خطبة الجمعة (582) 16 صفر 1435هـ – 20 ديسمبر 2013م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : الأمل
الخطبة الثانية : البحرين والعروبة والإسلام – هل لا حقَّ أبدًا؟ – احذروا الفتنة بينكم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا مفرَّ لعبدٍ إلّا إليه، ولا يجدُ أحدٌ مخلَصًا من قَدَرِه، ولا يُصيبه إلّا ما أراده، وكلّ قدره حكمة، وكلّ قضائه عدل، ولا حكمةَ إلّا من حكمته، ولا عدلَ إلّا من عدله، وما الحقُّ إلّا ما ارتضى لا ما ارتضى غيره، ولا حقّ فيما خالف شرعَه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله للخير أهل، وللشرّ أهل، ودعوةُ الله تبارك وتعالى للخير وكذلك دعوةُ عباده الصَّالحين، وداعيةُ الشرّ الشّيطان الرَّجيم، ومن تبعه من الغاوين، فلنكن ممن استجاب لدعوة الله العزيز الحكيم الرَّحمان الرَّحيم، لا لدعوةِ الشّيطان الغويّ العدوّ المبين.
ومن استجابَ لدعوة الله ضَمِنَ الفوز الذي وعد به عباده المتّقين، ومن ساير الشّيطان كان معه في عذابِ السَّعير.
فلنحسنْ لأنفسنا اليوم بطاعة الله لنكون قد أحسنَّا لها غدًا بنيل الجنّة والكرامة لديه، ولا نُسِيءْ لها اليوم بمعصيته فنلقى إساءتنا لها غدًا نارًا، وخلودًا في العذاب الأليم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم إنّه لا حولَ لنا ولا قوةَ بلزوم طاعتك، ومفارقةِ معصيتك إلّا بتوفيقك وحولٍ وقوةٍ من عندك فتفضّل علينا بتوفيقٍ منك وحولٍ وقوةٍ بما لا نُفرّط معه في طاعة من طاعاتك، ولا نقع في معصية من معاصيك، ولا تعاملنا بما نستحقّ من خذلانك يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالموضوع لهذا الحديث هو الأمل:
والأمل يعني توقُّع الخير فيما تراه النفس كذلك، والتعلُّق به، والتطلُّع إليه.
ولو لا الأمل ما تحرّك إنسانٌ خطوة للأمام، ولتوقّفت عجلة التقدّم في حياة النّاس. فماذا يُحرّكني أو يُحرّكك خطوة للأمام في اتجاه المطلوب إذا استولى علينا اليأس من الوصول إليه، وانعدم عندنا توقُّع أن يحصل؟!
فمن أراد أن يُوقف ساعيًا عمن مطلبه كفاه أن يقضى نفسيًّا على أمله في تحقيقه. فعندئذ ستتوقّف حركة ذلك السَّاعي على طريق ما أمَّل الوصول إليه.
وزيادة الأمل تعطي زيادة في الحيويّة والنشاط والجُهد على طريق المأمول. وما يُصيب الأمل من وهنٍ بأيّ عامل من العوامل يُصيب التحرُّك في اتجاه المأمول من الوهن والفتور بقَدَرِه.
حياةُ الناس تتخلَّف، وتنشلّ حركتها، وتؤول إلى التوقُّف حين تَعدِمُ الأمل.
فالأملُ عند الإنسان وهو فطرةٌ عامة رحمةٌ من الله به، وحكمة إلهيّة من أجل استمرار الحياة.
عن رسول الله صلَّى الله عليه آله:“إنَّمَا الأَمَلُ رَحمَةٌ مِنَ اللّهِ لِاُمَّتي، لَولَا الأَمَلُ ما أرضَعَت اُمٌّ وَلَدا، ولا غَرَسَ غارِسٌ شَجَرا”([1]) لا صناعة، ولا زراعة، ولا طلب علم، ولا سفر، ولا عمل، ولا أيّ إعمار وإنتاج في غياب الأمل، وذوبان الرَّجاء، وهو الشَّلل الكامل للحياة.
والنفس الفاقدة للآمال واقعةٌ في النَّفَق المظلم الكئيب للوحشة، ومأسورة لها، فهي محتاجة في أُنسها للأمل. وهناك مؤمِّل في الخالق، وهناك مؤمِّل في المخلوق([2]).
وعن الإمام عليّ عليه السلام:“الأَمَلُ رَفيقٌ مُؤنِسٌ”([3]).
ولأنَّ الإنسان يحبّ الخير ما حيي، ويتطلّع بفطرته دائمًا للكمال كانت آماله لا تنتهي، وما من أمل تحقّق له في حياته إلّا وتعلّقت نفسه بأمل آخر فوقه مما يمثّل امتدادًا له، وحلقة من حِلاق آمال متتابعة.
فمن رأى في العلم كمالًا له واصل سعيه إليه، ولم يتوقّف عن إرادة المزيد منه ولو تحقَّق له ما تحقَّق منه، ولن يُمثِّل أيّ مستوى من مستويات العلم أُنجِزَ له نهاية السير في طلبه.
ومِثْلُه طالب المال، وطالب الملك، وطالب القوة والشهرة، وأيُّ طالب لأمرٍ من أمور الدّنيا والآخرة مما يرى فيه خيرَه وكمالَه، وله أمل فيه.
وفي ذلك نقرأ هذه الكلمة عن الإمام عليّ عليه السلام:“الآمالُ لا تَنتَهي”([4]).
وتظلُّ الآمال تدفع بالإنسان إلى الحركة في اتجاه ما يراه خيرًا له ما عاش وإن عمَّر وما وَجَدَ إلى ذلك سبيلا.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“يَهرَمُ ابنُ آدَمَ وتَشِبُّ مِنهُ اثنَتانِ: الحِرصُ وَالأَمَلُ”([5]).
وفي بعض مصادر الحديث بدل تشِبُّ تبقى، وعلى القراءة الأولى ينضاف إلى استمرار الأمل ما دام للإنسان عمر، أن يزداد قوّة مع الأيام([6])، يكتسب هذا الأمل شبابًا وصاحبه في هرمه.
وعند الإنسان أمل وله أجل، وإن أنساه أملُه أجلَه شغله حاضرُه عن مستقبله، وتفاجأ بما لم يكن يحتسبه يوم تُوافيه منيّته، وعندئذ تعظم خسارته وحسرته.
ويضرب الرسول الكريم صلَّى الله عليه وآله مثلًا يصوّر هذه الحالة فيما جاء من الحديث عنه صلّى الله عليه وآله بشأنها:“مَثُلَ الإِنسانُ وَالأَمَلُ وَالأَجَلُ؛ فَمَثُلَ الأَجَلُ إلى جانِبِهِ والأَمَلُ أمامَهُ، فَبَينَما هُوَ يَطلُبُ الأَمَلَ أمامَهُ أتاهُ الأَجَلُ فَاختَلَجهُ”([7]).
وعن معدن الجواهر:“أخَذَ [رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله] حَجَرَينِ، فَأَلقى بَينَ يَدَيهِ حَجَرا وقالَ: هذا أمَلُ ابنِ آدَمَ. وألقى خَلفَهُ حَجَرا وقالَ: هذا أجَلُهُ، فَهُوَ يَرى أمَلَهُ ولا يَرى أجَلَهُ”([8]).
والأملُ المنسي للآخرة، الملهي عن أمرها هو ما تعلَّق برغائب الدّنيا ومشتهياتها فجمّد النّظرَ عندها، ووقف بالهمّ عليها، وهو صارفٌ عن الله سبحانه، آخذٌ بالنفس إلى انحدار.
أمّا أملُ الآخرة فيُثير فيها ذكر الله، ويتجه بسعيها الزَّاكي إليه.
والآمالُ الدنيوية الدَّانية المتمثّلة في أمانيها الكاذبة([9]) تلاحق المُغرَمين بالدنيا ولا أَجَلَ لها إلّا بالموت، وتقول الكلمة عن الإمام عليّ عليه السلام في هذا:“تَأريخُ المُنَى المَوتُ”([10]).
ولأنه لا تُبلغ الدّنيا إلا بالسعي، ولا تُبلغ الآخرة، إلا به، ومن لا أمل له لا سعي له، ولا يُتوقع منه العمل كان لابد من أمل يُحرّك على طريق طلب الدنيا، وأمل يُحرّك على طريق طلب الآخرة.
ولكنَّ العقلَ والنقلَ يُحذّران من طول الأمل في الدنيا وتعاظمه([11]) وأن يتجاوز ما عليه قدرُها، وقلّة ما يمكن لها من عطاء، وضيق ما لها من توفّر على السعادة، وحقيقة ما هو محتّم من نهايتها([12]).
ومن الحديث الشريف في ذلك وهو كثير:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله من وصيته إلى معاذِ بن جبل لما بعثه إلى اليمن:“اُوصيكَ بِتَقوَى اللّهِ… وحُسنِ العَمَلِ، وقَصرِ الأَمَل، وحُبِّ الآخِرَةِ”([13]) ووالٍ ليس له هذه الصِّفات سَبُعٌ ضارٍ([14]) على من حَكَم.
وعنه صلّى الله عليه وآله:“عِبادَ اللّهِ! إنَّكُم في دارِ أمَلٍ، بَينَ حَياةٍ وأجَلٍ، وصِحَّةٍ وعِلَلٍ، دارِ زَوالٍ وتَقَلُّبِ أحوالٍ، جُعِلَت سَبَبا لِلِارتِحالِ، فَرَحِمَ اللّهُ امرَأً قَصَّرَ مِن أمَلِهِ”([15]).
فإذا بَنَيتَ لا تبنِ أكثر من حاجة الدنيا، وإذا بنيت كذلك فما تبنيه من زائد، على حاجتها ابنهِ للباقية، وإذا أجهدتَ نفسك فيها فلا تُجهدها في طلب الرزق بأكثر من مُتطلَّبها، وإذا فعلت ذلك فليكن ما طلبتَ مما يفيض عن حاجتها لآخرتك لا لها. وبهذا تكون قد قصَّرت أملك فيها، ولا تجمع لألفي سنة تعيشها فيها فالواقع يقول لك بأنَّ هذا طول أمل كاذب([16]).
وعن عليّ عليه السلام:“قَصِّرِ الأَمَلَ فَإِنَّ العُمُرَ قَصيرٌ، وَافعَلِ الخَيرَ فَإِنَّ يَسيرَهُ كَثيرٌ”([17]).
يا منتهى أمل الآملين، ويا غاية طلب الطالبين، وسؤال السَّائلين، يا خير مؤمَّل لا يفنى، ويا أغنى غنيّ لا يفتقر اجعل لنا أملًا فيك لا ينقطع، ورجاءً ليست له نهاية، ولا يعدله أمل مما يرد نفوسنا من آمال وإن كنتَ ترضاها يا كريم يا رحمان، يا رؤوف، يا حنّان، يا منّان يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([18]).
الخطبة الثانية
الحمد لله والحمدُ حقُّه، وحمدُ الخلائق كلِّها لا يفي بحق حمده. الحمد لله على كلِّ نعمة أنعم الله بها عليّ وعلى أحد من خلقه، ولا نعمةَ في الوجود كله غير نعمته، ومن نعمته أن يَجزيَ بالخير أهل طاعته، وما طاعتُه إلا من توفيقه، وإكرامه لأهل طاعته. حَمْدُنا لك ربَّنا لا منتهى له ولا أجل. نحمدك بالحمد الذي ترضاه ويليق بجمالك وكمالك، وجمالُك وكمالُك غير محدود.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله علينا أن نعملَ صالحًا ونطلب عفوَ الله ومغفرتَه، لأنَّ التقصير لا يفارقنا، ولا نفارقه، وشأنُ حقّ الله، وجليل نِعَمِه فوق ما يأتيه أعبد العابدين من عباده، وأصدقُ أهل الطاعة من طاعةٍ وعمل صالح، ولا يستكثرنَّ أحدُنا ما يأتي به من طاعة، ولا يستقلَّن ما يكون منه من تخلّف أو معصية، ولا يُحبطنّ عملَه بالمنّ، ولا يضاعفْ معصيته بالاستصغار.
وما عرف اللهَ، وما اتّقاه من استكثر الطاعة، واستصغر المعصية، وهان على نفسه أن يأتي بما يَكرَهُ المولى الحقّ العظيم.
فلنتّق الله عبادَ الله لنكونَ من المفلحين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربَّنا اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم ارزقنا الهدى الذي تنقذنا به، والنيّةَ الكريمة الخالصة التي تقرّبنا إليك، والعمل الصالح الذي يرفعنا لديك، واجعل حياتَنا كلّها في السبيل الذي وفّقت إليه من أحببت من عبادك يا خير مؤمَّل، وأرجى مرجوّ، وأحسن المحسنين يا عليّ يا عظيم يا رحمان يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزَّهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذا الحديث:
البحرين والعروبة والإسلام:
كانت البحرين عربيّة قبل الإسلام، وتشرّفت في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله بالدخول في الإسلام، وبقيت في كلّ تاريخها عربية لم تنسلخ تكوينًا من عروبتها، ولم تفقِد لغتها، وبقيت مسلِمة لم تفارق إسلامها في يوم من الأيام.
والعروبة عِرق ونَسَب ولسان وهي من الموضوعات المحايدة التي لا اقتضاء فيها بعنوانها الخاص لكفر أو إيمان أو عدل أو ظلم، أو استقامة أو انحراف، ولا تُمثّل نمطًا خاصًّا من أنمطة الحكم، ولا نوعًا معينًا من أنواع الأنظمة الرسمية.
والإسلام يرى أن من واجب النّاس جميعًا أن يأخذوا به، ويقيموا كلّ حياتهم في هدى منهجه، وعلى أساس أحكامه، وأن لا سعادة للبشر إلّا بأن يعطوه الهيمنة العملية الكاملة على كلّ مناحي الحياة، وأنّ مَن خالفه لابد أن يشقى، ويتعب وتسوءَ أحواله في الدنيا، وتزداد سوءًا وشقاء في الآخرة([19]).
فالإسلام قضية جادّة ولا جدّ أكبرُ من جدّها، ومنهج حياة شامل قائم ما قامت الحياة، وليس الإسلام قصة مضت، ولا تاريخًا من التاريخ الغابر، ولا حَدَثًا عابرًا، ولا خبرًا يُتناقل، ولا أمجادًا سابقة يتفاخر بها فحسب، ولا قرآنًا يُتلى، وسُنّة تُستذكر، وعلمًا يتبارى به لا غير، وإنما هو الدّين الذي يرى لنفسه([20]) أن تخضع له الحياة، وتقوم في ضوء أحكامه كلَّ الأوضاع، ويُرجع إليه في كل أمر([21]).
ولا يصدق اعتزازنا بالإسلام إلّا بمقدار ما يُحترم على أيدينا الأرض، ويُرجع إليه في صوغ الأوضاع العملية، ويُحكَّم في الأمر الكبير والصَّغير، وتتبعه السّياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع، وكلّ ما للإنسان من شأن.
ولا زالت شعوب الأمة في الكثير من أبنائها تتطلّع لليوم الذي ترى فيه حكمَ الإسلام عن وعي ورضا واختيار، وأن يعمَّ الأرض كلّ الأرض عدلُه، وتضيء بنور الله عزّ وجلّ من عطائه. وهو يوم موعود لابد أن يكون.
هل لا حقَّ أبدًا؟
يشارف الحراك السياسي في البحرين على نهاية عامه الثالث وقد أجمعت المعارضة على عدد من المطالب السياسية الواضحة والتي أعلنت عنها المرّة تلو الأخرى، والسلطة لا تُعطي استجابةً ولو لواحد من هذه المطالب على أن المطالب كلّها ليس منها ما يتنازل عنه في الحقّ، وسقفُها أخفض سقف من بين السّقوف لمطالب الحراك والثورات في السَّاحة العربية.
فهل لم تصل مطالب المعارضة السلطة، ولم تسمع عنها؟ هل وصلتها وقرأتها فرأتها كلها باطلًا محضًا، وليس لشيء منها نصيب من الحق؟
هل تراها حقًّا ولكنها متحقّقةٌ بالكامل على أرض الواقع([22])؟ هل تراها حقًّا ولكنَّ الاستجابة لها تمثّل إذعانًا صعبًا للحقّ، وذلًّا لا يُرتكب؟
هل هو الإصرار على الإضرار بالشعب وبخسه حقّه؟ هل لأنَّ هذا الشعب لا حقَّ له كسائر الشعوب؟
هل تنتظر من هذا الشعب الصابر الصامد الذي ضاق ذرعًا بظلم الأوضاع وقسوتها أن يسكت عن مطالبه؟ أن يتراجع وعيُه، أن يفقد عزيمتَه؟ أن يقعد به يأس، أن يقتنع من أحد بالتراجع؟ أن يسمع لنصيحة بقبول الذل والهوان؟([23])
الإجابة بنعم على بعض هذه الأسئلة عار على السلطة وأيّ عار، ولا ينبغي أن تختاره لنفسها، والبعض الآخر من هذه الأسئلة لو أجيب عليه بنعم لكان كَذِبًا محضًا لا نصيب له من الصّحة، ولا صمود منه أمام وضوح وصرامة الواقع المخالف.
احذروا الفتنة بينكم:
تعانون أيها الشباب الكرام الغيارى من ظلم كثير ممن يُبلِّغون عنكم ما هو زور إلى السلطات التي لا ترحمكم فكان الله معكم وصبَّركم وكفاكم السوء وسدّدكم وأخلص عملكم لوجهه الكريم، وجعلكم تلتزمون شرعه، ولا تستبيحون دمًا حرامًا، ولا مالًا حرامًا، ولا عِرضًا حرامًا.
وأنتم مؤمنون، والمؤمن لا يرتكب منكرًا في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
ومن تقيُّدكم بالأحكام الشرعية وائتماركم بأوامر الشَّريعة المقدَّسة، وانتهائكم لنواهيها أنْ لا ترموا أحدًا بباطل، ولا تقولوا في أحدٍ ما يَشينه أو يضرّه ويسقطه عند الناس ظُلمًا، ولا تعملوا بسوء الظنّ فيه، وتحمّلوه بلا تحقق نسبة السّعي بالسوء والإضرار بالمؤمنين ممن يُطالبون السلطةَ بالحقوق المهدورة.
والحذرُ من أهل السّوء مطلوب، وكذلك ممن تولَّد الظنُّ بسوء سعيه من أسبابٍ وقرائنَ معقولة.
ولكن وحتّى لو علمتَ بأنَّ فلانًا من السُّعاة عند السلطات بالمؤمنين فليس عندك حكم شرعي يُبيح لك أن تفعل ما تشتهيه فيه من ضرب وجرح، وإتلاف ممتلكات من ممتلكاته([24]).
وحين يأخذ الشباب بالأسلوب العام الذي تتبناه المعارضة من التزام الأسلوب السلمي العلني لا يكون للعيون المراقبة فرصة معقولة للإضرار وإن كانوا لا يكفُّون عن زورهم([25]).
ولكن وبرغم ما يترتب على زورهم وكسبهم الحرام وعملهم الإضراري الآثم من آلام لكم أنتم خاصة معشر الشباب إلّا أنَّ ذلك مع بشاعته وثقل تحمُّله أقل خطرًا على صفوف المؤمنين وتوحّدهم في وجه المنكر، وعلى طريق المطالبة بالحقوق العادلة([26])، ونجاح الحراك الشعبيّ ووصوله إلى أهدافه الكريمة من فتنةٍ بين هذه الصفوف، أو بين قبيلتين، أو بين قرية ومدينة، أو قرية وأخرى بسبب ضربِ شخصٍ أو جرحه أو إتلاف شيء من أمواله حتى في حالة العلم بسوء فعله وإضراره فضلًا عن مورد الظنّ الرَّاجح أو الاحتمال المرجوح.
أنتم تخافون أنَ كفّكم عن أذى من تعلمون أو تظنون ظنًّا راجحًا بأنه من السُّعاة بكم ظلمًا إلى السلطات يغري ضعاف النفوس ومن يبيع دينه بأبخس الأثمان([27])، ويشتري سلامتَه من أقلّ أذى ولو بتعذيب المؤمنين وسجنهم وإعدامهم بالالتحاق بهذا السِّلك([28]) الموقع لأفدح الأضرار بالآمنين والمسالمين ممن لا ذنبَ لهم إلّا المطالبة بالحقوق العادلة أو شيء منها.
ولكن ومع هذا الخوف، والمحذور الذي تتوقّعونه لا يجوز لكم أن تنطلقوا من روح الانتقام وأن تُشرِّعوا لأنفسكم ما يشفي غليلها، ويُطفئ نار غضبها، وأن تحدثوا فتنة تمزّق شمل المجتمع المؤمن، وتقطع عليه الطريق لتحقيق مطالب حراكه الذي بَذَلَ من أجله كثيرًا وكلّفه كثيرًا.
وتقيُّدكم في حراككم بشريعة الله عزَّ وجلَّ ولو على خلاف ما تشتهيه النفس ويُطفي نار غضبها هو من الصبر المطلوب لتعجيل النصر من قبل الله سبحانه.
وإنّ أيَّ ميل عن أمر الشريعة أو أيّ تساهل في نهيها، وأيّ استهانة بشأنها يرتكبها الحراك لهو سبب كاف في تأخير النصر، أو عدم بلوغه بصورة نهائية.
ويجب أن يتمتع الشعب بذكاء كاف، وأن يلتفت جيِّدًا إلى أنَّ ورقة الرُّقباء والجواسيس تُستخدم عند السلطات على حدِّ استخدام ورقة الطائفية وغيرها من الأوراق الخسيسة، والوسائل القذِرة لإثارة الفتنة وتمزيق صفوف المعارضة والإيقاع بينها، وإدخالها في حالة احتراب تُنهي قوتها.
وقد يكون من لعبة المخابرات في أكثر من دولة أن تُضحّي ببعض العناصر من الفائض عندها والذي تتوفَّر على بدائل كُثْرٍ عندها عنه، وممن لا تحتاج إلى خدمته فتكشف عنه بما تمتلك من طرائق متعدِّدة لإحداث فتنة تستهدفها بين صفوف المعارضة، وقد تستهدف شخصًا بريئًا فترميه بوصمةِ الجاسوسية إسقاطًا له، وتخلُّصًا منه، أو إحداثًا لفتنة مطلوبة لها.
أُكرِّر نصيحتي لكم شبابنا الأعزاء بأن لا ترموا أحدًا بسوءٍ ظلمًا، ولا تعتدوا على أحد، واحذروا من أن تحدث فتنة بينكم بسبب ما قد يُخطَّط لكم، ويستثير غضبكم، ولا تُحقِّقوا أمل من يستهدف تمزيقكم، وأن يُحدث لكم الهزيمة على أيديكم حين تحتربون بينكم.
طالبوا بحقوقكم صابرين والزموا طريق السِّلمية والعقلانيّة والعلنيّة متوكِّلين على الله سبحانه مفوِّضين الأمر إليه، حريصين على التقيّد بأحكام شريعته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم سُدّ عنا أبواب الفتن مضلاتها ومؤذياتها، وجنّبنا ما فيه غضبُك، وخذ بنا إلى ما يرضيك، وكد لنا، وادرأ عنا كيد كلّ كائد، وإضرار كلّ مضرٍّ، ومن أراد بنا سوءًا.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([29]).
[1]– كنز العمال ج3 ص491.
[2]– وفرق بين المؤمَّل فيهما وبين الأملين.
[3]– عيون الحكم والمواعظ ص29 ط1.
[4]– المصدر السابق ص50.
[5]– بحار الأنوار ج74 ص160 ط3 المصححة.
أنا أشيب وأهرم ولكنّ آمالي قد تشِبّ وتزداد قوّة.
[6]– يعني أمله.
[7]– كنز العمال ج3 ص494.
يحصل اختطاف من الأجل، لأن الأجل قريب، هذا يسعى للأمام ليحقق مأموله، ولكن هذا الأجل الذي إلى جانبه ينقضّ عليه فيختطفه. إذا كانت الآمال دنيوية ذهبت، وكانت العاقبة عاقبة ليست حميدة. وأمل الدنيا أخوتي ما كان للدنيا. أما أن تأمل في شيء في الدنيا للآخرة فذلك إن شاء الله من أمل الآخرة.
[8]– معدن الجواهر ص25 ط2.
ينشغل بالنا برؤية الآمال، وننسى ما خَلْقَنا من أجل وهو يراقبنا تماما، إذا كنا نراقب الأمل فالأجل يراقبنا من خلفنا.
[9]– أُريد أن أحقّق السعادة عن طريق جمع المال، أن أحقّق السعادة المطلقة عن طريق الجاه والسمعة، إلخ، عن طريق الأولاد، عن طريق الأزواج، هذه آمال كاذبة، كل ذلك لا يحقق السعادة المطلوبة لهذا الإنسان بما هو إنسان.
[10]– تحف العقول ص214 ط2.
متى تتوقف المنى؟ لحظة الاحتضار.
[11]– لا بدَّ لنا من الدنيا وألا نتوقف عن طلبها، والله عز وجل لا يرضى لنا أن نتوقف عن طلب الدنيا..
[12]– أملي لابد أن يكون بقدر الدنيا، والدنيا منتهية، والدنيا لا تحقق السعادة الأبدية فلابد أن لا يكون أملي أكبر منها لئلا أُخطئ، أو أعطيها ما لا تستحق.
[13]– بحار الأنوار ج74 ص127 ط3 المصححة.
[14]– شديد مفترس.
[15]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج4 ص93 ط1.
[16]– هل سأعيش ألفي سنة حتى أجمع من الثروة لألفي سنة؟!
[17]– عيون الحكم والمواعظ ص369 ط1.
[18]– سورة التوحيد.
[19]– هذا ما يراه الإسلام عن نفسه.
[20]– بقرآنه وسنّته.
[21]– هذا هو الإسلام.
[22]– والكلام فيها كلام بلا معنى.
[23]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
[24]– ما عندك حكم شرعي يعطيك هذه الصلاحية.
[25]– أنا معك، أنّ من اشتهى المال وباع دينه بدنياه، لن يتوقف عن السعي بالباطل وإن كنت واضحا كل الوضوح في سلميّتك وكنت علنيًّا تماما في كل ما تمارسه من المطالبة بالحقوق.
[26]– هذه الخسائر، هذه الأوجاع، هذه الآلام، هذه المصائب التي تعتري المطالبين بالحقوق بسبب سعاة الزور أهون من أن تحدث فتنة بين صفوف المؤمنين تمزّق هذه الصفوف، وتوقع بينها الحرب الدامية.
[27]– أنتم تحملون هذا الخوف، ولكم حقّ أن تخافوا.
[28]– تخافون أن عدم إيذائكم لمن سعى لكم بالزور بأن هذا يغري آخرين من ضعاف النفوس بأن يلتحقوا بنفس المسلك. أنتم تخافون هذا، ولكم أن تخافوا.
[29]– 90/ النحل.