آية الله قاسم في خطبة مؤثّرة: لا مُنقِذ لك من الله… فارجع إليه واقطع غرورَك
العاصي لله مضيع للطريق مستخِفٌّ بنفسه مسترخِصٌ لذاته مسيءٌ لقيمته
آية الله قاسم في خطبة مؤثّرة: لا مُنقِذ لك من الله… فارجع إليه واقطع غرورَك
الدراز :
ركّز آية الله الشيخ عيسى قاسم، الحديث في خطبته العبادية ليوم الجمعة 22 شعبان 1433 هـ الموافق 13/7/2012م، على التوبة وترك المعاصي تزامنًا مع موسم “نداءات التوبة” السادس الذي يطلقه المجلس الإسلامي العلمائي أواخر شعبان، ولفت سماحته إلى أن “العاصي لله مضيع للطريق والغاية، مستخِفٌّ بنفسه، مسترخِصٌ لذاته، مسيءٌ لقيمته”.
كما أشار سماحته في المقابل إلى أن “طريق الطاعة إلى الله سبحانه يصنعك قويًّا، ومريدًا، وقويمًا، وهاديًا، ومهديًّا وبنّاءً، وصالحًا، ومُصلِحًا”. وتابع سماحته “لا مُنقذ لك من الله، لا حامي لك منه، لا مغيث لك من أخذه، لا عاصم لك من دونه، فارجع إليه، واقطع غرورك، وانتبه من غفلتك”.
وكان سماحته استهل الخطبة قائلاً: “عباد الله، لا يَطلبُ عاقلٌ رضا ضعيف بغضب قوي، ولا تقرّبًا من فقير بمعصية غني، ولا يشتري حبَّ ناقصٍ ببغضِ كاملٍ. فليس بعاقل من قدّم مخلوقًا على الخالق، واشترى رضا مملوك بسخط المالك، فلنطلب مرضاة الله، ولا يعدل بنا عن ذلك سخط الساخطين، ونقمة الناقمين، فإن أمر الله غير مردود، وأمر غيره تحت حكمه. ألا أن تقوى الله منجية، وتقوى سواه في معصيته مردية، فلا يسفه منا الرأي، ولا نخطئ الاختيار”.
ماذا تفعل الذنوب؟
وسأل سماحته في معرض حديثه عن التوبة: “ماذا تفعل الذنوب؟ خلق الله الناس مبصرين لا عميانًا، مهتدين لا ضلّالا، وجعل لهم عقولًا مدرِكة، وقلوبًا فاقهة، وأسماعًا وأبصارًا من غير أن يقهرهم على الهدى وأن يغيروا ما بهم من نعمة، فللإنسان القدرة من الله سبحانه أن يُبقي على ما له عنده من نعمة، وأن يزداد من عطاء ربه بطاعته، وأن يغيّر نعمة الله عنده بمعصيته، وأن يُخسّر نفسه ما كان من عطائه له”.
وأردف “وما أعظم نعمة القلب الذي يعرف به العبد ربه، ويهتدي به إلى عظمته، القلب الذي يتنوّر بذكر الله ويطمئنّ إليه ويجد كلَّ القوة والوقاية والحمى والأمن من عنده، ويتلقى فيوضًا كريمة ومراتب من الحياة الراقية الجليلة، للانشداد إليه والانفتاح الصادق عليه”.
وأشار آية الله قاسم في خطبة الجمعة إلى أن “هذه النعمة إن حفظها الإنسان وأعطاها حقها وتعامل معها التعامل الذي يرضي الله سبحانه، احتفظ بإنسانيته وارتقى بمستواها ووجد حياة طيبة في الدنيا وحياة طيبة في الآخرة، وتبوّأ مقامًا كريمًا ومنزلة رفيعة عند ربه، وسعادة عظيمة بلا نفاد، وإن أضاعها من وُهِبت له وأساء إليها كان في أسفل سافلين، يقوده إليه غيُّه وضلالُه وعمَاه”.
سجنٌ مظلمٌ..
وقال: “تأتي القلوب أساسًا مبصرةً، وقابلة للزيادة في قوّة الإبصار، والأرواح منفتحة على الله وعلى استعداد لزيادة الانفتاح، ولكن يصيبها من تراكم الذنب وسوء الإثم ما يحدث لها الشك والريب، ويصل بها هذا التراكم أن تُغشّى وتُحجَب عن رؤية النور ومعانقة الحق، فتتحول إلى سجن مظلم، لا نافذة له على شعاع هدى، ولا ثغرة في جداره تطل به على شيء من آيات الآفاق والأنفس، على ما تغنى به تلك الآيات التي لا تعد ولا تحصى من دلالات، أو على شيء مما تزخر به الحياة من عبر وعظات”.
وشدد سماحته على أن “كل آيات الآفاق والأنفس وعِبر الحياة وعظاتها تفقد لغتها وخطابها وقيمتها بالنسبة لجهاز استقبال أفسده صاحبه، وغلفه بألف غلاف سميك يمنعه من الاستفادة من النور. وهل يفعل من يصر على الذنوب بقلبه غير ذلك؟”.
واستشهد آية الله قاسم بمناجاة المطيعين المنسوبة للإمام زين العابدين (ع) التي جاء فيها “واقشع عن بصائرنا سحاب الارتياب، واكشف عن قلوبنا أغشية المرية والحجاب، وأزهِق الباطل عن ضمائرنا وأثبت الحق في سرائرنا”. موضحًا “في هذا الكلام لنا بصائر نرى بها الحق والباطل، ونعرف بها الهدى من الضلال، ونهتدي بها لله (عز وجل) وما يرضيه، ونستدل بها إلى طريق الغاية الكريمة والكمال المنشود، وهي منفذنا الى عالم الحقائق الكبرى”.
التوبة المازحة..
وتابع “لنا عقول وأفئدة تعرف الله، وتجلّه، وتعظّمه، وتحبّه، وترجوه، وتخشاه، ولا ترى مثله شيئًا، وتقدّمه على كل شيء، وتطمئن إليه ولا تطمئن إلى شيء عداه، وتستريح لذكره، ويكسبها أنسًا لا تجده في ذكر أحد غيره، وكل ذلك من إنعامه وإكرامه، لكن هذه البصائر يعلوها سحاب الارتياب، وظلمة الشك، وأغشية وأغلفة من المرية والحجاب، فمن أين يعتروها كل ذلك؟ ويحيط بها؟ ويسد عليها الآفاق؟ ويفقدها رؤيتها النافذة؟ اقتراف الذنب، ومعاودته، وتواليه، وتراكمه، وتسويف التوبة، وتأجيل الأوبة، ومثل ذلك التوبة المازحة، والأوبة غير الجادة والاستغفار الكاذب”.
واستطرد سماحته “وفي هذا الكلام عنه (عليه السلام) أنه بانقطاع القلوب وانحجاب الضمائر بتراكم الذنوب وتكاثفها عن الآيات والدلالات وإضاءات الهدى تلبّست بالباطل واندغمت به، واستذوقته، وحلا عندها طعمه، وانفصلت عن الحق، ووهنت علاقتها به، وصارت في تزلزل وقلق واضطراب”. مُستدركًًا “والإمام (ع) يدخل نفسه في هذا النفر المحتطب على نفسه تواضعًا لربه، وأخذًا بالشِّدّة المغلّظة على نفسه، واستعظاماً للمخالفة النادرة لو حدثت للأمر غير المولوي من أوامر خالقه، مع نزاهته عن الخروج عما أوجب أو حرّم مالكه وسيده سبحانه، والدخول فيما يغضبه”.
وأوضح “وفي هذا الكلام فزَع إلى المولى الحق العلي القدير، ناتج من إحساس عميق بالخسارة، وسقوط ذريع، وفقد لقيمة الذات، وضياع شديد، وغربة ووحشة قاتلة، وفيه تعلق برحمة الله وتمسك بكرمه لإنقاذ السائل من أكبر ورطة تواجه النفس، وكربة تقع فيها وكارثة قاضية على قيمتها ومستقبلها وأملها، إنها خسارة البعد عن الله والوقوع في دائرة مقته وطرده”.
إن لم أتب..
وأكد آية الله قاسم أن “العاصي لله مضيع للطريق والغاية، مستخِفٌّ بنفسه، مسترخِصٌ لذاته، مسيءٌ لقيمته، لا يرى لوجوده قدرًا، ولا يقيم لحياته وزنًا، والمعصيةُ لا تصنع إلا الضّعفَ والانهيار، ولا تنتجُ إلا الانحدار وسحقَ الإرادة”. كما أشار سماحته في المقابل إلى أن “طريق الطاعة إلى الله سبحانه يصنعك قويًّا، ومريدًا، وقويمًا، وهاديًا، ومهديًّا وبنّاءً، وصالحًا، ومُصلِحًا. يكسبك سعادةً هنا، وسعادةً بعد أن تلفظك هذه الحياة”.
وزاد آية الله قاسم “لن تجد قوياً تعتمد على قوته كالله، لن تجد غنيًا تستمد منه الغنى كالله، لن تجد هاديًا تهتدي بهداه كالله، لن تجد حاميًا ملجأً حافظًا كافيًا كالله، لن تجد مجزيًا مثيبًا متكرّمًا متفضّلاً كالله”. وتابع “لا مُنقذ لك من الله، لا حامي لك منه، لا مغيث لك من أخذه، لا عاصم لك من دونه، فارجع إليه، واقطع غرورك، وانتبه من غفلتك، وصحّح تفكيرك، واستعد إرادتك، وافتح عينيك، وعد إلى واعيتك، تدارك أمرك، انهض من كبوتك، انتشل نفسك من غرقك. عليّ أن أنتبه سريعًا من سباتي، أن أتفلّت من قبضة شيطاني، أن أقوم من ارتكاستي، أن أخرج من ذنبي”.
جرس الرحيل..
وختم سماحته الخطبة العبادية بالقول: “أنا لا أدري متى يفاجئني أجلي، اللحظةَ قد يضرب جرسُ الرحيل الذي لا عودة لي بعده لهذه الحياة، ولا يبقي لي فرصة لتدارك تفريطي، وهل يساق من يوفّاه الأجل وهو في بالوعة الذنوب إلّا إلى عذاب قبر؟ ونار برزخ؟ ثم نار قيام؟ كيف أنام على الذنب وأنا لا أدري أتكون لي يقظةٌ من نومي أو لا تكون؟، ألقى صباحًا جديدًا أو لا ألقى؟ أقومُ من فراشي مُريدًا أو أُحمَلَ غيرَ مُريدٍ على أكفِّ الرجال إلى ملحودة عذاب؟ إن لم أتب أندم، حيث لا يفيد الندم، إن لم أتب خاب المنقلب وساء المصير”.
وكان مما دعا به سماحته في مستهل الخطبة “الحمد لله الذي لا تراه العيون، ولا تنالُه الظنون، ولا يحويه مكان، ولا يحده زمان، ولا يصل إليه وهم، ولا يحيط به فهم، كبيرٌ لا نهاية لكبريائه، عظيمٌ لا ساحل لعظمته، قديرٌ على كلِّ شيء، خاضعٌ لقدرته كلُّ شيء. أشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيراً كثيرًا.. اللهم إنه لا حول ولا قوة إلا بك، فاصرفنا عّما لا يرضيك إلى ما يرضيك، وعما يضعُنا عندك إلى ما يرفعُنا عندك، وعما يبعدُنا عنك إلى ما يُقرّبُنا إليك، وعما يَضُرُّ بنا في ديننا أو دنيانا إلى ما ينفعُنا يا جواد يا كريم”.
فيما اختتم الخطبة بهذا الدعاء “اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اغفر ما سلف منا من ذنب، واعصمنا فيما بقي من عمر من كل معاصيك، واجعل لنا إقبالًا شديدًا على طاعتك، ونفورًا بالغًا من مخالفتك، وارأف بنا يا أرحم الراحمين وخير الغافرين، يا أكرم من سُئل وأجود من أعطى”. ودعا في مستهل خطبته الثانية قائلًا “اللهم طهّر قلوبَنا، ونقِّ أرواحَنا، وزكِّ أعمالَنا، ورطِّب ألسنتنا بذكرك، وأجزل عطاءَنا من فضلك، وأسبِغْ علينا من نعمِك، وارفع قدْرَنا عندك يا وليّ العطاء والمن والإحسان”.