مرآة البحرين : لماذا انتحب محمد الساري في حضن الشيخ؟: كان نحيبك يا محمد نحيبنا جميعاً
مرآة البحرين (خاص): ألقى نفسه في حضنه منتحباً. كقادم من ليل موحش طويل ومرعب، ليل تستعصي الكلمات على وصف بشاعته، حين يقابله حضنٌ حبيب يعلم أنه الأكثر إلماماً بجهنّم هذا الليل، حضن لا حاجة له معه إلى كلام يشرح ويبين، ولا أن يروي له تفاصيله الصغيرة والكبيرة، حضنٌ منه وفيه، من سنخ وجعه ونار تجربته، حضنٌ خضّب الهمّ شيبته الوقور قلقاً على هذا الوطن وحزناً على أبناء هذا الوطن، حضن أثقلت المسؤولية الكبيرة جسده النحيل، وزادت عليه بحملها الثقيل، وهمها الطويل. حينها يلقي (هذا القادم) نفسه في (هذا الحضن) بكل ما فيه من رصٍّ ثقيل وموجع وعاجز على الكلام، يترك نفسه للنحيب فقط، النحيب، ليسري كل ما لا يقال منه، إليه.
نحيب (محمد الساري) وهو يرتمي في حضن الشيخ عيسى قاسم الذي جاء مباركاً خروجه من ليل المعتقل، اختلط بكلمات قليلة لم نميزها لتهدجها بالدموع، لكننا حتماً فهمناها لأنها من سنخ وجعنا. فالنحيب على قدر الوجع المكبوت، والوجع على قدر القهر. القهر الذي يقمع إرادة الإنسان ويهتك إنسانيته ويهدر كرامته ويسرق حياته وينهب حريته ويهدر حقوقه ويمحي اعتباره ويستهزئ بوجوده ويتهدده.
لا نعرف أي الصور، كانت هي الأكثر حضوراً لحظة نحيب محمد الساري (24 عاماً)، فلديه من الصور ما تعجز عقولنا عن تصورها، لولا أننا نعيشها واقعاً خرافياً منذ عامين. هل انتحب محمد وهو يتذكر كيف كان متوجهاً بسلامِه، وثلّة من الشباب الطامحين بالتغيير، إلى دوار اللؤلؤة في 18 فبراير 2011، خالين إلا من أعلام بلدهم، وحلمهم الأبيض، فإذا برصاص الجيش يأتي جواباً حاسماً وقاطعاً لأجسادهم قبل أحلامهم؟! هل انتحب وهو يتذكر كيف اخترقت الرصاصة جسده النحيل من جهة صدره، وكيف خرجت من جهة ظهره، قبل أن تصطدم بعمود الإنارة وتترك أثرها القاسي هناك؟ ذلك العمود الذي أُزيل كما أزيل دوار اللؤلؤة كاملاً انتقاماً من مطالب شعب أعزل بالديمقراطية. هل انتحب وهو يتذكر لحظة إصابته، كيف سقط على الأرض، قبل أن يحاول النهوض متكئاً على العلم الذي حرص على أن يبقيه مرفوعاً في يده، ثم يسقط، ثم ينهض، ثم يسقط منهاراً؟
هل انتحب وهو يتذكر جسده محمولاً على أيدي الشباب وقد مزقت الرصاصة رئتيه، والدم يتناثر منه مثل ميزاب، ولا يعرف ما إذا سيعود للحياة مرة أخرى أم أنها لحظة الوداع؟ هل انتحب وهو يتذكر الشهيد رضا بوحميد الذي كان يمشى بجانبه بصدره العاري، وهو يسقط غارقاً في بركة دم لم يقم منها أبداً؟ هل انتحب وهو يتذكر العمليات التي أجريت له، والتي بلغ عددها 3 عمليات خطيرة، تتجاوز مدة الواحدة منها 5 ساعات، وكيف بقى في العناية المركزة لأشهر بين الحياة والموت؟ هل انتحب وهو يتذكر كيف تم اختطافه من مستشفى السلمانية الطبي بعد أن تحول إلى ثكنة عسكرية خلال فترة الطوارئ الأسوأ صيتاً، ونقل دون علم طبيبه المعالِج إلى المستشفى العسكري؟ هل انتحب وهو يتذكر الإهانات التي تعرّض لها على يد من يفترض فيهم أن يكونوا ملائكة الله على الأرض، وهم يضمدون عينيه ويوثقون جسده بالقيود ويضربونه على جراحه ويوجهون له الإهانات وينالون من دينه ومذهبه؟
هل انتحب وهو يتذكر كيف أُلقي في السجن بلا علاج لأكثر من عام وهو يعاني من آلام أضلاعه المكسّرة التي لم يكمل علاجها؟ هل انتحب وهو يتذكر كيف أُخذ للمحاكمة العسكرية وهو في حالته المتهالكة تلك، وبدلاً من محاكمة من أطلق الرصاص نحو سلميته، يحاكم بالسجن لمدة 3 سنوات بتهمة التجمهر، لتخفف فيما بعد لعامين؟ هل انتحب وهو يتذكر كيف قضى في السجن والعذاب والألم والخوف من الذهاب للعيادة الطبية خوفاً من التعرض للمزيد من التعذيب والضرب والإهانات؟ هل انتحب وهو يرى جسده لا يزال بعد عامين مخلخلاً بالألم والكسور التي لم تعالج، والتي لا يعرف ما مصيرها حتى الآن؟ هل انتحب وهو يرى حركة بكل هذه السلمية، تواجه بكل هذه الوحشية، ويطول بها الألم، بالقدر الذي يطول منها الصمود؟ هل انتحب وهو يرى الوطن ممنوع عن الحلم، كما هو ممنوع عن المواطنين؟ هل انتحب وهو لا يعرف أي مستقبل ينتظر هذا الوطن، في ظل نظام أرعن يعامل شعبه كأعداء؟
لا نعرف أي من كل هذا كان حاضراً في نحيب الساري لحظتها، أو جميعه، لكن نعلم أننا جميعاً بكينا معك يا شهيدنا الحي، بكينا معك بقدر ذات الوجع الذي نعيشه منذ عامين. كان نحيبك هو نحيبنا جميعنا..