خطبة الجمعة (553) 22 جمادى الثاني 1434 هـ ـ 3 مايو 2013م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: تكملة: سنة الإبتلاء
الخطبة الثانية: الدين والقدوة – الوضع الحالي في البحرين: إما وإما وإما.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي قضاؤه العَدْل، وفِعلُه الحِكمة، وشأنُه الإحسان، ودأبُه التفضُّل والامتنان، وثوابه جزيل، وعذابه أليم، وعقوبته لا قِبَلَ لأحدٍ بها ممن أراد به أليمَ العقوبة. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله إنّنا لخطّاءون، ولو أحصى عبدٌ ما أخطأه في كلّ حياته لأفزعه هول ما أخطأ، وما كَسَبَتْ يداه من كبيرة أو صغيرة.
ومن كان من طبيعته الخطأُ وكثرة الزلّات كان في الاستغفار الصَّادق لجؤه. ولا يصدق استغفارُ من جاء بالخطأ تلو الخطأ، وأتبع المعصيةَ بالمعصية، وتلاحَقَتْ على يده السّيئات.
إنما الاستغفار الصَّادق، والتوبة الجادَّة لمن أقلع به ندمُ الذنب عن ذنبه حقًّا، ولم يَعُدْ له، ولا يعود إليه لو عاد إلّا عن ضَعفٍ يعتريه بَعدَ بُعدٍ بعيد بعيد.
وفي كلِّ ذنب خسارة تُصيب العقلَ العمليّ للإنسان، ونقاءَ روحه، وطُهْرَ قلبه، وعزيمة الخير فيه، وتُلحق به ضعفًا، وتنال من هداه، وبصيرته، ورُشده، وتقرب به من حالة العمى والضلال.
فلنحذرْ الوقوعَ في الذنب، وإتيانَ الإثم، فما خسر أحدُنا بشيء كما يخسر بسبب ذنبه، ولنستعِنْ على النفس والشيطان، وأسباب المعصية بتقوى الله فهي الدّرع الحصينة الواقية من الآثام ومركب الطالبين للفوز والنجاة. اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّه لا حول ولا قوَّة إلّا بك، ولا خيرَ إلّا من عندك، ولا دفع لشرٍّ إلا بقدرتك، ولا عصمة إلا برحمتك فلا تكِلنا ربَّنا إلى أنفسنا ولا لأحدٍ من خلقك طرفة عين أبدًا، واهدنا بِهُداك، وتولّنا برعايتك وكفايتك، وامنحنا عِصمتَك ووقايتَك من كلّ ميل عن الحق، وأخذ بالباطل، ووقوع في الذنب، ومن مسِّ كلِّ سوء.
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من الإخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات فالحديث فيه متابعة لما كان من حديث في موضوع:
سنّةُ الابتلاء (1):
للعقول أوزانُها، وللنفوس أوزانُها، وللأبدان كذلك. ووزنُ كلّ شيء ومدى تحمّله وكلّ خصائصه وآثاره معلومٌ أبلغ العلم، وأصدقَ العلم عند بارئه من دون أن يفوته منه شيء، أو ينسى شيئًا، أو يغفل شيئًا.
وعَدْلُ الله لا يتجاوز تكليفه مقدورًا إلى غير مقدور، ولا يتعدّى ابتلاؤه ما يُطاق إلى ما لا يُطاق. بل دين الله ينفي عن نفسه العُسْرَ والحرج، وهو الدّين الصّادق الأمين.
وما منطلق التكليف، وكذلك سُنّة الابتلاء على ما يقتضيه من مجاهدة للنفس وتحمّل وصبر إلّا الرَّحمة والحكمة.
ولا يُتّخذُ من استصعاب نفوسنا التي أضعفناها دليلًا على تجاوز الابتلاء لحدِّ ما تتّسع له عندنا القدرة.
وإنّ وراء سنَّة الابتلاء حاجةً للعبد، وضرورة يتطلَّبها بناؤه، وتقتضيها غاية الكمال، وتفعيلُ القابليات الضخمة، والاستعدادات الكبيرة في ذات الإنسان. ولولا الابتلاء لأَسِنَتْ حياة الإنسان، وبقي عند حدّ الفجاجة، ولم يكن له ذلك الوزن الكبير.
وسنّة الابتلاء تُجلّي لنا حقيقة ذواتنا، وتكشف عن غموض ما يمكن أن تنتهي إليه.
وهي تُقيم لنا دليلًا واضحًا على عدل الله سبحانه فيما يستقبله بنا عدلُه من جزاء مثوبة أو عقوبة.
وعلى ما بين النّاس من تفاوت في القُدرات فإنَّ التكليف والابتلاء لا يتجاوزان في حدّهما الأدنى العامّ المشترك حدَّ القدرة (2) حسب عَدْل الله عزّ وجلّ (3)، والضعف والفشل عند كثير منا أمام الامتحان إنما مردّه إهمالنا لتربية النفس وترويضها، وما نحن عليه من ميل غير سويّ للاسترخاء والكسل.
ويُنتبه إلى أنَّ إخلالنا في طلب الفهم الصّحيح للأحكام الشرعيّة، وما يصحُّ وما لا يصحُّ، وما يُتّخذ من وسيلة، وما لا يُتّخذ، وما يوصل إلى المطلوب وما لا يُوصِل، وما هو الأكثر نجاحًا من الوسائل، وما يبني القوّة وما يهدمها في حياتنا الخاصة والعامة، وتفريطنا في الأخذ الجادّ بما نعرف مما يلزم، وما فيه النفع والصلاح، وإقدامنا على ما نعرفه منعه، وما فيه الضرر والفساد كلُّ ذلك يوقعنا في كثير من المصائب وحالات الابتلاء التي ما كان لنا أن نبتلي بها لولا ذلك كلّه.
ولو جاءت هذه المصائب بمستوىً لا قِبَلَ لنا به فإنّها لا تُخالف العدل الإلاهي لأن هذا النوع من المصائب إنما يأتينا بتفريطنا وعنادنا بترك العلم أو المخالفة له في العمل.
ولنتلمَّس في ضوء النصوص حِكَمًا من حِكَم الابتلاء، وفوائد من فوائده.
عن الإمام الصادق عليه السلام:”البَلاءُ زَينُ المُؤمِنِ، وكَرامَةٌ لِمَن عَقَلَ؛ لِأَنَّ في مُباشَرَتِهِ وَالصَّبرِ عَلَيهِ وَالثَّباتِ عِندَهُ تَصحيحَ نِسبَةِ الإِيمانِ”(4).
لا ريب في أن زينة الذات الإنسانية في كمالها، ولأنَّ كمالها في إيمانها بالله، والسّير في هداه، وطلب رضوانه كان لابد لها من الإيمان.
والإيمان الذي يصنع هذه الذات صناعة راقية، ويسمو بها ليس هو إيمان الكلمة من غير اعتقاد راسخ تنطِق عنه، وعمل صالح ينسجم معها، ويكشف عن صدقها، ويزيد من جدّيتها وفاعليتها.
فصار أنَّ البلاء زينة المؤمن حيث الصبر عليه، والثبات عنده، وتحمُّل أثقاله، وصحيحٌ أن في ذلك صدقًا للإيمان، وتصحيحًا واقعيًّا لنسبة المرء إليه، ونسبته له.
وبالبلاء والتصبُّر عليه تظهر صفة التقوى على فعليّتها في القلب، ويشعّ نورها، وتكون لها قيادةُ خُطى الإنسان {… أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى…}(5).
وبالبلاء والتصبُّر عليه، والنجاح فيه تظهر الذات الإنسانية في أجمل صورة لها، وأرقى درجة من درجاتها، ويبرز ما لها من قوة عقل، وصحّة فهم، وسلامة سريرة، وطُهْرِ قلب، وصلاح إرادة {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(6) وحسن العمل، وصواب الموقف، والأخذ بالهدى، والاستقامة على الصِّراط لا تكون إلّا عن عقل، وزكاة قلب، ونقاء روح، وقوة إرادة في الخير، وداخلٍ نورانيٍّ مشعٍّ.
إنّها الذَّات الطيبة النظيفة الطّاهرة التي يكون لها ذلك كله ولا يكون لغيرها {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ…}(7).
ونمرُّ بنصوص أخرى في موارد من موارد الابتلاء:
وقبل ذلك فإنَّ النفوس لتختلف في قدرتها على النجاح في تجارب من نوع عن تجارب من نوع آخر من أنواع الابتلاء. فلا تزكو عند أحدنا نفسُه أنْ وَجَدَ شيئًا من النجاح لها في تجربة أو أخرى من تجارب الامتحان الإلهي. فإنّ أمام النفس لكثيرًا من تجارب البلاء من أنواع مختلفة قد تواجه فيها فشلًا ذريعًا، وينكشف منها أنْ ليس لها من قدرة المقاومة ما يُكسبها الصمود.
ويأتي التنوُّع في تجارب الابتلاء بالخير، وتجارب الابتلاء بالشر، وربما أمكن لنفسٍ أن تثبت أمام بلاء بالخير ولا تثبت أمام بلاء آخر كذلك، وأن تُحقِّق نجاحًا في مورد مصيبة، وتفشل كلّ الفشل في مورد آخر.
وربما أطغى نفسًا الخير، وأدبها الشر، وربما كان في الخير لها ثبات، وفي الشر سقوط.
وما على الإنسان هو أن يروّض النفس ما استطاع على الصبر على كلِّ أنواع البلاء، وما له من مفردات مُستعينًا بالتوكُّل على الله سبحانه، واللجأ إليه، والاحتماء بقدرته ورحمته من النّفس والشّيطان وأسباب الضّلال والغرور، ومن مُضلات الفتن التي تصرع النفس، ولا تقوم لها قدرتُها، وتخسر أمامها مقاومتها. وهي مضلّات غلّابات تأتي جزاءً لسوء فعل الإنسان، ولخذلان الله عزّ وجلّ له بسبب ما أمعن فيه من الذنب، وأصرّ على الإثم، وفُرْط إهماله وتفريطه.
ومن ألوان الابتلاء وصوره التي تتحدّث عنها النصوص الآتي:
المزيد من الغنى والصحة والقوة، وأنواع التمكين:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(8).
الفرج بعد الشدَّة:{فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(9).
فقد يسوق ظَرْفُ النعمة الإنسانَ إلى أن ينسى عبودية نفسه، وربوبية ربّه، فيُسنِد النعمة التي آتاها الله إيّاها إلى قوّته وعلمه وخبرته وذكائه وجهده ناسيًا أنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
وربما كان الفرج الذي منَّ الله به عليه بعد شدّته وكربته جعله ينسبه إلى حِيلته وصُنعه.
أنواع المصائب:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(10).
وهو ليس البلاءَ الثَّقيل الذي لا تتحملونه، ويفوق طاقتكم ويستنفذُها لولا أنّكم لا تصبرون الصّبر الذي مُكِّنتم منه، ويسعه منكم ما آتاكم الله من طاقةٍ بفضله، وأعدّه لكم من منهج تربوي يُظهر فيكم قدرة المقاومة، ويُمكِّنكم من إحراز النصر على الهوى وأسباب الضعف.
وفي الزوج المؤذي أو المؤذية فتنة، وفي ما نجهله من حِكم الأحكام الشرعية فتنة، وفي جار السّوء فتنة، وإنّ في كلّ نعمة ومصيبة فتنة.
ورُبّ علاج نفس واستقامتِها على الطّريق فيما يُمدّه الله بها من غنى وسعة وصحة وقوة وخير، ولو كان الأمر غير ذلك لخسرت دينها.
وربّما كان علاج أخرى وصلاحها فيما كتبه الله عليها من الفاقة والمسكنة والسُّقم.
نقرأ هذا في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”قالَ اللّهُ عز وجل: إنَّ مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَعِبادا لا يَصلُحُ لَهُم أمرُ دينِهِم إلّا بِالغِنى وَالسَّعَةِ وَالصِّحَّةِ فِي البَدَنِ، فَأَبلوهُم بِالغِنى وَالسَّعَةِ وَالصِّحَّةِ فِي البَدَنِ، فَيَصلُحُ لَهُم أمرُ دينِهِم.
وقالَ: إنَّ مِن العِبادِ لَعِبادا لا يَصلُحُ لَهُم أمرُ دينِهِم إلّا بِالفاقَةِ وَالمَسكَنَةِ وَالسُّقمِ في أبدانِهِم، فَأَبلوهُم بِالفَقرِ وَالفاقَةِ وَالمَسكَنَةِ وَالسُّقمِ في أبدانِهِم، فَيَصلُحُ لَهُم أمرُ دينِهِم”(11).
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم إنّا نعوذ بك من مُضِلات الفتن خيرها وشرّها، وأن تبتلينا بما لا صبر لنا عليه، ولا طاقة لنا به. ونسألك رأفتك ورحمتك وإحسانك، وأن تسلك بنا أيسر السبل إليك، وتُمتّعنا بالعافية ما أحييتنا عافية الدّنيا والآخرة يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(12).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا شيء من الخلق إلَّا من صنعه وله، ولا بديع لشيء سواه، ولا يمنع مما أراد مانع، ولا يحول حائل.
ولا مفرّ لذي قوّة من بطشه، ولا حِيلة للتخلُّص من قدره، ولا وسيلة للهروب من حكومته.
مالك الرِّقاب والأنفاس، والأسباب والمسبَّبات، وما من ذرّةٍ في الكون العريض إلّا وهي في قبضته، وطوع أمره، وتحت مشيئته.
الحمد لله حمدًا لا انقضاء له ولا انتهاء، حمدًا فوق كلِّ حدٍّ، وكلِّ تقدير، وكلّ وزن، وما يصل إليه عقل، أو يبلغه خيال، ويمتدّ إليه وهم.
عباد الله لا يتساوى في عقل أو دين أو تجربة علم وجهل، ولا يمكن لمدّعٍ أن يدّعي أنَّ الهدى والبصيرة في الجهل، وأنه مقدّم على العلم.
وكما لا يعدل الجهلُ العلمَ لا يعدل الكفرُ الإيمانَ، والكفر قرينُ الجهل، والعلم قرينُ الإيمان، وكذلك لا يستوي فِسق وفجور.
فمن أراد الرُّشْدَ، وطلب النجاح، والوصول إلى الغاية الحميدة فليس له من طريق إلى ذلك إلَّا العلمُ والإيمان والتقوى فلنرغب عباد الله في طريق الهدى والرُّشْد والنور والسعادة، وإلَّا فما أشدّ إساءتنا لأنفسنا، وما أبلغ ظلمنا لها؟!
أيّها المؤمنون فلنحسنْ لأنفسنا بالعمل على إنقاذها من النّار، وأن تصير إلى الجنّة، ولنأخذ بها على الطريق الذي تنال به رضا الله فهو منتهى الأمل، وغاية الغايات التي لا تُدانيها غاية.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا إخلاص النيّة، وسموّ الغاية، وصِدْق العمل، والاستقامة على الطريق، والخاتمة الحميدة، ولا تخرجنا من الدّنيا حتى تغفرَ كلّ ذنوبنا وترضى عنّا بفضلك ومنّك وإحسانك يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلي علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزّكيّ، والحسين بن علي الشّهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أمّا بعد أيّها الإخوة والأخوات في الله فهنا كلمتان:
الدّين والقدوة:
يمتلك الدّين الحقُّ قوَّة إقناع ذاتيةً تتمثّل في حقّانيّته وأصالته وإشراقه ونداءاته التي تتجاوب معها نداءات الفطرة، وهُداه الذي تستجيب له بطبيعتها.
وتتمثَّل في قوّة براهينه العقليّة وعلميتها، وما تمتلكه من قدرة تامّة على مخاطبة العقول النيِّرة بالمنطق الذي عليه واقع العقل الذي فطره الله عليه، ويُعطيه التدبُّر والتأمُّل.
وتتمثَّل في انسجامه مع حاجات الإنسان النّابعة من طبيعة تركيبه، والتي لا انفصال لها عنه.
وكذلك في قدرته على تحريك الحياة في مسار التطوُّر، والسَّبْق الكريم في كلّ الأبعاد الحضاريّة البنّاءة.
وفي إمكان تطبيقه بمستوياته المختلفة حسبما عليه اختلاف مستويات النّاس، وتوافقه مع القدرة البشريّة، وبراءته من صِفة العُسْر والحرج.
وإذا كان العقل يحتاج في اقتناعه بالدين إلى قوة البرهان، وكانت محاكمةُ المستويات المتميِّزة من العقول للدّين قائمة على التدقيق في متانة براهينه، والنظر في استقامته مع منطق الفطرة وحاجاتها، وكان تفاعل النفوس معه، واستجابتها لتعاليمه وأحكامه متطلِّبًا أن تجدَ فيه الاستجابة لدوافعها، والتقدير لواقع تحمّلها فإنَّ ذلك لا يتيسّر للعامة من النّاس أن تحكم به من خلال النظر الدّقيق والاستقراء الشّامل، والموازنة الصّحيحة وفي الوقت المناسب.
وما يُسعف العامّةَ في الاقتناع بالدين استقبالُ الوجدان الفطري بسهولة ويسر لمرتكزاته وعموميات أخلاقه وكُلّيات من كلّيات أحكامه.
وهنا يأتي دور القدوة الإنسانية الحسنة النّاجحة من صِناعة الدّين في أداء دور فعّال كبير في إقناع الغالبيّة من النّاس بحقّانيّة الدّين وأهمّيته، وقدرته على الصِّناعة الممتازة الفريدة للإنسان، والبلوغ به إلى المستوى الأخّاذ الذي تتطلّع إليه النفوس القويمة، وتتمنّى لذاتها أن تُحقِّقه.
والقدوة الحسنة العالية تُزيل عن النفوس توهُّمها الاستحالة لطلب الكمال، وعدم إمكان الصبر على طريقه، وتُغري بجمالها أن يسلك مسلكَها، ويتعلّم من صبرها وجهادها السائرون.
وأول القدوات الحسنة وأعلاها هم المعصومون عليهم السلام. ولهم من المردود الموضِّح للدّين وأهمّيته ودوره الفعّال، ونتائجه الكريمة الباهرة ما يجعل إظهارَ سيرتهم الوضّاءة المشعّة إظهارًا له، وإخفاء معالمهم إخفاءً لمعالمه، والأخذَ بما هم عليه أخذًا به، والردَّ عليهم ردًّا عليه، وتشويه ما ثبت عنهم، وتحريف كلماتهم وأقوالهم تشويهًا وتحريفًا له، ومحاربتهم محاربته، وإلصاقَ ما لا يليق بمناسباتهم إلصاق لما لا يناسبه ويسيء إليه ويفسده.
إنّهم القدوات الأصدق تجسيدًا للإسلام، وسيرتهم هي الأقدر على النُّطق العمليّ به.
سيرتهم تُقنع بحقّانية الدّين، وصدقه وشفافيته، وبصدق أهل دعوته وأخذهم الجادّ به، والالتزام الصَّادق بتطبيقه، وتحمُّل أشدّ الأهوال في سبيله.
بواقعيّته في أعلى درجات تكاليفه، وقدرة الإنسانيّة على الاستجابة لأحكامه.
بقدرته على إعطاء أعلى النتائج المتوقّعة للتربية الناجحة، وتحقيقه الشّخصيّة الإنسانيّة الكاملة.
وسيرتهم في انطلاقها دائمًا من العقيدة الإسلاميّة الصّافية والحكم الشرعيّ الصِّدْق تفتح الفرصة للتلقّي الحسّي العملي السّريع في صورة ميسّرة أمام الفهم للإسلام بعقيدته والتطبيقات والأحكام التي يستهدفها من أهل مخاطَبته، وكلّ الآخذين به.
والاحتفال بقدوةٍ من القدوات الكبرى على مستوى الإسلام والإنسانية له انعكاسه الكبير على شأن الإسلام وما للإنسانية من قيمة.
فالإحتفال بالصّدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام يُمثّل مسؤولية ضخمة في مدى ما يتركه من تصوّرات عنها عليها السلام في العقول والنفوس، وما يلصقه الاحتفال بمناسبتها، وما يتركه من انطباع عمّا يُرضيها، وما يغضبها، وما يدخل في تكريمها وإهانتها، وما ينسجم مع سيرتها وينافيها، ويبني ما أرادت بناءه من أفكار ومشاعر وسلوكيّات وعادات وأعراف، وهدم ما استهدفت هدمَه، وتطهير حياة المجتمع من أوضاعه.
الاحتفال بالشيء أو بالمرء أو بالمناسبة هو الاهتمام بشأنه وتقديره. ومَنْ يرى في أيّ مظهر من المظاهر المجافية للحكم الشرعي، والخُلُق الإسلامي، وفي أيّ شائبة تخالط الاحتفال بمناسبة من مناسبات المعصومين عليهم السلام اهتمامًا بشأن المعصوم وتقديرًا له، وخدمة لأهدافه؟(13)
الاحتفال بمناسبات المعصومين عليهم السلام لابد أن يلتقي شكلًا ومضمونًا، مادة ومعنى، صورة ولبًّا وأجواء مع سيرتهم عليهم السلام في طُهْرها ونقائها ورساليّتها، ومع رُقيّ الإسلام وسموّه في كلِّ حكم من أحكامه، وخُلُق من خُلُقه، والأدب الذي دعا إليه.
الاحتفال والاهتمام بمناسبات المعصومين عليهم السلام لا يصدق إلّا في عمل ومظهر وجوٍّ يُعلي كلمة الله في الأرض، ويقرُب بحياتنا من حياة أهل البيت عليهم السلام، وبوجودنا كلِّه من وجودهم، ويأخذ بكلِّ أوضاعنا الشخصية والأسريّة والاجتماعية العامّة على المسار الذي يرضاه الإسلام.
إمَّا وإمّا وإمَّا:
الوضع الحالي في البحرين إمّا أنْ يسلك أهلُ السلطة به طريق الحلِّ العادل؛ والحلُّ العادل لا غيره هو الحلّ، وهو المطلوب.
ولا حلّ فيه عدلٌ بلا تنازل من السلطة عمَّا هي عليه لحد الآن من فَرْضِ السيطرة المطلقة، والاحتفاظ بكلّ الامتيازات، وحرمان الشعب في كلّ الأبعاد.
وإمّا أن تبقى السلطة على إصرارها على بقاء الشعب في موقع التهميش والإقصاء والحرمان، وتُصاعِدَ من الموقف المتشدّد، والقبضة الحديدية لإخماد الحراك الشعبيّ، وبذلك تُضاعِف من خسائر الشعب، والقتل والسجن والمفردات الأخرى من العنف.
لكن كلّ ذلك إنما يزيد في تأجيج الوضع، وإلهاب الفتنة. فهذا هو نتاج سياسة العنف، والقبضة الحديدية المشدّدة التي يختارها البعض، ولا يُفكِّر في ما سواها.
زيادة القتل، زيادة عدد السجناء، سياسة البطش تُغذّي الصراع، وتُوسّعه، وتعمِّقه، وتُبعد احتمال اللقاء على حل، وتزيد في عمر الأزمة. والأزمة كلّما مكثت كلّما أوقعت الوطن في خسائر فادحة، وفتحت عليه أبواب الشرّ التي لا خير لأحد فيها، ولا فُرصةَ انتصار لأحدٍ من خلالها.
الحدث يبدأ صغيرًا، وفي حدود ضيّقة، ويمكن احتواؤه بالطرق العقلائية المتّزنة، فإذا جاء التعامل معه استفزازيًّا، وقائمًا على سياسة كسر العظم وقطع الرِّقاب خرج عن حدِّ الحسبان وانفلت بصورة جنونية مدمِّرة يصعب احتواؤها والتحكُّم في امتدادتها.
الحلول القائمة على السياسة الأمنية تُعطي ردات فعل متوالية ومن الطرفين قد تَبْعُد نهايتها، والمشكل أنّ البعض لا يفكر إلا بعقلية أمنيّة، ولا يتحدث إلا باللغة الأمنية، ولا اختيار عنده إلا الأسلوب الأمني والقبضة الأمنية حتى يكون تفكيره محكومًا للهاجس الأمني وواقعًا في الهوس الأمني رغم ما يشهده من آثار سيئة شديدة السّوء والخطورة لممارسة الأسلوب الأمنيّ والإصرار عليه.
تجارب كثيرة من تجارب الأسلوب الأمنيّ الذي طالت ممارستُه من قِبَل السّياسة في هذا البلد وأعطى نتائج عكسية لما قد يُتصور أنها ستؤدي إليه من إخماد جذوة الحراك المطلبي، وأضرت بمصالح الوطن، ومدّت في عمر الأزمة، ومع ذلك لم يُعطِ ذلك درسًا للمعنيين في فشل هذه السياسة.
وفرض ثالث أن يتحقق حلم السياسة الأمنية القاسية التي تُراهن على تراجع الشعب عن حراكه ومطالبه العادلة بعد المدى الطويل من حراكه، والكمّ الهائل من تضحياته، وبذله السّخيّ وتعبه وضناه بيدٍ صفراء ومن غير ثمرة ولا مردودٍ لهذا السّعي الشّاق الطويل.
وهذه الأمنية المتخيّلة للبعض مستحيلة في تفكير الشعب، وبعيدة كل البعد عن مخيّلته(14).
وقد برهن الكثير من المحطّات بالغة الصّعوبة من تاريخ الحراك على هذه الاستحالة، وهذا البُعْد.
إنَّ الشعوب العربية التي انطلقت مدافعة عن حقوقها، مستنقذة وضع أوطانها من الانهيار على يد الأنظمة الجائرة لم يقتنع أحدٌ منها بأن يتحقّق له القليل فضلًا عن أن ترجع من حراكها وثورتها خائبة وبلا شيء إلَّا التضحيات والمشقّة والنَّصَب.
وحتى الشعوب التي تحقّق لها الكثير لم تتوقّف حركتها في اتجاه استكمال حقِّها، واسترداد تمام حرّيتها وكرامتها، وحماية ما تحقّق لها من مكاسبها من السّرقة والاختلاس والمصادرة ثانية والالتفاف.
فلا يُدرى مع هذا كيف يطمع الطّامعون أن يكون شعب البحرين استثناء من بين بقيّة شعوب الأمّة، وحراكه شاذًّا من بين حراكاتها ويقبل أن يرجع من هذا الحراك المليء بتحضياته بخفّي حنين، ويعود مظلومًا مقهورًأ مسلوبَ الحقّ والإرادة، فاقِدًا للحريّة، مهدور الكرامة؟!
لا شيء من عمر الحراك يُعطي إشارة ولو واحدة خفيفة بإمكان هذا التراجع والتقاعس والانخذال، وإنما كلّ شيء فيه يدلُّ على استحالة ذلك.
والمسألة من جانب الشعب ليست مسألة تغالب كيفيّ انفعاليّ وبروحٍ من العصبية وإنما القضية قضية إصلاح، وإرادة إصلاح في مواجهةِ تعطيله وإلغائه من الحساب ليبقى الوطن محكومًا لأوضاع التردّي والتخلُّف والظلم والاستئثار والفساد، ويمتدّ به عُمْر المحنة والشّقاء.
القضية قضية إصلاح غيابُه يقضي على ما تبقّى من فُرَص خير لهذا الوطن، وتأخُّره ليوم واحد فيه تهديد لخروجه من مأزقه…. إصلاحٌ لابد منه، ولا غنى عنه على الإطلاق.
وهناك منطق مقابل يقول: الاستفتاء يشقّ الشعب، والانتخابات الحرّة العادلة تشّ الشعب، وجمعية تأسيسية تنظر في الدستور تشقّ الشعب، وإلغاء التمييز والمساواة بين المواطنين يشقّ الشعب، والإصلاح الجادّ الحقيقيّ، وكلّ ما يؤثّر على المعادلة الجائرة القائمة يشقّ الشعب.
ولا شيء يضمن وحدة الشعب، وخير الوطن وأمنه واستقراره وتقدُّمه، ويزيد من متانة أخوّة أبنائه إلّا أن يبقى كلّ جورٍ في مكانه، وكلّ فساد على وضعه، وكلّ أَثَرَة في جانب وحرمان في آخر على ما هو عليه، وإلّا أن يتوارى صوتُ التغيير، ويندحر نداءُ الإصلاح، وعندئذ لا غير تأمن البلاد والعباد، ويعمُّ الخير، وتكرُمُ الحياة، وتنتشر البركات.
وهذا هو مقتضى العدل والحكمة، وما يتوافق مع الميثاق والدستور والمعاهدات الدولية وفهم منظمات حقوق الإنسان والعُرف الإنساني الرّشيد والوعي السياسيّ المتقدِّم السبّاق.
أما القائل غير ذلك فهو ضالٌّ مضلّ، خائن مفسد متآمر، وليس له إلّا أشدُّ العذاب.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لقّنا خير الدين والدّنيا، وجنّبنا شرَّ الدُّنيا والآخرة، وثبّت أقدامنا يوم تزِلّ فيه الأقدام، وهبْ لنا من نصرك فوق ما يُؤمّل المؤمّلون يا عليّ يا قدير، يا رحمن يا رحيم، يا مُحسن يا متفضّل يا كريم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفُكّ أسرنا وسجناءنا، ورد غرباءنا في خير وسلامة وعزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (15).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وهو موضوع الأسبوع السابق.
2- عند أحد.
3- كما لايتجاوز أي تكليف خاص من كلِّف به حدَّ ماهو عليه من قدرة.
4 – بحار الأنوار ج64 ص 231 ط3 المصححة.
5 – 3/ الحجرات.
6 – 2/ الملك.
7 – 179/ آل عمران.
8 – 165/ الأنعام.
9 – 49/ الزمر.
10 – 155/ البقرة.
11 – كتاب المؤمن ص24، 25 ط1.
12 – سورة التوحيد.
13 – من يرى ذلك؟!
14 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلّة).
15 – 90/ النحل.