خطبة الجمعة (520) 27 شوال 1433هـ ـ 14 سبتمبر 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: حياتنا بين الروح والبدن
الخطبة الثانية: إساءة أقسى من حرب – إمَّا وإمّا – عام دراسي جديد
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا ينكره عقل، ولا يعرف كنهه، ولا تجحده فٍِطرة ولا تصل إلى حقيقته. هو فوق إدراك كلّ مُدرك، وكمالُه أبعدُ من كلِّ كمالٍ مُتصوّر، ومن كُلِّ كمال له نهاية، أو يقف به حدٌّ. الأوّل غير المسبوق بوجودٍ ولا عدم، والآخِر الذي لا زوال له ولا انقضاء، ولا يأتي عليه عدم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا ما من إنسان مختار إلاّ وله معبود مُطاع؛ فالنَّاس إمَّا مطيعٌ لله، عابدٌ له، وإمَّا مطيع للشيطان، عابد له، مستسلم لهواه.
فلينظر العاقل بعبادة من يقضي عقلُه، وإلى طاعة من تهديه فطرتُه، وفي الاستسلام لمن تكون مصلحتُه.
أيشتبه على عقلٍ، أو وجدانٍ حيّ، أو فطرةٍ سليمة، أو قلبٍ غير مقلوب أين العلم وأين الجهل، أين الحكمة وأين الضلال، أين السَّعادة وأين الشَّقاء، أين الحقّ وأين الباطل في الخيار بين العبادة والطاعة لله سبحانه، وبين العبادة والطاعة للشيطان الغويّ الرَّجيم؟!.
أوضح مفارقة المؤمن لإيمانه حين يتخلّى عن طاعة الله، ويدخل في طاعة الشَّيطان، ويُستهوى لإغوائه وإغرائه ووسوسته وهو له عدوٌّ مبين!!.
أعذنا ربّنا من ضلال العقل، وفساد الوجدان، وسُقم الفطرة، وعمى البصيرة، وسوء الاختيار حتى لا نخسر طاعتك وعبادتك، ونشقى بطاعة الشيطان والاستجابة له.
اللهم إغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن علّمنا علماً نافعاً من مؤمن ومؤمنة ولجيع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فعنوان هذا الحديث:
حياتنا بين الروح والبدن:
قضيّةٌ لا تلتبس على عقل عاقل، ولا تغيب على وجدانه؛ وهي أنَّ الإنسان مادَّة وروح، وأُخرى أنَّ روحه وروح الحيوان ليستا سواء. له روح تفارق روح الحيوان وتسمو عليها أيّ سمو، وتتمتع عنها بأفق بعيد. روح تجعله دَرَّاكاً، منتِجاً لفكر جديد يصوغ به حياته صوغاً بعد صوغ، ويُطوّر أوضاعها تطويراً بعد تطوير يجعله بعيد النَّظر، له نظرة طويلة للماضي، وأخرى مديدة للمستقبل؛ كلٌّ منهما تتجاوز به حدود مكانه وزمانه، وتخترق حجب المادة كلَّها.
روح تغنى بأشواق المجد والعظمة والسّموِّ والخلود، ولا تقف به عند حدٍّ من طلب الكمال، فلا يصدر كلُّ نشاطه من منطلق ضرورات حياته كما هو شأن الحيوان، بل كلّ تاريخه يشهد بأنَّ له نشاطاً من نوع آخر من وحي أشواقه وتعلّقه بقضيّة الكمال.
وحياة الإنسانية تشهد نوعين من الآمال والآلام، والمآسي والأفراح، والانتصارات والهزائم، والأهداف والتطلعات، واللّذة والمرارة؛ منها ما يرجع إلى جانب المادة من جود الإنسان، ومنها ما يرجع إلى جانب الرّوح.
وفكر الإسلام على هذا، ومنهجه في قيادة حركة الحياة على يد الإنسان، وتربيته لإنسانيته فكرُها هذا الفكر، وهو منطلقها، والمحدِّد لخياراتها.
والعناية في الإسلام لكلِّ شيء بقدر أهميته، ولا إنقاص لشيء عمّا يستحقّه، ولا تجاوز به عن حدّه. ولحياة البدن قيمة عالية في الإسلام، ولكنها لا تُجاري حياة الروح مستوى وعناية في نظره، وإذا كان لابد من تضحية بإحداهما لسلامة الأخرى فالحفاظ في هذه الحالة للرّوح وسلامتها ولو كان ذلك على حساب البدن.
وتتماشى العناية بالروح والبدن في منهج الإسلام بلا تعارض بينهما، ويتساير النموّ فيهما معاً في تربيته؛ ولا يحصل التعارض بين مصلحة الجانبين في الأغلب إلا بما تُسبِّبه المناهج والتربيات الأخرى المنحرفة.
يوائم الإسلام بين حاجات الإنسان في كلٍّ من بُعد روحه وبدنه، ويُعطي حضوراً لجانب الرّوح، وجانب الهدف من الحياة، وذِكْر الله سبحانه، والتعلّق به تحقيقاً لكماله وسعادته الأبديّة، وكذلك استقامة أوضاعه في هذه الحياة وراحته وهناءته في كلِّ مساحة حياته وأنشطته.
تسعى التربية الإسلامية إلى أن يعيش الإنسان ذكر ربّه قائماً وقاعداً وفي كلِّ حالات حياته، وألوان النّشاط الرّوحيّ والماديّ حتّى لا يشذّ اختياره لها عن الحكم الشرعي الذي يحافظ على مصلحته، ومصلحة مجتمعه، وحتى لا يغيب جانب الرّوح وتربيته في أيّ نشاط من أنشطته، وأيّ ممارسة من ممارساته، وحتّى يأتي سعيه كلّه في هذه الحياة في ضوء الهدف الكبير الذي خلقه الله من أجله.
ترى الإسلام يعمل على ذلك في كل أوضاع الإنسان من أكل، وشرب، ونكاح، وصناعة، وزراعة، وتجارة، ودخول سوق، وإيواء لفراش، ودخول حمام، وخلوة، وسفر، وإصباح، وإظهار، وإمساء حتّى لَتَعْرِفَ أنّ الإسلام لا يريد للحظة من لحظات حياة الإنسان أن تمرّ ولو كانت من أغلظ لحظات المادَّة في غيابٍ من وجوده الرّوحي، بعيدةً عن معرفة ذاته، سموِّ معناه، وعي هدفه، ذكرِ ربّه الذي فيه هُداه ورشده، وبلوغه كمالَه، وتحقّقُ غايته.
وهذه وقفة مع بعض النصوص المربّية في أمثلة من مساحات الحياة المادية التي يعيشها الإنسان:
في الأكل والشرب:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إذا وُضِعَتِ المائِدَةُ بَينَ يَدَيهِ قالَ : بِسْمِ الله اللّهُمَّ اجعَلها نِعمَةً مَشكورَةً، تَصِلُ بِها نِعمَةَ الجَنَّةِ”(1).
يطلب الرسول صلّى الله عليه وآله كما في الحديث مع نعمة البدن نعمة الرُّوح وهي شكر الرازق تبارك وتعالى، ونعمة الآخرة وهي الجنّة بما تعنيه من أرقى حياةِ بدنٍ وروح.
وعن الإمام علي عليه السلام في وصية أوصى بها ابنه الحسن عليه السلام:”يا بُنَيَّ، لا تَطعَمَنَّ لُقمَةً مِن حارٍّ ولا بارِدٍ(2)، ولا تَشرَبَنَّ شَربَةً ولا(3) جُرعَةً إلّا وأنتَ تَقولُ قَبلَ أن تَأكُلَهُ وقَبلَ أن تَشرَبَهُ:(اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ في أكلي وشُربِيَ السَّلامَةَ مِن وَعكِهِ، وَالقُّوَّةَ بِهِ عَلى طاعَتِكَ وذِكرِكَ وشُكرِكَ فيما بَقَّيتَهُ في بَدَني، وأن تُشَجِّعَني بِقُوَّتِها(4) عَلى عِبادَتِكَ، وأن تُلهِمَني حُسنَ التَّحَرُّزِ مِن مَعصِيَتِكَ)، فَإِنَّكَ إن فَعَلتَ ذلِكَ أمِنتَ وَعثَهُ وغائِلَتَهُ”(5).
الوعْك: أذى الحمَّى ووجعها ومغثها في البدن، وألم من شدة التعب. والوعث: فساد الأمر واختلاطه. والغائلة: الفساد والشر.
ومثل هذا الذِّكر والدعاء يُنقذ النفس من أن تصرفها لذة مأكل أو مشرب عن ذكر ربّها العظيم، وأن تنفصل عندها لذتهما عن الوظيفة التي كانا من أجلها؛ وظيفة القوّة للطاعة والعبادة لا من أجل المعصية، ولا لمجرد البقاء في هذه الحياة(6).
لا غياب لجانب الرّوح، ولا غياب للهدف الأسمى من هذه الحياة، ولا انفصال عن ذكر الله سبحانه لطيب طعام ولذة جسد(7).
وعنه عليه السلام:” اُذكُرُوا اللّهَ عز و جل عَلَى الطَّعامِ ولا تَلغَطوا؛ فَإِنَّهُ نِعمَةٌ مِن نِعَمِ اللّهِ، ورِزقٌ مِن رِزقِهِ، يَجِبُ عَلَيكُم فيهِ شُكرُهُ وذِكرُهُ وحَمدُهُ”(8).
واللَّغْط، واللّغَط: الأصوات المبهمة المختلطة والجَلَبَة لا تفهم.
فوقت الطعام في الإسلام ليس وقت لَغَطٍ وغفلة وتلهٍّ بالكلام غير النافع، ولا يصحُّ أن ينصرف طعام المسلم به عن وعيه، ويقظة روحه، وواجب شكر الله وذكره، وانتباهه لهدف حياته، وما من أجله كلُّ أكله وشربه وقوته.
في الخروج من المنزل:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله قالت الملائكة له سلمت، فإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قالت الملائكة له كُفيت. فإذا قال: توكّلت على الله قالت الملائكة له: وُقيت”(9).
في الذبح:
{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}(10).
في النوم:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إذا قال العبد عند منامه: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله: ملائكتي اكتبوا بالحسنات نَفَسَه إلى الصَّباح”(11).
في اللُّبس:
عن الإمام الباقر عليه السلام حين سُئل عن الرجل يلبس الثوب الجديد: يقول باسم الله وبالله، اللهم اجعله ثوب يُمنٍ وتقوى وبركة. اللهم ارزقني فيه حسن عبادتك(12)، وعملاً بطاعتك، وأداء شكر نعمتك، الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمّل به في النّاس”(13).
في التخلّي:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إذا انكشف أحدكم لبول أو غير ذلك، فليقل: بسم الله، فإن الشيطان يغض بصره”(14).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”إذا دخلت المخرج فقل: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبِث، الرِّجس النّجس، الشيطان الرجيم”(15).
في كل أمر:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”من ابتدأ بأمر وقال: بسم الله، غفر الله له”(16).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله فهو أجذم”(17) والجذم القطع.
وعن الإمام علي عليه السلام:”قولوا عند افتتاح كلِّ أمر صغير أو عظيم: بسم الله الرحممن الرَّحيم”(18).
وهكذا يرينا الإسلام في كثرة بالغة جدّاً من نصوصه أنه يستحضر للإنسان المستجيب لتربيته إنسانيّته وجنبته الرّوحية بمعرفتها لربّها، وإدراكها لهدفها، وعشقها للكمال، وقدرتها على الاهتداء في كلّ نشاط البدن فضلاً عن نشاط الروح، ويأخذ بعقله وقلبه ومشاعره وإرادته في اتّجاه الله سبحانه لتستقيم ذاتُه، ويبلغ كماله، وتسعَدَ دنياه وآخرته.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا من الغافلين، واجعل حياتنا حياة الذاكرين الحامدين الشاكرين التوابين الخاشعين المتقين برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(19).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يُوحِّده الكونُ كلُّه بأرضه وسمائه، وجميع مجرَّاته وذرّاته، ويحمَدُه كلُّ شيء من خلقه. وهو الخالق الذي لا خالِقَ سواه، المدبّر الذي لا مُدبّر غيره، الرزّاق الذي لا رزق إلاّ من عنده، وبتقديره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله لن يكسب امرؤ من هذه الحياة خيراً كما يكسب امرؤ طُهْرَ نفسه وزكاتها، ولا طريق لنفس لهذا المرتقى الذي تجد فيه سعادتها إلاّ بتنوّرها بمعرفة الله سبحانه، وزاد التقوى؛ فذلك وحده ما يجعلها على صورة وضيئة يرضاها الله، وتعيش الطهر وسموّ الذات.
والتقوى لا تشذّ أبداً عن التزام النفس بمنهج الله، والتقيّد بأحكام شريعته، والتأدّب بآداب دينه، وإخلاص القصد إليه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أكرمنا بزاد التقوى، واسترنا بها، وأدخلنا في حصنها، وزيّنا بها، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين فنكون من الهالكين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.
أما بعد أيها الأحبة في الله فإلى أكثر من عنوان:
إساءة أقسى من حرب:
تكرّرت وتكثّرت إساءات الغرب للإسلام، والرسول صلَّى الله عليه وآله، والكتاب العزيز لكنّ إساءةً كالإساءة هذه المرّة لشخص الرسول صلَّى الله عليه وآله قد يكون أنها لم توجد.
الصورة والكلمة والمشهد بكل ما فيه في هذه الإساءة تُمزّق قلبَ المسلم، وتؤلم ضميرَه، وتفقده حتّى التوازن، وتطلق حالة الغيظ والغضب عنده حتّى النهاية، وتزرع في نفسه اليقين بهول ما عليه حالة الحقد والبغضاء والعداء الذي تعيشه بعض الجهات في الغرب للإسلام، ورغبةِ القضاء عندها عليه وعلى الأمة المسلمة.
الإسلام يُجِلُّ المسيح عليه السلام عن كل دناءة، وينزّهه عن كل ما يَمسّ بالعصمة، والمسلمون مع إسلامهم في ذلك، ولا يمكن أن تمرّ كلمة على لسان مسلم تنال من قدسية المسيح عليه السلام أو أيّ نبي من الأنبياء ولكن لو زلّ لسان مسلم بكلمة سوء تحطّ من قدر النبي عيسى عليه السلام لكانت ردة الفعل لمسيحي العالم قاسية، ولشاركت الحكومات الغربية والعلمانية في الرد القاسي على هذه الكلمة وإن لم يكن من منطلق الدين، وإنما من منطلق السياسة.
ولا عجب أن تكون ردّات الفعل على الإساءة لأي دين من أهله غيرَ محسوبة ولا متوقّعة وخارجة عن الحدود أحياناً لأنّه لا أعزّ على نفس متديّن من دينه، ولا يُمسُّ شعوره بالإهانة والجرح الحادِّ العميق كما يمس عند الإهانة للدين.
إنه لو سادت لغة الإساءة وأساليبُها المختلفة وبالدرجة الهابطة التي لا أهبط منها كما كانت عليه الإساءة الأخيرة للرسول الخاتم صلَّى الله عليه وآله على مستوى أتباع الأديان والمذاهب لاحترقت الأرض ومن عليها، ولم يجد أحد أماناً في الأرض.
وإذا كان ساسة الغرب، ومن كان سفيهاً من أبنائه لا يعرفون ذلك بل لا يتقينونه فذاك جهل أيّ جهل، وغباء أي غباء.
وإذا كان وراء هذه الإساءات القذرة المهينة استخفاف بالمسلمين فليكن استخفاف الغرب إذا أراد ذلك بحكومات كثيرة تحمل اسم الإسلام ليكون استخفافه صادقاً، أمّا استخفافه بالأمة المسلمة فليس وراءه إلا الجهل والوهم والغرور، فإنَّ هذه الأمة لا زالت أعزّ من أن يُستخفّ بها، وهي مصرّة على العزّة والكرامة، ثم إنّه لا أعزّ عليها من دينها، ولا تتقدمها أمّة في الاعتزاز بالدِّين(20).
وحين يُعطي الغرب الضوء الأخضر لكلِّ ساقط أن يسيء للإسلام أو غيره من الأديان باسم حرية التعبير كما تتدرّع بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية فذلك ما يعني بالضبط فتح الباب على مصراعيه لتجالد سكان الأرض من كل أتباع الأديان، ونشر حالة العنف والإرهاب والفوضى الأمنية في كل الأقطار والشعوب(21). إنّه لا وسيلة لتعميم حالة الإرهاب والعنف المنفلت أسهل وأكثر فاعلية من هذه الوسيلة، والسياسة الغربية لا تسكت عليها فحسب و إنما تحميها وتدافعُ عنها.
لا يحِلّ للشارع المسلم أمام الإساءة الفظيعة للرسول الكريم صلَّى الله عليه وآله التي لا يحتملها قلب مسلم إلاّ أن يتفجر غضبه، ولا يُرتقب منه غير ذلك لأن سكوته يعدّ اشتراكاً في الجريمة( 22). كل البلاد المسلمة يجب أن تدوّي صرخات الإنكار في أجوائها لهذه الجريمة(23)، بل إنه لمن الصحيح جدّاً أن يشارك المسيحيون المسلمين في احتجاجهم الغاضب على مثل هذا التجنّي السافل ولو لما يؤدّي إليه السكوت من تقويض الأمن في الأرض، وسقوط هيبة كلّ الأديان.
لا ندعو إلى أن يذهب ردّ الفعل إلى العدوانية، وأخذ البريء بالجاني، ولكن لابد من أن يأخذ ردّ الفعل طابعاً جدّياً وصورة مؤثّرة، وحالة عامّة واسعة تشمل الأمة المسلمة كلّها.
وتبقى الحكومات المسلمة هي المسؤول الأول والأقدر على إعطاء ردِّ فعل رادع من غير حاجة إلى مواجهات مسلّحة، وفتح أبواب الحرب، ولكن كل شيء مما بيد أكثر هذه الحكومات إنما هو من أجل حماية الكرسي، لا حماية الدين والأمة والكرامة والمقدّسات.
إمَّا وإمّا:
التخيير الذي خُوطبت به الوفاق ليس لها وحدها. إنه لها ولجماهير الشارع العريضة التي تُندِّد بسياسة السلطة، وتطالب بالإصلاح، ولكلّ ناطق بكلمة حق في هذا المجال(24).
الكل مخيّر بين السكوت على سلب الحقوق، والتهميش، وحالة الازدراء وسحق الإرادة أو مغادرة هذه الأرض المملوكة للسلطة أصلاً(25)، والشعب ضيف عليها، أو وافد مستجير بها(26).
عليك إذا فكّرت أن تستمسك بحقك، أن تطالب بكرامتك، أن تعتزَّ بحريتك أن تبحثَ عن كوكب آخر ترحل إليه، ولا كوكب آخر يصلح لحياة الإنسان حسب الاكتشاف العلمي لحدّ الآن فالمعنى أنت مخيّر بين أن تسكت أو تموت(27). الممنوع عليك كلّ أرض لا أرض البحرين فقط لو فكّرت في أن تعبر عن رأيك في سلمية وتحضُّر، ولا أدري من أين هذه السّعة في القدرة التي تُلاحق المواطن البحريني في كلّ الكرة الأرضية، ومن أين هذه السعة في الملك الذي يشمل كلّ الدنيا حتى لا يحق للبحريني أن يجد مأوى في أيّ بقعة من بقاعها، ولا يسعَه إلاّ أن يرحل إلى كوكب آخر لا مكان للحياة فيه.
تأدّب كما أرى لك، وكما أفرض عليك، وكما يُوافق مزاجي، وكما أشتهي لك أن تكون، واخضع وذلَّ واستكن وإلا فارحل. كلام لا يُقال لضيفٍ ولا وافد فكيف يُقال لجماهير شعب هي امتداد لآباءٍ وأجداد عاشوا على أرض هذا الوطن على مدى قرون وتصبّبوا عرقاً، وشَخَبَت أوداجهم دماً للحفاظ على هذا الوطن وحرّيته وكرامته ودينه، ومن أجل بناء أمجاده، وعمارته؟!!
كيف تُخاطب سياسةٌ داخلية أبناء بلدها الذي تحكمه، والشعب الذي لا شرعية لها بدون موافقته – كما يقول إعلامها – بهذه الكلمة الهازئة بالشعب المستخِفّة به، المحتقرة له، المستعلية عليه، تقولها صريحة وعلى مسمع الدنيا كلها، وتنكر على الشعب بعد ذلك أن يطالب بالتغيير والإصلاح؟!!(28)
وكيف لا تستحي السياسة أن تكشف عن مدى استخفافها بهذا الشعب وهوانه عليها، واعتباره أقل من وافد لاجئ حسبما تفصح عنه هذه الكلمة التي واجهت بها العالم؟!
عام دراسي جديد:
عامٌ دراسيُّ جديد يُراد له أن يدفع بالمستوى العلمي والتربوي للطلاب كلّهم للأمام تمهيداً لتقدّم مستوى الوطن والأمّة، وأن يرعى شخصية الطالب بكلِّ أبعادها، ويحمي إنسانيته من الانحدار، ويرتفع بها إلى أُفُق رفيع من خلال بُعدي العلم والإيمان، والاهتداء بهدى الشريعة.
هذه هي وظيفة التربية والتعليم التي تصبُّ في مصلحة الإنسان والأوطان.
ونجاح التربية والتعليم يعتمد على عوامل عدّة: سلامة القصد، وسلامة المنهج، وحسن الإدارة، وأمانة القائمين عليها وكفاءتهم، وقدرة الأستاذ وجدّيته وإخلاصه، وعدالة التقييم وموضوعيته، وجِدّ الطالب وأمنه، وانفتاح أمله، وفتح الفرص المستقبليَّة أمامه.
وكلّ ذلك مرتبطٌ بالعدل السياسي والاستقرار السياسي، واستقامة السياسة.
فأمن الطالب مثلاً لا تُحقّقه عسكرة المدارس والجامعات، وإنما الذي يحققه وضع سياسي عادل مَرضي هادئ يسود أجواء الوطن كلّه ويدخل الطُمأنينة على نفس كل مواطن.
وإنّي لأنطلق بالدعوة الجادّة إلى الطلاب عامَّة بأن يكون عامهم الدراسي هذا وكلُّ حياتهم الدراسية حياة جدّ واجتهاد من أجل تحقيق أعلى مستوى علمي ممكن من أجل نهضة شاملة تعمّ بخيرها الجميع.
وإلى أن يُتمسَّك بقيم الدين وأحكام الشريعة المقدّسة لخلق أجواءٍ تربوية نظيفة راقية في كلِّ المدارس والمعاهد والجامعات تنأى بالأجيال الناشئة والشبابية عن كلِّ المنزلقات، وتُتيح لها فرصة النمو العلميّ والروحيّ والنفسيّ والعمليّ السّليم.
وإلى أن يكون العام عام ترميم للعلاقات بعد تصدّعها، ولَمّ الشمل بعد تفرقة… عام الأخوّة الإسلامية، والأخوّة الإنسانية والوطنية بين كلّ الطلاب والتي قد ضُيِّع حقُّها… عام محبة وود واطمئنان، وتفاهم.
مطلوب من كل الطلاب والطالبات ألاّ يسمحوا للأجواء السياسية السلبية أن تُلقيَ بظلالها الثقيل على العلاقات بينهم، وأن تكون علاقاتهم إيجابية لتكون جزءاً من الحلّ، لا متوتّرة ولا سلبية فتكون جزءاً من المشكلة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والعمل بما تحب وترضى، وأن تدخلنا في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد، وأن تخرجنا من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد صلواتك وسلامك عليه وعليهم أجمعين، وأن تجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد.
اللهم إرحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسراءنا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (29).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مكارم الأخلاق ص27 ط6. يعني أنت توصل بهذه النعمة نعمة الجنّة.
(وردت هذه الرواية في موسوعة معارف الكتاب والسنة من غير إضافة (بسم الله)، وحين راجعنا المصدرين المذكورين في الموسوعة تبيّن أن (بسم الله) موجودة في المصدرين وهما مكارم الأخلاق وبحار الأنوار).
2 – وردت هذه الكلمة في مكارم الأخلاق بصياغة (ولا برد)، ولكنّها في بحار الأنوار وردت (ولا بارد).
3 – في كتاب بحار الأنوار لم تُذكر (لا) الناهية مرة أخرى للكلمة (جرعة).
4 – جاء في مكارم الأخلاق (بقوّته) بدل (بقوّتها) التي جاءت في بحار الأنوار.
5 – بحار الأنوار ج63 ص380 ط3 المصححة. مكارم الأخلاق ص143 ط6.
6 – المؤمن لا يأكل ولا يشرب لمجرد أن يبقى في هذه الحياة، المؤمن يأكل ويشرب ويتمتع بلذات الحياة ويتناول ضروراته وحاجاته من أجل دوره الرسالي الكبير الخلافي الذي خُلق من أجله في الأرض.
7 – هو هو الإسلام.
8 – الكافي ج6 ص296 ط3.
9 – كشف اللثام ج1 ص305.
10 – 118/ الأنعام.
11 – بحار الأنوار ج89 ص258 ط2 المصححة.
12 – لابد من استحضار الدور، لابد من استحضار الهدف، لابد من استحضار ذكر الله، لابد من استحضار مستوى النفس الإنسانية في كل ظرف، في كل عمل، على كل حال.
13 – مكارم الأخلاق ص99 ط6.
14 – وسائل الشيعة (أهل البيت) ج1 ص307 ط2.
15 – الكافي ج3 ص16 ط3.
16 – كنز العمال ج10 ص164.
17 – تلخيص الحبير ج1 ص391.
18 – التبليغ في الكتاب والسنة ص157.
19 – سورة العصر.
20 – هتاف جموع المصلين (لبيك يا محمد).
21 – إنّ موافقة الغرب على إهانة الأديان تعني أنه يتبنّى قضايا العنف والإرهاب في أوسع صورها وأشدّها إهلاكاً للناس.
22 – سكوت المسلمين، عدم إعطاء ردة فعل مناسبة يعني اشتراكاً منّا في الجريمة.
هتاف جموع المصلين (الموت لأمريكا وإسرائيل).
23 – وأينما وُجد مسلم في الأرض وجب عليه إنكارها ما استطاع.
24 – وهذه الجماهير تُعدّ بمئات الألوف، فالتخيير هنا لمئات الألوف من أبناء الشعب البحريني.
25 – وذلك كما تراه هي.
26 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
27 – هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
28 – السياسة التي تقول لي اخرج تقول لمئات الألوف اخرجوا إن لم تخضعوا، كيف لا يُطالب بإصلاحها؟!
29 – 90/ النحل.