عبد الأمير بن منصور الجمري بالسلامة التامة، والشفاء الكامل المقيم الثابت، وبحفظك له في دينه ودنياه يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده، يحسبُ أن ماله أخلده، كلاّ لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممدة).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأتمّ علينا النعمة بولايته وولاية أوليائه، وشرّفنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلّى عليه وآله الأخيار الأطهار وزادهم شرفاً وكرامة.
عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وأن لا نتعلق بالأسباب تعلّقاً يصرفنا عن مسبب الأسباب من غير سبب، ولا نطلب رضى أحد بغضبه، ولا نأتيَ ما يقرِّب من غيره مما يبعِّدُ عنه، فإنه لا مالك للخير والشر بدون إذنه، ولا ملجأ منه عند من سواه، ولا يُنقذ من البعد عنه قربُ من عداه. وفي رضى الله غنى عن كل رضى، وفي اللجأ إليه حمى لا فقر معه إلى حمى، وفي التقرّب إليه كفاية عن كل ما بَعُدَ ودنا.
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك وابن عبديك الذليل بين يديك، خاتم أنبيائك ورسلك النبي الأمين، والرسول الكريم محمد وآله الطاهرين. اللهمّ صلّ وسلّم على الولي الوصي، والإمام التقي عبدك وابن عبديك المرتضى علي. اللهمّ صلّ وسلّم على أمتك الطاهرة، العابدة الصابرة، بنت الرسول، فاطمة الزهراء البتول. اللهمّ صلّ وسلّم على إمامي الرّحمة، وقائدي الأمَّة، عبديك المهديين الحسن بن علي وأخيه الحسين. اللهمّ صلّ وسلّم على أنوار البلاد، وقادة العباد، الدالّين على الرشاد علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري العابدين الزُّهّاد. اللهمّ صلّ وسلّم على وارث الأنبياء، والمنقذ من البلاء، وإمام أهل التقوى، عبدك الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر. اللهمّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وطهّر به البلاد، وأنقذ به العباد، واردُد به العقول، واهد بمنهجه القلوب، وأيقظ الضمائر، وأحيي النفوس. اللهمّ وعبدك الموالي له، المنتصر لخطّه، والممهد لدولته احمه واكفه وانصره وانتصر به، وأعزّه وأعزّ به المؤمنين. وفقهاء الإسلام والمجاهدين في سبيلك أيّدهم وسدّدهم ووفقهم لمراضيك وادفع عنهم يا قوي يا عزيز.
أما بعد ..
فيتناول الحديث بعض الأمور المتفرّقة التي تدخل في الإهتمام العام أو تمسُّه:
أولاً: يُخطئ الذين يعاملون الإنسان معاملة الحيوان، وينظرون إليه كمّاً من الدم واللحم والعظم، ومجموعة من شهوات الجسد، مُلغين في هذا النظر قيمته الروحية، وشعوره بالعزَّة والكرامة، والذاتَ الإنسانية المتميزة… ولك أن تعرف خطأ هذا النظر من خلال العمليات الإستشهاديَّة التي يُقدِم عليها المجاهدون الفلسطينيون المضطهدون. فمن أصعب شيء على الإنسان وهو يعيش حالة نفسيَّة متّزنة أن يقدم على إنهاء حياته وتمزيق جسده، وبعثرة أشلائه بيده، ويثكل والديه، أو ييَّتم ولده. وهو لا يفعل ذلك لأنّ أبواب اللذة الجسدية قد انسدّت أمامه، وأنّ عدوه الذي يفجر نفسه فيه يمنعه اللقمة، إذ أن طريق اللقمة المغموسة بالذّل والهوان، وبيع الضمير يفتحه هذا العدو، ويرغّب فيه. فإذاً سر هذا التقدم الشجاع للإستشهاد هو شيء آخر غير الضائقة المادية فقرار تصفية الجسد الذي يتخذه المجاهدون وسيلة لقهر العدو المتغطرس حيث يتحولون إلى عبوات ناسفة تتفجر في صفوفه ليذيقوها طعم الموت، وإن تكن أنفسهم الثمن، ليس وراءه إلا الشعورُ بالكرامة المسلوبة والقيم المُهانة، والإنتماءِ الحضاري الذي يُهزأ به، والإيمان القوي بالمبدأ الذي يُنتصر له.
ثانياً: يُعتبر اليوم العالمي لمناهضة التعذيب فكرة محمودة عقلاً وديناً وعُقلائياً، ويلاحظ أنّ العالم وهو يحتفل بهذا اليوم تستمر أكبر الحكومات وأكثر الحكومات فيه في ممارسة التعذيب بمختلف صوره البشعة، وسيستمر هذا الوضع ما دام الضمير الإنساني مغيّباً، والضمير غائب دائماً ما غاب الدّين، وطمست الفطرة، وكيف يُعطي العالم الذي لا يعترف بالقيم الثابتة أبداً قيمةً ثابتةً لعدم التعذيب؟! فلسفة العالم المادي تقوم على إنكار وجود أي قيمة خلقية ثابتة، وأن كل القيم نسبية وهي تنسب إلى المصلحة المادية والمنفعة المادية فما وافق المنفعة المادية للكبار هو القيمة وما خالف منفعة الكبار لا قيمة له. قل لي بربك في هذا العالم كيف يخدعوننا ويقولون أنهم يحاربون الإرهاب، وكيف يخادعوننا ويقولون أنهم يشنون حرباً ضد التعذيب؟! إنه ضحك على الذّقون لا غير، أن يقول من يتنكر لكل القيم أنه ضدّ التعذيب، ومع عدم التعذيب.
إنّ التعذيب يمارس علناً في حق شعوب بكاملها من الدول التي تُعلن عن نفسها بأنها حامية حقوق الإنسان، وإن أسرى حركة القاعدة قد قضت المصلحة الأمريكية أن يعاملوا معاملة خارج القانون فكان هذا هو الحق، لأن الحق كل الحق مع المنفعة المادية لأمريكا كما تقول فلسفتها.
أما الذين يعيشون أقسى ألوان العذاب في سجون إسرائيل وفي الزنزانات الإنفرادية في هذا العالم تشفيّاً من المطالبين بالعدالة فالدول التقدمية التي شرّعت مناهضة التعذيب ترى هذه المعاملة الوحشية القاسية لهم من الحلال الطيب الهنيء المبارك ما دامت تطلق يدها في النهب والسلب والاستئثار، وتُكمّم أفواه الشعوب المظلومة المحرومة المعذّبة.
وإن على الشعوب أن تحوّل الشعارات الإعلامية التي يريد بها المستكبرون تخدير مشاعر المستضعفين كشعار مناهضة التعذيب من الإنسان لأخيه الإنسان إلى شعارات جماهيرية واعية على طريق تفعيلها وفرضها في الواقع العملي الحي.
وإن الشعوب إذا انطلقت في حياتها من غير منطلق الإيمان والقيم فإن نداءاتها المتواصلة بالعدالة واحترام الإنسان، ورعاية حقوقه وكرامته، ستكون نداءات فارغة يتنكر لها كل من تسلّق إلى موقع من مواقع السلطة من بين صفوف الجماهير نفسها، أو وجد إلى ذلك الموقع سبيلاً سهلاً.
ثالثاً: من كبر إنفاقُه دخلَه عاش فقيراً. فلا تكتبوا على أنفسكم الفقر بالقروض الخيالية والسّرف المحرم وأنتم أغنياء… أنت يا صاحب راتب خمسمائة دينار، أربعمائة دينار، ثلاثمائة دينار، أنت غني لو أتقنت التصرف وأحسنت التصرف، وأنت فقير ولو كان مرتبك مليون دينار. لا تحوّل نفسك إلى واحد من فقراء المجتمع وأنت تستطيع أن تمدّ بالعون فقراءه. لا تصبوا مردود عرقكم وجهدكم، وعطاءَ شبابكم في جيوب أصحاب رأس المال وسرّاق الثروات.
لماذا تبني منزلاً أكبر من واقعك المالي بمئات المرّات؟ لماذا تصرّ على السيارة التي تفوق دخلك وتتجاوزه بمسافات؟ لماذا تُجاري الكبار من أصحاب المال في مأكلك ومشربك وملبسك ومركبك ومنزلك وزينتك ومناسباتك؟
أتدري متى بنى التاجر الفلاني قصره الذي تريد أن يجاريه قصرك، ومتى أقتني سيارته التي تريد أن تحاكيها سيارتك، وأثاثه الذي لا تهدأ حتى يكون لك ولو ما يشبهه؟! إنما كان له ذلك بعد أن بنى مستوى مادياً يسمح له بذلك وإلا لو تعجّل لكان المدين مثلك، والفقير مثلك، والحائر مثلك.
رابعاً: لا زال موضوع ازدواج الجنسيَّة مصدر قلق شعبي كبير واسع وذلك لوجوه:
1. عدم التعليل الواضح المقبول خاصّة وأنّ الموضوع يأتي في سياق ظروف وإجراءات واعتراضات تتّصل بقضية التجنيس غير القانوني الذي أُثير عنه كثيراً بأنّه كان قائماً وكان ينفّذ لأغراض غير جيّدة.
2. انفرادية البحرين في الإعلان عن الإقدام عليه من طرف واحد مع كونها ليست مؤهلة موضوعياً بقدر ما عليه الدول الخليجية الأخرى.
3. ما صاحب هذا الأمر من توعّد وتهديد من أطراف متشددة تكفيرية باللعب باستقرار ووحدة الشعب البحريني.
4. ما حملته بعض الندوات في الموضوع من تأشير بإلغاء المدة التي يشترط قانون الجنسية الحالي بقاءها في البحرين من طالبي الجنسية من غير المواطنين وتخفيضها إلى سنتين، ولا يُدرى فلعلّها تلغى نهائياً.
5. التزامن بين طرح الموضوع والأجواء التحضيرية للإنتخابات التي تتبناها الدولة. وهناك رأيان في الإعتراض على ازدواج الجنسية: رأي أشار إليه وزير الإعلام، وهو أنه لا يوجد مواطن واحد يعترض على الموضوع، والرأي المذكور هنا والذي يدّعي وجود اعتراض واسع كبير مشترك بين المواطنين من شيعة وسنة والحَكَمُ بين الرأيين إنما هو الإستفتاء العام في المسألة.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد وارزقنا الرّشد والحكمة وألهمنا الصواب، ورد علينا عقولنا، وأنقذنا من سفه الرّأي، ومن ضلال العمل واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وكل ذي حقّ خاصّ علينا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين يا كريم يا رحيم.
“إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون”.