خطبة الجمعة (555) 6 رجب 1434 هـ ـ 17 مايو 2013م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: البصيرة
الخطبة الثانية: الحوار وأسس النجاح – بعض أسئلة – شهادة لم تترك عذرا
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يُسبِّح كلُّ شيء بحمده، ويشهد بربوبيّته، ويُذعِن لحكمه، ويسير إلى غايته بتقديره، ولا مَفرَّ له من قَدَرِه.
لا خالقَ معه، ولا مُدبّر، ولا مضادّ، ولا وزير، ولا مشير، غنيٌّ عن كلّ من عداه، وما عداه، ولا غِنى لشيء عن رفده، ولا وجودَ له من دون فيضه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله قد يُصبح أحدُنا ويُمسي وعينُه على عيوب غيره مشغولًا بذلك عن النَّظر في عيب نفسه، غافِلًا عن أنَّه أوَّل ما يُسأل إنّما يُسأل عن عيبه، وإذا سُئِل ثانيًا فإنما يُسأل عن نصح من ظهر له عيبه، أما التتبُّع لعيوب الآخرين، والفحص عنها فهو ذنبٌ يضاف إلى ذنبه، ووزر من الأوزار المثقِلة لظهره، ومما يُخزيه يوم حشره ونشره.
فما أهملَنا لما ينفعُنا، وما أشدَّ اهتمامنا وأخذنا بما يضرُّنا، وهو ليس من فعل عاقل، ناصح لنفسه مشفِقٍ عليها.
وإنَّ العقل والدّينَ لَيُوجِبان على صاحبهما تقوى الله، وأن يكُفَّ عن ذلك، ويأخذ بما يُصلحه، وينجيه، وتصحّ به ذاتُه.
اللهم صلّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم اجعلنا من المصدِّقين حقًّا بدينك، المقتفِين لآثار أنبيائك ورسلك، الثّابتين على صراطك، المجاهدين في سبيلك، الرّاضين بقضائك وقَدَرك، وممن كتبت لهم في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وبوّأتَهم منازل الكرامة في جنّة أحبّائك وأوليائك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في موضوع:
البصيرة:
كما أنّ للبصيرة مناشئَ منها ما هو من أصلِ الخِلقة من صُنْعِ الله سبحانه، ومنها ما يأتيها من هُدى القرآن والإسلام والأخذ بهما، ومنها ما يأتيها جزاءً إضافيًّا من كرم بارئها وتوفيقاته؛ كما أنّ لها ذلك فإنّ لها عوامل نماء، وعوامل إعاقة وتعطيل تتّصل بإرادة الإنسان.
وهذا من عوامل نمائها وتبلورها واشتداد قوَّتها:
1. التفكّر:
فِكْرُ الإنسان حيث يُفعّل يُثمر، وإذا عُطِّل هُدِر وخُسِر. تفعيله بالنظر في الآيات، آيات الأنفس والآفاق، وفي دروس الحياة والموت، والغِنى والفقر، والقوَّة والضعف، وتغيُّر الأحوال، وما تغنى به السَّماوات والأرض وعجائب الخَلق من دلالات، وما ينتهي إليه النَّظر من دقائق الخلق، وما وراءَ ذلك من عظيم القدرة، وإحاطة العلم، وبالغ الحِكمة؛ هذا التفعيل والإنتاج يمُدُّ البصيرةَ بالقوّة والحيويَّة ويُوسِّعها، ويفتح أمامَها الآفاقَ، ويزيد في نفوذها.
يقول الكتاب الكريم:{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}(1).
وكُلَّما كان النظرُ دارسًا، وعلميًّا، وموضوعيًّا، وتخصُّصيًّا، وجادًّا، وصابرًا كان مِعطاء، وأكثر إنتاجًا وأَثَرًا.
وكُلّما كان هناك انفتاح نفسي، وتعلُّق قلبيٌّ بالحقيقة، وإذعانٌ عمليٌّ لها، واحتضان شعوري وكانت المنطلق لبناء المواقف عند الباحث زاد ذلك في قوّة البصيرة وإثرائها وتبلوُرها في البُعْد العمليّ.
انظر إلى قول الآية الكريمة:{وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} فالقلبُ المنيبُ إلى الله عزّ وجلّ، المتعلِّق بالحقّ، الرّاضي به، المستجيب له هو الذي يتذكّر، وهو الذي تحصل له البصيرة في مقام العمل، وبناء المواقف إلى جنب ما تَوفَّر لصاحبه من بصيرة فكر، ونُضْجٍ وزيادةٍ في قوة النّظر.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلُّص، وقلّة التربُّص”(2).
وعن الإمام الحسن عليه السلام:”عليكم بالفِكر، فإنّه حياة قلب البصير، ومفاتيح أبواب الحكمة”(3).
وعن الإمام عليّ عليه السلام:”تفكّرك يفيدك الاستبصار، ويكسبك الاعتبار”(4).
2. العلم والتعلّم:
لا يستوي الفكر وهو مصدر من مصادر إنماء البصيرة من عقليّتين من مستوى واحد إحداهما على غزارةٍ من علم والأخرى لا نصيبَ يُلحظ من علم لها. إنَّ الأولى أنضج فكرًا، وأهدى طريقًا، وأقرب إلى الإصابة في النظر، وأصحّ وأوفر فيما تتوصّل إليه من نتائج.
والفكر منها أكثر إمدادًا للبصيرة، وأرشد فيما يُقدّمه لها، وأقوى وأمتن فيما يُعطيه لها من البناء.
والطريق العامُّ للعلم التعلُّم، ومن دونه يَغلقُ الإنسانُ عن نفسه أبوابَ المعرفة، ويسلك بها ظلمة الجهل. فصار العلم والتعلُّم سببًا من أسباب نضج البصيرة وتفتُّحها وإعطائها السَّعةَ والامتداد.
3. التقوى:
التقوى مقدِّمةً معرفةُ الحقّ، وروحًا التعلّقُ به، والإذعان له، والاستجابة لمقتضاه. وهذا منافٍ للجهل والهوى، والطيش مما يُفسد جوَّ الرُّوح، ويُعكِّر رؤية البصيرة، وهو فاتح لطريق التبصُّر، ومُلهِمٌ للرّشد، وممِدٌّ بالحكمة، ومنقٍّ لجوّ النفس من الظلمة.
وفي الكتاب الكريم:{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً…}(5).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(6).
فعطاءُ التقوى واضحٌ قرآنًا وهو بصيرة من الله الكريم لعبده المتّقي يستطيع بها التفريق بين الحقِّ والباطل، وما ينبغي الأخذُ به، وما لا ينبغي، وما حقُّه التقديم أو التأخير، أو المبادرة به، أو التريُّث، ونورٌ يُفيضه سبحانه على هذا العبد يمشي به في حياته وبعد مماته، وعند حشره ونشره يهتدي به الطريق، ويأخذ به إلى الغاية، ويُجنِّبه كلَّ خسار وعثار.
وعن الإمام عليّ عليه السلام:”إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دَنَس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم”(7).
4. ذكر الله:
ذكر الله ذكر الكمال المطلق، والحقّ المبين، والنور الذي ليس بعده نور، ولا مثله نور، ولا مكانَ وهو المطلق لفرض نور فوقه أو بكماله؛ ذكر لذلك وانشداد إليه، وتعلُّق به، وسير روحي في اتجاه علاه.
وما كان كذلك لا يُبقي في النفس ظُلمة من ظُلَمِها، ولا صوتًا للشيطان فيها، ولا طائفًا منه يستقرّ لِيُفسِدَ جوَّها، ولا شيئًا من سوئه ووسوسته يغشاها {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(8).
وفي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام:”ذكر الله يُنير البصائر، ويؤنس الضمائر”(9).
وعن الباقر عليه السلام في قوله تعالى:”{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} إذا ذكّرهم الشيطان المعاصي، وحملهم عليها، يذكرون الله فإذا هم مبصرون”(10).
فبذكر الله يُبصرون أنَّ الشيطان يكيد بهم، ويُحاول أن يُوقعهم في الخسران فيفارقونه، ويفرّون من خبثه ومكره إلى الله ورحمته وهداه.
5. الإخلاص:
عن الإمام علي عليه السلام:”عند تحقّق الإخلاص تستنير البصائر”(11).
إخلاصُ العبد لربّه سبحانه في النيّة والتوجُّه والعمل بصيرة ما أعظمها من بصيرة، ومن عطائها معرفة أكبر، وشوق أشدّ إلى الله، وتعلُّق أقوى به، وبصيرة فوق البصيرة.
6. الزهد:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في الترغيب بالزهد في الدّنيا:”من زهد فيها فقصّر فيها أمله أعطاه الله علمًا بغير تعلُّم، وهدى بغير هداية، فأذهب عنه العمى، وجعله بصيرًا”(12).
وعن تلميذه الأول عليّ عليه السلام:”ازهد في الدّنيا يُبصِّرْك الله عوراتها”(13).
7. استقبال الأمور:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”من استقبل الأمور أبصر، من استدبر الأمور تحيّر”(14).
النظر المبكر في ما يستقبل الإنسان من أمر، والدراسة العلميّة لكلِّ الاحتمالات التي يمكن توقُّعها، والتفكير في الموقف العملي المناسب لكل منهما يُعين على تكوين نظرة صحيحة لما قد يحمله المستقبَل في المسألة، وما ينبغي اتّخاذه بإزاء ما يحدث، ويُعطي رؤية قد تكشف عن غموض المستقبل وكيفية مواجهته.
وتَرْك الأمور إلى أن تُفاجئ الإنسان، وتضعه أمام الظرف المحرج، والحدَث الصعب غير المحتسب يُقلق الرؤية، ويُربك الموقف، وقد يشلّ التفكير، ويوقع في الفشل.
8. الجوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال: يا رب ما ميراث الجوع؟
قال: الحكمة، وحفظ القلب، والتقرُّب إليّ، والحزن الدائم، وخِفّة المؤونة بين النّاس، وقول الحقّ، ولا يُبالي عاش بيسر أم بعسر… (15).
“يا أحمد إنّ العبد إذا جاع بطنُه، وحفِظ لسانه، علّمتُه الحكمة، وإن كان كافرًا تكون حكمته حجّة عليه ووبالًا، وإن كان مؤمنًا تكون حكمته له نورًا وبرهانًا وشفاء ورحمة، فيعلم ما لم يكن يعلم، ويبصر ما لم يكن يبصر؛ فأول ما أبصره عيوب نفسه حتى يشتغل بها عن عيوب غيره، وأبصّره دقائق العلم حتّى لا يدخل عليه الشيطان”(16).
والإسلام لا يريد بهذا أن تجوع الجوع الذي يجرّ إليك الأمراض، ويوقعك في الأسقام، ويشلّ حركة التفكير عندك، ويقعد بك عما أوجب الله عليك. كما لا يريد لك أن تُقِرَّ التفاوت الطبقيّ الظالم الذي يتخم به البعض، ويجوع ويمرض ويشقى به آخرون.
وإنما يريد لك ألا تسُدَّ منافذ قلبك، ولا تُعطِّل حركة الروح، وتُفسد عليها وظيفتها في طلب النموّ والاستنارة والكمال بتُخمة البطن، وأذاها.
نقف هنا وللحديث تتمّة.
اللهم صلّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا على طريق هداك لا ننحدر عنه، ولا نميل أبدًا، وصِلْ بنا إلى الغاية التي ارتضيتها لعبادك، وكتبتها للمتّقين، والصّادقين من عُبَّادك وأوليائك، إنك أنت الحنّان، المنّان، المحسن، المتفضّل، الجواد الكريم.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(17).
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ الملك والملكوت، مالك القهر والجبروت، ذي العزِّ والجلال، والمجد والإكرام، والفضل والإحسان. منه المبتدأ، وإليه المنتهى، بيده كلُّ شيء، ولا تصرّف لمتصرِّف في شيء أبدًا إلّا بإذنه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله من عدل عن الحقّ فليس عنده إلَّا الباطل، ولا حقّ إلّا ما كان في دين الله كذلك، وليس من بعد هُدى الدّين إلّا الضّلال. وليس في باطل ما ينفع وما هو خير، ولا ربح في ضلال.
والتردُّد بين الدّين وغيره تردُّدٌ بين الماء والسَّراب، والحياة والرَّدى، والسعادة والشقاء.
وما فَعَلَت نفسٌ بنفسها من شقاء، وما اختارت الهلاك كما إذا تخلّت عن الإيمان إلى الكفر، وعن الهدى للضلال، وعن التقوى إلى الفجور.
فلنرحم أنفسنا عباد الله، وليكن اختيارنا صائبًا، وتجارتنا في هذه الحياة رابحة، بأنْ لا نفارق مسلكَ الإيمان، ولا نُبارح جادّة التقوى.
اللهم صلّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم ارحم حاجتنا إليك، وتضرُّعنا بين يديك، وأحسن ظننا في إحسانك، وارزقنا خير ما أمّله المؤمِّلون الموقنون بجودك وكرمك يا خير من سُئِل، وأجود من أعطى.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأخوة والأخوات الأحبّة في الله فإلى هذه الكلمات:
الحوار وأُسس النجاح:
اختير للحوار أن يكون ناجحًا، مُفضيًا إلى نتائج طيّبة، مُرضية للشعب، مُنهية للأزمة، مُخرِجة للوطن من النَّفق الضيّق المظلم، وحالة الاستنزاف.
وجاء بواقع متين متماسك لضمان تحقيقه لهذه النتائج الفوّاحة بالبُشريَّات لكلِّ أهل الوطن.
جاء قويًّا متماسكًا يعرف طريق نجاحه، ويفتح الطريق سهلًا للحلول النَّاجعة بتوفُّره على أُسسٍ أربعة لا يتخلّف عنها حسب طبيعتها النجاح.
– تمثيلٌ لطرفي الحوار بواقع ثمانية أشخاص قِبال تسعة عشر آخرين. الثمانية عن الشعب لأنه الأقلية، والتسعة عشر وكلهم مواطنون وعدد كبير منهم من صفوف الشعب ولا يتمتعون بمواقع رسميّة غير أنه يُعلم مُسبَّقًا بأنّهم من وجهة نظر السلطة وحماسُهم لها مضمون. وهذا حقٌّ لأنَّ السلطة في قِبال الشعب أكثرية.
– طَرَفُ السلطة هو الطرف الثاني في الحوار قِبال المعارضة ويتمثّل في تسعة عشر عضوًا من أعضاء الحوار، مع كون السلطة لا تريد أن تلتزم بنتائجه، بل ما تُريده أن يكون لها الخيار في قبول ما تقبلُه، ورفض ما ترفضه ولو باسم مجلس النوّاب.
– الشعبُ معزول عن قضيته وحقّ النظر في نتائج الحوار التي تتحكّم في مصيره، فلا مرجعيّة له في ذلك، ولا عَرض لهذه النتائج عليه، ولا استفتاءَ له فيها، ولا رأيَ يُعتبر.
– ليس لممثلّي وجهة النظر المعارضة، ولا للشّعب مشاركة في مرحلة التنفيذ لأيّ مخرج من مخرجات الحوار بغضّ النظر عن سَلبيّته وإيجابيته.
أربعةُ أسس شافية وكافية لأنْ يُعطي الحوار الذي يُنفِق من المال والوقت الكثير، وأُقيمت له الدنيا ولم تقعد بعدُ نتائجه المنقذة.
ولا يزال الطرف الرسميّ في الحوار بكامل تشكيلته يُصِرُّ على هذه الأسس الأربعة ويُقدِّسها احترامًا للحوار، وحرصًا على إفضائه للحلّ الناجح الباهر السّريع(18).
لكن ما من مُنصِفٍ يرى في هذه الأسس التي بُني الحوار عليها إلَّا تأسيسًا لفشله من الطرف الذي دعا إليه، وحشّد من أجله، وفي ذلك أبلغ الضّرر، وأشدّ الاستخفاف بالعقول، وعدم مبالاةٍ بكرامة الشّعب، ومصلحة الوطن.
ألا من تجديدٍ صالح في أسلوب التفكير، في التعامل مع كرامة الشّعب، في الاعتراف بحقِّه، بمصلحة الوطن؟!! ومن جهة أخرى من الحَسَن طلب النّجاح لانتخابات قادمة، ومن الحَسَن الحماس لنجاحها، ولا مؤاخذة في ذلك.
لكن أليس من الحَسَن أن تُخاطَب العقول والقلوب والنفوس بخطاب عملي إيجابي، وجرأة إصلاحية متطوِّرة وصادقة، وواقع جديد على الأرض، وتأسيس دستوريّ مُقنع لتحقيق هذا النجاح، وإيجاد اندفاعة عامّة وشاملة للمشاركة في انتخابات يُراد لها أن تكون مشرِّفة وناجحة؟!
هَبْ أن المقاطعين للانتخابات النيابية السابقة، والرصيدَ الشعبي المؤيَّد لانسحاب المنسحبين من المجلس النيابي القائم إنما يبلغ مجموعهم قِلّة قليلة(19) لا تزيد على خمسة في المائة من مواطني هذا البلد ممن يتمتعون بحقّ الانتخاب، وهم كما نعرف جميعًا وزنهم ليس كهذا الوزن، وأن لو تخلّفوا عن المشاركة لمثّل ذلك ثلمة كبيرة إلّا في النظرة التي تذهب إلى ازدراء الشّعب. لكنْ أليس المطلوب انتخابات ناجحة ومُخرِجة من الأزمة، ومفضية إلى واقع سياسي جديد، وعلاقات سياسيّة مُستقِرّة تُريح هذا الوطن؟!
ثم إنه هل هناك من طريق يُحقّق هذا المطلوب غيرُ ذلك النوع من الخطاب العمليّ الإيجابيّ من سياسة جديدة تُقدِّر الشعب وتُقيم له وزنه، وتعترف بحقّه وموقعه ومرجعيّته، وحالةٍ إصلاحية شاملة قادرة على الإقناع؟!
قد يُفكَّر(20) في وسائل أخرى ليست من هذا النوع لكن الكلُّ يعلم فشلها، وعدم فاعليّتها، وأنّها تتنافى كلَّ التنافي مع الديموقراطية في أدنى مراتبها(21).
بعض أسئلة:
الشعب في البحرين يدّعي أنه مظلوم، والسلطة هي ظالمة، والسلطة تدّعي أنها مظلومة، والشعب ظالم لها، فأيّهما في الحقّ الظالم، وأيّهما المظلوم؟
يمكن أن تُطرح بعض أسئلة على السلطة في هذا المجال توصُّلًا للحقيقة:
* من صاحب الحقّ الأصل في تقرير مصير الشعب واختيار مسار حياته حسب الميثاق وحتّى الدستور المختلف عليه والدستور الذي قبله أنتِ يا سلطة أم الشعب؟
* مَنْ منكِ ومنه المصدر الأساس للسلطات في ظل شعار الديموقراطية الذي ترفعين لواءه؟
* وهل للسلطة أن تقول بأنَّ غير الشّعب هو المسؤول عن تقرير مصيره، وصاحب الحقِّ في اختيار مسار حياته، وأنَّه لا شأنَ له، ولا كلمة في اختيار السلطات التي تحكمه وتُشرّع له؟
في القول بهذا المضمون خروج صريح على الميثاق والدستور السابق والدستور الحالي المختلف عليه، وعلى شعار الديموقراطية الذي تُكثر السلطة من ترديده، والتفاخر به.
ولو سألناها ما هو المطالَب به من قِبَل الشعب غير أن يُعترف له بحقّه في تقرير مصيره، وأن يكون فعلًا مصدر السلطات التي تحكمه، وتضع قوانينه، وأن تُفعَّل إرادته السياسية في الشأن العام الذي يحتضنه؟
وما الذي تعاقب عليه السلطة الشعب وتمنعه عليه غير المطالبة بهذا الحقِّ الثابت في الميثاق والدستور، والمباهى به على لسان السُّلطة وإعلامها؟
فهل من الإنصاف أن يُمنع على صاحب الحقّ حقُّه، وأن يتلقَّى العقوبةَ القاسيةَ من سجنٍ وقتلٍ وتعذيبٍ وملاحقةٍ وتشريدٍ وتنكيلٍ وإرعابٍ لمطالبته به؟
وإذا قيل يوجد استعمالٌ للزجاجات الحارقة وما ماثلها فإنه يُجاب بأنَّ العقوبة المشدّدة بدأت مع بدء الحراك في صورته غير المشوبة بزجاجة حارقة أو حجر، وأنَّ المعاملة القاسية واستهداف القتل كثيرًا ما طال عددًا من المسيرات والاعتصامات الخالية تمامًا من عنف الفعل والكلمة، وأنَّ القتل نال عددًا كبيرًا من الأبرياء وحتى خارج دائرة المسيرة والاعتصام.
إنَّ السلطة لو أنصفت من نفسها لقالتها صريحةً مُعلنة: أنا الظّالمة، والشعب هو المظلوم، ولبادرت بإعطاء الحقّ أهلَه.
شهادةٌ لم تترك عذرًا:
اللجنة المعروفة باللجنة البحرينية المستقِلّة لتقصّي الحقائق إنّما شُكِّلت من قبل السلطة وبمحض إرادتها، ولم تكن للشعب أيّ مشاركة في اختيارها وتشكيلتها. وبهذا فمن الواضح جدًّا أنَّ شهادتها ملزمة للسلطة نفسها، ولا يوجد أيّ مُبرِّر للتفضّي عنها.
وإدانات اللجنة للسلطة معلنة معروفة منتشِرة؛ ومن ذلك التعذيب والانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان، والسّياسة المرسومة للإفلات من العقاب.
وتضمَّن التقرير عددًا من التوصيات، والتي من أيسرها تنفيذًا وقابلية للسرعة في التنفيذ إعادة بناء المساجد، وإعادة المفصولين إلى مواقعهم التي فُصِلوا منها، الشيء الذي تكرّرت مواعيده على لسان السّلطة، كما تكرّر معها الخُلْف لأكثر من مرة.
ولا زالت تسمع التوصية بعد التوصية، والتوجيه بعد التوجيه بسرعة التنفيذ لهاتين التوصيتين.
وعليك ألَّا تستغرب مع ذلك تصريحًا إعلاميًّا من هنا وهناك بأنَّ ملف التوصيتين قد انتهى.
وأخيرًا وفي جلسة الاستماع الخامسة التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني مساء الثلاثاء (14 مايو 2013م) للبحث في طبيعة العلاقات بين بريطانيا والبحرين تأتي شهادةٌ معلنةٌ وصريحةٌ وبالغةُ الإحراج للسُّلطة من نايجل رودلي الذي كان عضوًا في اللجنة البحرينية المستقلة لتقصّي الحقائق… شهادةٌ لا تُبقي عذرًا للسلطة ولا يُجدي معها التفاف إعلامي، ولا دعاوى عريضة مخالفة للواقع بتنفيذ التوصيات.
ولا يبقى بعد ذلك إلّا الإذعان العمليّ للحقيقة، والجدّ في معالجة الملفّ الحقوقيّ بكامله، والمعالجة الجذريّة الصَّادقة الناهضة للملف السياسيّ الذي هو الملفُّ الأساس.
ومن أقوال الشهادة المشار إليها كما في الوسط ما يأتي:
“كان سيكون – الوضع – أفضل لو طُبّقت توصيات لجنة تقصّي الحقائق”(22).
“هناك إفلات من العقاب(23)، ولا توجد حاليًّا إجراءات لمعالجة جذور الانتهاكات، ومجمل ما يحدث يبعث رسائل سلبيّة بالنسبة لعدم تنفيذ التوصيات كما هو مطروح في تقرير لجنة تقصّي الحقائق”.
“ولقد وجدنا أنَّ الانتهاكات تمَّت بصورة منهجيّة”.
وفي نقل آخر جاء في صوت المنامة عن رودلي “أن لجنة تقصّي الحقائق لم تحصل على الوقت الكافي لإنهاء جميع مهامّها، ومنها متابعة محاكمة منتهكي الحقوق(24)” مشدّدًا رودلي طبقًا لصوت المنامة على أنَّ الانتهاكات في البحرين كانت ممنهجة، وبتوجيهٍ مباشر من جهات عليا”.
وجاء كذلك في هذا المصدر من أقوال الشاهد “الوضع الحقوقي سيء في البحرين حسب تقارير المنظمات الحقوقية، ولم يتم محاسبة الجلّادين، وإنَّما تمّ ترقية البعض، وهذا خلاف توصيات التقرير” مشيرًا حسب صوت المنامة إلى أنّ كلَّ الذين قُدِّموا للمحاكمة من رجال الأمن هم غير بحرينيين”.
وما جاء في المصدرين مأخوذ من متابعات المجلس العلمائي.
والشهادة صارخة، والإدانة صريحة فيما يتعلّق بالانتهاكات، وعدم التنفيذ الكامل للتوصيات، ولا حاجة في هذه الشهادة إلى شيء من الإضافة.
ولا يبقى في الموضوع إلّا الإذعان، أو الاستمرار في العناد والمكابرة والإصرار على الظلم(25).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم. اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، وردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (26).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 6-8/ ق.
2 – الكافي ج2 ص599 ط4.
3 – بحار الأنوار ج75 ص115 ط2 المصححة.
4 – عيون الحكم والمواعظ ص199 ط1.
5 – 29/ الأنفال.
6 – 28/ الحديد.
7 – نهج البلاغة ج2 ص179 ط1.
8 – 201/ الأعراف.
9 – عيون الحكم والمواعظ ص255 ط1.
10 – تفسير نور الثقلين ج2 ص111 ط4.
11 – عيون الحكم والمواعظ ص338 ط1.
12 – تحف العقول ص60 ط2.
13 – نهج البلاغة ج4 ص93 ط1.
14 – عيون الحكم والمواعظ ص452 ط1.
15 – بحار الأنوار ج74 ص22 ط3 المصححة.
16 – المصدر السابق ص29.
17 – سورة التوحيد.
18 – وتقديرًا للشعب.
19 – كما تُوصف.
20 – أي قد يُفكِّر الجانب الرسمي.
21 – والديموقراطية شعار عريض مُعلن ترفعه الدولة بقوّة.
22 – هذا الشخص يقول بأن التوصيات كثير منها أو بعض مهمّ على الأقل لم يُطبّق.
23 – هذا الذي يُردّد محليًّا ويُعاقب على إطلاقه.
24 – أيّ حقيقة من هذه الحقائق لا تقولها المعارضة في الخارج ولا تنكرها الحكومة؟!
25 – هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
26 – 90/ النحل.