خطبة الجمعة (588) 7 ربيع الآخر 1435هـ – 7 فبراير 2014م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : الأُلفة
الخطبة الثانية : كلُّ شيء في انتظار الإصلاح – المجلس العلمائي مرة أخرى
الخطبة الأولى
الحمدلله المطّلع على نفوس عباده وما أسرّت، الحافظِ ما كان منهم ولهم أو عليهم من لفظٍ أو عمل، والجازي لكلِّ نفسٍ بما كسبت، الآخذِ لكلّ ذي حقٍّ حقّه، الحَكَم العدل بين الخلائق الذي إليه مردّهم جميعًا، ولا يملك غيرُه من أمرِ شيءٍ شيئًا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله توقّوا النار فوق كلِّ ما تتوقّون من شر، فإنه ليس كالنَّار شرٌّ مما يحذر العباد، لا شدّةَ كشدّة عذابها، ولا جامعيّةَ مثلَ جامعيته لأيِّ عذاب، ولا خلود لعذاب كخلوده. واطمعوا في الجنة أشدّ ما عليه طامع، فإنَّ نعيمها ليس مثله نعيم في جامعيّته، ودرجته، ودوامه.
ولا يصدقُ التوقّي من النَّار، والطمع في الجنّة إلا ممن أحسن النّيَّة والعمل، ولزم طاعة الله تبارك وتعالى، وفارق معصيته، ومن كان كذلك كان من الآمنين، وأهل الفوز العظيم، فلنتّق الله فإنَّ كلّ الربح والفوز في التقوى.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم اجعلنا ممن هديته، واجتبيته فيمن هديت، واجتبيتَ من أهل طاعتك، ورحمته بخاصِّ رحمتك، ومنحته المزيدَ من كرامتك، وجعلته في حصن ٍ حصينٍ من كفايتك ووقايتك، يا خير المأمولين، وأجود الأجودين، وأكرم المعطين، وأرحم الراحمين.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى ما يأتي من حديث آخر في الأُلفة:
للأُلفة مناشئُ وعواملُ مساعِدة، ولها مضادّات وموانع.
مناشئ الألفة وما يساعد عليها:
أولًاوقبل ذكرها: لا توقُّف من فاعلية الإرادة الالهية على الأسباب وهي مخلوقة له، ومحكومةٌ لإرادته لا حاكمةٌ عليها، وهو مُسبِّب الأسباب من غير سبب، وفاعليةُ أيّ سبب إنما هي بفيضه وإرادته، ولا احتفاظ لسببٍ من الأسباب بتأثيره إلا بإذنه سبحانه ومدده.
يقول سبحانه:{هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}([1]).
وعن الإمام عليّ عليه السلام في دعاء يوم الخميس:“فَلَكَ رَبِّيَ الحَمدُ… تَأَلَّفتَ بِلُطفِكَ الفِرَقَ، وفَلَقتَ بِقُدرَتِكَ الفَلَقَ”([2]).
وعن الإمام الباقر عليه السلام:“اِعلَم أنَّ الإِلفَ مِنَ اللّهِ، وَالفِركَ([3]) مِنَ الشَّيطانِ”([4]).
وهذه أسبابٌ من أسباب الألفة، ومناشئ من مناشئِها:
التناسب بين طرفين:
كلما كَثُر أبعاد التناسب بين طرفين واشتدّ هذا التناسب بينهما وُجِدَت بينهما الألفة، والتمازج بين قلبيهما يتبع في درجته ودرجة ذلك التناسب.
وهذا التناسب له أبعادٌ منها:
- التناسب في العقل ومستواه:
عن الإمام عليّ عليه السلام:“العاقِلُ يَألَفُ مِثلَهُ”([5])، وعنه كذلك:“العَقلُ حَيثُ كانَ إلفٌ مَألوفٌ”([6]).
يوجد فاصل يصعِّب التفاهم الكافي، والتلاقي والإنسجام وذلك بين عاقل وجاهل، وبين من ينطلق في تصرُّفاته عن عقل وحكمة، ومن يحكم تصرُّفه السَّفه، وينساق وراء الانفعال.
وحيث يكون عقلان يتآلفان ويلتقي أحدهما الآخر، ويكون بينهما الانسجام.
- التناسب الروحي:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“الأَرواحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنهَا ائتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنهَا اختَلَفَ”([7]).
وعن الإمام علي عليه السلام:“إنَّ النُّفوسَ إذا تَناسَبَتِ ائتَلَفَت”([8]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:“الأَرواحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ تَلتَقي فَتَتَشامُّ كَما تَتَشامُّ الخَيلُ، فَما تَعارَفَ مِنهَا ائتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنهَا اختَلَفَ، ولَو أنَّ مُؤمِنا جاءَ إلى مَسجِدٍ فيهِ اُناسٌ كَثيرٌ لَيسَ فيهِم إلّا مُؤمِنٌ واحِدٌ، لَمالَت روحُهُ إلى ذلِكَ المُؤمِنِ حَتّى يَجلِسَ إلَيهِ”([9]).
وعنه عليه السلام:“إنَّ روحَ الإِيمانِ واحِدَةٌ، خَرَجَت مِن عِندِ واحِدٍ([10])، وتَتَفَرَّقُ في أبدانٍ شَتّى، فَعَلَيهِ ائتَلَفَت، وبِهِ تَحابَّت”([11]).
كل روح تشَمُّ من الأرواح الأخرى ريح طبيعتها، ومحتواها والروح الطيبة تجتذبها الروح من مثلها، وتنفر من الروح الخبيثة التي تؤذيها روحها.
فالائتلاف إنما يكون بين روحين تلتقيان في طبيعتهما، أما روحان من طبيعتين مختلفتين هذه طيبة وتلك خبيثة فيحكم علاقتهما الافتراق والابتعاد.
وروح الإيمان في شخصٍ تلتقي وتنسجم وتجد ضالتها في روح الإيمان في الشخص الآخر وتجمع بينهما معرفة الله عزَّ وجل([12]) وحبّه والالتقاء على طريقه والقصد إليه([13]).
- الإسلام والإيمان:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“المُؤمِنُ مَألَفَةٌ، ولا خَيرَ فيمَن لا يَألَفُ ولا يُؤلَفُ”([14]). وعن الإمام عليّ عليه السلام:“إنَّ اللّهَ عزَّ وجل جَعَلَ الإِسلامَ صِراطا، مُنيرَ الأَعلامِ، مُشرِقَ المَنارِ، فيهِ تَأتَلِفُ القُلوبُ، وعَلَيهِ تَأخَّى الإِخوانُ”([15]).
الإيمان والإسلام يخلقُ المحبَّة العميقة، ويبنى الأُخَّوة الصادقة، فالقلب المؤمن هواه في القلب المؤمن ويجد فيه ألفَه، والمسلم الصادق يجد في المسلم من مثلِه أخاه، فيلتقيان.
- ولاية أهل البيت عليهم السلام:
عن الإمام الصادق عليه السلام:“نَحنُ أهلَ البَيتِ النَّعيمُ الَّذي أنعَمَ اللّهُ بِنا عَلَى العِبادِ، وبِنَا ائتَلَفوا بَعدَ أن كانوا مُختَلِفينَ، وبِنا ألَّفَ اللّهُ بَينَ قُلوبِهِم، وَجَعَلَهُم إخوانا بَعدَ أن كانوا أعداءً”([16]).
الإلتقاء في أهل البيت عليهم السلام التقاء في الله سبحانه بما أنهم طريق صادق إليه، ولا يميلون بمحِبّيهم ومتّبعيهم إلَّا إلى حبّه واتباعه وبذلك يكونون سبباً قويّاً لالتقاء القلوب والأرواح على معرفته ومحبّته فينعطف بعضها على بعض وتتوافى وتتآلف. هذه جنبة([17]).
على أنَّ تربية أهل البيت عليهم السلام، ومنهجهم الكريم الذَينِ يُمثّلان الإسلام الصافي النقي يأخذان بقلوب المؤمنين من خلال القدوة الحسنة والممارسة العملية إلى أرفع أُفق وأروع مستوى من التعامل الإجتماعي الناجح الذي يؤدي إلى تلاقي الأرواح وائتلاف النفوس.
هذا عن التناسب بين أفراد النّاس ومجاميعهم روحًا وعقلًا وعقيدة حقّانية كريمة، ومنهجًا سماويًّا صادقاً، وانتماء إلاهيًّا للقيادة الإيمانية المعصومة المصطفاة من الله.
والتناسب في هذه الأمور هو الأساس المتين والثابت والأعظم في خلق حالة الائتلاف والانسجام بين الناس.
ثم إنَّ هناك أموراً أخرى تساعد على تقوية وتمتين وتوسعة هذه الحالة، وتفيد في حالة من التقارب وتضييق الفاصلة.
وهذا ما تذكره الأحاديث الشريفة الآتية ولا أقف عندها كثيراً اجتناباً للتطويل:
1)رعاية الحقوق:
عن الإمام عليّ عليه السلام في بيان الحقوق التي أوجبها الله تعالى:“ثُمَّ جَعَلَ مِن حُقوقِهِ حُقوقا فَرَضَها لِبَعضِ النّاسِ عَلى بَعضٍ، فَجَعَلَها تَتَكافى في وُجوهِها ويوجِبُ بَعضُها بَعضا، ولا يُستَوجَبُ بَعضُها إلّا بِبَعضٍ، فَأَعظَمُ مِمّا افتَرَضَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى مِن تِلكَ الحُقوقِ حَقُّ الوالي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوالي، فَريضَةٌ فَرَضَهَا اللّهُ عز وجل لِكُلٍّ عَلى كُلٍّ، فَجَعَلَها نِظامَ اُلفَتِهِم وعِزّا لِدينِهِم”([18]).
فالوالي عليه أن يأخذ في تعامله مع شعبه وأمّته المؤمنة بالمنهج الحق([19])، ويلتزم العدل، ويبسط عليهم جناح الرحمة، ويرون منه الصدق والإخلاص والوفاء، ويرعى لهم حقّ دينهم ودنياهم، وعندئذ تكون له الطاعة والتعاون من الشعب والأمة معه على الخير، وينال منهم الثقة والالتفاف.
2)حسن العشرة:
عن الإمام علي عليه السلام:“إنَّ أحسَنَ ما يَألَفُ بِهِ النّاسُ قُلوبَ أوِدّائِهِم، ونَفَوا بِهِ الضِّغنَ عَن قُلوبِ أعدائِهِم: حُسنُ البِشرِ عِندَ لِقائِهِم، وَالتَّفَقُّدُ في غَيبَتِهِم، وَالبَشاشَةُ بِهِم عِندَ حُضورِهِم”([20]).
وهذا نوع من التعامل الاجتماعي الناجح الذي يدعو إلى الأُلفة، ويُخفِّف من التوترات حتى بين الأعداء.
3)اظهار المحبَّة:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“إذا أحَبَّ أحَدُكُم أخاهُ فِي اللّهِ فَليُعلِمهُ؛ فَإِنَّهُ أبقى فِي الاُلفَةِ، وأثبَتُ فِي المَوَدَّةِ”([21]).
المحاسن عن أبي البلاد:“مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسجِدِ وأبو جَعفَرٍ عليه السلام جالِسٌ وأبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام، فَقالَ لَهُ بَعضُ جُلَسائِهِ: وَاللّهِ إنّي لَاُحِبُّ هذَا الرَّجُلَ.
قالَ لَهُ أبو جَعفَرٍ عليه السلام: ألا فَأَعلِمهُ؛ فَإِنَّهُ أبقى لِلمَوَدَّةِ وخَيرٌ فِي الاُلفَةِ”([22]).
فنجد من الحديثين الشريفين أن إظهار المودّة الصَّادقة للطرف الأخر فيها عامل دعم إضافي وتقوية للألفة إذا انضمَّ إلى المحبَّة الباطنية للأخ في الله سبحانه([23]).
تبقى من بعد ذلك أسباب ثانوية أخرى، وتبقى تكملة للحديث في موضوع الألفة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا ولكل المؤمنين والمسلمين سبيلًا سهلًا إلى الألفة والاتحاد وترك العداوة والتشاحن بمزيد من معرفتك، والأخذ بطاعتك والاقتداء بأهل بيت نبيك صلّى الله عليه وعليهم، والتزام المنهج الحق، والخلق الكريم، والتعامل السليم الذي أمرت به إنك القوي القدير، الوهاب الكريم.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}([24]).
الخطبة الثانية
الحمدلله الذي دعا عباده وهو الغنيُّ عن كلّ ما خلق ومَن خلق لطاعته، وحذّرهم من معصيته، وفتح لهم أبواب الهداية، ودلَّهم عن سُبُل السلام، وسهّل لهم الطريق، وأوضح المنهج إيصالًا لهم إلى كمالهم، وإنقاذًا لهم من كلّ مضيق، ووعد محسنهم، ووعده صدق، بمضاعفة الثواب، وتوعّد مسيئهم، وهو القادر، بشدّة العقاب، وكلّ ذلك لينالوا السعادة في الدنيا، ويبلغوا درجاتها العالية في الآخرة، فله الحمد أولًا وآخرًا وهو الوليّ الحميد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله اصبروا على طاعة الله والزموا طريق تقواه، فلا تُقاس صعوبةُ الصبر على ثِقْل التكليف إلى ما ينتظر العُصاة لجبّار السماوات والأرض من سوء المصير، وشدّة العذاب، وطول الشّقاء وبؤس المنقلب، ولا إلى ما أعدّه سبحانه إلى أهل طاعته من عظيم الثواب.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربّنا افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
اللهم إنّه لا خير لأحد في دنيا أو آخره إلّا بك، فكن لنا برحمتك في أمر ديننا ودنيانا، ولا تكِلنا في أمر كَبُر أو صغُر من أمرهما لأنفسنا أو لأحد من خلقك يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد المصطفى خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فهذا حديث في محورين:
أولًا: كلُّ شيء في انتظار الإصلاح:
هناك سرقات في المال العامّ، نهبٌ للأراضي المملوكة بالملكيّة العامّة، تبذيرٌ في الثروة المملوكة للشّعب، أموالٌ تُنفق وبإسرافٍ في شراء آلة الفتك بالشّعب، استيرادٌ لسفّاكي دم الشّعب، حاجةٌ متزايدة عند السلطة للاعتماد على المعونات المالية من الخارج بما يعنيه ذلك من آثار سلبية على الشّعب والسلطة نفسها، وعلى استقلاليتها في قرارها، سوءُ ادارة مالية، وفي مرافق متعدّدة من مرافق الدّولة، تغييبٌ مفزعٌ للأمن، وللتوزيع العادل، وللثروة وللخدمات العامة، تهميشٌ سياسي فاحش للشعب، وضعٌ قلقٌ لا يخدم الاستقرار الإقليمي، ولا يصبُّ في مصلحة الأمة، احتمال مواجهة الاقتصاد المحلّي مصيرًا أسود، وكارثة قاتلة، تهديدٌ جدّي للبناء الاجتماعي بما يُؤدّي إلى كارثة حقيقية بالغة الخطورة، سلبٌ للحريات الكريمة البنّاءة، تباطؤٌ أو تخلّفٌ في النّمو الثقافي، تأخّرٌ أو تردّي في المستوى التعليمي، حالة انفلاتٍ في الاعلام ونسيان للقيم الدينية والأخلاقية والانسانية، ركوبُ الانتهازيين والاستغلاليين ممن لا يُفكِّرون إلا في مصالحهم المادية لموجة الأحداث تحقيقًا لتلك المصالح، وإضرارًا بالوطن والمواطن من كلّ الأطراف، ألوف المواطنين والطاقات الفاعلة ذات القدرة على العطاء والإنتاج النافع تُغيَّب في السجون.
كلُّ هذا صار موجوداً في الساحة المحليَّة وأوضاع الوطن، ولا تخلُّص من شيء من ذلك ولا مخرج من مأساته إلا بالاصلاح.فهي تبِعاتُ فسادٍ عمّت كل من السلطة والشّعب ولها أثرها السيء على الإقليم والأمة.
وأيُّ إصلاحٍ يكون الطريقَ للتخلُّص من هذا الرُّكام الضخم المرهق للوطن كلّه، ولكلِّ من فيه لو نُظِر إلى الأمر بعين التحقيق؟
إنّه الإصلاح الجدّي، الكافي، الشامل. ولا يمكن أن يتأتّى إصلاحٌ بهذا الوزن ما لم يكن إصلاحٌ سياسيٌّ بحقّ يأخذ فيه الشعب موقعه المناسب المعترَف به نظريًّا من الجميع في مجال السلطات الثلاث، وصوغ الدستور.
والسّلطة لا يفوتها إدراك هذا الأمر، ومعرفته تمام المعرفة.
والشعب عندما يُطالب بالاصلاح إنما يطالب هذا النوع من الإصلاح بعينه، ولا يقصد سواه. لأن هذا الاصلاح بعينه هو ما يعالج وضع الوطن ولا علاج فيما دونه.
وأنتَ لو سمّيتَ ما ليس إصلاحًا، إصلاحًا فلن يعطي أثره([25])، ولن يحلّ مشكلته ولو سمّيت الإصلاح الهزيل القزم اصطلاحًا عظيمًا وعملاقًا لن يغير من مستوى إنتاجه في الواقع.
ولو أراد طرفٌ بأن يتعامل مع الأمور بأذنٍ صمَّاء وعينٍ عمياء فهو وما يريد، ولكنَّ الكوارثَ لتخلُّف الاصلاح الحقيقي ستزيد في تركُّزها وتمدّدها، وستزيد مصيبة الوطن.
ومن لا يريد الإصلاح لابد أن يكون قد أراد أن تبقى كلُّ مشاكل الوطن والمواطنين وتتكثّف وتتفاقم، وأن يكون قد ذهب به القصد إلى القول: فليكن ما يكون بالوطن ومئات الألوف من النّاس، وأن تجرَّ الأزمة ما تجرّ من شروخٍ وآثارٍ سيئة على المنطقة وحتّى الأمة ما دام يرى في حالة الصِّراع حفاظًا على مصالحه التي تتركز في ماديّات الدنيا ولواحقها غافلًا على أنَّ المشاكل العامة للأوطان لا يسلَم أحدٌ من تبعاتها، وأنَّ الأمور لا تجري دائماً وِفْقَ ما يُخطِّط له ويريد، وما يذهب إليه من أماني واهمة.
إن ربح الإصلاح هو في الحقيقة ربحٌ للجميع حتى في من يرى أنّه فيه ضرره.
السلطة تكسب منه استقرارًا، واستراحةً من مواجهة غضب الشعب ونقمته، وتخرج من التبعيّة الاضطرارية التي تفرضها عليها الحاجة الملحّة للأطراف الخارجية التي ترى فيها الاستقواء المطلوب لها في الصّراع، ولا تحتاج إلى التغيير السُّكاني والاستبدال عن المواطنين بمواطنين مستورَدين لا ارتباط لهم بالأرض وتاريخيها ولهم خصائصهم البيئية الأخرى ويُهددون مستقبلَها([26])، وهي بذلك توفر ميزانيةً وفُرُصَ عملٍ وتعليمٍ وخدمات تعالج مشكلتها مع الشعب الذي يُعاني من الظلم والحرمان.
وربح الشعب من الإصلاح أن يستعيد حقوقه ويُعترف له على الأرض ومجريات الواقع بحرّيته وإنسانيته وموقعه وكرامته، وحينئذٍ يندفع الاندفاعة القوية والمنتجة والفاعلة في سبيل إعمار الوطن وإحيائه والنهوض بمستواه.
الوطنُ كلّه مستفيدٌ من الإصلاح فوطنُ العمل الجادّ المتفرّغ للبناء، ووطن الثقافة العالية والإنتاج العلمي والعملي المتقدّم، ووطنُ الأمن والسلام والمحبّة والأخوّة لا يبنيه إلا الإصلاح والأخذُ بالحقّ، وإقامةُ العدل وانهدامه في بقاء الفساد والإفساد.
ومن رأى نفسه أنّه يربح بتعطيل الإصلاح فإنّه مخطئٌ كلَّ الخطأ في تفكيره، وواقعٌ تحت تأثير الوهم. الصحيح أنَّ مصلحته الحقيقية في الإصلاح لا في تعطيله، وفي جدّيته لا هزله.
وما يراه من مصالح له في بقاء الوضع الفاسد هي في الحقيقة مفاسد لا على مستوى الآخرة فقط، وإنما حتى على مستوى دنياه التي تملك عليه شعوره وتفكيره.
وإذا كان الشعب يُصِرّ على قضية الإصلاح وغير مستعدٍّ إطلاقًا للتراجع عنها، وذلك حقٌ بيّنٌ له وبيّن الضرورة لمصلحة الوطن وكلّ الأطراف، بينما أصرّت أيُّ فئة اجتماعية بغضّ النظر عن انتسابها ومنطلقاتها([27]) على بقاء الوضع الفاسد وعدم التزحزح عنه، والفسادُ بيِّنُ الضرر حتى على صاحبه([28]) فإما أن يكون هناك قادرٌ نافذ الكلمة في حسم الأمر وإنهاء الخلاف، وإما ألاّ يكونَ من هو كذلك. ونتيجة الفرض الأخير([29]) مع توازن الطّرفين هي استمرار الصراع والخسارة المحتّمة لهذا الوطن المشترك الذي يجب أن يكون عزيزًا على الجميع([30]).
وعلى تقدير أن يوجد من هو قادرٌ على حسم الخلاف بين الشعب الداعي إلى الإصلاح ومن يصرّ على بقاء الظلم فإمَّا أن يترجّح عنده عملًا([31]) بقاء الوضع الأسود لينتهي الوطن إلى المصير الأسود([32]) وإمَّا أن يعمل على الإصلاح، ويدفع بعجلته سريعًا إلى الأمام ليأخذ بالوطن إلى مستقبلٍ منير.
وهنا يأتي دور الدّين والعقل والضمير، ورعاية المصلحة الوطنية واحترام كرامة الإنسان وجودًا وعدمًا، قوة وضعفًا في مسألة الترجيح والإختيار.
المجلس العلمائي مرة أخرى:
المجلس الإسلامي العلمائي ليس الدّين، وليس المذهب، وليس الأمّة، ولا الوطن، ولا أظنّ من يقول ذلك، ولو قالها قائلٌ كان قوله من الكذب المقيت، أو الجهل المرّكب والاشتباه الواضح البيِّن([33])، ولكن المجلس العلمائي مؤسَّسةٌ رساليّة مخلِصة صادقة منفتِحة أمينة تخدم الدّين والمذهب والأمة والوطن والإنسانية، ومن المؤسسات التي تحتاجها مصلحة هذه الجهات كلِّها وتصبُّ في صالحها.
والإضرار بالمجلس العلمائي في ضوء الحاجة الواضحة البيّنة من كل هذه الجهات للمؤسسات الإصلاحية الرّسالية الواعية المنفتحة الداعية إلى المحبّة والأخوّة والسلام والخير والهدى، والمجلس مثالٌ ظاهرٌ جليٌّ لهذا النوع من تلك المؤسسات، وأيُّ مسٍّ به، وعدوانٍ عليه يُمثّل مسًّا بكل تلك الجهات، واضرارًا بها، وعدوانًا عليها بلا أدنى إشكال.
المجلس الإسلامي العلمائي مشروعٌ تبليغي لابد منه بحسب الظروف المعقَّدة لعملية التبليغ ومتطلباتها وتعدُّد فروعها، ولابديّة التنسيق الذي يوازن بينها، والتكامل الذي يُلبّي الحاجة إليها.
والمذهب الذي يُراد له أن يبقى حيًّا لابد من تعليمه وتعلّمه وتوصيله لأتباعه وتبليغه، وحيث لا ينال مذهبٌ حقّه من التعليم والتعلّم والتبليغ على مستوى المدارس والجامعات والإعلام الرّسمي فلابدَّ له من حوزاته ومدارسه، ومؤسساته التبليغية، ولا أولى من العلماء بعملية التعليم الدّيني والتبليغ، ولا تقوم هاتان الوظيفتان بدونهم ودون اجتماع جهودهم وتنسيقها عبر مؤسسة الحوزة ومؤسسة المجلس، والمؤسسات من نوعهما([34]).
ويبقى أيُّ كلامٍ آخر ناقضٍ لهذا الأمر الواضح داخلٌ في باب التشويش على الحقيقة والجدال بالباطل والمراوغة والتهرُّب والالتفاف الذي لا يمكن أن يُسلّمَ له أمر دينٍ ولا مذهب ولا يستجيب له.
المجلس العلمائي حقٌ ديني ثابت لا يُنازَع أهله عليه إلا بباطل، ولا يمكن لأهله التراجُع عنه ونسيانه وإهماله.
ومع كوننا نرى أنَّ الكلام في السّياسة حقُّ كلِّ مواطن، ولابُدَّ من الكلام السياسي المصلح من كلّ من يهمه أمر وطنه ويُحسِن الكلمة إلا أنَّ المجلس الإسلامي العلمائي قضية دينٍ ومذهب قبل كلِّ شيء.
سواء كانت مشكلة سياسية أو لم تكن، ووجد داعٍ للكلمة السياسة أو لم يوجد فإنَّ المجلس العلمائي ضرورةٌ من ضرورات الدين اليوم التي لابد منها، ولا غنى للمجتمع عنها، والكل مسؤول عن رعايته، والحفاظ عليه، وحمايته، وبقائه.
وكلّ المؤمنين واعون لذلك، ويدركون أنّ عليهم أن يخلصوا لدينهم ويقفوا معه في كل المواقف([35]).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أجرِ على ألسنتنا كلمة الحقّ، والخير، والصلاح، وأعفّها عن كلمة الباطل، والسوء، واجعل ذلك عن صدق نيّة، وسلامة قصد، واستجابة قلب لأمر دينك القويم، واجعل عملنا دائمًا موافقًا لرضاك، يا ذا المنّ العظيم، والفضل الجسيم، والإحسان القديم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([36]).
[1]– 62، 63/ الأنفال.
[2]– بحار الأنوار ج87 ص207 ط3 المصححة.
[3]– والفرك هو البغض.
[4]– الكافي ج5 ص500 ط3.
[5]– المصدر السابق ص266.
[6]– المصدر السابق.
[7]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج3 ص266.ط1.
فالأرواح تتلاقى، ويكون بعضها جندًا في جنب بعض، ولكن ليس على الإطلاق، وإنما إذا كانت روح ملتقة مع روح في مضمون اتحدتا، وكلما ابتعد مضمونهما عن بعضهما البعض كلما افترقتا وتناكرتا.
[8]– المصدر السابق.
فالأرواح تتلاقى، ويكون بعضها جندًا في جنب بعض، ولكن ليس على الإطلاق، وإنما إذا كانت روح ملتقية مع روح في مضمونهما اتحدتا، وكلما ابتعد مضمونهما عن بعضهما البعض كلما افترقتا وتناكرتا.
[9]– بحار الأنوار ج71 ص273، 274 ط2 المصححة.
لروحه حاسّة شم تلتقي بها مع روح تُقاربها.
[10]– وهو الله تبارك وتعالى.
[11]– الاختصاص للشيخ المفيد، ص249 ط2.
وهنا ستسأل: الأرواح كلّها خارجة من عند الله سبحانه وتعالى، فكيف يُخصّ هذا بالأرواح المؤمنة؟
[12]– صادران روحان من عند الواحد، وبقيت كلّ واحدة منهما منشدة إلى ذلك الواحد، بقيت روح الإيمان في الأشخاص المختلفين منشدّة إلى بارئها، ملتقية على معرفته. أما روح الإنكار والكفر فصحيح أن ليس من روح إلا وقد صدرت من الله، لكنها لم تصدر وهي كافرة، فحيث كفرت ابتعدت عن الله فتختلف مع الروح الأخرى.
[13]– وهذا بخلاف الأرواح الكافرة.
[14]– مسند أحمد ج5 ص335.
المؤمن مألفة لإيمانه، اعتبر العنوان، ليس الشخص بما هو شخص في نفسه، وإنما هو بما هو مؤمن.
[15]– الكافي ج5 ص371 ط3.
أخذوا أخوّتهم منه، التقوا عليه وفيه.
[16]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج3 ص269 ط1.
[17]– لما كان أهل البيت عليهم السلام سبب ائتلاف، ذاك وجه، ويأتي الوجه الآخر.
[18]– الكافي ج8 ص353 ط4.
[19]– الذي يلاقي بين القلوب، وإلا لا تتلاقى معه.
وأول منهج الحق هو التسليم لأمر الله سبحانه وتعالى.
[20]– تحف العقول ص218 ط2.
الآن تبشّروا من جهة، وأن تُبشّر حضورهم من جهة، يعني يكون لك سبب بشاشة، أن تظهر البشاشة لحضوره وكأنك فرح به.
[21]– كنز العمال ج9 ص25.
[22]– المحاسن ج1 ص266
طبعا لا أبغضه وأدعي أنني أحبّه، فيكون كذبا.
[23]– المحبة الباطنية جاذب وأساس، وإظهار المحبة عامل مساعد.
[24]– سورة التوحيد.
[25]– سمّه إصلاح، وهو فاقد لحقيقة الإصلاح، فلن يعطي أثر الإصلاح.
[26]– هذا تستغني عنه كلّه.
[27]– كانت من هذه الطائفة أو من تلك الطائفة، من هذه الشريحة أو تلك الشريحة لا يهم.
[28]– إذا انقسمنا إلى هذا الانقسام، الشعب يرى ضرورة الاصطلاح، وفئة تصرّ على بقاء حالة الفساد والإفساد.
[29]– وهو أن لا يكون أحد قادر على حسم النزاع.
[30]– وأن يحرص الجميع على مصلحته التي هي مصلحته.
[31]– عند هذا القادر أو هؤلاء القادرين.
[32]– الوضع الأسود لا يقود إلا إلى مصير أسود، واضح.
[33]– ومن المؤسف أن هناك من يتهم الساحة بوجود قائلين بذلك، يتهم الدينيين بأنَّ منهم من يقول بأن المجلس العلمائي هو الدين وهو المذهب.
[34]– فنحن بين أمرين، إما أن نريد أن يبقى هذا المذهب حيًّا، ولابد لذلك من مثل هذه المؤسسات، وإما أن نقرّر أن يموت هذا المذهب، وعندئذٍ لنا أن نتخلى عن هذه المؤسسات وللآخر أن يقضي عليها.
[35]– هتاف جموع المصلين (معكم معكم يا علماء).
[36]– 90/ النحل.