خطبة الجمعة (529) 1 محرم 1434هـ ـ 16 نوفمبر 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الإخاء في الإيمان
الخطبة الثانية: يوم كربلاء، يوم الحسين عليه السلام – خير وشر – كلمة شكر قاصرة – إمتحان جديد
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تعرفه الخلائق بخلقه لها، وإفاضتِه الوجودَ عليها، وعدم استغنائها عنه في بقائها، ويقينها بفقرها وفاقتها، وأنْ لا دافع لشيء من فقدِها إلا رفدُه، ولا قاضي لحاجة من حاجاتها إلاّ عطاؤه، ولا لحظة وجودٍ لها أو حياةٍ إلاَّ بمدده، ومن جوده وكرمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله من أحقُّ بأن يُستجاب له من الله، ويُطاع ويُعبد؟! بل من يحقُّ له شيءٌ من ذلك في نفسه إذا لم تكن الاستجابةُ لأمره ونهيه من الاستجابة لله وبإذنه؟! وهل من ِمْثل دعوة الله عزّ وجلَّ لما يرتضيه دعوةٌ أخرى فيما تورثه من حياة العقول، والنفوس، والأرواح، وتُحدثه من خيرٍ في هذه الحياة، وتُعقبه من نجاح في الآخرة؟ بل هل في تلك الدعوات إلا التيه والضلال والنصب والشقاء والخسار؟! كيف لا ومنطلقها ليس إلا الجهلُ والسَّفهُ والعمى والانحراف؟!.
عبادَ الله علينا بتقوى الله، والأخذ بقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ…}(1).
وعلينا تذكرُ العاقبة، والاعتبار بقوله عزّ من قائل {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(2).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من المسارعين في الاستجابة لأمرك ونهيك، المسابقين في طاعتك وعبادتك، الطّالبين قربَك ورضاك، الطَّامعين في ثوابك، الفارّين من عقابك، وهبْ لنا عفوك ومغفرتك، ولا تُفرِّق بيننا وبين رحمتك وحفظك وكلاءتك طرفةَ عين أبدًا يا رؤوف، يا رحيم، يا جواد، يا كريم .
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فلندخل في الحديث في موضوع:
الإخاء في الإيمان:
الإخاءُ علاقةٌ ذات جذر مشترك بين طرفين يجعلهما على صعيدٍ واحد، ونسبة مشتركة فيما يرجع إليه.
والأخوّة أنواع في الاستعمال اللغوي، واستعمال القرآن الكريم؛ فتُستعمل في العلاقة النسبية المعروفة والتي يشترك فيها اثنان من حيث التولُّد من كلٍّ من الأب والأم أو أحدهما، كما تُستعمل في العلاقة الرَّضاعية، والعلاقة الدينية، والقبلية وغيرها.
والدّين والإيمان أصلٌ مشترك تقوم عليه أُخوّة أهل الدّين والإيمان.
وهذا الأصل يخلق رابطة قلبية بين المؤمنين، وتآلُفًا روحيًّا، ويشدّ النفوس بعضها إلى بعض، ويُنشئ بينها حالة من التجاوب والانجذاب.
وتأتي الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام مُفصِحة عن ذلك:”إنّ النفوس إذا تناسبت أئتلفت”(3).
وهذا أثر طبيعي تكويني تجده النفوس المؤمنة، وتعيشه قلوب المؤمنين تجاه بعضها البعض حالةً وجدانية مشهودة.
بالإضافة إلى هذا هناك جَعْلٌ تشريعي للأخوّة بين المؤمنين تترتّب عليها آثار شرعية من حقوقٍ وواجبات.
ينقل التاريخ مؤاخاة الرسول صلَّى الله عليه وآله بين المهاجرين والأنصار بعد تشريفه المدينة المنوّرة، وذُكر له هذا القول:”تآخوا في الله أخوين أخوين”(4).
ومن آيات الكتاب في أخوَّة الإيمان:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ…}(5)، {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ …}(6).
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ…}(7).
فالأخوّة الإيمانية التي هي محلٌّ للاعتبار الشرعي تترتّب عليها آثار عمليَّة في النظر الشرعي نفسه(8).
ومن الحديث الشريف في هذا الأمر ما عن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله”(9)، “المؤمن أخو المؤمن”(10)، “المسلم أخو المسلم”(11).
وترتَّبَ على الاعتبار الشرعيّ للأُخوّة الإيمانية التوارث بين كلِّ اثنين آخى بينهما رسول الله صلَّى الله عليه وآله في المدينة. وامتدَّ ذلك حتّى نُسِخَ هذا الحكم بآية الميراث التي جعلت أساسه صلة الرَّحم وذلك بعد أن تحسَّن الوضعُ المعيشيُّ في حياة المسلمين.
وبقيت آثار وحقوق شرعية وآداب جمّة لهذه العلاقة الكريمة التي ترتبط بالمقدَّس الديني، وتُمثِّل أرقى مستوى في الأُخوَّات.
من هذه الحقوق:
1. حرمة النفس والمال:
عنه صلَّى الله عليه وآله:”ألا أيها النّاس إنَّ المسلم أخو المسلم حقًّا، ولا يَحِلّ لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلاّ ما أعطاه بطيبة نفس منه”(12).
2. النصيحة:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”أخوك في الله من هداك إلى رشاد، ونهاك عن فساد، وأعانك إلى إصلاح معاد”(13).
3. النُّصرة:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”من نصر أخاه المسلم وهو يستطيع ذلك نصره الله في الدّنيا والآخرة”(14).
عن الإمام الصادق عليه السلام:”ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدِر على نصرته إلاّ خذله الله في الدّنيا واللآخرة”( ). ولنلتفت إلى أنَّ نصرة الأخ المظلوم بالدّفاع عنه، وأنَّ نصرة الأخ الظالم بنهيه عن ظلمه(15).
4. الإعانة:
عن أبي عبدالله عليه السلام:”أيّما مؤمن نفّس عن مؤمن كربة وهو معسر يسَّر الله له حوائجه في الدّنيا والآخرة”(16).
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”المؤمنون إخوة يقضي بعضهم حوائج بعض، فبقضاء بعضهم حوائجَ بعض يقضي الله حوائجهم يوم القيامة”(17).
5. الإكرام:
عنه صلَّى الله عليه وآله:”من أكرم أخاه المسلم بكلمة يُلطِفُه بها، وفرّج عنه كربته لم يزل في ظلّ الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك”(19).
وعنه صلَّى الله عليه وآله:”من أكرم أخاه فإنّما يُكرِم الله، فما ظنكم بمن يُكرم الله بأن يفعل به”(20).
6. الإيثار:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”عامِل سائر النَّاس بالإنصاف، وعامل المؤمنين بالإيثار”(21).
7. الحفظ بالغيب:
حِفْظ الشّرف والكرامة والسمعة والذكر الحسن من وراء المؤمن، وحال غيبته.
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”المؤمن أخو المؤمن من حيث يغيب يحفظه من ورائه…”(22).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”اذكروا أخاكم إذا غاب عنكم بأحسن ما تُحبّون أن تذكروا به إذا غِبتم عنه”(23).
8. إهداء العيب:
تنبيه المؤمن أخاه المؤمنَ على ما يَشينُه ويَعيبه في لطف وأدب ومراعاة طلبًا لسلامته وحُسنه وكمالِه حقٌّ من حقوق الأُخوّة الإيمانية، وأثرٌ من آثارها.
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”خير إخوانكم من أهدى إليكم عيوبكم”(24)، “المُؤمِنُ مِرآةُ أخيهِ؛ يُميطُ(25) عَنهُ الأَذى”(26) يميط عنه الأذى، ومن الأذى ما هو ماديّ، ومنه ما هو معنوي، وما يسيء دينًا وخلقا. وعن الإمام عليّ عليه السلام:”ثمرة الأُخوَّة حفظ الغيب، وإهداء العيب”(27).
9. الدعاء بالغيب:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام:”إنَّ الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب أو يذكره بخير قالوا: نعم الأخُ أنت لأخيك تدعو له بالخير وهو غائب عنك، وتذكره بخير، قد أعطاك الله مثلي ما سألتَ له، وأثنى عليك مِثلي ما أثنيت عليه، ولك الفضل عليه. وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا بئس الأخُ أنت لأخيك كفّ أيها المُستَّرُ على ذنوبه وعورته، واربع على نفسك واحمد الله الذي ستر عليك، واعلم أنَّ الله أعلم بعبده منك”(28).
اربع على نفسك: أُرفُق بنفسك وكُفّ.
10. النهي عن المنكر:
عن الإمام الصادق عليه السلام:”من رأى أخاه على أمرٍ يكرهه فلم يردّه عنه – وهو يقدِر عليه – فقد خانه”(29).
11. الصَّفح عن الزَّلل:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله في ذكر صفات المؤمن:”لطيفٌ (يَعطِفُ) عَلى أخيهِ بِزَلَّتِهِ، ويَرعى ما مَضى مِن قَديمِ صُحبَتِهِ”(30).
12. التفقّد عند الغَيبة:
عن مكارم الأخلاق عن أنس: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله إذا فَقَدَ الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه؛ فإن كان غائبًا دعا له، وإن كان شاهدًا زاره، وإن كان مريضًا عاده”(31).
وتبقى قائمة الحقوق للمؤمنين على بعضهم البعض أطول مما ذُكِر هنا.
وهذا من أحاديث الحقوق الثّابتة بإخوّة الإيمان:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”تبتني الأخوة في الله على التناصح في الله، والتباذل في الله(32)، والتعاون على طاعة الله، والتناهي عن معاصي الله، والتناصر في الله، وإخلاص المحبَّة”(33).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذلُه، ولا يغتابه، ولا يخونه، ولا يحرمه”(34).
والأحاديث في موضوع أخوة الإيمان وحقوقها فوق ما ذُكِر هنا بكثير وكثير وكثير.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم ارزقنا صِدْق الإيمان، وصِدْق الأُخوّة فيه، وصِْق المحبّة لك، وفي سبيلك، والجدّ في طاعتك، وعبادتك، وأداء حقوق أوليائك، والمؤمنين من عبادك، وأخلاق دينك القويم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (35).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أقام من كُلِّ ما خلق برهانًا على قدرته، ودليلًا على عِلمِهِ وحكمته، وآيةً من آياتِ لطفه ورحمته، وشاهدًا من شواهد جلاله وعظمته، وطريقًا من طُرُق الوصول إليه، وتشرُّف العباد بمعرفته. الحمد لله خالق كلّ الأشياء ولا خالق غيره، وهو الإله الحقُّ، ولا إله سواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عبادَ الله إنّ الحياة في منتهاها مُفضيةٌ إلى سعادة أو شقاء، ونعيم أو عذاب. وما مِنْ أحدٍ إلاّ وتنتظره خاتمة من هاتين الخاتمتين، ولا يصنع أحدٌ من الخلق خاتمةَ أحد، وإنّما صُنع الخاتمة لكلّ نفسٍ على يدها، ولا تَلْقَى من جزاءٍ إلا من جنس ما قدّمت لنفسها في هذه الحياة. وغدًا تجِفُّ الأقلام، وتنقطع الأعذار، ولا إمكان، ولا مكان لفداء. وليس من فُرصة تُغتنم لدرء شقاء الأبد، ونيل نعيمه وسعادته غيرُ هذه الحياة.
فلنتّق الله العليَّ القدير الذي لا إله غيره، ولا أمر بيد سواه، ولنخلص الطاعة والعبادة له لنكون من الفائزين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنه لا هدى لنا إلاّ بهدايتك، ولا استقامة إلاّ بتوفيقك، ولا نجاة إلا بتسديدك، ولا نُجْح إلا من فضلك وكرمك فارأف بنا، واسلك بنا إليك، وخذ بنا على طريق رضوانك يا أرحم من كلِّ رحيم، ويا أكرم من كلِّ كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن عليّ الزّكي، والحسين بن عليّ الشّهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمّد بن عليٍّ الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرِّضا، ومحمد بن عليّ الجواد، وعليّ بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمّد بن الحسن المهديّ المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الإخوة والأخوات في الله فإلى عدد من العناوين:
أولًا: يوم كربلاء… يوم الحسين عليه السلام:
يوم كربلاء… يوم الحسين عليه السلام… يوم الثورة المباركة التي ظلّت مشعلا ينير فكر الأجيال، وصرخة لنداء الحرية، ووقودًا لعزيمة الأحرار، ولاهِبًا لضمير الإنسان، ونداء مدويًّا لا ينقطع بحياة العزّة والكرامة، ورأيًا معصومًا مصحِّحًا لفهم الأمّة لدينها، وحدثًا قادرًا على المناهضة لتزوير الشريعة(36).
ستبقى كربلاء تمدّ الأمّة ما عاشت بوعي الدّين، وتتجه بها إلى خطِّ الرّسالة، وتشدّها إلى قيادة الأنبياء، وقيادة وريثهم الموعود المنتظر عليه السلام، وتسلك بها طريق الرَّشاد، وتُنازل بعطاءاتها الثّرّة الأصيلة على مستوى الفكر والشّعور والإرادة كلَّ الجاهليَّات ذات الطّابع القديم والمستجِدّ، وكلَّ ما كان أو يكون من تحريفٍ أو تلاعب يستهدف أُسس الإسلام الأصيلة، وركائزه الثّابتة.
ما دام وعيُ كربلاء فلن يسمح بأن تأسنَ حياةُ الأمّة، أو تستسلم لمحاولات الهروب بها عن الإسلام، وتخسر هُويّتها وأصالتها، وتتراجع إلى الوراء.
ولو عمَّ هذا الوعي لأنقذ الأمة من كلّ تخلُّفها وهزيمتها وتبعيّتها وعذاباتها بسرعة فائقة… وَلَوَضَعها على طريق ربّها لا تحيد عنه، ولا تعدل به طريقًا آخر، ولا تبتغي عنه بدلًا، ولا تجد له ثمنًا، ولا تُساويه عندها قيمة.
شعارُ كربلاء بإصلاح أمّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله هو الانطلاقة الجادّة لإصلاح العالم كلِّ العالم، لأنَّ العالم لا يُصلحه إلا هدى السماء، وكلمةُ الوحي، ولا هُدى للسّماء في الأرض كهدى الإسلام، ولا ينقص ثانيَ سيدَي شباب أهل الجنة من هُدى الإسلام شيء، وإنَّ لديه من علم الدّين وهُداه وبصيرته كلّ ما تحتاجه الحياة(37).
وإنَّ يوم كربلاء… يوم الحسين عليه السلام بما هو عليه من فهمٍ فقهيٍّ معصوم، من قِيَمٍ إسلاميّة، من أخلاق قرآنية واضحة، من نصرة خالصة لدين الله، من تآزر في الحقّ، من فدائية عالية وتفانٍ في سبيل المبدأ الصِّدْق، من انضباط عالٍ أمام الأوامر الإلهية، والأوامر الوِلائية الصّادرة من الإمام عليه السلام، من بصيرةٍ واضحة لا يُشك فيها، من تطبيق دقيق لفقه الشريعة في كلّ حركة وسكون… يوم كربلاء… يوم الحسين عليه السلام بما هو ذلك التّجسيد الدّقيق والواسع للإسلام هو مدرسة الأجيال الإسلاميّة المتعاقِبة، وحُجّة على الأمة، وحجة لها.
وهل يُسأل، أو يتوقف في حجية قول أو فعل كان من الحسين عليه السلام وهو من الدّاخلين في آية التّطهير، وآية المباهلة، وآية أولي الأمر، وحديث الثقلين، وحديث سيدَي شباب أهل الجنّة؟!(38)
وعن إحياء عاشوراء فإنّه إحياءٌ(39) لوعي ذلك اليوم، وبصيرته( )، ومبدئيته، وروحانيته، وفدائيّته في سبيل الله، وسخائه المفتوح على مستوى كلِّ التضحيات العزيزة النبيلة من أجل دينه، وحياة الأمة المسلمة وأصالتها، واستقامتها على منهج ربِّها العظيم، ومن أجل ألا يُؤخذ بها إلى يمين أو شمال عن صراط الربّ السّوي، وطريقه المبين.
وإحياء عاشوراء لا يكون إلاّ كذلك(41)، ولا يكون إلا عطاءًا دينيّاً وخلقيًّا ثرًّا، وتعبيرًا رائعًا عن إرادة إسلامية قويّة، وبصيرةٍ قرآنيّة هادية، وتلاحم إيماني شديد، وروحٍ وحدوية منفتحة( )، والتزام فقهيّ أكيد، واستمساك بخطّ الحسين عليه السلام، ورشده، وهداه، وصلابته في سبيل الله، وتقديمه لرضاه على كل ما عداه من شيء.
وظلم لعاشوراء، وظلم للحسين عليه السلام، وعصمته، وإمامته، وكرامته، ودمه الشّريف، ومصرعه الكريم أن تتخلَّل عملية الإحياء ليوم ثورته الخالدة بما عليه ذلك اليوم من شأن عظيم عند الله سبحانه مخالفة فقهيّة(43)، وأيّ خروج على أحكام الشريعة المقدسة، وأن تُلوَّث أجواء الإحياء بأيِّ مظهرٍ من مظاهر التخلُّع، والتميّع، والأزياء المثيرة، والحركات الشهوانية المنحدرة.
إنّه لا دين خارج الإطار الفقهي، ولا ضرر أكبرُ من أن يخترق الدّين باسم الدّين، وأن يُساء إلى الأئمة عليهم السلام باسم الاحتفاء بمناسباتهم.
لا أقسى من هذا التشويه، ولا أفتك منه بدين الله، ومقام أولياء الله عليهم السلام(44).
لا يكن إحياؤنا لأمر أهل البيت عليهم السلام إماتةً له، وبناؤنا للإسلام هدمًا لأسسه وأحكامه(45).
الإحياء لا ينفصل عن خط الفقه، ومراجعته في كلّ كبيرة وصغيرة، وفي كلِّ خطوة من الخطوات. والفقه لا يُؤخذ من غير الفقهاء، والهدى لا يُؤخذ من غير العلماء.
لا فتوى من أحد في أمرٍ من أمور الإحياء، وأيّ مظهر من مظاهره، وأسلوبٍ من أساليبه لغير الفقهاء. شأنُ هذا الموضوع في ذلك شأن أيّ موضوع آخر(46).
ثانيًا: خير وشر:
الإصلاح أخذٌ بالأمور صوبَ الحق، والاقترابُ بالأوضاع من حدِّ العدل، وخيره ما حقّق العدلَ، وصَدَقَ به الحقّ. ولا يشك شاكٌّ في أنَّ الإصلاح خير، وأنّ البديل له شر.
والإصلاح على المستوى السّياسي والمستويات الأخرى فيما يتعلّق بالشّأن العام يُنهي أزمات الأوطان، يبني مجتمعًا قويًّا، يُورث أمنًا واستقرارًا وسلامًا، يتقدّم بمستوى البُلدان والشّعوب والأمم، يُتيح لمختلف الطّاقات الصّالحة أن تتجه لمصلحة الإنسان.
ورَفْض الإصلاح، وغلق الباب في وجهه، وإفشال محاولاته اختيار لا لأن تبقى الأوضاع على ما تعانيه من فساد، وتُفرزه من إفساد فحسب، إنما الإعراض عن الإصلاح، والإبقاء على الإفساد يطيح بكل أمل، ويقتل كلَّ فرصة للتدارك، وتشقى به كلُّ نفس، وتُغرق بلواه كلَّ ربوع الوطن.
ذلك أنه ما غاب الإصلاح أو تأخّر، وما خفتت الأصوات المنادية به إلا امتدّ الفساد واستوعب مساحة أكبر، وزاد تجذُّره، وشقَّ على المتسلّقين في أجوائه، ومن يتراءى لهم الانتفاعُ باستمراره أن يخفَّ أو يتراجع(47).
ومن أجل هذه الحماية يكثر القتل في أصحاب الصوت الإصلاحي والمطاردة والإخافة، والتشريد، والتهجير، والسجن، والعقوباتُ العنيفة، وألوانُ العذاب والتنكيل(48).
وفي ذلك تمزيق المجتمعات، وإنهاك الأوطان، والزجّ بها في أُتون الفتن، ووضعها على طريق الهلاك، والسلوك بها مسالك الفناء. وإن عاشت لا تعيش إلا ضعيفة واهنة، مخوفة قلقة، متخلِّفة مستضعَفة، تُقيم في جنباتها الشّكوك والأحقاد والبغضاء(49).
هذا شرٌّ وأيّ شرٍّ لا ينبغي أن ترتكبه سياسة، ولا يمكن أن يُشير به عقل، أو دين، أو ضمير.
ارحموا هذا الوطن، جنِّبوه هذا الشرَّ، لا تُعرِّضوه لكلّ هذا السوء، إنأوا به عن الدَّمار. اطلبوا له الخير والأمن والصلاح والبناء والمودّة والائتلاف.
الجمعيات السياسية المعارضة عَرَضَت رؤيتها الإصلاحية وأعلنت عنها، والحكومة صامتة ولو عن كلمة واحدة في الإصلاح.
والجمعيات السياسية المعارضة أعلنت عن مبادئها المعتمَدة في رفض العنف من كلِّ الجهات وبمختلف صوره مع تكرّر هذا الرفض منها ومن غيرها من العلماء ورموز سياسية متعدِّدة، والإجراءات العنيفة، ولغة التوعّد، والتهديد والتصعيد لا زالت هي اللغة السائدة من الجانب الرَّسمي، ومثلها لغة العقوبة الجماعيَّة كما في حالَتي العكر والمهزّة.
والإصلاح الذي يُمثِّل حلًّا جدّيًا هو حقٌّ للشعب، وضرورة أساس لصالح الوطن، وواجب على السُّلطة، ومُحقّق كذلك لمصلحتها.
كلمة شكر قاصرة:
أيّها الشعب العظيم:
عظيم أنت بإيمانك، وبما يعمر به قلبك من حبٍّ لله سبحانه… لدينك… لوطنك… للإنسان. بتمسُّكك بالحقّ والعدل… بصبرك، وثباتك، وتضحياتك.. بإخلاصك ووفائك… بمواقفك المبدئيّة وعقلانيّتك وسلميّتك والحفاظ على روح الوحدة بين أبنائك على طريق الله…. بوعيك وخبرتك وبصيرتك… بشهامتك وعزّتك وشممك(50).
عظيم أنت يا شعبٌ برجالك ونسائك، وشبابك وشيبك وناشئتك… بعلمائك وأطبائك، ومربّيك ومعلميك ومهندسيك وحقوقيك، وعمّالك، وكلِّ فئاتك.
أيها الإخوة والأخوات يعجز لساني عن أن يبلغ حدَّ شكركم، وواجب الاعتراف لكم بالجميل. وإني لأعترف صادقًا بتقصيري معكم وعجزي عن الوفاءِ بما لكم عليّ من حقّ.
وأنا على ثقةٍ بأنكم لا تنتظرون الجزاءَ إلاّ ممن يملك الجزاءَ حقًّا، ولا يضيع عنده عمل عامل من ذكرٍ أو أُنثى، ولا يُغني عن جزائه جزاء، ولا عن شُكره شكر، ولا يبلغ جزاءٌ جزاءه.
أنتم شعبُ إيمان لا يعدل جزاءٌ عنده جزاء ربّه، ولا يرضى عن جزاء ربّه بجزاء.
شكرًا وألف شكر لكم أيها الشعب العظيم، وحالفكم النصر والتوفيق والسّداد.
امتحان جديد:
يُمثِّل السفك المستهتر للدم الفلسطيني، والتهديد المتغطرس باكتساح غزّة من قبل العدوّ الإسرائيلي تحدّيًا سافرًا، وامتحانًا جديدًا للإرادة العربيّة على المستوى الرّسمي(51)، للغيرة، للشجاعة، للصِّدق، للحقَّانيَّة، للاعتزاز بالهويّة، للإخلاص للأمَّة، لاستقلالية الموقف، لحريّة الإرادة، وعدم الارتهان لإرادة الخارج من قِبَل هذه الدولة أو تلك من الدول العربية.
لقد جدّ الجدّ وأُمطرت غزّة بأسباب الموت والفناء والتدمير(52)، وقد يُنفّذ العدو الإسرائيلي تهديداته وتوعّداته الواسعة. هل سيجد الشعب العربي من حكوماته شيئًا مما اعتاده من شجاعتها وبسالتها في قمع حركته، وتقليم أظافره، وشيئًا من المواجهة الجادّة لإسرائيل، أو أنه لن يسمع إلاّ فرقعات صوتية، وعن مواقف عملية على خلاف ذلك، وستكون إرادة الكثير من الحكومات العربية من إرادة الخارج التي تقف دائمًا في مناصرة لإسرائيل؟!
سؤال يعرف الشعب العربي إجابته، ولا يتردَّد فيها، لكن هل يأتي الواقع بأمرٍ جديد؟! لئن أتى أمر جديد في هذا فهو عجيب وغريب.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم انصر الإسلام وأهله، واخذل الكفر وأهله.
اللهم ارحم عبدك وابن عبديك عليّ ابن عبّاس بن رضي شهيدَ الصلاة وكلَّ شهدائنا وموتانا جميعًا، واشف جرحانا ومرضانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، وردّ غرباءنا في خير وسلامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (53).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 24/ الأنفال.
2 – 18/ الرّعد.
3 – عيون الحكم والمواعظ ص149 ط1.
إذا صارت من مستوى واحد ومتناسبة في الإيمان فإنها ستأئتلف تلقائيا وطبيعيا.
4 – الغدير للشيخ الأميني ج3 ص116 ط4.
5 – 10/ الحجرات.
6 – 11/ التوبة.
7 – 5/ الأحزاب.
8 – ولا يكون هذا الاعتبار إلا من أجل هذه الآثار.
9 – بحار الأنوار ج60 ص71 ط2 المصححة.
10 – الكافي ج2 ص166 ط4.
11 – الكافي ج4 ص50 ط3.
12 – بحار الأنوار ج37 ص113 ط2 المصححة.
13 – معجم المحاسن والمساوئ ص525 ط1.
والنصيحة أن تقول الكلمة التي فيها صلاح أخيك، وتقف الموقف الذي فيه سداده وحمايته وكفايته.
14 – حلية الأولياء ج3 ص 25.
15 – المحاسن ج1 ص99.
16 – عليك أن تنصر أخاك الظالم، كما أن عليك أن تنصر أخاك المظلوم، والنصر يختلف.
17 – الكافي ج2 ص200 ط4.
والله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه. 18 – الأمالي للشيخ المفيد ص150 ط2.
وقد كان المؤمنون في وقت سابق بعضهم يحضر لبعض في كثير من المشاريع الأسرية، والحاجات الشخصية. كانوا يتعاونون في البناء؛ في بناء منزل الصيف، وقد يتعاونون في بناء منزل الشتاء، وفي أمور أخرى. 19 – بحار الأنوار ج71 ص299 ط2 المصححة.
20 – وسائل الشيعة (آل البيت) ج17 ص189 ط2.
21 – موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) ج11 ص358 ط1.
22 – كنز العمال ج1 ص152.
23 – بحار الأنوار ج72 ص253 ط3 المصححة.
24 – ميزان الحكمة ج1 ص46 ط1.
25 – يزيله ويبعده.
26 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج1 ص394 ط1.
27 – عيون الحكم والمواعظ ص208 ط1.
28 – الكافي ج2 ص508 ط4.
29 – بحار الأنوار ج71 ص190 ط2 المصححة.
تجدني أغتاب، وأنت تقدر على نهيي عن غيبتي، وتسكت عني هذه خيانة.
30 – المصدر السابق ج64 ص311 3 المصححة.
31 – المصدر السابق ج16 ص233.
32 – يبذل لك، وتبذل له، يعطيك وتعطيه، كلّ ذلك لله.
33 – عيون الحكم والمواعظ ص199 ط1.
34 – الكافي ج2 ص167 ط4.
35 – سورة التوحيد.
36 – ما دامت الأرض والإنسان.
37 – هتاف جموع المصلين (لبيك يا حسين).
38 – هل من مسلم له أن يتوقّف في حجّية قول أو فعل صادر من هذا الإمام عليه السلام؟! ظلمٌ أن يُتوقّف في حجّية قول أو فعل يأتي منه صلوات الله وسلامه عليه.
39 – يعني إبقاء له على الحياة حتى لا يُميته الباطل.
هناك باطل في الأرض يُناهض وعي الحسين عليه السلام، إيمان الحسين عليه السلام، شفقة الإمام الحسين على الأمة، إصلاح الإمام الحسين عليه السلام لأوضاع الإنسان، مسؤولية الإحياء أن تدفع أسباب العناد وأسباب الفناء والقضاء على هذا الوعي وهذه البصيرة وهذا الإيمان وهذا الإشعاع القرآني، هذه الرحمة الإلهية.
40 – ماذا نُحيي؟
41 – غير هذا ليس إحياء.
42 – طريقها طريق الله عزّ وجلّ، وجامعها هو كلمته. 43 – تخلُّل مخالفة فقهية لإحياء موسم عاشوراء ظلم للحسين عليه السلام، ولدمه الشريف، ومصرعه الكريم. 44 – هتاف جموع المصلين (لبيك يا إسلام).
45 – من خلال هذه المخالفات، وأمثال هذه المخالفات. 46 – والاحتياط المطلوب في الموارد الأخرى مطلوب في هذا المورد المهمّ.
47 – يعزُّ على هؤلاء أن يخفّ الفساد أو يتراجع، كل من له مصلحة في بقاء أجواء الفساد سيحارب من أجل بقائها لأنّه بانطواء سطحة الفساد تذهب تلك المصالح.
48 – كما هي العادة في كلّ الدنيا الظالمة.
49 – التي تُمزِّق أشلاء المجتمعات.
50 – هتاف جموع المصلين (الله أكبر، النصر للإسلام).
51 – كما هو على المستوى الشعبي بالدرجة الثانية.
52 – هتاف جموع المصلين (الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا).
53 – 90/ النحل.