خطبة الجمعة (306) 25 ذو الحجة 1428هـ – 4 يناير 2008م
مواضيع الخطبة:
*حديث عن النفس *أولاً: محرّم وكربلاء *ثانياً: الأحداث الأخيرة *ثالثاً: السنة الجديدة
رفض الظلم بأي عنوان كان، وتحت أي شعار، والعمل على رفعه ودفعه، وتصحيح الواقع المنحرف، وترسيخ هوية الأمة، وانتمائها الرسالي عقلا وضميرا وعملا، وحماية هذه الهوية والانتماء في مقدّمة أهداف كربلاء العظيمة.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي كلَّف يسيراً، وأثاب جزيلاً، وبعث الأنبياء، وأرسل المرسلين هداة ومبشرين ومنذرين، وأقام الأوصياء حفظاً لرسالات السماء، وتمكيناً لها في الأرض، وتربية للنّاس، وذوداً عن الحق، وصدّاً عن الباطل، ولم يرضَ لعباده إمامة جهل أو جور أو سفهٍ أو طمع دنيا يُضلّ ويُذلّ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيراًً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وطلب الرشد الذي لا ينال إلا بالأخذ بدينه، والتقيد بأحكم شريعته، والاستنان بسنة نبيه، والأئمة الهداة من آله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما عرف الرشدَ من كفر بنعمة ربّه وعصاه، واستخفّ بنكاله وعذابه وعانده، ونسي عظمته وقدَّم أحداً من عبيده عليه أو شريعة غيره على شريعته.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نكون ضُلاّلاً لا نهتدي بهداك، مخطئين نختار على طاعتك طاعة أحد من خلقك، خاسرين بأن يكون مصيرنا إلى النّار، اللهم كما لا ترضى لنا إلا طاعتك والجنة فاجعلنا من أهل طاعتك، ولا تذقنا النار والعذاب، ولا تنتهي بنا إلا إلى الجنّة إنك أرحم الراحمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، الرؤوف الغفور الكريم.
أما بعد فالنفس نفسان: نفسٌ آمنت بربها واهتدت، وكانت لها رؤيتها الكونية الصائبة الثابتة، وانفعلت بدين الله، وتربّت في ضوئه، ووثقت بربّها. ونفس أخرى لم يكن لها ذلك.
والعواصف تعترض النفسين، والملمات تلمّ بكلٍّ منهما، والنوائب لا تستثني أحداً، والخير والشرّ يتعاوران على الأنفس، أما النفس الأولى وأمام هذه النوائب والحوادث وتقلب الأحوال نجدها تملك توازنها، وتحتفظ بحالة الوقار، والقدرة على مواجهة الأحداث والأمور بعقلٍ ودين، وتبقى كبيرة، وغير مهزومة، ونجد النفس الثانية إن يأتها فقر أذلّها، وسحق كبرياءها، وهانت على نفسها، وانباعت رخيصة، واندكّت أمام حالة الفقر اندكاكاً.
نفس آمنت بربها يلمُّ بها الفقر فلا ينال من ثقتها بربّها شيء، ولا تستكين، ولا تُصاب بذلّ، ولا تغيم في ناظريها الحياة، وتبقى مطمئنة، وتعيش في داخلها العزّة والثّقة.
ويأتي ظرف الغنى على نفس لم تتربّ بتربية الدين فتُصاب بالبطر، ويستولي عليها الغرور، وتتعملق كذباً حتى ترى لنفسها الربوبية.
ونفس آمنت بربها سبحانه، وتربّت في ضوء أسمائه الحسنى يكون لها المال، ويكون لها الجاه، ويكون لها السلطان إلا أنها تبقى النفسَ المغمورة بشعور العبودية والذل أمام الله عزّ وجلّ، فلا تستكبر، ولا تظلم، ولا تطغى.
أمامنا نصوص كثار نقرأ منها شيئاً في هذا المجال:
{إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}(1) الإنسان بطبيعته، وقبل أن ينتمي إلى قضية الإيمان، الإنسان بحسب ضعفه، الإنسان لو خُلّي ونفسه من غير أن تصوغه التربية الإلهية يطغى حال يستغني، لا يملك نفسه أمام حالة الغنى، يعيش الوهم، يصاب بالغرور، يصل فقده للعقلانية والعقل إلى حد الجنون فيتفرعن أن وجد بيده شيئا من مال. هذا ما يدل عليه ظاهر الآية الكريمة.
وهناك فهم آخر يدل على أن الآية تصور طغيان الإنسان لتصوره أنه استغنى، فمن تصور أنه استغنى بذاته عن ربّه، وانقطعت حاجته إليه بأن كان عنده مال أو كانت عنده صحة، أو كان عنده جاه، أو كان له سلطان فهو مصاب بالطغيان.
نعم، إن ظرف الغنى ليهز النفس ويتحداها، وقد يقتلعها من مستقرها لتكون هباءة في مهب الريح، لكنها النفس التي لم تؤمن بالله، ولم تتربّ التربية الإلهية المعصومة، والمعطية للعصمة.
وما أكثر الوهم وأشده عند أناس كثيرين أن يجدوا عطاءات الله تتدفق عليهم مالاً وبنين فيحسبون أن ذلك لكرامة لهم على الله عزّ وجلّ، وقد يكون إمداد الله للعبد – وهو عاصٍ – بالمال والبنين عقوبة {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}(2) لو شعروا لوجدوا أن في هذا العطاء المتدفق إنذاراً شديداً، واستدراجا إلى عاقبة سوء.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}(3). حيث يكون النظر إلى الدنيا، والتهافت عليها تنسى النفس ربَّها وقيمتها ودورها الحقيقي وهدفها، وتضيع في ما يتناجها من لهو التكاثر بالمال والولد والقبيلة والقوم مما يذهب مع السنين.
وتقول الكلمة عن الرسول صلى الله عليه وآله:”الغنى عقوبة”(4) نعم من الغنى ما هو عقوبة. الغنى مطلوب، ولكن لابد أن نعرف أن من الغنى ما هو عقوبة. عقوبة لمن؟ عقوبة لعاصٍ يتمادى به غناه في المعصية، ويغلق عليه باب العودة إلى الله عزّ وجلّ، فإذا أغلق الغنى على المرء باب التعقّل، وباب التأمّل، وباب الإحساس الصحيح بالعبودية أمام الله عز وجل فإنما هو غنى عقوبة، وهل يخسر الإنسان أكبر من خسارة نفسه! ومن أضله غناه وتمادى به في طريق المعصية فقد خسر نفسه.
“استعيذوا بالله من سكرة الغنى فإنّ له سكرة بعيدة الإفاقة”(5).
الخمر مسكر، لا أدري لساعة أو ساعتين أو أقل أو أكثر، أعاذنا الله من تجربته، أما الغنى إذا أسكر فله سكرة تنبت عنه ليست ليوم ولا يومين، ولا شهر ولا شهرين، إنما هي سكرة قد تستوعب العمر كلّه ليفاجأ صاحبها بأنه في قاع النار. سكرة معنويات، سكرة مشاعر روحانية، سكرة نفخة الروح الطاهرة لدى الإنسان، سكرة لا تبقي تعقلا ولا وعيا ولا شعورا حقّاً بعبودية ولا ربوبية، ولا آخرة ولا قيمة من القيم.
“جاء رجل موسر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله نقيّ الثّوب فجلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فجاء رجل معسر درن الثّوب(6) فجلس إلى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه(7) من تحت فخذيه(8)، فقال له رسول الله: أخفت أن يمسّك من فقره شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يصيبه من غناك شيء؟ قال: لا، قال: خفت أن يوسّخ ثيابك؟ قال: لا، قال: فما حملك على ما صنعت؟
فقال: يا رسول الله إنّ لي قريناً يزيّن لي كلّ قبيح(9)، ويقبّح لي كلّ حسن(10)، وقد جعلتُ له نصف مالي!(11)
هذه نفس، وتأتيكم نفس بشرية أخرى لا يسطو عليها فقر بذل، وتخاف أن يمسَّها غنى ببطر، وقد كبرت على كلّ تطلّع بعد تطلّعها لرضوان الله تبارك وتعالى.
فقال رسول الله للمعسر: أتقبل! قال: لا، فقال له الرّجل: لِمَ؟! قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك!”(12).
دخلك طغيان، دخلك غرور، أصبت بمرض عضال، المال الذي لا تملك نفسك أن تقف أمامه بشموخ وإباء وعزّة وبعقلانية وأن تعيش عبوديتها أمام الله عز وجل في ظرفه إني لأخاف على نفسي منه، أنا صبرت على فقر، ولا أدري أني أصبر على غنى أو لا.
إن من النفوس لا يصلح إلا بالفقر، ومن النفوس ما لا يصلح إلا مع الغنى، ولله الحكمة.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل حبنا لك ولأوليائك، وبغضنا لأعدائك، وخشيتنا منك، ورجاءنا فيك، وطاعتنا لك، وثقتنا بك، وتوكلنا عليك، ولا تجعل لجانحة من جوانحنا، ولا لجارحة من جوارحنا اشتغالا بما يسخطك، ويضع قدرنا عندك، ويبعّدنا عن رحمتك وكرامتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) }
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يقصر كل جلال دون جلاله، ويقف كل جمال دون جماله، وتصغر كل عظمة أمام عظمته، وتضؤل كل قدرة أمام قدرته، وتستجيب الأشياء كلها لإرادته، ولا يقوم شيء منها لغضبه، ولا يملك لنفسه وجوداً ولا أثراً بلا مدده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله وخلقه الذين أمرهم بيده علينا بتقوى الله الذي لا غنى لأحد عن رحمته، ولا طاقة لأحد بغضبه، وكل نعمة من عنده، وكل فضل من فيضه، ولا تسعد الحياة إلا بطاعته، ولا سلامة إلا في التسليم إليه. وهل يملك مستكبر أن يخرج من ملكه أو يستقلّ عنه في رزقه، أو ينهض لسخطه؟! إن هو إلا جهل العبد وغروره وسفهه وجنونه أن يدير بظهره لبارئه وربه ومالك أمره ومدبره ومن بيده خيره وشره، ونفعه وضره ولا مفر له من حكمه وقدره.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وارزقنا لبّاً راجحاً، وقلبا طاهراً، وبصيرة نافذة، ودينا قويما، وحياة طيبة، وعاقبة كريمة.
اللهم صل على محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجل فرج ولي أمرك القائم، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة الكرام، والأخوات الكريمات فهذا استعراض لبعض الأمور:
أولاً: محرَّم وكربلاء:
1. الارتباط:
هناك ارتباط فكري وروحي ونفسي عند الإنسان المؤمن بين هذا الشهر وبين كربلاء بكل بطولاتها، بكل آلامها، بكل فجائعها، بكل أهدافها النبيلة، وإيمانها المشع، ورساليتها الواضحة، وإمامها العظيم صلوات الله وسلامه عليه، هذا من جانب، وهناك ارتباط بين هذا الشهر وبين كربلاء في الجانب الآخر من الظلم والطغيان والعسف من نظام سياسي ظالم، وشلل الإرادة الذي أصيبت به الأمّة، والانحرافة الكبيرة التي تعرّض لها دينها.
2. بِمَ نستقبل هذا الشهر؟
لكلّ استقبال عدّته وما يناسبه، ومحرّم شهر الحسين عليه السلام، شهر الإسلام، شهر الإمامة، شهر المفارقة بين إمامة الحقّ وإمامة الباطل، لابد أن يكون له استقباله الخاص.
لا نحسن استقبال هذا الشهر إلا بأن نستقبله بوعي إسلامي من وعي الحسين عليه السلام، برساليّة من رساليّته، بالتزام أكيد شديد راسخ ثابت بالتشريع الإلهي، وهو الالتزام الذي دعا إليه الإمام الحسين عليه السلام قولاً وعملاً.
نستقبله بعبودية للهِ عزّ وجل من عبودية الحسين، وبحريّة أمام غير الله عزّ وجلّ من حريّة الحسين عليه السلام. وما عرف طعم الحرية الحقيقية من لم يعش العبودية الصادقة لله عزّ وجلّ.
نستقبله بإرادة من إرادته، بعزم من عزمه، بتصميم من تصميمه، وفدائية من فدائيته، وفدائيّة أنصاره، بحكمة وعقلانية من عقلانيته وحكمته، وبروح إصلاحية من روحه.
ماذا تعلّمنا كربلاء؟
في مقدّمة ما تقدّمه كربلاء للأمّة المسلمة من دروس:
التأكيد على التزام خط الإمامة الشرعية. ما كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام لسبب أكبر من سبب الانحراف عن الإمامة الشرعية، وهو مستتبع لكل الانحرافات في واقع الأمة. ما كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام لمعالجة الناحية الاقتصادية أو قضايا آنيّة، وإن كان علاج كل القضايا في ما استهدفه الإمام الحسين عليه السلام من تصحيح مسار الأمة والعودة بها إلى خطّ الله.
من أراد أن يعالج كل قضايا الأمة وأزماتها في العمق فليعمل على العودة بالأمّة إلى الخطّ الإسلامي الصحيح، وإن كانت المعالجة لأي قضية من قضاياها بدرجة وأخرى مما لا يصح التفريط فيه.
كربلاء تحميل التأكيد على التزام خط الإمامة الشرعية، والقيادة الشرعية في الحياة الفردية والاجتماعية بكل أبعادها الثقافية والسياسية وغيرها التزاماً غير مشروط بخياراتنا الشخصية.
الإمام الحسين عليه السلام ثورته دعوة إلى مبايعة الخطّ الشرعي، القيادة الشرعية، والاستنكاف والاستعلاء عن مبايعة أي يد جاهلية. وكل راية لا تدخل تحت راية القرآن، ولا تتقيد بالشرعية الإلهية هي في المنظور الإسلامي راية جاهلية.
والقيادة الشرعية هي قيادة الأطروحة الشرعية والإمام الشرعي(13)الذي يعينه الإسلام شخصا أو يدل عليه وصفا.
نعم لا ريب تنكر كربلاء على الأمة أن تعطي الاعتراف الشرعي- وأضع خطين تحت كلمة الشرعي- للأطروحات الأرضية وقيادات أهل الأرض المستغنية عن اعتراف الشريعة بها.
وإنّ رفض الظلم بأي عنوان كان، وتحت أي شعار، والعمل على رفعه ودفعه، وتصحيح الواقع المنحرف، وترسيخ هوية الأمة، وانتمائها الرسالي عقلا وضميرا وعملا، وحماية هذه الهوية والانتماء في مقدّمة أهداف كربلاء العظيمة.
الأحداث الأخيرة:
سقط قتيل مظلوم، والحكومة تشكك في ذلك، والمطلوب التحقيق، لكن لا جدوى في تحقيق يمارسه المدّعى عليه، ولا شراكة للمدّعي فيه.
ومن الأحداث الأخيرة عودة الأساليب الوحشية في مواجهة الاحتجاجات، الهتك لحرمة المساجد والبيوت والمؤسسات، الاعتداء على النساء المسالمات، موقوفون بالعشرات.
هؤلاء الموقوفون نطالب الحكومة بكل جدية وقوة وبإصرار بإطلاق سراحهم، أما إذا طالبتُ الوفاق بأن تسعى في ذلك فإن طلبي سيكون من تحصيل الحاصل، لأن الوفاق مشتغلة جداً بهذا الأمر، وهي تسعى جادّة لإطلاق سراح الموقوفين من شبابنا الغالي. إلا أنني أزيد في حثّي لها على مضاعفة الجهد في المواصلة.
ماذا تظن الحكومة؟
هنا فروض:
– أن يتخلى الناس عن المطالبة بحقوقهم، وينسوا كل الملفات الساخنة، ويقبلوا بوضع التمييز والتهميش والإقصاء وكل الظلم. هذا فرض.
– أن تستمر المطالبة الشعبية بمستواها الفعلي، وتستمر المعالجة من الجانب الحكومي باستعمال القوة بقدر محسوب، وعن طريق الإعلام والوعود المعسولة والتصريحات البراقة الخاوية.
– أن يدفع اليأس الشعبيُّ من جدوى المطالبة بالحوار الجادّ، والتشدُّد الحكوميّ إلى تصاعد حركة المطالبة وتأجّجها، وتكون مواجهتها من الجانب الحكومي قاسية وموجعة بحيث تضطرها إلى التراجع والانكفاء، والصبر على الوضع بكل سلبياته القائمة.
– أن يكون التصاعد واسعا وعنيدا وصابرا مما يضطر الحكومة إلى التراجع عن حالة التصلب والمكابرة، وللأخذ بالحق والعدل والإنصاف والخروج من المأزق عن طريق التوافق.
الفروض الثلاثة الأولى عرضها على التجربة الداخلية والتجارب الخارجية يسقطها، وإذا كان الفرض الرابع هو الأقرب إلى الصدق فلماذا لا تستجيب الحكومة إلى نداءات ومحاولات الحوار المثمر، وإلى منطق الحق والعدل، وتعترف بضرورة حلّ الملفات الساخنة المعلّقة عن طريق التفاهم من دون تحميل الوطن خسائر كبرى مشتركة، وثمنا باهظا لا يدفعه طرف دون طرف؟! ولماذا لا تختار أن يكون هذا الاعتراف والأخذ بمقتضاه هذا اليوم لا غداً، وبعد أن تتحمل جميع الأطراف متاعب مرهقة، ويخسر الوطن الكثير من منجزاته وعلاقاته وأمنه واستقراره، وأسس بنيته، ويدفع أغلى الأثمان التي يتطلبها طول الصراع ومرارته، والعداوات التي يزرعها ويرسخها، والشكوك التي ينبتها، والحالات المنفلتة التي يتسبب فيها؟!
الأزمة سياسية وهي أزمة ملفات كبرى ساخنة ومصيرية، الكل يعرفها، ومنها حالة الفراغ من دستور متوافق عليه، وهو في مقدمة كل الملفات والأزمات حتى أزمة التجنيس، لأن التجنيس إفراز من إفرازات غياب الدستور المتوافق عليه، غياب الدستور العادل.
على أن التجنيس في أثره العملي الموضوعي حاد جدا ولا يحتمل التأجيل.
الأزمة سياسية وهي أزمة ملفات عديدة كبرى ساخنة ومصيرية تصر الحكومة على إهمالها والاستمرار في مضاعفة سلبياتها عن طريق التمويه الإعلامي، والتخدير النفسي، والشعارات الهازئة، والوعود الذابلة الميؤوسة، وعن طريق التحذير والترهيب والقوة والبطش. والذين يَدَّعون أن الأزمة أمنية في أصلها إنما يحاولون حجب الشمس بالكلمات، وهل تحجب الكلمة الشمس؟! وهل لغربال أن يحجب الشمس؟!
موقفنا:
استمرار المطالبة بالحقوق، والحكومة حين تختار للناس و تطالبهم بأن يخفت صوتهم، ويعم الصمت نسألها هل ستتبرع من نفسها بتصحيح الوضع؟ وهل عرفنا منها هذا في يوم من الأيام؟!
أولاً: السكوت ليس صحيحاً، خمود الحركة المطلبية ليس صحيحاً، علينا أن ننطق، أن نطالب، أن نتحرك..
ثانياً: الانفتاح على كل الأساليب السلمية الشرعية- وأؤكد على الشرعية والسلمية- في المطالبة (مع اختيار المناسب) حسب مقتضى الظروف.
ثالثاً: استبعاد أساليب العنف من غير أن نضمن عدم حدوث انفلاتات في الشارع غير متوقعة لفقد الصبر، واليأس من جدوى نداءات الحوار، وهذا ما يحمّل الحكومة مسؤولية كبرى.
رابعا: تعاملنا مع القضية السياسية هو تعاملنا مع أي قضية أخرى، وأنا هنا أتحدث حسب ما لا أرضى لنفسي غيره وهو المنطلق الإسلامي، ومن رؤية شرعية. نعم تعاملنا مع القضية السياسية هو تعاملنا مع أي قضية أخرى لا يأخذ بغير الرؤية الشرعية وما تفرضه من شروط وأحكام وتقييدات ثابتة ومتغيرة، ولكل مبدأ ولكل اطروحة رؤية في مجالات الحياة المختلفة، ولها شروطها وتقييداتها وأحكامها.
ونرى لزاما علينا وعلى المجتمع المؤمن أن ننصح مخلصين بعض الشباب الذين يُصدرون فتاوى التحريم والتحليل والإيجاب في الشأن العام – والشأن العام من أخطر الساحات والشؤون في نظر الإسلام – أن يكفّوا عن فتاواهم هذه احتراما لدين الله، ووظيفة الإفتاء بالحكم الشرعي التي لاتخفى شرائطها على متشرّع.
ثالثاً: السنة الجديدة:
كيف نودع سنة من عمر الفرد والمجتمع والأمة ونستقبل سنة أخرى هجرية كانت السنة أو ميلادية؟
أولاً ماذا يعني انقضاء سنة؟ يعني ذهاب قطعة عزيزة من العمر، وحلقة ذات أهمية من العمر؛ هي واحد على ستين من العمر، واحد على سبعين من العمر، واحد على خمسين من العمر، واحد على عشرين من العمر، ذهاب سنة ذهاب شيء بالغ الأهمية من العمر، وجزاء كبير من الفرصة.
وماذا يعني استقبال سنة لا أدري أعيشها أو لا؟ توديع سنة يعني المراجعة لما جاء على يدي من سلبيات وإيجابيات، من طاعات ومعاصٍ، من إصلاح وإفساد، يعني أن أحاسب نفسي: سقطت، نجحت، كم هي نجاحاتي، كم هي إخفاقاتي، وبأي ميزان على أن أزن ما هو اخفاقات وما هو نجاحات؟
مراجعة على مستوى العقل، مراجعة على مستوى الفطرة، مراجعة على مستوى الضمير، على مستوى الروح لمواقف لسنة يمكن أن تكون قد حفلت بنجاحات، ولكنها وبلا شك قد شهدت مآسي، مآسي من معاصٍ ارتكبها العبد في حياته، سنة إن واجه الله عز وجل بسلبياتها وبمعاصيها كانت في ذلك نكبته.
واستقبال السنة التي لا أدري أعيشها أو لا استقبال لتحدٍّ جديد، لامتحان كبير، لتجربة قاسية. تضعني هذه السنة الجديدة أمام مسؤوليات إلهية كبرى، أمام مسؤولية الخلافة في الأرض، وعلي أن أقف بكل عقلي، وبكل ما تبقّى من وجداني الأصيل، وبكل تبقّى من فطرتي النقية متأملاً متفكراً فيما ينبغي أو لا وماذا ينبغي لي في هذه السنة.
المناسبة ليست مناسبة هوىً وإنما هي مناسبة عقل، ليست مناسبة للرقص وللعبث واللهو، إنما هي مناسبة برمجة لسنة جديدة، مناسبة عزم وإرادة قوية تضع صاحبها على طريق الله سبحانه وتعالى، ونفع الأمة، المناسبة ليست مناسبة طيش وإنما مناسبة تأمل.
ثم لك أن تسأل من يفرح بسنة مضت؟ كم هم الذين يحق لهم أن يفرحوا بسنة مضت من العمر؟ أما أنا فأشهد على نفسي بأني لا أستطيع أن أفرح لسنة مضت، وكيف لي أن أفرح وأنا لا أدري كم أسأت بين يدي الله سبحانه وتعالى.
علينا أن نفتح عاماً جديدا بعزم شديد، وقرار أكيد، في مواجهة النفس، ورغائبها الشيطانية وشهواتها وهواها، وأن نثبِّت القدم على طريق الله سبحانه وتعالى.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق، واجعل نظرنا إلى رضى الخالق لا الخلق، اللهم ارزقنا خير حياة، وخير ممات، وخير مبعث، واقض حاجاتنا للدنيا والآخرة، وباعد بيننا وبين سوئهما يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
_________________
1 – 6، 7/ العلق.
2 – 55، 56/ المؤمنون.
3 -1/ التكاثر.
4 – ميزان الحكمة ج7 ص 288. مراجعة المرجع (بحار الأنوار، ج 72 ص 67).
5 – المصدر ص 289. عن الإمام علي عليه السلام.. مراجعة المرجع (غرر الحكم).
6 – وسخ الثوب.
7 – لملم ثيابه.
8 – لينأى بها عن ثياب الفقير.
9 – الشيطان، النفس الأمّارة بالسوء.
10 – على مستوى المعنويات.
11 – هذا الفقير الذي آذيت مشاعره وبدى مني استكبار عليه بغير حق وفي ذلك مواجهة لله عز وجل أنا أحاول أن أتدارك خطئي معه بهبتي له نصف مالي.
12 – المصدر نفسه. مراجعة المرجع (بحار الأنوار ج 72 ص 13).
13 – لا تقل بأنك إسلامي وأنت تستكبر على القيادة التي دلّ عليها الإسلام، أنت مسلم، ولكن أن تكون إسلاميا بالمصطلح السائد الآن وأنك تحمل راية الإسلام ودعوتك له، وأنك رمز من رموزه، ومثل من أمثلته فذلك ليس صحيحاً ما لم تُذعن للقيادة الشرعية التي دلّ عليها القرآن والسنة