خطبة الجمعة (394) 27 صفر 1431هـ – 12 فبراير 2010م
مواضيع الخطبة:
*الدنيا في نظر الإسلام *النبي والرسول الخاتم *الثورة الإسلامية في إيران *تقرير هيومن رايتس ووتش
غادر الرسول صلّى الله عليه وآله حياة الأرض بعد أن ثبَّت أسساً وأقام واقعاً، ورسم منهجاً لو استقام عليه النّاس لوُقِيت الإنسانية الشر في مسيرتها الطويلة وغمرتها البركات.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا حقَّ كحقِّه، وكلُّ حقٍّ لأحدٍ من حقِّه، ولا يبلغُ حقّه شُكر، ولا تفي بإحسانه طاعة، ولا جزاءَ لمخلوقٍ عنده إلا بتفضّل، وهو خيرُ المحسنين، وأكرمُ المعطين، وأجودُ الأجودين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله شُكراً له، وتعلّقاً برحمته، وتطلُّعاً لجزائه، وطمعاً في قربه، وتعبيراً عن حبّه، ونيلاً لرضوانه.
وما من حياة رابحة بلا تقوى، ولا خاتمة محمودة بلا طاعة، ولا مصير يَكرُم به عبدٌ في بُعدٍ عن الله.
اللهم أعذنا من حياة العاصين، ومصير الطاغين، وارزقنا جهاد المتّقين، وعمل الصالحين، ونيّة المحسنين، والجنّة يوم الدّين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وصلّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد فإنّ الدّنيا تصغر لو اتُّخِذت هدفاً، وتكبر لو اعتُبِرت ممراً. إنها في نفسها هدف صغير لأنْ ليس لأحد سعادةٌ خالصةٌ فيها، ولا تبقى على حال، والحياةُ فيها منصرمة، والكوارث فيها قَدرٌ من قدر الله سبحانه.
وإذا اتُّخِذت معبراً إلى ما وعد الله عباده الصالحين من جنة ونعيم دائم، وسعادة لا تنقطع كانت الفرصة التي لا تعدِلها فرصة، والجولة التي لا تساويها جولة فنتيجتها فوق كلِّ النتائج، وعاقبتُها أربح من كلّ العواقب، وليس من هدف يطلبه الإنسان يعدل الهدف الذي تُوصِلُ إليه.
ولو كانت حياتنا هي حياة السنوات المحدودة على وجه الأرض، والمشوبةِ بألوانٍ من الألم والعذاب، والظُّلم والصراعات المرهقة ثم ننتهي إلى فناء دائم، وندخلُ ظلمةَ العدم الأبديّ المُطبق لكانت الآمال يائسة، والطموحات كاذبة، والجهود ضائعة، والسعي خائباً والرجاء واهماً، والحياة عابسة.
إنَّ ما يعطي الحياة على متاعبها وآلامها روعة ولذة، ويهب الإنسان الرضى إنما هو الآخرة، وموعود الله الجميلُ فيها.
وكلُّ دلائل المغروس الإنسانيّ ووجدانه الفطريّ، وأملِهِ في الخلود، وتطلُّعه البعيد، وتعلّقه بالسعادة، وانشداده للقيم العالية مما يشُحّ في الحياة الدنيا من العدل والإحسان وجوّ الصّفاء والوفاء والمحبّة الصادقة والمودّة، إلى جانب مقتضى الحِكمة الإلهية المشهودة للعقل، وما عليه الكون من هادفيةٍ تعمُّ كبيره وصغيره، ودقةٍ في الصنع، وتناسب بين كل مخلوق ودوره وهدفه وغايته، وما أجمعت عليه الرسالات السماوية من فكرة الآخرة لَتُؤكِّد حقيقة تلك الحياة، وتشدّد عليها، وتستثير في العاقل الاهتمام بها، والتوجُّهَ في حياته الدُّنيا إليها.
فاحتمال الآخرة عند من لم يُوفّق لليقين بها لا ينبغي في ضوء ما تقدّم إلا أن يكون كبيراً جدّاً.
وإذا انضمّ إلى ذلك ما عليه خطورة المُحْتَمَل مما سيقدم يُقدم عليه الإنسان والمردد بين عذاب دائم شديد غليظ لا تعرف الحياة الدنيا صورة مقاربة له، ونعيم مقيم لا ينقطع، وحياة سعيدة أبدية متصلة لم تشهد الدنيا مثيلاً للذائذها تّحتَّم على العاقل أن يكون هدفه الآخرة لا الدنيا، وسعيُه للباقية لا الفانية، وكلُّ منهج حياته على الأرض متّسِقاً مع الهدف البعيد. وليس رشيداً من أكبَّ على الأرض، وقَصَرَ اهتمامه على رغباتها، وانصرف إليها عن الآخرة حتى تأتيَه المفاجأة، ويُنادى أن امشِ إلى المصير المحتوم، فقد حلّ يومك الأخير، واللحظة الخاتمة، وهو عندئذ لا يملك امتناعاً، ولا يردُّ قضاء، ولا حيلةَ له في فِرار.
الحياة عند العاقل وفي نظر الدين لا للهو واللعب، ولا للخمول، ولا لذّة تذهب وتبعة تبقى وعذاب يدوم، وإنما الحياة لسباق العمل الصالح الباقي، وبناء الذّات الإيمانيّة المؤهلة لسعادة يوم الدين، وهي دار التزوّد للآخرة، وزمانُ الزرع لها.
وما ضُيّع الهدف الأخرويُّ في الدّنيا مهما عظُمت إنجازاتها، وجدّ التنافس فيها، واحتدم الصراع على ما فيها إلا وكانت لهواً ولعِباً، وليس أصدقَ من كتاب الله العزيز الحكيم وهو يقول:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(1)، {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(2)، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(3).
فعِلْمُ الإنسان وجهده واكتشافاته واختراعاته ونظرياته وتطويره للأوضاع وكل إنتاجه وإنجازاته لا تتجاوز بالحياة المفصولة عن هدف الآخرة حدَّ اللهو واللعب(4)، ولا تزيد على نبات أعجب زراعه وزرّاعاً غير زرّاعه باخضراره وزهوه وترعرعه إلا أنه سرعان ما صار إلى ذُبولٍ واصفرار وتفتُّت وهشيم. ولا يكفي زُراّع الدنيا للدنيا أن يخسروا ما زرعوا ويجدوه هشيماً، وإنّما لهم بما نسُوا اليومَ الآخِرَ في الآخرة عذاب شديد.
إذاً حين يفصل أيُّ فكرٍ حضاري، وأيُّ منهج، وأيُّ حكم وأيُّ سياسة، وأي حزب أو جماعة قضية الدنيا عن هم الآخرة وهدفها إنّما يُحوّل الدنيا إلى حياة تافهة حقيرة مضرة مضطربة مرهقة ساقطة مشينة وهذا ما يتحدث عنه وعيُ الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:”… دنياكم هذه أزهد عندي من عطفة عنز”(5). وفي كلمة أخرى هي أهون عنده “من ورقة في فم جرادة تقضمها”(6) وينأى عليه السلام بنفسه بعيداً متجافياً عن دنيا تتخذ لهواً ولعباً وسباقاً على الشهوات حين يقول “ما لعلي ونعيم يفنى”(7). أمغرور علي، أغافل علي؟! أصغير علي؟! أفاقد للوعي علي حتى تستهويه الدّنيا؟! عليٌّ كله وعي، وكلّه عقل، وكلّه حكمة، فكيف تغرّه الدنيا الزائلة؟!.
والأخذ بالدنيا بعيداً عن خطّ الآخرة كما عليه حضارة المادّة يربكها، ويقلق علاقاتها، ويشقيها، ويتعب غنيّها وفقيرها، ويجعلها جولات من الصراع الدامي، والاقتتال المدمّر، وساحات للأزمات المقيمة، والمشكلات الطاحنة.
بعيداً عن هدف الآخرة، وعن القيم الإلهية، دنيا البيت الواحد دنيا صراع مرير، ودنيا القرية الواحدة دنيا صراع مرير، ودنيا المجتمع كلّه، والبشرية كلّها دنيا صراع مرير مرهق مدمّر.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وجيراننا ولكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، ولعموم المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات.
اللهم اجعل حياتنا حياة الصالحين، ومماتنا مماتهم، ومبعثنا مبعثهم، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي العظيم، العزيز القدير، المالك القاهر، الذي ذلَّت لقدرته الصِّعاب، وتسبّبت بلطفه الأسباب، وخضعت لسلطانه الرّقاب، واستجابت الأشياء مقهورة لإرادته، وجرت في كل الأمور حسب مشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله قبل أن تُعاجَل نفس فيخرجَ من يدها أمرها ولا تستطيعَ له رداً، ولا لما فرّطت من أيامها واكتسبت من سوء تداركاً. ولننظر إلى أنفسنا عبيداً مملوكين للخالق المدبّر الرازق، ولا يستغفلنا الشيطان فننظر إلى أنفسنا أحراراً طُلقاء، أو سائبة مهملين. ولقد ثبت التكليف من السيد المالك الحكيم القادر القاهر فويل لنا من الإهمال والتضييع فضلاً عن العناد والمكابرة، والاستكبار، والاستعلاء، وإن الوعيد لشديد، والمتوعِّدُ ليس كمثله قاهر.
اللهم إنا نسألك خير ما سألك عبادك الصالحون، ونعوذ بك مما استعاذ منه عبادك المخلصون. ربنا ارحمنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات وخذ بيدنا جميعاً إلى أقرب الطرق إليك، وأسلكها إلى رضوانك، واغفر لنا ولهم ولآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وارضَ عنا بلطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى الصادق الأمين محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد فهذه بعض كلمات:
النبي والرسول الخاتم:
هو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله الذي لا نبيّ ولا رسول من الله بعده. جاء والناس في جاهلية عمياء شاملة ضاربة في الفكر والروح والنّفس، وفي كلّ ميادين الحياة، وتُوفّي وقد أخرج أمة من الظلمات إلى النور، ووضعها على طريق التمام والنضج الكامل، وترك لها من المقوّمات ما تقود به حركة الحياة العالمية في الأرض في جميع مساراتها بكفاءة تامة وإخلاص وأمانة بالغة إلى شاطئ الأمان، مخلّفاً فيها كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإماماً هادياً لا يفترق مع كتاب الله قيد شعرة، ولا يخطئ هديه أبدا، ونخبة كريمة من الرجال الصالحين الذين لا يخونون أمانة الرسالة، ولا يستبدلون عنها، وشوقاً عاماً للإسلام، وتجربة حياتية ناجحة في ضوئه لا تُنسى، وسنة هادية دالة على الله، وعلى الطريق الناجح للحياة، وسبل التطور الإيجابي الكريم، وسيرة عملية من الصدق والطهر والنزاهة والوفاء، والأمانة والإخلاص، والعفة، والنجدة، والشجاعة والإباء والتواضع دالة على صدق الرسالة والرسول صلّى الله عليه وآله، قادرة على تزويد الأمة والإنسانية في كل أجيالها بالدروس الحيّة العملية المشرقة المربية، وهكذا كانت سيرة أهل بيته من بعده حجة قائمة على الأمة، ودليلاً هادياً لها، ومدرسة رسالية لا ينضب عطاؤها.
الرسول وأهل بيته عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام بنوا دنيا الناس بدنياهم، وبالغوا في التضحية في سبيل الله، وإنقاذ الإنسان من جاهلية الكفر والضلال والانغماس في الشهوات، وتحمّلوا أكبر الأذى في الحفاظ على نقاء الدين، وصدق الرسالة، وطهارة خطّ الإيمان، وقدّموا الدروس المتتالية في التفوّق والاستعلاء على سحر الدنيا، وجاذبية المناصب مبرهنين عمليا على أن الإسلام إذا صدق في نفس إنسان أو في حياة جماعة أو أمة لا يهزمه المال ولا المنصب والشهرة ولا كل إغراءات الدنيا لو اجتمعت، ولا تفصِل عنه الشدائد والكوارث والتحديات والأزمات.
الدّنيا لم تنل من هم الآخرة في نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله والصادقين من أهل بيته عليه وعليهم السلام شيئاً وقد ضربوا المثل الأعلى في أن هم الآخرة وشوقها لا تقاومه إذا صدق كل شهوات الدنيا.
وكان لابد في الرسول صلى الله عليه وآله وقادة الدين الحقيقيين من بعده أن يصدق فيهم الدّين، وأن يصدقوا مع الدين، وأن تقدّمه سيرتهم العملية ومواقفهم اليومية للناس على واقعه وضّاءَ، شفّافاً، نزيها، قويا، قادرا، غلاّباً، صادقا، متفوّقا، وإلا لم يكونوا الأئمة والقادة، ولما أمكن أن تصل رسالة الدِّين للناس صادقة مصدّقة.
صار مال التجارة العريضة لخديجة رضي الله عنها وأرضاها في تصرف الرسول صلّى الله عليه وآله، وكان يمكن أن يكون جسره للدّنيا ولكنه أنفقه في سبيل الله، وعرضت عليه قريش المال والجمال والمنصب إلا أن ذلك وما هو أكبر منه وأعظم من كل إمكانات قريش لا يمكن أن يصرف القلب المولع بربه العظيم عن التعلق بجلاله وجماله وكماله رغم الصعوبة على طريق الصعود.
وكان صلّى الله عليه وآله الحاكم، فما فارق حياة الزهد والتقشّف والاستيحاش من الدنيا، ونظرة الازدراء إلى شهواتها.
وكما اختار التجافي بنفسه عن زخارف الحياة كان خياره لأشد المقرّبين منه ابن عمّه وكريمته الطاهرة والحسنين عليهم السلام جميعاً هو نفس الخيار.
ومن فقرات ما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصف أحوال الرسول صلّى الله عليه وآله:”ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يأكل على الأرض، ويجلس جِلْسة العبد ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة – لإحدى أزواجه – غيّبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها(8)، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن يغيّب زينتها عن عينه(9)…. إلخ”(10).
وقد غادر الرسول صلّى الله عليه وآله حياة الأرض بعد أن ثبَّت أسساً وأقام واقعاً، ورسم منهجاً لو استقام عليه النّاس لوُقِيت الإنسانية الشر في مسيرتها الطويلة وغمرتها البركات.
وإذا بقي في الأرض إلى اليوم من الضوابط الخلقية والقيم الضرورية ما منع الفوضى الشاملة التي تذهب ببنية المجتمعات فإن لجهود الإسلام ورسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام قدرا كبيرا من ذلك، فإنّه لم يبق من دين من الأديان السماوية الحقيقية قدر محفوظ من صورته الأصلية ما بقي من الإسلام، ومن إضاءاته ما يتمتّع هذا الدين.
الثورة الإسلامية في إيران:
الثورة الإسلامية المظفّرة على يد الإمام الخميني (رض) في إيران، وسحقُه للوجود الاستكباري الجاهلي فيها وإقامة الدولة المباركة كان فيها عودة كبيرة للحضور الإسلامي في الساحة المحلية للثورة والدولة وما حولها وفي العالم. وأكبر انتصار للأمة وللإنسانية أن تشهد حضور الإسلام في واقعها، وتهتدي إليه، وتأخذ به.
وإن الأمة كلّ الأمة لمسؤولة أن تحافظ على هذا النصر لأنه نصرها، وأن تحرسه وتذود عنه لأن في بقائه عزّاً لها ومكانة وقوّة، وهو باب خيرٍ ونهضة وبركة فتحه الله عليها لا يجوز لها التفريط في شأنه والإهمال لمسؤوليته.
أما الموقف من التهديد الاستكباري لأي دولة من دول العالم الإسلامي فالواجب الشرعي الصريح أن تنظر إليه الأمة بكامل حكوماتها وشعوبها على أنه تهديد لكل وجودها ولأي شبر من الأرض التي تقيم عليها، وأن تقف في وجهه بكل ما أوتيت من قوة حماية لنفسها ودينها وكرامتها. وهذا هو التعامل الذي تتعامله كل الأمم والكيانات المشتركة مع أي تهديد يأتيها من الخارج ولو لجزء منها.
وإنّ قوة أي بلد إسلامي يجب أن تكون قوة داعمة لحقّ الأمة ولوجودها الكامل، ولا يُساء استعمالها بأن يتوجّه منها أي ضرر لأي بلد إسلامي آخر، ولا أن تكون للعدوان الغاشم على أي بلد في العالم، وهكذا يلتزم البلد الإسلامي الحق.
هذا ما نفهمه بكل وضوح وجلاء من الإسلام الذي يتحتّم على الأمة أن لا يكون لها خيار في التعامل مع كل القضايا غيرُه.
تقرير هيومن رايتس ووتش:
العنوان عن التعذيب في سجون البحرين على لسان مسؤول المنظمة نائب مدير عام قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تقريرها عن البحرين “التعذيب يُبعث من جديد”، ومن الكلمات المنقولة في الصحافة عن التقرير “إحياء سياسة الإكراه الجسماني أثناء الاستجواب في البحرين”. واستند التقرير إلى مصادر صرّح بها، ومنها وثائق رسمية وتقارير طبية، وأقوال منسجمة تحاشت قبول التزيد والمبالغة في أمر التعذيب مما صرح به عدد ممن كانوا متعقلين بالإضافة إلى شهادات من محامين وصحافيين.
ويحاول أن يكون التقرير متوازناً غير متحامل على الجهاز الأمني والداخلية والحكومة حيث يقول:”أنه منذ مطلع القرن الحالي بيّنت البحرين للعالم أنه بالإرادة السياسية يمكن وقف التعذيب، وهو ما كان جليّاً – كما يقول التقرير – في الفترة ما بين العامين 2001 – 2006 إذ يتبين أنه كان هناك قضايا حقوقية جديّة ولكن لم يكن التعذيب جزءاً “منها” فهو إذ يعترف بوجود قضايا حقوقية مضيّعة في تلك الفترة إلا أنه نفى أن تكون هناك ممارسة للتعذيب في الفترة نفسها أي ما بين 2001 – 2006.
وهذا من التقرير محاولة أن يأخذ الصفة الموضوعية بعيداً عن التزيّدات.
وقال:”لا يمكن القول إن البحرين عادت إلى المربع الأول، ولكن حين نتحدث عن عودة التعذيب فإن هناك قضايا جديّة بهذا الشأن إضافة إلى تاريخ البحرين في قضايا التعذيب قبل 2001″.
فهو وإن نفى بأن تكون الصورة قد عادت كما كانت شنيعة جدا في نظره، إلا أنه يقرّ تماماً بأن التعذيب قائم الآن على قدم وساق، وعلى مستوى خطير.
فلغة التقرير وطريقته لا يظهر منها التحامل على الحكومة؛ وهو تحامل ليست له دواع معقولة؛ فالتقرير على هذا موضوعي فيما أكده من العمل بمنهجة التعذيب لانتزاع الاعترافات، كما جاء في كلمة الرجل الثاني في المقابلة الصحفية عن هذا التقرير:”من أن التعذيب الذي مورس ضد المعتقلين السابقين هو تعذيب منهجي ومن غير المعروف أسباب استخدام الحكومة لهذه الأساليب”.
وإذا كانت القوانين كما ذكرت الداخلية تمنع التعذيب تبعاً للدستور فإن جريمة التعذيب تكون مضاعفة حيث أن هذا التعذيب ظلم حرام شرعاً من جهة، وممنوع قانونا من جهة أخرى، وفيه امتهان لكرامة الإنسان، وإساءة لنظام الحكم. فيجب أن لا يفلت المعذّبون من العقوبة المستحقة.
وتنقل الصحافة لوزير الداخلية هذه الكلمة”فحجم العمل الأمني الصحيح والقانوني أكبر بكثير من تلك التجاوزات الفردية التي قد تصدر من بعض رجال الأمن” والكلمة لا تنفي وجود تجاوزات وتعذيب داخل المعتقلات يحدث على خلاف القانون.
وإذا كانت المنظمة الحقوقية صاحبة التقرير يهمّها شأن التعذيب في معتقلات البحرين فهذا الأمر يهم شعب البحرين وكل رجالاته بدرجة أكبر وأشد، وإذا كانت المنظمة لها توصياتها للحكومة في هذا المجال فهذه التوصيات عندنا مطالب لا بد منها.
فلا بد من تحقيق حيادي عادل مع المعذّبين ينتهي إلى توقيع العقوبة المستحقة.
ومن التحرك الجاد من قبل الوزارة والحكومة لوقف التعذيب الممنهج وكل تعذيب آخر.
ومن جبر الضرر الذي لحق بضحايا التعذيب وإنصافهم.
ولا يُدرى ما قيمة استئناف قضية المبرّئين من أبناء كرزكان واستمرار محاكمة أبناء المعامير مثلا بعد مثل هذا التقرير وإن لم يكشف عن جديد؟!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا فارج الهم والغم يا رحمن الدنيا والآخرة صلّ على محمد وآل محمد واكشف هم المهمومين، وكرب المكروبين، وغم المغمومين من عبادك المؤمنين والمؤمنات، وردّ عنهم كلّ سوء، وادفع كل ظلم، وادرأ كل خطر، واحم ديار المسلمين من كل غائلة، وانتصر لدينك وأوليائك يا قوي يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(11).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 32/ الأنعام.
2 – 64/ العنكبوت.
3 – 20/ الحديد.
4 – كلّ هذه الجولات الجديّة، وكل الساحات المحتدمة بالصراع اللاهب، وكل الإنجازات لا تُعطي الحياة المفصولة عن هدف الآخرة صفة الجدّ، إنه هزل ولعب ولهو كما يقول الله تبارك وتعالى.
5 – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص202.
6 – بحار الأنوار ج41 ص162.
7 – بحار الأنوار ج40 ص348.
8 – هذا ذكر يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله. لا ينال من نفسه، ولا يضر بدينه، ولكنّه يؤذيه.
9 – لا تملك الدنيا في نفسه قدراً، وفوق ذلك أنّه لا يحب أن يحطّ بباصرته الحسية على شيء من الدنيا مما يغري أهلها.
10 – بحار الأنوار ج16 ص285.
11 – 90/ النحل.