خطبة الجمعة (500) 28 جمادى الأول 1433هـ ـ 20 أبريل 2012م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: الحاجة للإخوان – صن وجهك واحفظ شرفك
الخطبة الثانية: كم هي الأزمات في البحرين؟ – ماذا يريد الشعب وماذا تريد السلطة؟ – إرادتان: إرادة حكومة وإرادة شعب
الخطبة الأولى
الحمد لله الواحد الأحد الذي لا شريك له في إنشاءٍ ولا ملك، ولا تدبير، ولا تشريع، ولا عبادة وطاعة. لا رادّ لإرادته، ولا معطِّل لمشيئته، ولا يضادّه مضادٌّ، ولا يُكابره مكابر، ولا مَخْلَصَ لأحدٍ مما قدّر، ولا مَهْرَبَ له مما قضى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسّوء بتقوى الله، وأن يكون ذكرنا له في السّعة على حدِّ ذكرنا له في الضّيق، وفي الرّخاء على حدِّ الشدَّة، وفي الفرح على حدِّ الترح؛ فإنّه الربُّ الذي لا غنى للمربوبين عنه، ولا حولَ ولا قوّة إلاّ به، ولا غياب لرقابته، ولا طاقةَ لأحدٍ على عذابه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا من ذكرك ما يجلو عن بصائرنا غشوات العمى، ومن اليقين بك ما يهوّن علينا مصيبات الدُّنيا، ومن فرجك ما تهنأ به حياتنا، ومن توفيقك ما نصير به إلى صدق طاعتك وعبادتك، وننال به حُسْنَ العاقبة، وجنّتك ورضوانك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات فإلى موضوع:
الحاجة للإخوان:
فليس من إنسان إلاَّ وهو محتاج في حياته إلى إخوانه من النّاس، ولا يمكن له أن يقوم مقام أمّة يتوفّر على يديها كلّ ما ينهض بحاجات الحياة.
ولو تفصَّمت العُرى في حياة مجتمع من المجتمعات، واستقلّ كل فرد من أفراده في جهوده عن الآخر في بناء حياته، وتوفير كلّ متطلباتها بلا تعاون ولا تبادل ولا قضاء حاجة من أحد إلى أحد لاستحالت حياة هؤلاء الأفراد، ولو قُدِّر لهم أن يعيشوا لما أمكن لهم أن يتجاوزوا حدّ الحياة البدائية المنحطَّة الخسيسة، وأن يحرزوا علماً وتقدّماً.
ويستهدف التصميم الإلهيّ للمجتمع المؤمن أن يكون أشدّ المجتمعات الإنسانية تماسكاً، وتفاعلاً إيجابيّاً وتعاوناً وتناصراً في الخير، وصلاحاً وإصلاحاً وقوّة، ونضجاً، وتكاملاً.
ومن هذا التصميم ما تحرص عليه نصوص الدِّين من إثبات وتأصيل وتجذير وتركيز ورعاية لروح الأخوَّة الإيمانية في أبناء المجتمع المسلم التي تدفع بهم إلى قضاء حاجة المحتاج منهم، والنهوض بالضعيف، وتفريج الكرب عن مكروبهم، والمبادرة إلى تعليم جاهلهم، وهداية ضالّهم، ونصرة مظلومهم في حسن نيّة، وسلامة قصد، وشكر لله عزّ وجل على ما أنعم، ووفّق إليه من عمل صالح، ودور بنّاء، من غير منٍّ ولا استعلاء، أو استطالة على أحد من ذوي الحاجات.
وفي هذا التعاون، والتعاضُد، والتناصر، والقضاء على مواطن الحاجة، وبؤر الجهل، والضعف نهوض بمستوى المجتمع كلّه، وبناء لعلاقات إنسانية كريمة قوية متينة، وتصحيح للنفوس، وتفعيل لأكبر قدر ممكن من الطاقات، وزيادة للإنتاج، وفتح لفرص الإبداع، فربَّ موهبة كبيرة أقبرها الفقر، وربّ عبقرية متوقِّدة قلَّل من عطائها الإهمال.
وبرغم أن واقع حياة الإنسان يجعله لا يستغني عن النّاس إلاّ أنَّ التربية الإسلامية تدفع بكل أبنائها إلى أن يطلبوا الغِنى والقوّة بكل أبعادها النافعة ليكون كلُّ واحد منهم قادراً على العطاء ما أمكن، لا محتاجاً للأخذ، وفي موقع أن يُعين، لا أن يُعان.
ومن لم يجد فليكن على تعفّف وإكرام للنفس، وإذا أخذ فلا يأخذ إلا بقدر الحاجة.
ولنطالع شيئاً من النصوص الواردة بشأن هذا الموضوع:
المؤمن نفّاع سبّاق للخير:
عن الصادق عليه السلام:”في قوله تعالى:{… وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}(1) قال: نفّاعاً”(2).
وعنه عليه السلام:”قال الله عزّ وجلَّ: الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم”(3).
وعنه عليه السلام:”إنَّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله عزّ وجلَّ به ملكين: واحداً عن يمينه، وآخرَ عن شماله، يستغفرون له ربَّه، ويدعوان بقضاء حاجته….”(4).
وعنه عليه السلام:”ما قضى مسلم لمسلم حاجته إلاّ ناداه تبارك وتعالى: عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة”(5).
المؤمن يحمل من إيمانه زاد نور وهداية وخير وبركة، والإيمان لا يصدر منه إلاّ ما فيه نفع النّاس وخيرهم، وما فيه صلاح الحياة وقِوامها ورشدها وهداها.
وكلّما تمَّ للإيمان في النفس معناه، وصدقت حقيقته انفتح بالنفس من خيره، وهداه، وبما آتاها الله من ألوان النعم على عطاء الآخرين لا تدع حاجة من حاجاتهم تجد سبيلاً إلى قضائها إلا قضيتها في حفظٍ لكرامة الآخر وعزّته، شاكرة لنعمة الله، معترفة بمنّته، ذاكرةً لجميله.
والإيمان الحقّ لا يجامعه الشحّ بالدّنيا لأنها لا تنال من نفس وجدت حلاوة الإيمان، وعظمت ثقتها بالله، وشغلها ذكره الجميل، وارتفع بها منزلة رفيعة. إنه لا مكان لسحر الدنيا في نفسٍ آمنت بالله حقّاً وصدقاً.
وتدفع النصوص الدينية بالمسلم دفعاً حثيثاً قويّاً للسعي في حاجات النّاس ابتداء بالأشدِّ صلة بالله سبحانه، والأصدق إيماناً، وليعمّ بتعاونه وإحسانه كلّ محتاج من المسلمين، وليكون أكثر امتداداً في الإحسان بأن يلطف بأي من الخلق، ويسعى في حوائجهم ما لم يكن في ذلك معونة على باطل، ومخالفة للحقّ الذي تراه شريعة الله الرحيمة العادلة(6).
من أساء فعليها:
لا يستوي في حكم الله محسنٌ ومسيء، ولا مطيع وعاص. ومن شحّ بنعم الله عنده فأوّل ما يشحُّ على نفسه، وشحّه يعرّضه لغضب ربّه. والأحاديث في ذلك واضحة الدلالة، كافية للردع عن هذا الخلق اللئيم، وفيها تشديد وتغليظ وتوعُّد كبير.
عن الصادق عليه السلام:”من صار إلى أخيه المؤمن في حاجة أو مسلِّماً فحجبه لم يزل في لعنة الله إلى أن حضرته الوفاة”(7).
و”من سأله أخوه المؤمن حاجة من ضُرٍّ فمنعه من سعة وهو يقدر عليها من عنده أو من عند غيره حشره الله يوم القيامة مغلولةً يدُه إلى عنقه حتّى يفرغ الله من حساب الخلق”(8).
“ما من مؤمن بذل جاهه لأخيه المؤمن إلاَّ حرَّم الله وجهه على النّار، ولم يمسَّه قتر ولا ذلّة يوم القيامة، وأيّما مؤمن بخل بجاهه على أخيه المؤمن وهو أوجه جاهاً منه إلاّ مسَّه قتر وذلّة في الدنيا والآخرة، وأصابت وجهه يوم القيامة لفحات النيران معذّباً كان أو مغفوراً له”(9).
ثلاثة أحاديث من جملة أحاديث تهديدها شديد، ووعيدها عظيم لا يحتمله قلب له شيء من الإيمان.
التوعُّد من جبّار السماوات والأرض لمن صار إليه أخوه المؤمن في حاجة أو مسلّماً فحجبه، وامتنع من ملاقاته، ولم يقض حاجة أخيه في الإيمان، ولم يسع فيها وهو قادر. ولو كان هذا المقصِّر في حقّ أخيه في الإيمان ممن غفر الله لهم يوم القيامة إلاّ أنَّ وجهه تصيبه لفحات النار.
ولا يعذر المؤمن أنه لا يجد ما يقضي به حاجة أخيه إذا كان يمكن أن تقضى بسعيه في قضائها ممن يجد ذلك. فلو وجد من الوجاهة الاجتماعية، والموقع الخاص عند من هو أهلٌ كان عليه أن يعطي من وجاهته ما يقضي به حاجة أخيه.
صُنْ وجهك، واحفظ شرفك:
لإنسانيتك وزن، لإيمانك وزن، لكرامتك وزن وليس لك أن تُفرّط في كل هذه الأوزان بمسألة من لا يقيم لك وزناً، ويسهل عليه أن يردّك ويهدر كرامتك.
ما ينبغي هو أن لا تسهُل عليك المسألة، وإبداءُ الحاجة إلى لئيم أو كريم، وأن تتصبَّر احتفاظاً بماء وجهك، وصوناً لكرامتك ما أمكن التصبر، وحسن.
وإذا ألزمتك الحاجة السؤال فابحث عمن لا يردُّك ما وَجَد، ولا يمنّ عليك، ويؤلمه أن تنال مؤمناً مهانة.
ونقرأ في هذا ما عن الإمام الحسين عليه السلام:”لا ترفع حاجتك إلاّ إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين، أو مروّة، أو حسب؛ فأما ذو الدّين فيصون دينه، وأما ذو المروَّة فإنه يستحيي لمروّته، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك”(10).
وعن الصادق عليه السلام:”تدخل يدك في فم التنين إلى المِرْفَق خير لك من طلب الحوائج إلى من لم يكن له وكان”(11).
إن الدّين، والغنى بالإنسانية وأصولها الكريمة، والإحساسَ بقيمة الإنسان، والتمتعَ بشرف النفس كل ذلك يمنع من اتّصف بواحد منه من ردّ حاجة المبدي لحاجته ما وجد لقضائها سبيلاً، فإذا دعا ضبط الحاجة إلى عرضها على أحد فإنما تُعرض على من كان له من هذه الصفات.
أما أشرار الخلق، ومن كان لئيماً من الناس فمن الظلم للنفس واسترخاص المرء بقيمته أن يعرض حاجته عليهم.
ومن كان غناه حادثاً، وليس له تاريخ في الخير يرى الحديث عن الصادق عليه السلام أن ينأى الإنسان عن القصد إليه في الحاجة لما في قصده هذا من هدر للكرامة، وتضييع بشع لماء الوجه، وسحق للوزن حتى أنّه ليكون إدخالُ اليد في فم الحيَّة العظيمة وهي التنّين إلى المرفق على الصعوبة البالغة في ذلك وما فيه من تعريض النفس لخطر الهلاك أهونَ منه.
وربما حقّ على حديث النعمة( 12) أن يُوصف بهذا الوصف لما عليه نفسه من ذكريات حيَّة لألم الفقر الذي كان يعاني منه واغتراره بالثروة الحادثة، وتصوره أنها تمثّل كلّ وجوده.
وهذا لا يعني أن لاتوجد نفوس زكية أكبر من بريق الثروة حادثةً كانت أو غير حادثة بدرجات ودرجات، ولكن يبقى الغنى المفاجئ مظنة لإحداث حالة من الشُّحّ الشديد.
أما عن شرار الخلق فجاء أكثر من حديث يأمر بالدعاء بالاستغناء عنهم. من ذلك ما “عن الإمام زين العابدين عليه السلام عندما قال بحضرته رجل: اللهم أغنني عن خلقك(13) فقال عليه السلام: ليس هكذا، إنما النّاس بالنّاس(14)، ولكن قل: اللهم أغنني عن شرار خلقك”(15).
وعن الرسول صلّى الله عليه وآله عمن هم شرار خلق الله المعنيين في مثل هذا المورد، قال:”الذين إذا أَعطوا منّوا، وإذا منعوا عابوا”(16).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم تفضّل علينا بمنّك وكرمك، واقض حاجاتنا للدنيا والآخرة في يسرٍ وكرامة وعافية، ولا تحوجنا إلى شرار خلقك ولا تجعلنا منهم أبداً، وما آتيتنا من نِعَمِك فاجعله على أيدينا في طاعتك، ونيل رضوانك يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(17).
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي القدرة القاهرة، والإرادة النافذة، والملك القائم، والسلطان الدائم. لا جبَّار يقوم لجبروته، ولا قهّار يثبت لقهره، ولا أمر مع أمره، ولا قدر مع قدره، ولا قضاء مع قضائه. كلُّ الأشياء خاضعة لإرادته، مستجيبة بمشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله فإنها اللباس الساتر من العيوب، المحقّق لزينة النفس، الواقي من النّار، والسبيل المؤدّي بصاحبه إلى الجنَّة {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(18).
ما يحميه لباس المادة هو البدن، والتقوى فيها حماية القلب والنفس والروح، وذلك أهمّ وأبلغ شأناً، على أنها تحمي البدن من كثير من تهوّر النفوس الذي يأتي على صحته وحياته.
ولا شيء مما تلبسه النفس كالعلم بما يضرُّ وينفع بأهمية وفاعلية وجدوى التقوى في بناء الإنسان وإصلاحه وحمايته ووقايته، والأخذ به في مدارج الكمال.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا من معرفتك ما يُحقّق لنا تقواك، ومن تقواك ما يُحقّق لنا صدق الطاعة لك، وإخلاص عبادتك، ومن طاعتك وإخلاص العبادة لك ما يُطهِّرنا ويُنقّينا من سُوئنا وعيوبنا، ويزيننا بزينة من نور أسمائك يا حنّان، يا منّان، يا حميد، يا مجيد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين محمد بن عبد الله وآله الطاهرين، اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، والأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين. واجعلنا من أنصاره في غيبته وظهوره.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فالحديث كما يأتي:
كم هي الأزمات في البحرين؟
الأزمات في البحرين فيما هو واقعها اليوم كثيرة. أزمة أمنيَّة، أزمة اقتصاديّة، أزمة اجتماعيّة، أزمة أخلاقيّة، أزمة ثقافية، أزمة تربوية، أزمة دينية.
والأساس لكل هذه الأزمات، ومنبعها واحد، وهي الأزمة السياسيّة المستفحلة.
أزمة سلطة لا تريد أن تعترف بإرادة شعب، بحقّه بإعطاء رأيه في شأن نفسه، في دستور حكمه، في انتخاب ممثّليه، في تشكيل حكومته، بإرادته في الانتفاع بثروته، في الاستفادة من أرضه، في الاسترزاق من بحره، في العدل بين أبنائه، في التمتّع بحريته الدينية، وحريته في التعبير عن معاناته، واحتجاجه على المآسي التي يفرضها جهاز الحكم عليه.
أزمة سلطة متفرّدة، مستبدّة، مستأثرة، ترى أنّ كلَّ شيء لها، ولا شيء لهذا الشعب إلاّ ما تُقدِّر أن من صالحها أن تتصدق به عليه.
أزمة سلطة لا تتقدّم خطوة واحدة صادقة وجادَّة في اتجاه حلّ الأزمة السياسيَّة التي صارت تُفرز العديد من المشكلات المعقّدة، وتُفاقم منها، وتزيد في خطورتها.
قامت بدعاية هائلة، واستعراض إعلامي ضخم فيما يرتبط بلجنة تقصّي الحقائق التي صنعتها على عينها ولم تكن للشّعب أيّ مشاركة في تشكيلها، وحينما جاء تقرير اللجنة مُنصفاً بدرجة ما بما فيه من إدانة لها بعدد من الجرائم وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، وحقّ المواطنة، والاستهانة بحرمة الدّم والعِرض والمال لأبناء الشعب، وتقدّمت في تقريرها بعدد من التوصيات الحقوقيّة بدأ الالتفاف على مقرّرات التقرير وتوصياته بما نسف قيمته العمليَّة بدرجة كبيرة جدّاً.
وبدأ الوضع الحقوقيّ للمواطن أخيراً ينتكس من جديد بصورة متزايدة، وعاد القتل العمد على يد السلطة، والتنكيل بالمشاركين في الاحتجاجات السلمية، وحملات المداهمات الليلية والاعتقالات، وكثافةُ سحب الغازات السامّة للمناطق السكنية.
وما أن اقترب موعد الفورملا إلاّ وارتفعت حمّى المداهمات والاعتقالات الجماعية، وزادت هستيريا العنف على يد السلطة، وتصاعدت روح الانتقام على يد المنفّذين لأوامرها حتّى لكأنَّ البلد في حالة حرب صاعدة.
مضى أكثرُ من عام على الحراك الشعبيّ الذي انطلق للمطالبة بالإصلاح، والحكومة تُدير ظهرها لكل المطالب الشعبية العادلة، وتُصرّ على مواجهتها بآلة القتل، وأساليب العنف القاسية الفاشلة أمام صبر الشّعب وتحمّله وإصراره على المضيّ في طريق عزّته وحرّيته وكرامته واسترداد حقوقه المسلوبة مهما كلّفه الأمر من غال وعزيز مما يرضى له دينه ببذله(19).
ماذا يريد الشعب؟ وماذا تريد السلطة؟
ما يريده الشعب بالضبط أن يكون واحداً من الشعوب الحرّة التي تملك قرار مصيرها، وتمارس حقوقها السياسية بصورة كاملة حفاظاً على كامل حقوق المواطنة الأخرى ومنها أمنه وحريته الدينية، وتمتُّعه بوضع معيشي كريم بما تتسع له عطاءات أرضه وجهده، وبوضع عادل منصف في كل المجالات.
وكلّ هذه الحقوق اليوم مسلوبة منه، محروم منها، حتى أن مطالبته بها جريمة في نظر السلطة، والعقوبة عليها مفتوحة بلا حدود.
والسلطة تريد للشعب أن يبقى أسير إرادتها، وأن يقدِّم لها الاعتراف بحقّها في استعباده، بل أن يسبّح باسمها، فضلاً عن سكوته عن حقوقه السياسية والمدنية، وعن نهب ثروته وهو جائع، وعن الاستئثار بأرضه وهو لا يجد المسكن اللائق، وعن إفساد أخلاقه، والاستخفاف بحرمة دينه، والعبث بِمُقدَّراته، ومضايقته في شعائره.
تريد السلطة من الشعب بعدما أعطى في كلّ عمر حراكه الأخير، ومن قبله من دمٍ وأشلاء، وأرواح طاهرة، ونفوس كريمة، ومن أعداد غفيرة من السجناء الأحرار الذين سُلِبوا حريتهم الخارجية ظلماً وذاقوا في سجونهم صنوف العذاب، ومن أكداس المال التي نالها السلب والنهب والمصادرة الظالمة والإتلاف من أجهزة الدولة وقوات أمنها، ومن بعد إهانة الأعراض والمقدَّسات، ومن بعد كل الويلات والمآسي التي ذاق طعمها المرَّ الكبير والصغير من أبناء شعبنا… تريد السلطة من الشعب بعد كل هذا أن ينسى كلّ شيء، ويرضى باستمرار الوضع السياسي القائم بكل تبعاته الثقيلة، ويرجع إلى المنازل وكأن شيئاً لم يكن(20)، ويستسلم للسيد والجلاّد يفعل فيه ما يريد.
أمنية أبعد في الخيال من أماني الأطفال(21)، بل هو الشيء الأكثر بعداً من جنون المجانين.
مستحيل كلّ الاستحالة أن يلقي الشعب عصا السير إلى الخروج من أسره وعبوديته، وإلى حقه وعزته وحريته، واحترام إرادته.
لا أحد، لا ظرف، لا شيء، لا إرهاب يمكن أن يتراجع بالشعب اليوم أو غداً عن هدفه.
وُجِد سباق السيارات أو لم يوجد، لانت السلطة أو اشتدّت، أنصف العربُ هذا الشعب أو ظلموه، وقف أحد مع هذا الشعب أو لم يقف فإنه قد قرّر المضي في الطريق إلى نيل حقوقه، واسترداد حريته وكرامته وإن خاض ألف لجّة، وقطع ألف بيداء، وإن مرّ بألف مخاض، وتمادى الظلم في طغيانه، وأسرف الحكم في القتل ما أسرف(22).
إرادتان: إرادة حكومة، وإرادة شعب:
إرادة تسلّط وإرادة انعتاق، إرادة استعباد وإرادة حرّية، إرادة استئثار وظلم وإرادة عدل وإنصاف. الأولى تعاند، والثانية تقاوم وتجاهد، وعلى ضمير الأمة، وعلى الضمير العالمي أن يحكم ويتحمّل مسؤوليته، ومهما كان(23) فإن الشعب ماض في طريق الإصلاح والتغيير، يدفعه إلى ذلك الدّين والضمير، والضرورة البالغة(24)… ماض بلا جور، ولا إفساد، ولا سوء نيّة… وإنما هي قضية الإصلاح التي لا تستقيم بدونها حياة ولا دين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إليك لجأُنا، وعليك اعتمادنا، وبك ثقتنا، ومنك نسأل الأمن والكفاية والحماية والعزّ والنصر يا قويُّ يا عزيز، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الإسلام في كل مكان، وكلّ من قُتل مظلوماً في رضاك، وفك أسرانا وكل الأسرى المؤمنين والمسلمين، واشف جرحانا ومرضانا وكل الجرحى والمرضى من أهل طاعتك يا رحمان يا رحيم يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 31/ مريم.
مباركاً يعني نفّاعاً.
2 – معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص212.
3 – الكافي ج2 ص 199 ط4.
4 – المصدر السابق ص195.
5 – بحار الأنوار ج71 ص326 ط2 المصححة.
فليطمع الطامعون في جنّة الله، وليسعوا إلى قضاء حوائج إخوانهم المؤمنين.
6 – خير المسلم يصل إلى المسلم وغير المسلم، وحتى للحيوان. كل ذلك حيث يكون في طاعة الله عزّ وجلّ، وابتغاء وجهه الكريم.
7 – بحار الأنوار ج72 ص190 ط3 المصححة.
8 – المصدر السابق ج71 ص287 ط3 المصححة.
9 – المصدر السابق ص317 ط2 المصححة.
حتى لو كان مغفورا له تمسّه لفحات النار حين يمنع الاستفادة من وجاهته في قضاء حاجة أخيه.
10 -تحف العقول ص247 ط2.
11 – المصدر السابق ص365.
12 – أي من كانت نعمته مستجدّة.
13 – جاء في الهامش في البحار: في بعض النسخ “من خلقك”.
14 – أنت تقول: اللهم أغنني عن خلقك، الدعاء لا يكون هكذا.
15 – بحار الأنوار ج75 ص135 ط2 المصححة، عن تحف العقول ص278 ط2.
لأن الناس للناس، من يستطيع أن يستغني عن الناس كل الناس، وقد جعل الله عز وجل الناس أسباباً من أسباب رزقه ومن أسباب النهوض بمستوى الحياة؟!
16 – مستدرك الوسائل ج5 ص264.
يمنعك، ويعيبك لسؤالك له.
17 – سورة العصر.
18 – 26/ الأعراف.
19 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
20 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
21 – هذا الذي تريده الحكومة وهو أن يتراجع هذا الشعب وأن ينسى كلّ شيء ويصبر على الضيم إلى الآخير.
هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
22 – كل ذلك لن يتراجع بالشعب عن مطالبه.
هتاف جموع المصلين بـ(الله أكبر، النصر للإسلام) و(معكم معكم يا علماء).
23 – بأي حُكْمٍ حَكَم هذا الضمير الصالح أو الفاسد، وتحمل العالم مسؤوليته أو لم يتحمل.
24 – هتاف جموع المصلين بـ(لا تراجع لا تراجع).
25- 90/ النحل.