خطبة الجمعة (342) 24 شوال 1429هـ – 24 أكتوبر 2008م
مواضيع الخطبة:
*أسئلة العمر المصيرية *رسالات إلهية وأوضاع المجتمعات
الدعوة التي قد تنطلق هنا أو هناك وفي هذا البلد أو ذاك لتعطيل دور المسجد في إبداء الرأي في الأوضاع السلبية ومناقشتها والإسهام بكلمة المعروف في تصحيحها من أنكر المنكر، وأضرّ الضرر على الدين، وفيها تحريف جذري لدين الله، وتقويض له، وإنكار على الله سبحانه في رسالاته التي جاءت في مواجهة كل الانحرافات التي تعاني المجتمعات المسلمة من مثلها اليوم الكثير.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تفرَّد بالعزِّ والبقاء، وقَهَرَ عباده بالموتِ والفناء، وجعل لكلِّ شيءٍ حدّاً محدوداً، وأجلاً مكتوباً، وقدَراً مقضيّاً، وأمداً مُنقضياً، وجعل لكلِّ شيءٍ سبيلاً، ولمن أحسن عملاً ممن كلّف السَّعادة، ولمن أساء الشَّقاء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصّرة بتقوى الله، والجدِّ في طاعته، والاستزادة من الخير الذي دعا إليه، والثواب الذي وعد به، والرَّغبة في النعيم الذي أعدّه لأوليائه، والفرار من العذاب الذي توعّد به أعداءه، وليس يومُ الوعد والوعيد عنّا ببعيد، فإن من مات عاين من أمر الآخرة، وأمنها وخوفها، وسرورها وحزنها، وراحتها وألمها ما يكفيه؛ وكفى العبدَ بالدّنيا اغترارٌ، وبزخرفها انخداع يُوَفِّت عليه السعادة الدائمة، ويوقعُه في الشقاء المقيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، ولا تجعلنا ممن أنساهم الشيطان ذكرك، وغرّتهم الدّنيا عن الآخرة، واشتروا ما هو أدنى بالذي هو خير. ربَّنا اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حقٌّ خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات ولكل مؤمن ومؤمنة برحمتك يا أرحم الراحمين.
أسئلة مصيرية:
أما بعد فليسأل أحدُنا نفسه هل يملك شيئاً أغلى من عمره الذي هو رصيده لدينه ودنياه؟ وهل يستطيع أن يفعل شيئاً خارج عمره؟ وهل يملك أن يستردّ لحظة مضت من العمر؟ وهل له أن يوقف تقضّيَه وتصرُّمه؟ وهل تتأتّى له حيلة بأن يَمُدَّ فيه فوق ما قدّر الله من محتوم أجله طرفة عين؟
أَوَ في مقدوره حياة دنيا بعد موت؟ وهل يملك من أمره شيئاً بعد رحيل؟ وهل يأمن أن لا يُنادى به عاجلاً؟ أَوَ في نفسه أن يتساوى غداً محسن ومسيء؟! أَوَ في نظره أن يتكلّف أحد عنه ما حمِّل أو يقومَ مقامه يوم الحساب؟ أَرَاضٍ أنا عن نفسي بشأن ما مضى من حياتي؟ ألا أملك بتمليك من الله عزّ وجل أن أُغيِّر ما بي، وأخرج من شيء من تفريطاتي وكسلي وإهمالي وغواياتي وضلالاتي ونقصي وإسرافي على نفسي؟ أما آن لي أن أُصحِّح واقعي، وأحضِّر لمستقبلي بجدّ واجتهاد؟
أسئلة لابد أن أطرحها على نفسي، وأواجهَها بها، وأترك للعقل الخالص أن يعطي رأيه فيها، وللوجدان الصادق أن يجيب عليها، والفطرة الصَّافية أن تتحدث لي عنها، ولأسمع كلمة الدين الحقّ بشأنها لأقيم على الإجابة من هذه المصادر المتميّزة التي لا تكذِّبني أهدافي وطموحاتي وخطواتي وعلاقاتي في ما تبقَّى لي من حياة، وما قد أستقبله من أيام.
وعمر الإنسان محلٌّ لاهتمام القرآن الكريم والحديث عن المعصومين عليهم السلام؛ فلابد من مراجعة:
قرآنيّاً نقرأ قوله تعالى:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}(1).
استغاثة تنطلق في صراخ لضيق النفس، والآية الكريمة تذكر أننا سنواجه في الآخرة بحجتين: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} ألم تُعطوا فسحة من العمر كان يمكن لكم أن تتذكروا اليوم الآخر، وما هو واجبكم، وما سيواجهكم غداً؟! فسحة من العمر فيها خبرات، فيها آيات، فيها دروس من الحياة تكفي جدّاً لأن يتعلّم منها الإنسان، كيف يتعامل مع فسحة العمر.
والحجة الأخرى: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ومع فسحة العمر يوجدُ نُذر موت الآخرين نذير، شيبي نذير، مرضي نذير، موت الحيوان، موت النبات نذير، وذلك إلى جنب نذر الله عزّ وجلّ من كتبه ورسله.
{وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(2).
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}(3) عندك عمر، وفسحة العمر قد تطول، ولكنها قد تقصر أيضاً، والعمر ليس كلُّه مسرح عمل، وصالحاً لأن يستدرك فيه الإنسان ما فات، قد نُردُّ إلى أرذل العمر فنفقد كلّ القوى، فتنهار قوى الجسد، وتنهار قوى العقل، وينحطّ مستوى الإرادة، فلابد من استثمار العمر مبكّراً إذ لا أضمن أن غداً وإن بقيتُ يكون عمري صالحاً للاستثمار، جلطة ذهنية فقط تعطّل كل شيء.
وفي الحديث:
عن النبي صلَّى الله عليه وآله:”كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك”(4).
إذا حسن لك أن تبذل دينارك ودرهمك إلى من يستحق، وصحّ لك في بعض الوجوه أن تبذل شيئاً إلى من لا يستحق فإن شيئاً من العمر لا يصح لك هدره في ما لا ينفع، فإنه إذا أمكن لك أن تجد من درهمك ودينارك بدلاً من جنسه، فلا يمكنك أن تجد عمراً بدلاً، والعمر الذي يُكسب به الدنيا والدرهم لا تُعوّضك عنه الدنانير الكثيرة. والحرص على العمر، والشّح به بأن لا يُوضع في غير مرضاة الله، فما بُذل منه في غير مرضاته تبارك وتعالى فكأنما رُمي به في البحر، أو اشترى به صاحبه النّار.
واللحظة المبذولة من العمر في الدّرهم والدينار ليست أرقى اللحظات فيه، فدينار أحدنا في نفسه لا يشرف به العمر الذي أكسبه. نعم، إنما يشرف الدينار ويشرف به العمر إذا بُذل في سبيل الله، فكان في ذلك عمل صالح يتقرّب به إليه.
“من أحسن في ما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء في ما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر”(5).
فُرصة التدارك أمام الإنسان مفتوحة ما بقي العمر، والتوبة تغسل ما قبلها، والحسناتُ يُذهبن السيئات كما بيّنته الآية الكريمة {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}(6).
والإنسان في كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كلّ لحظة يحتمل أنَّ هذا هو آخر ما بقي من عمره، ومن بعده تذهب الفرصة، وتكون الغصَّة، ويفوت التدارك، فليس له إلاَّ أن يحسن لئلا تكون المؤاخذة شاملة، والتبعة باقية، والخسارة هائلة، والمصير الشقاء، إذ من واصل انحرافه، وتمادى في ارتكاب السيئات حتى وافاه أجلُه أضاف إلى الذنوب ذنوباً، وإلى الخطايا، فكان وزره ثقيلا، ومؤاخذته بكلِّ ذلك.
في حديث آخر:”من جاوز الأربعين ولم يغلب خيرُه شرَّه فليتجهز إلى النّار”(7).
المتجاوز للأربعين قد قدّمت له الحياة دروسا واعظة كثيرة، وخبرة بمآسي الدنيا واسعة تُزهّد فيها، وأوقفته على نتائج جمّة تذكّر بالرحيل عنها، وتلقّى من الآيات التي تخاطب العقل والقلب، وتستتبع التعقل والتدبّر، وتثير الخوف من الله، وتزيد من توقّع المصير ما يكفي جدّاً لأن يردّه عن غيّه لو كان له بقية من صلاح، واستعداد يبشّر بالأوبة. فحيث لا يغلب والحال هذه خيرُه شرَّه، ويبقى ميزان سيئاته هو الراجح ففي ذلك علامة شؤم على أنَّ نفسه مختارةٌ ما عاشت طريق النّار.
وإذا أمكن أن يكون للإنسان أجلان محتوم لا يزيد أبداً، ومعلّق يقبل الامتداد على تقدير حصول شرط فإن الإنسان يمكن أن يطلب طول العمر من النوع الثاني ببعض الأعمال الصالحة كما في هذه الطائفة من الأحاديث:
عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلّم:”أكثر من الطهور يزد الله في عمرك”(8)، “من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه”(9). وعن الإمام علي عليه السلام:”من حسنت نيّته زيد في عمره”(10)، “من حسن بِرّه بأهل بيته زيد في عمره”(11).
ولو كانت الدنيا باقية للإنسان، ولم يكن الرزق قد كفله الخالق مع ما أَلزَمَ السعي المعقول لانفتح باب يُعذر داخله إذا حرص على طلب المال من غير حدود، وصرف الوقت من غير حساب لتأمين حاجات البدن الملازمة له في هذه الحياة، ولكن محدودية الحياة، وكون الرزق قد كفله الخالق الرازق، وإن كُلِّف الإنسان السعي الذي لا يستهلك حياته، ولا يستوعب وقته، ويحرُمه من تكميل نفسه، وينسيه ربَّه ينفي أن يكون طلب المال طلباً مفتوحاً، وابتغاء الثروة، والركضُ وراء المزيد منها هدفاً مقبولاً أن يُصرف فيه العمر، ويستقطِب الهمّ، ويستوعِب التفكير، ويمتص الحياة، ويستفرد بها؛ هذا ما تفيده الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:”إنّما أنت عدد أيام، فكلّ يوم يمضي عليك يمضي ببعضك؛ فخفّض في الطلب، وأجمل في المكسب”(12) فالعمر محدود، والذي ينقص يوميّاً، وكلّ لحظة لا تجمع له المليارات من الحلال والحرام، وعلى حساب إنسانية طالبه وراحة باله وشرفه ودينه ومجتمعه وأمّته؛ ذلك صحيح في أول العمر فكيف بذلك في آخره؛ فأين صرف العمر في تكديس الأموال من التعقّل والحكمة والهادفيّة والمصلحة؟!
وصحيح أنه ينبغي عون الولد على مواجهة المستقبل المعيشي في الحدود المعقولة من غير أن يتجاوز بك ذلك الحقَّ، ومهمة تكميل الذات، وحسن العبادة لله سبحانه، والتوكل عليه، و الثقة به.
وعنه عليه السلام:”إنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فأخذ منهما”(13) وأنت لا تأخذ منهما لنفسك ما أخذته مما فيه غضب ربّك، وخسارة آخرتك، وخير ما تأخذ منهما ما وجدته عملاً صالحاً بين يديك يوم القيامة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم لا تجعل عمرنا مرتعاً للشيطان الرجيم، ولا بذلة لهواه ونزواته ليذهب خسارا، ويكون علينا وبالا. اللهم واجعله عامراً بطاعتك، وزيّنه بالإخلاص إليك، واختمه بأحسن ما ينفعنا لديك، وننال به رضوانك.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يؤيس من رحمته، ولا يطمع كما يطمع في عفوه، ولا يؤمن مكره، ولا طاقة لأحد على أخذه، ولا صبر على بطشه، ولا أليم كأليم عقوبته، ولا يُغالط علمه، ولا تبارَز قدرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله وردّ الأمور إليه، والأخذ بما حكم، والرضا بما قضى، والتسليم بما قدّر فهو الذي لا يُتّهم علمه، ولا يُشكّ في حكمته، ولا يُساء الظّن بعدله، ولا تتخلّف قدرته، ولا قصور في رحمته، ولا يأتي فعله وحكمه الباطلُ أبداً.
نعوذ بالله من سوء الظنّ بالله، ومن مخالفة دينه، وتصديق الشيطان عليه، ومتابعة النفس فيما توسوس به مما لا يليق بجلاله وجماله، وفيما تدعو إليه مما فيه سخطه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الكرام فهذا حديث تحت عنوان “الرسالات الإلهية وأوضاع المجتمعات”:
لا ريب أن قد جاءت الرسالات الإلهية لتربية الإنسان وسعادته بإيصاله إلى كماله، وقضيتها الكبرى هي التوحيد وعبادة الله وحده، والأخذ بكل مسارات الحياة الإنسانية وقضاياها على طريقه، وفي ضوء دينه عقيدة، وخلقاً، وشريعة، وعلى يد قيادة من صُنعه.
فالدين لم يأت ليعالج جنبة من جنبات الحياة دون جنبة، وإنما جاء ليرتفع بكل حركة الحياة في جميع أبعادها، وينتشلها من ألوان المشكلات، ويستقيم بها كاملة على الصراط بعيداً عن كلّ صور الانحراف.
لكن لأن لوناً خاصّاً من الانحراف والزيغ قد يتركز في هذا المجتمع بدرجة هي الأظهر، ولوناً آخر منه وبدرجة شديدة يكون هو الأبرز في مجتمع ثان وجدنا تركيزاً كبيراً لبعض الرسالات على معالجة انحراف خاصّ في وضعية اجتماعية معيّنة، وتركيزاً مثله من رسالة أخرى على معالجة انحراف غيره في وضعية اجتماعية ثانية.
وقد جاءت رسالات متعددة مركّزة على المشاكل الخاصة للمجتمعات التي تتفشّى فيها بدرجة أظهر، وتمثّل لها تهديداً حادّاً بحالة من الانهيار. وما انفصل الدين عن الدنيا في أي رسالة من الرسالات، والرسالات الإلهية كلّها للتوحيد كما سبق، ولكن من دون أن يكون التوحيد فكرة مفصولة عن منهجة الحياة، وصناعة أوضاعها صناعة إيمانية نظيفة عادلة إنسانية راقية.
وسورة الشعراء تستعرض عدداً من الرسالات الإلهية لأقوام مختلفين وللموضوعات الخاصة لهذه الرسالات التي جاء التركيز عليها إلى جنب القضية الأولى المركزية وهي قضية التوحيد التي لا تتم معالجة أوضاع الحياة، والارتقاءُ بها من دون أن تتخذ لها مساراً من مسارها، وتكون توحيدية.
ولنقف مع موضوعات عدد من هذه الرسالات التي تستعرضها السورة:-
1. رسالة النبي موسى (ع):
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}(14).
والموضوع الخاص لهذه الرسالة الإلهية هو مواجهة الاضطهاد السياسي والأمني الذي كان يمارسه الحكم الفرعوني في حقّ بني إسرائيل، وقد استحقّ هذا الانحراف الخطير عن العدل الإلهي، والخروج على مبدأ المساواة الإنسانية، والميل عن الحكم بالحقّ، والإساءة لوظيفة الخلافة في الأرض أن تكون مواجهته ومعالجته وتصحيحه خطّاً عريضا جدّا في الرسالة الإلهية الموجّهة لموسى عليه السلام، ومصرّحاً به فيها {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
2. رسالة هود (ع):
{قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ… أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}(15).
الريع: المكان المرتفع. والآية تعني هنا فيما يظهر البناء العالي. ومصانع: قالوا عنها قلاع متينة أو مآخذ تحت ماء البحر.
والموضوع الخاص الذي تركّز عليه رسالة هود عليه السلام هو المادية الحضارية، والإنتاج العبثي الذي لا يستهدف مصلحة المجتمعات(16)، ويهتمّ بالمظاهر الزائفة للتفاخر الجاهلي وعرض العضلات بعيداً عن حاجات الحياة ومتطلباتها وأهدافها، وعن الطموحات الإنسانية القويمة، وتواجه هذه الرسالةُ كذلك غطرسة القوة المادية العدوانية والبطش الظالم الذي يمثّل حالة بهيمية تتناقض ومصلحة الإنسانيّة كلّها.
3. رسالة صالح (ع):
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ… أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ(17)، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}(18).
وهذه رسالة إلهية موجّهة لمناهضة الانحراف الحضاري، وللإنذار بأن الحضارة المادية العملاقة التي لا تقوم على تقوى الله، وتهمل تعاليم وقيم دينه لا بد أن تسقط على رؤوس أصحابها في صورة مفاجآت كارثية مدمِّرة مرعبة مخزية، وأن حكومة المسرفين في البعد عن الله، المتجاوزين كثيراً لتوجيهات دينه، والذين يعتمدون سياسة الإفساد للشعوب والأمم والبيئة، في طاعتهم معصية الله، وفي متابعتهم هلاكٌ ماحق للناس.
4. رسالة شعيب (ع):
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ… أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(19).
وتعثوا: أي تفسدوا أشدّ الفساد. حسب معناها اللغوي.
نرى أن خطّاً عريضاً وموضوعاً مهمّاً رئيساً في رسالة شعيب إلى أصحاب الأيكة يتمثّل في مناهضة الظلم الاقتصادي، واختلال العلاقات الاقتصادية، وبخس حقوق المستضعفين، والفساد الفاحش المسشري الذي تُشرف عليه طبقة متحكّمة مترفة طاغية.
5. رسالة لوط (ع):
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ… أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}(20).
جاءت رسالة لوط عليه السلام في مهمّتها الخاصة والتي نالت تركيزا كبيرا عليها مواجهة ظاهرة التحلل الخلقي والشذوذ الجنسي الذي ينحرف بخطّ الحياة البشرية عن وظيفة استقراره وحفاظه على تدفّق الأجيال الإنسانية عبر عمليّة التزاوج بين الجنسين لمهمة إعمار الأرض، وإقامة حضارة الإيمان، وتجسيد الإرادة التشريعية للخالق العظيم في نظام يحكم الحركة الإرادية للإنسان في الأرض في جميع أبعادها ويتكامل على خطّه هذا المخلوق الهادف الذي جاء في خلقه من الله العلي العظيم في أحسن تقويم.
نتائج بيّنة:-
بعض النتائج لهذه المقاطع القرآنية الكريمة.
1) يطالعنا هذا الاستعراض القرآني لهذا العدد من الرسالات الإلهية في تركيزها إلى جنب قضية التوحيد الكبرى على موضوعات خاصّة تختلف باختلاف المجتمعات في انحرافاتها ومشكلاتها من مثل الاضطهاد السياسي والاجتماعي والأمني، وحالة الاستضعاف والإقصاء والاستئصال لبعض فئات المجتمع، ومن مثل الخلل في العلاقات الاقتصادية وما يُسبّبه من طبقية سيئة في هذا المجال، تقوم عليها طبقية اجتماعية وسياسية وطبقية في مجالات أخرى، وموضوع الانحراف الخلقي، والتسلط الظالم وحكومة المفسدين، وزعزعة الأمن البشري الذي يسببها البطش الحكومي الظالم للشعوب، والتجبّر في الأرض… يطالعنا هذا الاستعراض بحقيقية دينية ثابتة وسارية وهي أن الدين يتحمل مسؤولية المواجهة لكل صور الانحراف عن الخط الإلهي التي تقع فيها الأمم والمجتمعات، وصور الإخلال بموازين الحق والعدل الذي تسببه السياسات الجائرة في الأرض، وما يسيء لكرامة الإنسان، ويحطّ من أخلاقياته، أو يزعج أمنه، أو يفرّغ حياته من هدفها الصحيح.
وفي ضوء هذه الحقيقية الساطعة تكون الدعوة التي قد تنطلق هنا أو هناك وفي هذا البلد أو ذاك لتعطيل دور المسجد في إبداء الرأي في الأوضاع السلبية ومناقشتها والإسهام بكلمة المعروف في تصحيحها من أنكر المنكر، وأضرّ الضرر على الدين، وفيها تحريف جذري لدين الله، وتقويض له، وإنكار على الله سبحانه في رسالاته التي جاءت في مواجهة كل الانحرافات التي تعاني المجتمعات المسلمة من مثلها اليوم الكثير.
أنت هنا لا تعترض على إمام مسجد يتحدث عن ظلم اقتصادي، إنّك تعترض على الله الذي أرسل رسالة تعالج الانحراف والظلم الاقتصادي.
2) تربط الآيات الكريمة بين غرض الإنقاذ من ألوان الظلم والانحراف والتردّي والسقوط الذي تعاني منه المجتمعات وبين قضية التقوى، التي تكرر ذكرها كثيراً في الآيات وما تعنيه من خوف الله سبحانه، وحيوية الوجدان الخلقي الكريم المترفع عن الظلم والعدوانية والشهوانية الساقطة، وقبيح القصد والفعل والقول لتؤكد على أن المشكلات التي تعاني منها البشرية لا تُحلّ في غياب العنصر الخلقي، فالذين يهتمون بالجانب السياسي عليهم أولاً أن يهتموا بالجانب الديني. لن تُحلّ المشكلة السياسية بلا دين، بلا خلق، بلا ضمير، بلا خوف الله تبارك وتعالى، وفي حالة انفصال الضمير عن الله مهما توفّر للإنسان من علم وإمكانات هائلة. والمؤمن لا يسعه أن ينفصل بالدين عن السياسة، ولا بالسياسة عن الدّين.
3) كل الكيانات الفاسدة التي تحدثت عنها الآيات في سورة الشعراء والمجتمعات الخاضعة لسياساتها والراضية بها واجهت مصيراً أسود ونهايات سوء مدمّرة شاملة استوى في ذلك قوم فرعون، وقوم نوح، وعادٌ، وثمودُ، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة من قوم شعيب. والنهايات الكارثية المخزية غاية كل الكيانات والأمم والمجتمعات التي تقيم على الظلم، وتسلك طريق الانحراف عن الله، وتمارس حالة الانحدار الخلقي من غير تغيير.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق، واجعل أخذنا به، ووفقنا للاستقامة عليه، واسلك بنا سبيلك، وأنلنا مرضاتك، وأصلح شأننا كلّه في أمر الدين والدُّنيا في لطف وعافية، ولا تسلمنا إلى من سواك، ولا تخلّ بيننا وبين أنفسنا أو من لا يخافك ولا يرحمنا، وانصرنا بنصرك العزيز فإنك الغالب الذي لا يُغلب، والقاهر الذي لا يُقهر يا قوي يا متين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 37/ فاطر.
2 – 70/ النحل.
3 – 68/ يس.
4 – بحار الأنوار ج74 ص76.
5 – بحار الأنوار ج74 ص113. عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
6 – 114/ هود.
7 – مشكاة الأنوار ص395. عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
8 – الأمالي للمفيد ص60.
9 – بحار الأنوار ج71 ص89.
10 – بحار الأنوار ج100 ص21.
11 – بحار الأنوار ج71 ص104.
12 – ميزان الحكمة ج3 ص2112.
13 – المصدر ص2113.
14 – 16، 17/ الشعراء.
15 – 124-126، 128-131/ الشعراء.
16 – إنتاج ضخم وفخم، ولكن لا لهدف إنساني، وليس موضوعاً موضعه.
17 – إما حاذقين أو بطرين.
18 – 142-144، 146-152/الشعراء.
19 – 177-179، 181-183/ الشعراء.