خطبة الجمعة (429) 12 ذو الحجة 1431هـ – 19 نوفمبر 2010م
مواضيع الخطبة:
الخطبة الأولى: العبادة
الخطبة الثانية: للدين عشّاق وأعداء
القول بالاستغناء عن الفقهاء والعلماء، وأن الكل قادر على الاجتهاد في الدين لا يمكن أن يتفوّه به طالب من طلاب علم الدين الذين عرفوا ثقل الدراسة الدينية، وما تتطلبه عملية الاجتهاد من علوم متعدّدةاجتهادية، ومستوى ذهني عال جدّاً، وصبر طويل، ومثابرة شديدة.
الخطبة الأولى
الحمدلله الذي لم يسبق وجوده وجود، ولا أوّل لوجوده، ولا آخر لبقائه، وهو الذي ابتدأ الخلق من لا شيء، ولا معجز لقدرته، ولا إحاطة لشيء بعلمه، وهو بكلّ شيء عليم محيط.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة بتقوى الله لننجو بها من النار، ونقوى بها على الصِّعاب، وتهنئنا الجنّة. ولا يكن لنا همٌّ فوق همِّ الدين، ولا تكن الدّنيا أكبر همٍّ لنا، ولا آخر ما نطمح إليه، فإنّ الدنيا مهما عظمت فهي حقيرة بالنسبة للآخرة، وكثير العمل لها لا يُعطي إلا القليل وربما أنقذ القليل من العمل للآخرة من كرباتها، وأعقب خيرا كثيرا دائما مقيما. وكلّما كثر العمل للآخرة كلّما كثر خير صاحبه، وعلت منزلته، وسما مقامه.
ومن بعُد عن الله عز وجل فقد اختار الخسار، ولم يربح الحياة، ولم يرد لنفسه خيرا.
العبادة
وتقول الكلمة عن علي عليه السلام:”أبعد ما كان العبد من الله إذا كان همّه بطنه وفرجه”(1). فهذا الهمّ يفصل عن العقل والدين، ويقضي على يقظة الرّوح، ويطفئ نور القلب، ويُعطي الحضور للشهوة؛ فلنتفقّد النفس، ولنراقب همّها، ونحترس من أن تؤسر لهمّ الدنيا وما دنا من الشهوات فتخسر فرصتها في الرقيّ والكمال، وتكون حياتها كلّها للأرض، وتمضي العمر في الطين.
وما حياة أحدنا في نتيجتها إلا حصيلة همّه وهدفه وأفق رؤيته ومستوى إرادته. فكبير الهمّ والهدف والإرادة، والواسع في أفق رؤيته كبير في النهاية، والصغير في هدفه وإرادته، وضيّق الأفق في رؤيته صغير في النهاية.
وأيّ هدف أكبر من نيل الجنّة، وأي همّة أعظم من همّة تتجه إلى رضوان الله، وأي إرادة أقوى من إرادة أخذت بصاحبها على صراطه، وأي أفق رؤية أوسع من أفق رؤية تجاوز بسعته القلبُ كل غيب وشهادة ليعرف الكثير من عظمة الله التي هي فوق كل حدّ، وأبعد من كل محدود.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قلوبنا لا تُكبر أحداً كما تُكبرك، ولا تهابه كما تهابك، ولا تحبّه كما تحبك، ولا ترجوه كما ترجوك، ولا تخشاه كما تخشاك، واجعل أكبر همٍّ لنا رضاك، ولا تجعل لنا سعيا على خلاف طاعتك، ولا ميلا عنك إلى من سواك، وصلّ على محمد وآله يا كريم يا رحيم.
وهذا حديث في موضوع العبادة:
والعبادة الخضوع وإقامة الذّات في مقام العبودية فكراً وشعوراً وعملاً، والحقّ منها ما كان لعلاقة المالكيّة والمملوكية الحقيقية. والمالك الحقّ لكلّ الذوات والأشياء إنما هو الله تبارك وتعالى الذي منه الوجود ابتداءاً واستمراراً، ولا يملك شيء استقلالاً عنه في وجوده طرفة عين أبدا ولا أقلّ من ذلك. فكان هو الحقيقَ لعبادة العباد دون كلّ من سواه.
والحديث عن العبادة يُوضع في نقاط:
هدف الخلق:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2).
خلق الله الجنّ والإنس ليسعدوا لا ليشقوا، وليتكاملوا لا ليهبطوا، ولا مصدر لخير ماديّ أو معنوي في بدن أو عقل أو قلب أو روح إلا الله، وكما لا تجد حياة الأجساد خيرها ورزقها وقوامها إلا منه سبحانه، فكذلك العقول والقلوب والأرواح.
والأرض لا تنفصل في حياتها عن عطاءات السماء، وكل شيء في الأرض مسترفد لفضل الله دائما حتّى يبقى، وهو في تعلّق دائم وعبادة مستمرة له سبحانه من أجل خيره وبقائه.
والعقول والقلوب والأرواح في وجودها التكويني على حدّ كل الأشياء الأخرى في استعطاء الوجود والحركة والتأثّر والتأثير من الله الذي لا تجد مصدر عطاء غيره.
وحتى تَرْشُدَ العقول وتهتدي الهدف والمسار، وتتلقّى القلوب تمام هدايتها، وتحيا حياة طيبة وترقى، وتطهر النفوس وتزكو، ويكون الإنسان على طريق غايته، ويتحقق له الهدف من حياته لابد لإرادته من عبادة بارئه(3)، والاستجابة له في أمره ونهيه، وملازمة طاعته، وأن لا تميل إرادته في العبادة عن بارئه، ولا تقع في الشرك به، وأن تخلص في توحيده.
ولما كانت عبادة الله وتوحيده الطريق الوحيد لتكامل الإنسان، ونُضْج إنسانيته، وهداه ورشده، وبلوغ غايته، وتحقُّق سعادته، ولا طريق لذلك غيرُ هذا الطريق كانت العبادة غايةَ الخلق(4)، ومنتهى خير العبد، والمنّة الكبرى من الخالق، ومن وُفِّق إليها فقد عظمت عليه النعمة، وربح الحياة، وضمن الفوز، ووجب عليه الشكر العظيم الدائم المقيم.
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:”قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصدِّيقين تنعّموا بعبادتي في الدنيا فإنكم تتنعمون بها في الآخرة”(5).
إنَّ النفس التي تأهّلت للعبادة حقّ التأهّل، وانفتحت على موائدها، وسمت إلى أفق معناها ترى فيها لذّة لا تعدلها لذّة(6)، وحاجة لا تستطيع أن تنفصل عنها، وغذاء عقل وقلب وروح ونفس لا يهنأ عيش بدونه(7)، ومردود العبادة اليوم نعم كبرى جليلة عظيمة في الآخرة، وأعظمها لذّة القلب بمعرفة الله، ومعاينته له، وامتلاؤه شعورا برضاه، وغناه بتوحيده.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم مُنَّ علينا بمعرفتك، وأخلصنا بخالصة توحيدك، واجعلنا من أصدق طائعيك، وأخلص عبّادك، وارزقنا رضاك، وتولّنا برعايتك وكفايتك وكلاءتك يا أرحم من كلّ رحيم، ويا أكرم من كلِّ كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(8).
الخطبة الثانية
الحمدلله على التّوفيق لحمده، وشُكْر نِعَمِه، وطاعته وعبادته. الحمدلله ربّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة، الذي لا يردّ سائله، ولا يَخيب آمله، ولا يغيب عطاؤه، ولا يقِلّ نواله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولا يتخلّى عن تقوى ربّه الحقّ إلا جاهل مغرور، وغافل عن نفسه، وما هو عليه من الفقر الشامل إلى الله، وعدم القدرة عن الاستغناء عن فيضه، أو ردّ قدره، ودفع نَقِمته، وتحمّل عقابه، وما يعاني منه من عمى القلب عن علمه عزّ وجلّ وإحاطته.
ألا أنّ التقوى لأكرم منحة، وأجمل لباس، وأستر ستر، وأحسن زينة، فلا تفريط من عاقل في التقوى، ولا تضييع من مؤمن لها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولوالدينا وأرحامنا وأقربائنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أفض علينا جميعاً من فضلك، وأغدق علينا من منّك، ولا تمنعنا عطاءك، وإن تمنعنا شيئا فلا تمنعنا معرفتك، ولا تسلبنا تقواك، ولا تتركنا لمعصيتك، وأدم علينا نعمك، وبارك لنا آلاءك، ولا تفرّق بيننا وبين طاعتك وعبادتك يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم على خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين اللهم صلّ وسلّم عليهم جميعاً، اللهم صلّ وسلّم على نبيّك العظيم، وعلي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفظه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً قائماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات:
للدين عشّاق وأعداء:
للدين روّاد وعشّاق وأنصار متفانون، وله أعداء معاندون لا يكفّون عن محاربته، ومحاولة القضاء عليه. وقد لا يوجّه بعضهم سهامه للدين مباشرة، ولا يرميه بشبهاته، ويحاول أن يظهر زورا احترامه له، ولكن يعرف تماما أنه لا بقاء للدين من دون فقهاء، ولا حِمى له من غير علماء. ولذلك وحتّى لا يثير حفيظة العامة من المتدينين، ولا يتدخل في مواجهة مباشرة مع الدين تفضح نواياه السيّئة، وتكشف خبثه، وتفشل محاولته يفضّل أن يخوض معاركه الشرسة مع فقهاء الإسلام وعلمائه، ويثير حول المخلصين وأهل الصدق والأمانة والكفاءة والغيرة على الدين منهم ما يمكن له من التشكيكات والشبهات، ويتعدّى بعضهم ذلك إلى إلغاء دور العالم، ومحاولة الإقناع بعدم الحاجة إليه نهائيا، مثيرا أن الارتباط بالعلماء سذاجة وبلاهة، وقبول للتبعية، وتنازل عن الإرادة، وتعطيل للعقل، وغلق لباب التفكير، وهو ارتباط يُضفي حالة من القداسة الكاذبة على جماعة لا تستحق القداسة، ويخلق قيادات وهمية حالمة تسبّب إرباكا للمجتمعات، وتعكيرا لأجوائه الصافية، وتوقع في المنزلقات، وتعطّل تقدم الحياة، وتعادي حالة الانفتاح والمرونة، وانطلاقة النفس إلى ما تشتهيه وما يريحها.
فيقولون لك ماذا عند العلماء مما ليس عند غيرهم؟ عندهم كلام قد تجاوزه الزمان عن حلال وحرام، وجائز وغير جائز، ولو كان شيء من هذا أو ذاك يستحق اهتماماً فإن كتب الدين تغنيك عن الرجوع إلى أي عالم، وإنك تملك عقلا كما يملكون، وعقلك يمتاز بأنه ليس عقل خرافة كعقولهم، ولا محكوماً لهاجس الماضي كما هي عقولهم، ولا مأسورا لحالة التقديس كأسرهم.
ويقولون لك بأن علماء الدين لهم شيء من دراسة، وشيء من فهم، وشيء من معرفة في حدود معينة، ولكنهم لا يعترفون بحدود، ولا يحترمون قضيّة العلم، ولا يتوقفون عن الإجابة عن أيّ سؤال، ويتدخلون في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنفس وآراؤهم وفتاواهم تعمّ كل الحياة.
وملخّص القول: أن الشعوب الإسلامية بحاجة إلى الاستيقاظ والتخلي عن علماء الدين، وعن الشعور بالحاجة إلى دورهم لنفهم الإسلام جيدا، ونحافظ على أصالته، ونكتشف كنوزه، ويكون دينا طيّعا يتبع حركتنا التطورية أين ذهبت، وإلى أي شيء صارت، وأي فلسفة اعتمدت، وأي فكر استوردت، وبأي قطب أرضي ارتبطت.
هذه أفكار تملأ صحفا وكتبا، وقد تجدها في إذاعات وقنوات بثٍّ مختلفة. هذه ثقافة يُروَّج لها بقوة واهتمام في كل الساحة الإسلامية من داخلها وخارجها مستهدفةً فصل الأمّة عن فقهائها وعلمائها توصُّلا لفصلها عن الدين الذي تعاديه وتحذر منه الطاغوتية السياسية والمالية العالميتان.
ولنقف عند هذه الأفكار وقفة محاسبة يسيرة لينكشف لنا وزنها من العلمية والحقّانية والصدق.
نقف هذه الوقفة لا عن وزن ذي قيمة لهذه الأفكار الذي لا يستغفل مكرها السيء جماهيرنا الواعية، ولا يمكن أن تستجيب هذه الجماهير لمثل هذه المحاولات اليائسة. وإنما من أجل أن تُحبط هذه الأفكار المغرضة الهدّامة علمياً بصورة مبكّرة حتى لا تجد لها موطأ قدم بعد زمن في ظروف معيّنة ولو بين بعض المسلمين الذي يفوتهم الالتفات لهذا المكر، ولا يدقّقون في الأمور.
تُطرح هذه الأفكار بأسلوب خدّاع بلا أي مضمون علمي يستحق شيئا من الاحترام، والدوافع الخبيثة الحضارية والسياسية غير الأخلاقية لطرح هذه الأفكار أصبحت معلومة مكشوفة لكل ملتفت. والمستهدف الأول فيها إنما هو الدين لوقوفه في وجه الرغبات والنزوات الشيطانية، وروح التسلّط والظلم والاستئثار والاستكبار ومقاومته للباطل.
تتلخّص هذه الأفكار في الآتي:
أولاً: الكل له عقل، والكل له أن يجتهد في الدين، ويكفيه اجتهاده، فلا حاجة للفقهاء والعلماء في فهم الإسلام، والوقوف على مضامينه ومسائله.
وهذا ممّا ما يمكن أن يُناقَش به هذا الطّرح:
1. أيُّ علم من العلوم يمكن أن يثرى وتُكتشف أسراره لو كان من غير مختصّين، وقابليات عقلية كبيرة ودراسات مضنية؟! هل هناك علم من العلوم ينمو بعقلية عامّية، وبالتخلّي من المختصّين عنه؟! لو أُخذ بهذه الفكرة في كل حقول المعرفة والعلم لانتهى العلم وحلّ محلّه الجهل، وتراجعت المعرفة إلى مسافات، فبقاء الدين بفقهائه وعلمائه، وأي بقعة من العالم يغيب عنها العلماء يضيع فيها الدين علما وعملا كما هو مشاهد في الخارج، ولو كانت على مستوى علميّ وثقافي متقدِّم في المجالات الأخرى(9).
2. الدين فطريٌّ أصلاً على مستوى عقيدته، وفيه أمور ضرورية معروفة للمسلم العادي كوجوب الصلاة والصوم مثلا، ومتيقّنة من الجميع، ولا اجتهاد في فطري ولا ضروري عند أحد من العلماء لانتفاء الموضوع(10)، ولكن في الدين مساحة كبيرة من المسائل الاجتهادية التي تحتاج إلى غزارة فكر، وجهد علمي كبير، وتخصص مرهق، والأسئلة الاجتهادية المطروحة على الدين لا تتوقف في أي زمن من الأزمان، وليس لها نهاية مما يتطلب استمرار عملية الاجتهاد على مستوى التفريعات والنظرية(11).
3. القول بالاستغناء عن الفقهاء والعلماء، وأن الكل قادر على الاجتهاد في الدين لا يمكن أن يتفوّه به طالب من طلاب علم الدين الذين عرفوا ثقل الدراسة الدينية، وما تتطلبه عملية الاجتهاد من علوم متعدّدة(12) اجتهادية، ومستوى ذهني عال جدّاً، وصبر طويل، ومثابرة شديدة.
إن الشخص قد يدرس عشر سنوات أو خمس عشرة سنة في الدراسات الإسلامية المتخصصة ويبقى بعد ذلك تلميذاً من تلامذة الفقهاء، ومن غير أن يشمّ رائحة الفقهاء، وقد يبلغ العشرين سنة وهو بعدُ لم يشمّ رائحة الفقاهة.
الاستغناء عن الفقهاء والعلماء المتخصّصين في الدراسات الدينية كلام لا يطرحه إلا جاهل بهذه الدراسات كل الجهل، وإلا استحى من طرحه. نعم قد يطرحه عالم بالأمر لكنّه مغرض مفسد.
4. العلوم الإسلامية تملأ الدنيا، وقد بلغت قمماً شاهقة، ولولا التأهّل الحقيقي للاجتهاد في الدين، والعقلية الكبيرة للمجتهدين لما أمكن التوفّر على هذه العلوم التي تحتاج إلى عملية استنباطية بالغة الدقة من المصدرين الثّرّين المباركين في الإسلام هما الكتاب والسنّة. نعم لو لا تعامل العقليات الكبيرة والاجتهادية مع الكتاب والسنّة لما أمكن استخراج كل هذه العلوم منهما.
5. لو كان الاكتفاء بالقرآن ممكنا من غير مبيّن لأسراره، مكتشف لكنوزه، موضِّح لمجمله، لما كان من مكانٍ لكل الحديث الصادر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله(13) وعموم سنته، وسنّة الرسول صلّبى الله عليه وآله مختلَف عليها في الكثير من المسائل، وتشخيصها العلمي يحتاج إلى الاجتهاد.
ولو كان وصول القرآن إلى النّاس كافياً لأمكن تنزّله على الناس بصورة إعجازية صارخة تضطرهم إلى الإيمان به، أو تقوم عليهم حجّة من غير حاجة إلى رسول يعلّمهم الكتاب والحكمة ويعمل على تزكيتهم.
6. لعلم المطلقين للقول من غير علم، نقول: بأن غير المختصّ تتعبه الرسالة العملية التي تتكفّل بطرح الفتاوى الشرعية جاهزة، وبلغة دون لغة البحوث التخصصية العالية، ومن دون عملية استدلال مرهقة مما تسود في البحوث الأصولية والفقهية وغيرها على مستوى الاستدلال، أما تلك البحوث فتحتاج الاستفادة منها إلى سنوات من الدراسة المتخصصة في أكثر من فرع علمي تُهيّئ لها.
هذه مناقشة للفكرة الأولى، وتأتي مناقشة بقيّة أخواتها إن شاء الله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ألهمنا السداد والصواب، وأنطقنا بما هو حق، وجنِّبنا قول الزور، واهدنا سواء السبيل. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(14).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الخصال للشيخ الصدوق ص630.
2- 56/ الذاريات.
3- نحن نعبد الله في كل خلية من خلايانا، وفي كل ذرة من ذراتنا عبادة تكوينية إذ به تتعلق سبحانه، وإليه تتضرع، ومنه تستعطي وتسترفد، بقي هل نخضع بإرادتنا لله أو لا نخضع. فما أكبر المفارقة عند موجود يخضع بكل ذرة من ذراته لله ثم يستكبر بإرادته عن عبادته.
4 – لماذا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}؟ لأنّه لا كمال لهم إلا بعبادته سبحانه، لا طريق آخر لكمال هذا الإنسان إلا بالعبادة، فلذلك كانت العبادة غاية الخلق.
5- الكافي ج2 ص83.
6- هذا في الحياة.
7- المؤمنون الحقّ لا تهنأ لهم حياة من دون العبادة.
8- سورة التوحيد (الإخلاص).
9- أقول والواقع الخارجي شاهد بذلك. أمس ينقل أحد مشايخنا الكرام هنا وهو سماحة الشيخ حسن الصفار قصَّة بأن قرية خلت من علماء الدّين فصار الثلاثة منهم يتزوجون امرأة واحدة. وأحدهم في الغرب من الجاليات الإسلامية، لبناني وهو مثقّف بالثقافة الحديثة وفي وسط ثقافي مماثل عامّي توفّي أبوه فحرقه لأن حرقه أرخص من دفنه، ذلك لأنه لا يعلم وجوب دفن الميت في الإسلام.
يعرف المتخصصون في العلوم المختلفة وغيرهم أن المختصّ في علم معيّن عامّيٌّ في العلوم الأخرى التي لا تخصّص له فيها، أنا وأنت عامّيان في الطب، الملايين عوامّ في الهندسة وفي الطب وفي أي اختصاص آخر لم يكن لهم به ارتباط، هذا فضلا عن الإنسان العادي الذي لا يملك شيئاً من التخصصات.
10- لو جئت لأي فقيه تريد أن تقلده في وجوب الصلاة لقال لك أن هذا الموضوع ليس من موضوعات التقليد.
11- هناك فروع إسلامية، وهناك نظريات إسلامية. الشهيد الصدر قدم نظرية الإسلام في المذهب الاقتصادي.
12- المجتهد لا يجتهد في علم واحد، بل يجتهد في عدّة علوم.
13- ما حاجتنا للحديث بعد القرآن إذا كان القرآن يكفينا؟!
14- 90/ النحل.