خطبة الجمعة (344) 8 ذو القعدة 1429هـ – 7 نوفمبر 2008م
مواضيع الخطبة:
*التجارة مع الله *الانتخابات الأمريكية دلالات ودروس
المشاركة الواسعة واختيار أوباما إنما هو تجربة من التجارب التي تبحث عن النجاة من غَرَقٍ جارف تتسبب فيه الفلسفة المادية للحياة وغياب القيم والقيادات المتعطّشة للدم والنهب والسلب والظلم.
الخطبة الأولى
الحمد لله مالك العقول وهداها وضلالِها، والأرواح ونورها وظلمتها، والقلوب واستقامتها وزيغها، والنفوس وتقواها وفجورها، ولا هادي لمن أضلَّ، ولا مضلّ لمن هدى، تقدّس عن الظلم والقبيح، وإنّما شأنه العدل والإحسان، والتفضّل والامتنان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وإنما يَتقي اللهَ القلب العارف، والنفُس المهتدية لما تعنيه معرفة القلب من رؤية لعظمة من عظمة الله سبحانه، وجلالٍ من جلاله، وجمال من جماله، ولحقٍّ من حقِّه، ولما يعنيه اهتداء النفس من الأخذ بالحقّ، والانسياق وراءه، والتعلّق به، والتسليم له، ومتابعته. ولكل من التقوى والفجور على صاحبهما آثار لا تخفى، وإنّ التخفيَّ بها لمغلوبٌ لها لهيمنتها على الشخص فلا بد لها من ظهور، ولا يمكن أن تظل تحت السطح دائما لا تراها العيون، ولا يشعرُ بها الآخر.
اللهم اهدنا بهداك، وارزقنا تقواك، وصادق طاعتك، ولذيذَ مناجاتك، وجميل ذكرك، وواسع مغرفتك، وكامل عفوك، ومزيداً من كرامتك، وجزيلاً من ثوابك. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات، ولكل مؤمن ومؤمنة، ولكل مسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
التجارة مع الله:
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الكرام فإن الإنسان مجبول على طلب خيره، ونظره متّجه دائماً إلى تحقيق ما يراه مصلحة له، وإن أخطأ في تصوّر الخير، وَجَانَبَ الحقيقة فيما اعتقد أنه المصلحة.
ولا ينبغي لمن آمن بالله أن يخطئ التصور، ويجانب الحقيقة، أو يصاب بالحيرة والتردد في ما دل الله عليه من خير أو شر، ومصلحة أو مفسدة، وما هو خير، وما هو أكثر منه خيرا، وما دلّ عليه من مواطن الربح والخسارة، وما هو خير تجارة على الإطلاق.
وإن لنا لعمراً يجري مجرى الليل والنهار إلى نهايته وضعناه في ضارٍّ، أو نافع، أو أهملناه، وخير ما نفعل بأنفسنا أن ننفق العمر في ما هو أكثر نفعاً، وأطول بقاء بل لا يفنى، وذلك أن نشتري بالعمر الآخرة على أن ذلك مصلح للدنيا لا مفسد لها، ومنشّط للحركة الصالحة فيها لا معطّل لها، وموفّر للهناءة فيها لا ذاهب بها.
وهذه وقفة يسيرة مع نصوص تدفع لتجارة الآخرة، وطلب ربحها، والفوز بنعيمها المقيم، وما أُعدّ لمن عمل لها من خير عظيم لا ينفد.
وتجارة الآخرة مضمونة الربح، مأمونة الخسارة، خالية من عنصر المغامرة، بعيدة عن احتمال المخاطرة، ولها ربح فوق التصور، يسمو على التطلّع، ويتجاوز الرغبة؛ كل رغبة خير عند هذا الإنسان.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}(1).
وهذه التجارة رأس مالها من الله سبحانه، لا من العبد، فما من شيء بيد العبد إلا وهو من الله ولله، ودور العبد فيها أن يحسن التصرف في نعم ربّه لمصلحة نفسه ومصلحة مجتمعه، وقد ذكرت الآيتان الكريمتان ضمانات من الله الكريم لعبده في هذه التجارة معه:-
أ- أنها تجارة لا خسارة فيها على العبد أبداً {لَّن تَبُورَ}. ولن تأبيدية.
ب- أن أرباحها لا تضيع، ولا تنثلم {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ}.
ج- أن الثمن من الله سبحانه فوق الموعود الأولي، وزيادته مفتوحة {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} وفضل الله غير محدود.
د- للعبد في هذه التجارة هفوات، والهفوة أمرها مغفور، وعمله الصالح قليل، والقليل من هذا العمل عند الله مشكور، وشكر الله عظيم. يقول سبحانه في آخر الآية الثانية {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
وهذه جملة من الأحاديث عن المعصومين عليهم السلام:
“قال ابن مسعود بأبي أنت وأمي يا رسول الله: كيف لي بتجارة الآخرة؟(2) فقال: لا تريحن لسانك عن ذكر الله، وذلك أن تقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر)(3) فهذه التجارة المربحة، يقول الله تعالى عنها {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ}”(4).
تجارة الآخرة هي تجارة المنظور فيها ربح الآخرة ونعيمها، ماذا تعني تجارة الآخرة؟ أن يكون المنظور في العمل، في الموقف، في الكلمة، في الصداقة، في العداوة ربح الآخرة، وليس الدنيا.
وذكر العبد ربّه ثمن من الأثمان التي يُطلب بها ذلك الربح، وذكر الله عزّ وجلّ هو رأس مال في هذا النوع من التجارة. لا تحتاج إلى وراثة أموال، ولا تحتاج إلى جهد جهيد لتتوفر على رأس مال من هذا النوع.
ولكل مستويات الذكر المَرْضِيّ ربح كريم مذخور للعبد، والربح الذي لا يعدله ربح في ذكر يحياه القلب، وتشع به الروح، وتخشع له النفس، ويجري به اللسان، وتستكين له الجوارح. وهو ذكر يرتفع بمستوى النفس، ويمدّها بالصفاء والطهر والهدى والاطمئنان والفضيلة، وله من نتائج الدنيا والآخرة العالية الكريمة ما تعجز عنه أثمان كثيرة ثقيلة. وهو ذكر لو عاشته النفوس لصحح كل الأوضاع، وحلّ كل الأزمات.
وكلّ تجارات الدنيا يُحتمل فيها الربح والخسارة، أما تجارة الآخرة فهي دائما ربحها مضمون. والمقوّم لتجارة الآخرة أمران: أن يكون العمل صالحا، وأن تكون النية طاهرة خالصة لوجه الله الكريم.
نقرأ من هذه الأحاديث:
“كلّما أبصرته بعينك واستحلاه قلبك فاجعله لله فذلك تجارة الآخرة لأن الله يقول:{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ}(5)”(6).
ليس أولى من الآخرة بالبذل السخي ولما هو الأغلى مما يملك الإنسان، ويعظّم الدين من بذل ما غلى في سبيله، ويصغِّره من اختصّ الدنيا بما اشتهى، وكان بذله للآخرة لما هو مزهود في نفسه. وما أحسن صنعاً بنفسه من فعل ذلك، من أعطى الغالي للدنيا والرخيص للآخرة، التمرة التي دخلها السوس للضيف الفقير، والتمرة المختارة للضيف الغني، أو حتّى للنفس. نعم ما أحسن صنعاً بنفسه من فعل ذلك، لأن ماللآخرة له جزاؤه عند الله، وما عند الله لا ينفد، وما كان لغير الله والآخرة فإنما هو إلى ضياع وذهاب. فمالي ولك إن كنت مثلي نسخو على الدنيا ونبخل على الآخرة؟! نعطي أعزّ ساعاتنا للدنيا وأخسّها للآخرة، نبذل التفكير العميق في قضايا الدنيا ونتسطح في التفكير في الآخرة؟! ما لنا من مال، ما لنا من جاه، ما لنا من خير من عند الله عز وجل نُوظِّفُهُ للدنيا ونشحّ به على الآخرة؟!
الحديث الآخر:
“تاجر الدنيا مخاطر بنفسه وماله، وتاجر الآخرة غانم رابح، وأول ربحه نفسه ثم جنة المأوى”(7).
مخاطر بنفسه فقد تجرّه تجارة الدنيا إلى بيع نفسه بها وفي أثنائها ويؤول أمره إلى النّار، وهو مخاطر بماله إذ لا ضمان دائما يمنع من خسارة ذلك المال.
أما تاجر الآخرة فأكبر ما يربحه نفسه شرفها، سموُّها، انفتاحها على الله، تجاوزها لحدود المادة، احتفاظه بالفطرة التي كرمت بها تلك النفس، ونفسك أغلى من جنّة المادة التي تتوقعها، فقُدّمت النفس ثمّ جاء ذكر الجنّة. سلامة النفس، بقاء إنسانية الإنسان، هذا الضمير الطاهر، هذا الوجدان اللألاء، هذا الفكر النيّر الثاقب، هذه الأشواق الحارّة المتصلة بالكمال الإلهي هي أكبر من حور عين، ومن رياض وأنهار.
فالحديث يقول “وأول ربحه نفسه” وليس المقصود هنا الترتّب الزماني، إنما هذا الترتب ترتّب منزلة ومقام. ثمّ إنه من لم يربح نفسه لم يربح الجنّة. وربح الجنّة إنما هو بمقدار ربح النفس، فإن الجنة منازل متفاوتة، والنفوس الكبيرة عند الله لها المنازل الكبيرة، وما صغر نسبيّاً من النفوس صغرت منزلته في الجنة.
“يا أبا ذر(8) يقول الله جلّ ثناؤه: وعزتي وجلالي لا يؤثر عبدي هواي على هواه إلاّ جعلت غناه في نفسه وهمومه في آخرته وضمَّنتُ السماوات والأرض رزقه وكففت عليه ضيعته(9)، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر”(10).
الحديث يستوقف كثيراً والوقت ليس بذلك المقدار لكنها الوقفة المستعجلة:-
“هواي على هواه” إرادة الله هي إرادة حكمة، علم، لطف، رحمة، عدل، إحسان، لطف، فضل، ولكن للمجاراة اللفظيَّة جاء تعبير “هواي” في مقابلة هوى العبد، والمقصود تلك الإرادة الإلهية التي لا تعدل عن العدل إلا إلى الإحسان، ولا يشوبها جهل أو ما يشبه الجهل، ومن قدّم هوى الله عز وجل بمعنى إرادته الحكيمة العلية العادلة فإنما يُقدم العلم والحكمة والرحمة واللطف والهدى والدقّة على هوى النفس، شهواتها، رغباتها.
“غناه في نفسه” أن يعطي اللهُ عز وجل لهذه النفس شأنا تكبر به على الدنيا، حتى إذا جاءها همّ، إنما يأتيها للآخرة وليس للدنيا لأن الدنيا شأنها صغير عند النفوس الكبيرة.
“وضمَّنت السماوات والأرض رزقه” وهل تضيق السماوات والأرض وقد ضمنت رزق إنسان عن رزقه؟! وكيف يضيق على هذا الإنسان رزقُه وقد ضُمّن هذا الرزق كلّ السماوات والأرض، وكان الله عز وجل لهذا العبد المقدّم لهوى الله على هواه وراء تجارة كل تاجر؟!
“كففت عليه ضيعته” الكلمة إمَّا بمعنى جمعت ووفرت له كل ما يريحه من رزقه، وسهّلت عليه أصول الرزق وفتحت له أبوابه، وإمَّا بمعنى أن الله عز وجل يمنع عن هذا العبد حالة الضياع والشتات والخسارة في الأهل والمال….
اللهم صل على محمد وآل محمد، وزدهم تحية مباركة وسلاما وشأنا كريما عندك يا كريم. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اعمر دنيانا، ولا تجعل في إعمارها خراب آخرتنا، واجعلنا ممن يطلبون الآخرة بالدنيا، ولا تجعلنا ممن يطلب الدنيا بالآخرة، وممن يبيع نفسه برضوانك والجنّة، لا ممن يبيعها بما هو دون.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينقضي ملكه، ولا ينتهي سلطانه، ولا يضاده مضاد، ولا ينازعه منازع، ولا يُهدَّد له من متهدِّد مُلْك، ولا يُتوعّدُ من متوعّد سلطان، وكيف يهدّد له ملك، وكلّ شيء مملوك له وتحت قدرته؟! وكيف يتوعد له سلطانٌ ولا شيء خارج سلطانه، ولا شيء إلاّ ووجوده به، ومدده منه، وقائم بأمره، ومنتهاه بيده؟!
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، وتذكّر رقابته التي لا تغيب في ليل أو نهار، وعلمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض، وقدرته علينا، وملكه لنا، وشدّة أخذه لمن تكبّر وطغى، وأدبر وتولّى، وكان الشيطان وليَّه، وله مودتُه ونصرتُه، واستجابتُه وطاعته.
والحياة سعة وضيق، وشدة ورخاء، وسراء وضراء وفي كل ذلك قد يستخفُّ الإنسانَ الشيطان، وتغلُبُه منه غوايتُه، وينحدر به عن الصراط إلى مهوى سحيق، ولا يعصم الإنسان أمام إغراء الرخاء والسرّاء، وضغط الشدّة والضراء إلا أن يذكر الله وعظمته، ومننه وآلاءه، ومثوبته وعقوبته، وقدرته التي لا تقاوم، وإرادته التي لا تُسابق، وبطشه الذي لا يُطاق.
اللهم هب لنا حبّاً لك يعصمنا من مخالفتك، وخوفاً من عدلك وقدرتك يحول بيننا وبين معصيتك، وطمعاً في مرضاتك تدوم لنا به طاعتُك، وإخلاصاً لك نكون به من أهل قربك وكرامتك، واغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وقراباتنا وأصحابنا ومن كل له حق خاص علينا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين. واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قريبا دائما ثابتا.
أما بعد أيها الجمع المؤمن المبارك فقد اخترت هذا العنوان لحديث هذا اليوم:
الانتخابات الأمريكية دلالات ودروس:
1- الواقع يتحدّث:
أ- عن اهتمام عالمي رسميٍّ وشعبيٍّ من المشفق على بوش وسياسته، من المعادي لبوش وسياسته، ومن كان على خطّ بوش من مثل جون ماكين.
ب- والموضوعات الانتخابية في أمريكا مطروحة على نحو متعدد: مطلوب انتخاب أعضاء برلمان، أعضاء لمجلس الشيوخ، رؤوساء ولايات، من يملأ كرسي الرئاسة العام للولايات المتحدة.
ج- مشاركة انتخابية مكثّفة لم تشهدها أمريكا منذ طويل.
د- بيض من رجال ونساء يصوتون لرجل أسود متحدّر من أفريقيا ومن أصل مسلم وإن كان هو مسيحيا في نفسه.
ه- نسبة نجاح عاليا جدّا لأبوما الأسود في جوٍّ عاش العنصرية المقيتة على مدى طويل.
دلالات:
أ- لماذا الاهتمام الأمريكي، والعالمي بتلك الانتخابات؟
إنها مسألة الإمامة بعد أن يذوق الناس حلوَها أو مرَّها، ويرون أن من آثارها الضارة أو النافعة ما يدهش. والإمامة مرة تكون إمامة بلد صغير، فقير، ضعيف، مهمل، لا تأثير له. ومرة تكون إمامة بلد كبير، غني، قوي، مؤثّر في الوسط العالمي.
هناك إمامة شعب، وإمامة أمة، وإمامة عالم.
إمامة أربع سنوات، إمامة عشر سنوات، إمامة مطلقة من حيث الزمن.
مرة تكون الإمامة إمامة دنيا، وأخرى تكون إمامة دين، ثالثة تكون إمامة دين ودنيا معاً.
مرة يكون الرجل المختار للإمامة عليه أن يقود المحيط الذي اختُير له إماماً على مسار أطروحة سطحية، لا تحتاج في شأنها إلى عناء كثير، ولا تفرض تربية نفسيّة عالية، ولا تربية روحية مشعّة، ومرة تكون الأطروحة أطروحة عميقة في كل الأبعاد، وكبيرة في كل الأبعاد، وتتطلب فهما عاليا، وروحية متميّزة، ونفسا طاهرة قادرة.
والإمامة في الإسلام أوسع وأعمق وأثقل إمامة وزنا على الإطلاق.
وفي أمريكا كان الطرفان كلٌّ يحبس أنفاسه، الطامعون في بوش أو في خليفة من نوع بوش (جون ماكين) كانوا يحبسون أنفاسهم ويخافون أن تتحول الأمور بتحوّل الإمام (خطّ الإمامة).
وأصحاب الرجل الأسود وكثير من المستضعفين في العالم بدافع تصوراتهم الخاصة وأملهم في التغيير النافع يحبسون أنفاسهم خوفا من أن يقفز على كرسيّ أمريكا جون ماكين، وأن يستمر خطّ السياسة الأمريكية الجائرة الذي ينشر الفساد في الأرض على ما كان.
فكانت أمريكا، وكان العالم في نظر أولئك كلهم على كفّ عفريت، لأن الإمامة قد تكون من نصيب كفّ عفريت. وحاشا الله في النظر الذي نراه صائبا أن يترك أمر دين الناس بالكامل، ودنياهم لاحتمالات يحكمها كفّ عفريت. هذا باختصار.
2- ماذا وراء المشاركة الواسعة، واختيار أوباما؟
أ- واضح أن وراء ذلك ظهور النتائج الوخيمة المدمّرة للسياسات الطائشة التي تعتمد أسلوب الحروب العدوانية والإرهاب ودعم الأنظمة الديكتاتورية الموالية، وتععوّل في تشييد الاقتصاد المحلي على نهب ثروات العالم الذي لا يمكن أن يصبر على هذا طويلاً.
والمشاركة الواسعة واختيار أوباما إنما هو تجربة من التجارب التي تبحث عن النجاة من غَرَقٍ جارف تتسبب فيه الفلسفة المادية للحياة وغياب القيم والقيادات المتعطّشة للدم والنهب والسلب والظلم.
نعم، إن الناس في كل مكان يبحثون عن عدل، عن سلام، عن إنقاذ، عن إنسانية، عن قيادة متزنة.
مرة يتعلقون بهذه الخشبة، وأخرى يتعلقون بتلك الخشبة طلباً للنجاة، ولو أمَّلوا في قشة ما لاستمسكوا بها.
ب- وهذا نموذج عملي صارخ، ولسان ناطق بليغ بأن الناس في انتظار يوم العدل الإلهي الذي يعمّ الأرض، ويأخذ بالحركة في هذه الحياة إلى خطِّ الله سبحانه وتعالى خطّ العدل والكرامة والإحسان.
الناس متعطّشون للمنقذ، والمخلص، وإن كان بعضهم عرف من هو من دين الله، وبعضهم بعدُ لم يعرف.
ج- يبرهن النجاح الساحق لأوباما على أن العالم مستعد أن ينسى كل الفواصل الجغرافية والقومية والعنصرية من أجل نجاته ورفاهه وأمانه وشرف إنسانيته وسعادة حاضره ومصيره، وأن يكفر بكل هذه الأوثان التي ركّزت الجاهلية عبادتها في نفوس الأكثرية من أبنائه إذا عرف نظاماً عالميّاً عادلاً صادقا، وقيادة مؤمونة رشيدة تنشد سعادة كل الأقوام والأمم، وهذا النظام إنما يقدّمه الإسلام، وهذه القيادة لابد أن تكون من النمط الرباني الصادق.
د- المشهد الانتخابي الأمريكي العام وفوز أوباما بهذه الدرجة من الأصوات هو تعبير عن غضبة قاسية على النظام السياسي الذي تلاعب بمصالح أمريكا والعالم وبكرامة الإنسان، ولو لم تكن في أمريكا أجواء ديموقراطية تسمح بهذا اللون من التعبير عن السخط العارم، وتفتح باب الخروج من الأزمات عن طريق صناديق الاقتراع لآل أمر أمريكا إلى بحور من الدم القاني طلبا للخلاص.
ما كانت أمريكا مع استمرار سياسة بوش، وانسداد الطريق طويلاً أمام التخلص من سياسة إلاَّ على باب فتنة عامّة تفرضها الأوضاع القاسية الجائرة، والجاهلية المتعجرفة التي كانت ترتكبها السياسة الأمريكية.
ه- إذا خسرنا الإسلام وحاكميته المنقذة العادلة وهو الحل الأمثل لمشكلات الأرض والإنسان فلنا أن نغبط الشعب الأمريكي الذي يستطيع من خلال صلاحياته الديموقراطية أن يسقط رأس الدولة التي يسميها الناس بالدولة العظمى وإن كان عبر جهد مضنٍ متواصل غير مضمون، وصراع انتخابي جاد متعب في حين أن أكثر شعوب أمتنا العزيزة حتى ممن ترفع حكوماتهم شعارات الديموقراطية هزلاً ليس لهم أي يسقطوا وزيراً متآمراً على وحدة وطنهم ومصلحته، ولا حتى وكيل وزارة، ولا أن ينقذوا المساحات الشاسعة من أرض بعض أوطانهم الصغيرة والتي تمثل حاجة لسد ضرورات الناس من نهب المتسلطين والمتنفذين في هذه البلدان، ولا أن ينقذوا مشروعاً إسكانيّاً ضرورياً من السرقة والتغييب والاختطاف.
و- لا يمكن الحكم لأوباما أو عليه مبكرا في سياسته الخارجية وهل ستأخذ بالتهور أو الاعتدال، وتقترب من رعاية حقوق الشعوب المقهورة أو تساند الحكومات الجائرة، ولكن الملحوظ هو التحفّظ أو الاستياء من غياب بوش واندحار جون ماكين من بعض الأصوات المتصلبة من داخل النظام الصهيوني العنصري الغاصب والذي يحتمي كثيرا بسياسة بوش.
ولا شك في أن الأنظمة التي تلتقي مع بوش في معاداته لمصلحة شعوب أمتنا ستكون في حالة ترقب وتوجس لغيابه وكون خليفته غير مضمون التوجّه نفسه عندها لحد الآن، أو أن الظاهر من شعاراته خلاف ما تتمناه بعض الشيء.
وإن كان أول ما بدأ به الرجل من التعيينات لا يبشر بخير حين اختار رجلا يهوديا متعصّبا لملأ مركز كبيري موظفي البيت الأبيض ليكون ذلك مصداق المثل السائر في أوساطنا الشعبية (أول خرقة حَشَف).
ومن جهة أخرى ينقل الإعلام العربي الصورة عن مجريات العمل الديموقراطية في أمريكا، ويقدمها نموذجا رائعا على مستوى الإعلام، ويراها حلالا طيبا، ورقيا وتقدما، بينما ترى دولنا أن المطالبة بخطوات جريئة بعض الشيء أو مما يعد من أبجديات الديموقراطية في الغرب من قبل شعوب المنطقة تهورا و تعجّلاً بل هو من الحرام والخيانة التي تستحق أقسى العقوبات.
ولنا سؤال: لو طُبّقت الديموقراطية في البلاد العربية والإسلامية فكم من نظامٍ سيسلم، وكم من نظام سيسقط؟! كم من حكومة ستبقى وكم من حكومة ستتوارى؟!
ه- إن تصويت البيض للرجل الأسود لا يلزم أن يكون كله دليل براءة من خلق العنصرية المتغلل في نفوس الأمريكان، فهناك وجه مقبول جدا لكون جزء من هذا التصويت مناهضة لسياسة بوش المتهورة خطّاً فكان لابد من اختيار أوباما وإن كان على مضض؛ فالولد قد يفر من ظلم أبيه له إلى الغريب، وقد يستعين القريب على قريبه من بطشه به بمن لا يعرف، أو ممن كان يتمنى ألا يحوجه إليه الزمن. فهل يعرف الساسة في بلداننا هذه الحقيقة، ويتعاملون معها بموضوعية واعتراف بقسوة الظروف وما قد تفعل، ويهضمون أن ترتفع شكوى للأمم المتحدة، لمجلس الأمن، لهذه المنظمة الحقوقية أو تلك من منظمات الحقوقية في العالم؟ فليعذروا.
محلياً: علينا جميعا حكومة وشعبا أن نطلب الإصلاح لأوضاع وطننا، والإصلاح المنقذ للأوطان من المصائر السوداء ليس كلمة ولا شعارا يشهره الإعلام، وإنما هو واقع إيجابي مضيء على الأرض يقوم مكان صورة خارجية كالحة قاتمة، فالإصلاح المنقذ المطلوب هو إصلاح جدّي صادق، يلمسه الناس في أوضاعهم الخاصة والعامة.
وينبغي أن يُطلب الإصلاح من أقرب الطرق، وأبعدها عن الخسائر، وهو الأمر الذي تملكه الحكومات ودور الشعوب أن تساعد عليه، إلا أن تكون الحكومات مستأثرة لا تبالي بويلات الناس، ولا تريد أن تعترف لهم بحق.
ولا يصدق إصلاح والمطالبون بالحقوق في السجون، والمشاكل التي تؤزم الأوضاع ثابتة في مكانها، بل في تفاقم وازدياد.
الخلل الدستوري، والتجنيس الكيدي، والتمييز، والإسكان، وشح المعيشة، والتعدي على الحقّ الديني مشاكل فتحتها الحكومة ولا زال بيدها مغاليق ومفاتيح هذه المشاكل.
والتقدم في تخليص الوطن من هذه المآزق هو الإصلاح الصادق المطلوب، وما أعاد فتح السجون إلا تخلّف الإصلاح، أو تلكؤه، أو انقلابه على هذه الجهة من الجهات الرسمية أو تلك.
نسأل الله الكريم لنا جميعا الصلاح والإصلاح، ولهذا الوطن السلامة والأمن والتقدم والرفاه والازدهار، وأن تزين أرضه وكل حبة من ترابه بقيم دين الله وتعاليم شريعته.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، ربنا واجعلنا من الداعين إليها، والممهدين ليومها، والسعداء بها، وارزقنا الشهادة بين يدي وليك القائم يا أكرم الأكرمين.
{اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 29، 30/ فاطر.
2 – كيف أنالها؟ ما السبيل إليها؟ كيف تكون؟
3 – كل فقرة صغيرة من هذا الذكر تضع الحياة على الخط الصواب، وتأخذ بالسفينة بعيدا عن كل شطط، وعن كل الأخطار، إنه لذكر عظيم.
4 – بحار الأنوار ج74 ص 106.
5 – 96/ النحل.
6 – بحار الأنوار ج74 ص106.
7 – ميزان الحكمة ج1 ص330.
8 – أبو ذر هو المخاطب المباشر، ونحن مخاطََبون بلا إشكال، الخطاب لأبي ذر بما هو إنسان ومكلَّف.
9 – وقد يقرأ في بعض النسخ “كففت عنه ضيقه”.
10 – بحار الأنوار ج74 ص87.