خطبة الجمعة (405) 15جمادى الأولى1431هـ – 30 أبريل 2010م

مواضيع الخطبة:

*عقيدة الآخرة * اسحبوا الشعار * نصيحة للحكومة

نصيحتي للحكومة بأن تطلب مودة الشعب بتغيير سياستها وموقفها في التعامل معه، ومنطلقات هذا التعامل، والرؤية التي يقوم عليها، والأهداف التي يرمي إليها، والأخلاقية التي يعتمدها، وتعترفَ للناس بحقوقهم وترعاها، وترفع عنهم صوت العذاب، وتكِنّ لهم المحبة والمودة. ولن يكون تعامل الشعب معها إلا من جنس هذا التعامل حين يكون.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي دلَّ إمكان الموجودات من دونه على وجوده، وفقرها الذّاتي على غناه، وقيامُها على وجوده وحياته، وتغيُّر أحوالها على إرادته، ودِقّة صنعها على علمه، وتناسقُ تكوينها وغاياتِها على حكمته، وخضوعها وذُلّها على سلطانه وعزّته.
هو الأزليّ الذي لا بداية له، السرمديّ الذي لا انقضاء له، المالك الذي لا ثانيَ له، الربّ الذي لا شريك معه، الإله الذي لا معبود بالحقِّ دونه، الوليُّ الذي لا وليّ لشيء غيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله ربّ الكبير والصغير من الأوّلين والآخرين ولا ربّ غيره، ولا معتمَدَ سواه، ولا معوَّلَ على من دونه، ولا يُجدي لجأٌ إلا إليه، ولا يحمي من أخذه شيء، ولا يدفع قَدَرَه دافع، ولا يمنع حكمه مانع، ولا يرد عقوبته رادّ، ولا يجد أحدٌ من غيره رزقا، ولا ينال من دون إذنه حظّاً.
ولنخشَ يوماً هو آت لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولا يُنجي فيه بعد عفو الله ومغفرته، وجوده وكرمه إلا العمل الصالح مما تقرّب العبدُ به إليه.
اللهم اجعلنا ممن يسمع القولَ ويأخذ بأحسنه، ويتّبع أحسنه. وإنَّ أحسن الحديث عباد الله كتاب الله العزيم الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(1).
اللهم صلّ وسلّم على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الذين اخترتهم لإعمارِ أرضك بذكرك، ودلالةِ عبادك على طاعتك، وقيادتهم إلى رضوانك، وذودِهم عن النّار، وغضبِ الجبار وهو أنت يا لا إله إلا أنت.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصحابنا وأزواجنا، ومن أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد فالحديث في المعاد.
عقيدة الآخرة:
إنَّ لعقيدة الآخرة تكاليف لا يستقيم معها انطلاق النَّفس بلا حساب وراء الشّهوات، وانعدام الضوابط الخُلُقية في الحياة، وتضييع الحقوق، والتنكُّر للواجبات، والإباحيّة في سلوك الأفراد والمجتمعات، وسحقُ كرامة الآخرين، واستغلالهم، وانتهاك حرمات الله.
ومن هنا صعب أمر الآخرة على النفوس الواهنة التي لا تتحمل التكاليف، ولا تصبر على الضوابط، ولا تتورّع عن المحرّمات، ولا تملك أن تقف أمام شهوة، أو تتراجع عن نزوة. ذلك بترك صاحبها لها أن تقود فينقاد، وأن تأمر فيأتمر، وكأنه خِلْوٌ من العقل، والرُّشد، والإرادة، والنّظر في العواقب، واحترام الذات.
ولو آمن مثل هذا المرء بالآخرة فإنّه لا يُوقن بها، وإيمانه يكون مغيّباً مكبوتاً وراء الظلمات، ويعاني من قلق واهتزاز، ولا قوّة له على ردع عن رذيلة، وارتكاب فحشاء، ومواقعة منكر، ولا يعطي دفعاً لتحمّل واجب، والنهوض بتكليف.
وربما بلغ التدهور بالنفس من فِعْلِ السيئات مبلغاً خطيراً لابُد أن تفارقه حالة الإيمان، وتتخلّى عنها النفس.
وكلُّ العقائد الحقّة تحتاج في استقرارها إلى أجواءٍ نفسية وروحيّة غير طاردة، وتلوّثُ جوِّ النفس بالذنوب والآثام لا يناسبها.
ومن طغيان حبّ الدنيا على النفس وتعلّقها بها، وحاكمية الشهوات أن تطلب الدّنيا بالآخرة في الكلمة والموقف، وحتى من مثل صلاتها وحجّها وخمسها وزكاتها وجهادها حتى إذا فقدت هذه الأمور العبادية ما كان لها من مردود دنيوي تمّ التخلّي عنها وإسقاطها.
أمّا أصحاب القدم الثابت في الإيمان بالله واليوم الآخر فيظلُّ خيارهم الآخرة وإن تهدّدهم الموت في سبيل الله، وزحفت إليهم المنيّة جادّة لسلوك هذا السبيل، واجتمعت عليهم كلمة الأذى من الناس كلّ الناس {… مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ …}(2) وقد يعمل الإنسان عمل الآخرة وهو يريد الدّنيا، وقد يعمر الدُّنيا ولكن بإرادة الآخرة.
ولمّا جاء الإسلام كثرت بركات الدّنيا وغزر خيرها بفضل الله سبحانه، وبما بذل الرّسول (ص) من جهود، وأخذ به من سياسة حكيمة عادلة، ولم يكن يريد من إعمار الدّنيا إلاّ الآخرة، وأن يتّخذها الناس وسيلة لها. ولقد كان صلّى الله عليه وآله الزاهدَ فيها، العازف عنها، المستعلي على زخارفها وزينتها.
وما من مريد للآخرة إلا ويستوفي نصيبه المكتوب له من الدنيا، وما من مريد للدنيا يستوفي منها أكثر من حاجته إلاّ وأضرّه ما أخذ.
وماذا يحتاج الإنسان من هذه الدُّنيا حتّى يبلُغ أجله أكثر من نَفَسٍ يتنفسه، ولقمة يطعمها، وشربة يستسيغها، وثوب يستره، وجدار يكنُّه، وراحلة تقطع به ما بينه وبين حاجته البعيدة، وأنثى يألفها ذكر، وذكر تألفه أنثى، وإنسان يأنس به إنسان وما ماثل هذه الأمور أو وقع في طريقها. ولولا شرَهٌ، وأثرة، وجنون مادي، ونهب وسلب وسرقات، وتبذّخٌ ضارّ، وترفٌ مهلك، وأطماعٌ لا حدّ لها، وحروبٌ طاحنة، وحرق ثروات بهذه الحروب، وإنفاقٌ حرام، وفسادٌ في الأرض يزيد من حدّة الأمراض، وانتشار الأوبئة، وسياسات طاغية، وأخلاق متفسِّخة، وعبث بالثروة، وتراخٍ عن الإنتاج لفاضت الخيرات عن الحاجات، وما احتاج الناس لأن يتركوا الآخرة للدنيا، ولا أن ينسوا أنفسهم لحساب المال.
ولن ينتقل أحدٌ من هذه الدنيا من مؤمن أو كافر وبيده شيء منها إلاّ ما قدّمته نفس لغدها من عمل صالح تلقاه محفوظاً مجزيّاً بخير جزاء عند الله، أو عمل سيء تجده خِزياً وذُلاً وهواناً، وعذاباً أليماً مقيما، أو ساعة ذهبت من العمر فراغاً بلا جدوى تكون ندامةً وحسرةً غائرتين في النّفس موجعتين.
ولكن مريد الآخرة وافر الحظّ فيها، مُنعّم، رفيع المقام، مسرور محبور، مضاعف له جزاؤه، غامر له عطاؤه. وليس لمريد الدّنيا في الآخرة من نصيب مما يدرأ ويكفي، ويغني ويثري. وإنَّ مَن أعرض عن المعاد اليوم كانت له هناك لظى وما أدراك ما لظى نزّاعة للشوى.
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}(3).(4)
وأخسّ من أراد الدنيا من أرادها بالدّين فحرّفه، وأفسده، وشكّك في قدره بما أساء له، وبعّد عنه، ونفّر منه، وعُيِّر به(5) لخساسته وانحدار نفسيته. وهو تعيير من منشا انتساب هذه النفسية والشخصية زوراً للإسلام.
ولنضع الحديث عن الآخرة تحت عناوين محدّدة:
الإنسان الأرضي والآخرة:
كلُّنا نعيش على الأرض، وترتبط حياتنا الدنيا بها، ولا نستغني في هذه الحياة عنها لكن من النّاس من لا تتجاوز عقليته ونفسيته الأرضَ وشهواتها وحاجاتِها وهمومها، ولا يكاد يمتدّ منه فكر ولا شعور خارج سجن المادة، وإطار المحدود، وليس له نظر إلى ما وراء هذا العالم الذي لا يملك من داخله تفسيراً مقبولاً لوجوده ابتداء واستمراراً وانتظامه، ولا يقابل حقائق الغيب، ولا الحقيقة الكبرى الأولى التي تشعُّ بعالم الحس وكل عالم آخر، ولا يكون شيء إلاّ من إشعاعها وفيضها إلا بالتردُّد والتشكيك لعلّة انقطاعه إلى الأرض(6) والخلود إليها في حالة السطح من وجودها دون العمق والمغزى، وما يلهمه وجودها ونظامها المحكم من معرفة الخالق، والإيمان بحياته وقدرته وعلمه وحكمته وغناه المطلق، وحاجة كل شيء إليه(7).
وإنسانٌ هذا حاله في الانكباب على الأرض، وعماه عما وراء عالم الحس لذلك الانكباب هو ما أتسمّيه هنا بالإنسان الأرضي دون الإنسان الذي يعيش على الأرض، ويتعامل معها دون أن تخلق عنده حاجباً فكريّاً أو نفسيّاً عن رؤية الحقّ الذي يقف وراء تفسير هذا العالم، ويعلّل وجوده ودقة صنعه والحياة فيه.
1. هذا الإنسان والناحية النفسية: هذا الإنسان الأرضي له مواصفات. حين نقرأ حالته النفسية يقول عنه الكتاب الكريم:
{… الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ…}(8).
وراء التكذيب بيوم الدِّين نفسية غير سليمة… نفسية ملوّثة، معتدية، آثمة، حجبها عن الحق تراكمُ الموبقات، وثقَّل عليها أن تستجيب لعقيدة الآخرة التي لا تنسجم والاستغراق في شهوات الدنيا، ومتع المادّة بلا حدود، وأن تكون المادّة كلَّ هدفها وهمّها، ومركز تفكيرها وشعورها، وأن تكون مستقطَبة لها تمام الاستقطاب.
فمن أراد أن تتسع نفسه للإيمان باليوم الآخر فليخفِّف من هذا الارتماء على المادة، والولع بها، والذوبان فيها، والانسحار بها، والخلوص الكامل لها.
2. الإنسان الأرضي والناحية الفكرية:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(9).
يستحيل على من يتبنى نفي الآخرة أن ينطلق في هذا الموقف من علم أو مقدّمة علمية. وإنما هو الظن القاصر البعيد عن معطيات العقل، وحقائق الاستقراء التي يقدّمها هذا الكون وظاهرة الموت والحياة فيه، ولا يلتقي معه النظر الموضوعي الدقيق. إنه الظن الساقط من منطلق نفسي موبوء خسيس لا يصحّ أن تُبنى عليه الحياة، ولا يواجه به حكم العقل بالاحتياط حتى لمن ابتُلي بالتردّد لمرضه في أمرٍ عظيم يمثل أخطر الأمور.
والآية الكريمة تطرح على لسان أصحاب هذه العقلية المغلقة قضية نفي المعاد بوصف أنها جازمة؛ فتقول:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ…} فتعبيرهم تعبير حاصر للحياة في الحياة الدنيا ولا غير(10). وهذا الجزم المخالف للنظر العلمي عين الجهل، وهو أبشع صورة من صوره.
ويتعقّب الكتاب الكريم إثارات هذه النفسية المبتلاة، والعقلية السقيمة في موضوع المعاد ويردّ عليها في عدد من الآيات الكريمة، ويأتي الكلام على شيء من ذلك إن شاء الله.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك التوّاب الرحيم.
ربّنا اهدنا ولا تضلّنا، وافتح عقولنا وقلوبنا على الحقّ، واجعلنا من أهل اليقين، وصِفوة المتّقين، واقطع عنّا دابر الشّيطان، واكفنا ما توسوس به النفس الأمّارة بالسّوء، واحمنا من كيد المبطلين يا أرحم الرّاحمين، ويا أكرم الأكرمين، يا من هو على كلّ شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(11)

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لو شاء أن يجبر العبادَ على طاعته لأجبرهم، ولكنّه امتحنهم في ذلك بتخييرهم وإنْ أوجب عليهم الطّاعة تشريعاً وهو الغنيّ عنهم تكميلاً لهم، ورفعاً لمنزلتهم، وإيصالاً لهم إلى غايتهم التي ارتضاها.
والذي لو شاء لأفناهم لمعصيتهم ولكنّه يمهلهم برأفته وحكمته فمن تاب وأناب عفى عنه، وأعظم مثوبته، ومن أصرّ على الطغيان زاده ذلك بُعداً عن الرَّحمة، وضاعف عليه العذاب.
وهو مُذِلُّ الجبَّارين، وقاهر المستكبرين، ومأوى المستضعفين، ونصير المظلومين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله ألا فلنتّق الله، وماذا نال من لا شأن له بالتقوى ولا حظّ له فيها غير نصيب من الدّنيا قد ينقص، وقد يزيد ولكنّه لا يبقى. وكلّ ما أصاب أحد من دنياه من دون خير الآخرة وإن كثر قليل، وهو بما ينتهي إليه صاحبه خسارة.
وماذا خسر من اتقى فإنه يستوفي رزقه، ويربح نفسَه، وتزكو ذاتُه، ويُرضي ربّه، ويخرج من هذه الدنيا مشكوراً راضياً مرضيّاً مسروراً محبوراً.
فليلزم مؤمن جانب التقوى، وليأخذ بطاعة ربّه، وليسعَ حياته طلباً لرضاه؛ فإنه لا حصيلة لحياتنا أكبر من هذه الحصيلة، ولا خاتمة تُطلب خيراً من خاتمة يؤدي إليها هذا الطريق.
اللهم ألزمنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين جانبَ التقوى، ولا تخرج لحظة من حياتنا عن طاعتك، واهدنا سبيلَك، وتوفّنا إذا توفّيتنا مع الأبرار.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليّ أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد فهنا عنوانان:
الأول: اسحبوا الشعار:
رُفع شعار الإصلاح رسميّاً في البحرين بقوّة، وحُفّ بحملة إعلامية صاعدة متواصلة لم تتراجع، ولم تخِفْ، وإن خفّت وقتاً تجدّدت قويّةً في كثير من المناسبات، وكأنَّ الإصلاح أصبح في البحرين كما يُوهمه الإعلام سياسةً رسمية تعضّ عليها الحكومة بالنواجذ، وتنال منها احتراماً واهتماماً ليس فوقه احترام ولا اهتمام.
والشعارات من حقّ النّاس أن يحاسبوا عليها أهلَها، وعلى صدقهم معها، ودرجة وفائهم والتزامهم بها. وإذا وجد النّاس المفارقة لها عند أصحابها واسعة فاحشة ثابتة مقيمة تحوّلت هذه الشعارات إلى نكتة وسبب للفكاهة والتندُّر. وحينئذ فالأولى مع هذه المفارقة ونتيجتها أن يُسحب الشعار نهائياً، وتُطوى صفحته في الإعلام لأنه لو أُريد به التسلية أو التغرير فانفضاحه بصورة عملية جليّة يُسقط قدرته على المغالطة. فإمّا شعار، وصدق التزام، أو تخلٍّ وسحبٌ للشعار.
وشعار الإصلاح قد بلغ التخلّفُ عنه عملاً الحدّ الذي أسقط قيمته؛ فما للإعلام، وترديد هذا الشعار؟! وما لبقاء هذا الشعار، والحكومةُ لا تقبل شيئاً من المحاسبة على أساسه، ولا صوتاً يطالب بتفعيله؟!
إصلاحٌ ودستور غير متوافَق عليه، ولا طريق لتعديل شيء من موادَّه؛ وماأكثر موادُه التي تحتاج إلى تعديل؟!
إصلاحٌ وتمييزٌ بغيض من أصغر وظيفة حتى تشكيل الوزارة؟!
إصلاحٌ وتجنيس سياسي مدمّر لوحدة الشعب، وعلى حساب حاجاته وضروراته، وغذائه، وسكنه، ودوائه وما يُسببه فعلاً من إخلال بالأمن وتعدّيات على المواطنين من الموطَّنين كُرهاً على الشعب وإرغاماً لأنفه؟!
إصلاحٌ والأوضاع الأمنية لا تهدأ ولا تستريح لتعدد ألوان الفساد وما يسببه ذلك من ردّات فعل على مستويات؟!
إصلاحٌ ومثل ما يُسمّى بفضيحة البندر تمرّ بل تدفن بلا محاسبة ولا معاقبة ولا إجراء رادع بل مع التكريم والتبجيل والجوائز؟!
إصلاحٌ ومساحات شاسعة من أرض يشحّ بها على أهلها من المحتاجين وهي من الله عز وجل لهم، وتنقل من الملكية العامة المثبتة بالوثائق إلى ملكية عدد قليل من المترفين الذين يحيرون بثرواتهم الطائلة؟!
إصلاحٌ وأملاك الدولة تؤجّر على المتبذّخين بما أجرته عشرات الألوف وأكثر من الدنانير بدينار واحد ودينارين؟!
إصلاحٌ والفساد الخلقي، وعار الدعارة، والفحشُ وتجارةُ البغاء قد عظم بما جعله يكبُر أن يُطرح في جلسة علنية للنيابي حتّى على من لا يرون في هذه الأمور الفاضحة عاراً؟! وهذا حال ما ناله التوثيق من مساحة محدودة، فكيف بما لم يَطَلْه تحقيق، وكيف بما يعيث من هذا الفساد في كلّ الساحة؟!
إصلاحٌ وظاهرة المتأنثين تفرض نفسها على البلد الطاهر، وظاهرة المترجِّلات تبارز الدّين والخلق والحياء وسلامة الذوق في أروقة المدارس وساحاتها، وترعب السويّات من الفتيات؟!
إصلاحٌ ومواجهات أمنية ساخنة مع مناطق آمنة من مناطق الوطن، وكأنها قد احتُلّت من أجنبي، وترويعٌ لأبنائها بلا تفريق، وذلك عائد أصلاً لتوقّف الإصلاح؟!
إصلاحٌ ووعود المشاريع الإسكانية تبقى حبراً على ورق لسنوات والمشكلة السكانية في تفاقم؟! وإذا كان إسكان فللمجنّس، أما نصيب المواطن الانتظار القاتل والتسويف تلو التسويف حتى اليأس؟!
إصلاحٌ ومجلس نيابي يُضادّ مضادّة تفشله، وتُفرّغه من كل معناه ومحتواه بعد أن كان محتواه أصلا ضئيلاً ضئيلا؟!
إصلاحٌ ومجلس نيابي يُعطِّل دوره مجلس يعمل بالوكالة عن الحكومة؟!
إصلاحٌ ومجلس نيابي لا رأي له في تشكيل الحكومة، ولا استمرارها، ولا حقّ له في مسائلة رئيسها، ولا يملك إسقاط وزير مفسد من وزرائها؟!
إصلاحٌ وملفّات تُثار، وتُشبع بحثاً وكلاماً، ويبلغ فيها الحديث قمّته، وتنصبّ عليها الوعود بالحلّ ثم تعود نسياً منسيّاً، وتموت إلى الأخير؟!
الصحيح أنّه ما جُمّد الإصلاح فيجب تجميد شعاره، وما ألغي الإصلاح فيجب أن يلغى شعاره. ولو حيي الإصلاح صحّ إحياء شعاره. وبعد أن دُفن الإصلاح، لابد أن يسحب الشعار.
ثانياً: نصيحة للحكومة:
تقدّم وعي النّاس، وارتفع مستوى الإرادة عندهم في كلّ مكان، وتفتّح الفهم، وزادت ثقافة الحقوق، والتمسُّك بقيمة الحرية والكرامة، وقطعت كل المجتمعات أشواطاً بعيدة في هذه الأصعدة والمساحات.
ولم تعد مغالطات الحكومات لشعوبها مجدية، ولا الحملات الإعلامية المكثّفة كافية للإغفال عن بعض الحقوق بالخصوص، والوعود لا تملك أن تُقنع ما لم يُصدِّقها العمل، وقد تغري بالمطالبة أكثر مما تلهي، وتلفت أكثر مما تصرف.
والحكومات التي تحبّ التّعب لنفسها وشعوبها تعرف الطّريق إلى ذلك، وتسلك الظلم، وتتعسف في كل الأمور، وتجور على الثروة والإنسان، والدِّين والدنيا، وتعمل بالبطش، وتُسلِّط السيف على الرقاب، وتملأ السجون. وكل ذلك لا يجديها شيئاً في ظل تنامي الوعي، والشعور بالحقّ والكرامة، ونهوض الإرادة، وعشق الحرية والانعتاق.
وهذه أمور تتنامى في الشعوب في اليوم الواحد فضلاً عن الشهر والسنة. ووضع السياسة لأي شعب في خانة ما قبل ستين وسبعين سنة إدراك سيء، وتفكير غبي في الأمور.
الحكومة التي تبحث عن حياة الاستقرار والاطمئنان لها، لابد أن تبحث عن ذلك أولاً لشعبها، وأن تعرف أين وصل هذا الشّعب من وعي الذات، والحقّ، والكرامة، وماذا تغيّر في مستوى توجّهه وإرادته، واعتزازه بحريته، وإصراره على تحقيق ذاته، وأن تحترم عملاً المكانة المتقدّمة الجديدة التي صار يتبوأها، وأن تحمل احتراماً لإنسانية الإنسان أساساً ولا تتغافله. وذلك من أجل أن تحسن التعامل مع شعبها، ويمكن له أن يتعامل معها التعامل المقبول.
إن الاحتماء بتكديس الثروة لا يجدي، وإن الاحتماء ببطش القوة لا ينفع، وإن شراء مودّة الخارج لا يغني، وإنّ التوسل بالإعلام الزائف وبالأقلام المأجورة، والذّمم الرخيصة لا ينقذ. وكل ذلك وأضعاف مضاعفة من مثله وشبهه لا يقوم اليوم مقام رضى الشعوب ومودّتها بعد شدّة وعيها وإرادتها، وهذا الرضا والمودة لم يعد الالتفاف على الحقوق، والدعاية الإعلامية المكبّرة، والكلمات البرّاقة والشعارات المغرية الفارغة قادرة على تحقيقهما.
ما يحقق هذه المودة والثقة والرضى إنما هي مشاريع العدل على الأرض، والإنصافُ والمساواة عملاً، والاحترام المطبَّقُ لقضية الحقوق، والاعتراف بإنسانية النّاس وحريتهم وكرامتهم، وأنهم شركاء حاضرٍ ومستقبلٍ، وثروةٍ وسياسة، وأمن، وواجبات وحقوق.
نصيحتي للحكومة بأن تطلب مودة الشعب بتغيير سياستها وموقفها في التعامل معه، ومنطلقات هذا التعامل، والرؤية التي يقوم عليها، والأهداف التي يرمي إليها، والأخلاقية التي يعتمدها، وتعترفَ للناس بحقوقهم وترعاها، وترفع عنهم صوت العذاب، وتكِنّ لهم المحبة والمودة. ولن يكون تعامل الشعب معها إلا من جنس هذا التعامل حين يكون.
وأي حكومة تهتز علاقاتها مع الشعب الذي تنتمي إليه، ينعكس عليها ذلك بحالة من استضعاف الحكومات الأخرى الصغيرة والكبيرة لها، وسياسة الاستغلال والابتزاز التي تُمارَس من الدول معها.
احترام الداخل يعطي احتراماً في الخارج للحكومات، والتحصّن بالداخل تحصّنٌ ضد الخارج، والتقوّي بالداخل يعزّز الموقع في الخارج.
ومن نصح بظلم الشعب فقد غشّ، ومن أشار بعِداء الشعب فقد أضرّ، ومن لم يبدِ كلمة نصح صادقة فقد خذل.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا مالك القلوب جميعاً اهد قلوبنا، يارب الأحوال كلها أصلح أحوالنا، يا خبيراً بما تُضمِر الليالي والأيام اكفنا شرّ ما تأتي به، ولقِّنا خير ما فيها. اللهم انصرنا والمؤمنين والمؤمنات جميعاً نصراً لا يرتدُّ إلى هزيمة، وأعزنا بعزّ لا يتبدّل إلى ذلّ، وأبدلنا عن جهلنا علماً، وعن فقرنا غنى، وعن سقمنا صحة وعافية، وعن سخطك رضى، وعن طردك رحمة، واختم لنا بخير ختام.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(12).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – سورة العصر.
2 – 152/ آل عمران.
3 – 20/ الشورى.
4 – نصيبه قلّ أو كثر في مسافة زمنية هي عشرون سنة، مائة سنة، مائة وخمسون سنة، ثم شقاء بعد ذلك إلى الأبد.
5 – الدين قد يُعيَّر بأصحابه حين يُسيئون استعمال الدين.
6 – هذا الإنسان الخالد إلى الأرض يبتلي بهذا، تنقطع نظرته عن السماء، ينفصل عن الله تبارك وتعالى.
7 – حين ننظر إلى عالم المادة نظرة عميقة توصلنا إلى الله عز وجل، وحين تتمجد نظرتنا إلى عالم المادة على الشهوات والنزوات فإن النظرة تقطعنا عن الله عز وجل.
8 – 11، 12/ المطففين.
9 – 24/ الجاثية.
10 – وهذا الحصر يمثل حالة جزم نفسي قاطع.
11 – سورة الإخلاص.
12 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى