كلمة آية الله قاسم بمناسبة العام الدراسي الجديد 2023 – 1445

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

والصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي العظيم وآله الطيبين الطاهرين 

 

أرسل الله خاتم النبيين وأنبيائه “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى آل محمد” بالإسلام الذي هو آخر الأديان، آخر رسالات الله إلى أهل الأرض من عباده، لماذا؟ 

ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وما أكثر الظلمات في هذه الحياة، وما أصعب لولا فيض الله ورسالته وكتابه العظيم ورسله المبينين -لولا ذلك- لما كان طريق الآخرة غير ما هو عليه الآن من غموضٍ بسبب غياب الهدايات الإلهية.

وإذا اتضح سبيل الآخرة، وسبيل الرقي في الدنيا، والنجاة في الآخرة، والفوز بنعيمها؛ فما ذلك إلا لهدايات الله تبارك وتعالى الذي يعني غيابها ضبابيةً شديدة، ظلمة قاتمة تمنع من رؤية هذا الطريق، -طريق النجاة في الآخرة والرقي في الدنيا والراحة فيها-. 

 

رسالة الإسلام لإيجاد خير أمةٍ أُخرجت للناس، جاء الإسلام لهذه الوظيفة، التي يقول عنها الله عزَّ وجلّ (كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمررون بالمعروف و……).

وطبيعي واضح أن الأمر بالمعروف مع التخلّف عن الأخذ به، النهي عن المنكر، الانغمار فيه، لا يمكن أن تتصف الأمة التي على هذا الحال بكونها خير أمّة، أمر بمعروف مع الإئتمار به قبل أن يطلب من المأمورين، الإنتهاء عن المنكر، بُعد عن المنكر، استيحاش من المنكر، فرار من المنكر، قبل أن يقول كلمة النهي عن المنكر، هذا واضح.

فهذه الأمة أمّة بلغت حدّاً من الكمال لم تبلغه الأمم الأخرى، أمّة قوية كلّ القوة، قوّتها ليست إلاّ للحق، لا شيء من هذه القوّة للباطل، أعبد أمّة للإله الحق تبارك وتعالى، أطهر وأزكى أمة، تحكم علاقات أبناءها أخوّة الإيمان الصادق، إعدادها لنفسها على طريق الجنّة، على طريق رضا الله عزَّ وجلّ أحسنُ إعداد، سبّاقة لكل خيرٍ في هذه الدنيا، لا ينافسها منافس في العمل بإطاعة الله تبارك وتعالى، أكثر الأمم تقدّماً، أثراها في كلّ صفةٍ من صفات الخير، أغنى الأمم، أمجد الأمم، مقدّمة كلّ الأمم لكلّ خير. 

الآن السؤال: ما هو الطريق لبناء أمّةٍ تتصف بهذه الصفات، وهي خير أمّة أُخرجت للناس؟ يعني لم يَرَ الناس في كلّ دنياهم أمة بمستوى هذه الأمة، لا في بعد الآخرة ولا في بعد الدنيا، لا على متسوى حياة الروح ولا على مستوى حياة وراحة البدن، أو قضاء حاجات البدن. 

مثل هذه الأمة، أمناً وسلاماً، وقدرةً على قيادة الإنسانية كلّها، كيف الوصول إلى هذه الأمة؟ وهل رسم الإسلام الطريق لوجود هذه الأمة؟ 

أما الإعداد الفطري والغريزي للكمال، فلا تمتاز به هذه الأمة، هو إعدادٌ لكل إنسانٍ خلقه الله تبارك وتعالى، كلّ الأمم خلقها الله عزَّ وجلّ مهيئة للكمال، وإلا لما كان الوصول للكمال من هذه الأمة أو تلك فخراً، فالفخر ما أصنعه لا الفخر ما يُصنع بي من الخير، تلك نعم توجب مسؤوليات، المواهب الإلهية والعطايا الإلهية هي نعمٌ من الله لا تجعلني أفتخر على الغير وإنما تحمّلي مسؤوليات بقدرها. 

الطريق إلى وجود هذه الأمة: 

ذكره الإسلام نفسه. طريق بناؤها البناء العلمي الصادق، أن تبني نفسها على أساسٍ متينٍ من العلم، أن تُقيم كلّ كبيرةٍ وصغيرةٍ في حياتها على أساسٍ من الرؤية العلمية الدقيقة، أن لا تأخذ بشيءٍ مما لم يقم عليه الدليل، ولم يُثبته البرهان، أن تلتزم بما ألزمها به الدليل وتأخذ بما دلّ عليه البرهان، أن لا تنطلق بموقفٍ من المواقف من شكٍّ ولا ظنٍّ يرجع إلى علم. 

بناء هذه الأمة حتى تصل إلى ذلك المستوى -خير أمة- لابد أن يقوم على العلم الصادق المُحقق المُدقق فيه. 

العلم واضحٌ أنه أساس الإسلام، كيف يصل الإنسان إلى توحيد الله؟ بعلمٍ فطري وعلمٍ مكتسب. لولا هذا العلم الفطري وهذا العلم المكتسب لما عرفنا الله تبارك وتعالى، عرّفنا الله بعظمته وجلاله وجماله وكماله عن طريق فطرةٍ واضحة غير مغشوشة لا تُخطئ، لا يدخلها خللٌ إلا أن يجور عليها الإنسان فيُغبِّر في وجه هذه الفطرة، ويُقلِّل من إشعاعها الفعلي في داخل نفسه، وإلا فالفطرة لو بقت على حالها فلن نفقد رؤية الله في لحظةٍ من اللحظات. 

نعم، الدليل البرهاني يدعم الفطرة، يُرسّخ رؤيتها، ربما يفسح من مجال رؤيتها، يُعمِّق رؤيتها، هذا جارٍ. أمّا هي في نفسها فقادرة على أن تربط ما بالله عزَّ وجلّ وإنْ كنّا بحاجةٍ في طاعته إلى تفصيلٍ من الوحي. 

العلم به حياةُ الدين. هذا العلم الذي نكتسبه بالفطرة أولاً، ويؤكد عليه البرهان -وما قام عليه البرهان فهو علمٌ-، هذا العلم فيه حياةُ الدين، يزيده تركُّزاً ورسوخاً، ويزيد النفس انشداداً إلى مؤدّاه، ومؤدّاه الإيمان. 

كلُّ علمٍ يدلُّك على الحقيقة الصادقة لا يمكن أن يناقض توحيد الله تبارك وتعالى. 

حياة الدين وصلاحه وسلامته، لا يسلُم الدين بلا أئمة.

إذا استولى الجهل، ساد الجهل؛ تراجع الدين، الرؤية الدينية، الفهم الديني، اعتناق النفس للدين، انشدادها للدين، كلُّ ذلك يكون في انحدار وتراجع، وفي حالة ضعف، حين يسود الجهل وتغيب الحقائق وتسود المغالطات، فلاح الدين وازدهارها في الدين، لا يمكن أن تزدهر الدنيا الازدهار المريح للإنسان من دون دين.

 

غياب الدين فيه انعكاسان: 

انحدار الروح، تدهور الروح، تشوّه الروح، ضلال الروح، انهدام الفطرة الصافية في النفس، تفقد القدرة على الحضور في المواقف، أمام الامتحانات، أمام الرخاء، أمام البأساء وأمام الضراء، أمام لين الحياة وخشونتها، هذا شيء. 

الشيء الثاني، أنّه لا يسعد الناس في الحياة، وأنتم ترون الدول الأغنى مالاً، الأقوى بنياناً، الأشدُّ قدرةً على الفتك، التي لا يردّها رادّ عن نهب ثروات الشعوب والأمم، نسأل أنفسنا هل هي سعيدة؟ 

خُذ الشكاوى من أهل هذه البلاد وتذمّرهم وبؤسهم النفسي وفقدهم الأمل وكثرة الأمراض النفسية فيهم، والشعور بالحقارة وما إلى ذلك. 

فإذن، الدين ضرورةُ الروح، وضرورة البدن، ضرورة الدنيا وضرورة الآخرة. كلُّ إنسانٍ في خسار مُحقق يقيني من ناحية الدنيا والآخرة إذا خسر الدين، والدين لا تواجد له بحق وبصدق وبفاعلية إذا لم يكن علم، نعرف من خلاله عظمة الدين وجلال الدين ونزاهته وقدرته على الصنع الراقي التي يتمتع الدين، وقدرة التصحيح للمسار العقلي والمسار النفسي والمسار العملي في حياة الإنسان. 

العلم فقط؟ لا.. العلم الصادق المُحقق، والعمل به. سواء كان علماً دينياً أو علماً دنيوياً، علينا أن نضم العلمين، علم الدين وعلم الدنيا لبعضهما البعض، علم الدنيا حين يكون موضوعياً أخذه أخذاً موضوعياً، والوصول إليه وصولاً موضوعياً لا ينافي علم الدين، وعلم الدين يدفع إلى علم الدنيا ويحث الناس على علم الدنيا النافع، ما من علم نافع دنيوياً إلا ويحث عليه الإسلام. 

والعلم علم الطبيعية، وكلّ علمٍ، كيمياء، هندسة، وما إلى ذلك، كل ذلك إذا نُظر إليه النظرة الموضوعية، وأُخذت دلالته الطبيعية، وتعاملت معه النفس من منطلق طلب الحق فإنّه يؤدي إلى أن يضطر الإنسان لمعرفة عظمة الله تبارك وتعالى. 

وصولك إلى علمٍ دقيق من علوم الدنيا يجعلك تسأل نفسك، هل وصلتُ إلى هذه الدرجة من العلم من عطاء نفسي؟ من عطاء أحدٍ من خلق الله؟ التفكير الذي وصلتُ به إلى هذه المنزلة، هذا التفكير من غرس أبيك؟ من غرسك أمّك؟ من غرس البيئة؟ 

لو جهدت البيئة الإنسانية كلّها على أن توجد طريقة تفكير سليمة في المخ، قدرة على التفكير في إنسانٍ سلب الله منه هذه القدرة، هل يمكن للبشرية أن تعوض عن قدرة الله وتُعيض هذا الإنسان بالقدرة الصحيحة على التفكير والنظام الصحيح للتفكير؟ 

فليجتمع أمهر المعلمين في الناس بكل عددهم على أن يصنعوا طريقة تفكير سليمة بصنعهم الذاتي، ومن غير استعانةٍ بشيءٍ من عطاءات الله، وحتى لو اعتمدوا على تفكيرهم بما هو من الله عزَّ وجلّ، فهل يمكنهم؟ لا يمكنهم. 

فعلوم الدنيا تدل على الله عزَّ وجلّ، أي علمٍ يصل إليه الإنسان يدلّ على الله. خطوة واحدة على الأرض من قدمي لابد أن تدلّني على الله عزَّ وجلّ، لأنّ هذه الخطوة لم أقم بها مستقلاً وبقدرتي المستقلة، ولم يُعطني إياها أحد. 

 

نصوص قليلة من نصوص وفيرة إسلامية تعطي صورة عن موقع العلم في الإسلام وقيمته، وتمسكه به، وحثّه عليه. 

لو طالت المطالعة للنصوص الإسلامية الواردة بشأن العلم والعلماء لما وجدنا منافساً من أي مدرسةٍ غير مدرسة الإسلام فيما اهتمت به بشأن العلم وبيانها لضرورته والمكانة التي يعنيها العلم ويعنيها العلماء، لا يوجد. لن نجد مدرسة تغطي الحاجة لقدر العلم وعطائه، وقيمة حملته الصادقين، كما هي مدرسة الإسلام. 

 

هذه أحاديث قليلة جداً، نقف عند مداليلها: 

 

أولاً الآية: (إقرأ بإسم ربك الذي خلق). 

أكبر نعمة، وأول نعمة من نعم الله على عباده هي نعمة الخلق، أنْ خُلقت بعد العدم، ويقيناً أن ليس هناك من أعطاني نعمة الخلق، نعمة الوجود بعد العدم غير الله تبارك وتعالى. كل خيرٍ يأتي هذا الإنسان يأتي من بعد خلقه، لو كان معدوماً لما توفر على شيءٍ من النعم. 

(خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم)

الذي منّ عليك بنعمة القراءة، وبكرمه ولطفه وفّر لك هذه النعمة. 

(الذي علّم بالقلم)

قراءة وكتابة. 

(إقرأ وربك الأكرم)

وما أمرك بالقراءة إلا بعد إقدارك على القراءة، لا يأمر الله عبده بشيءٍ لم يقدره عليه. 

(قرأ)

إقرأ فإنّ الله أقدرك على القراءة. 

(إقرأ وربك الأكرم) 

وكأن هذا بيان لعظمة النعمة. 

(الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم). 

هنا نعمتان، نعمة الخلق وهي أكبر نعمة، ونعم الله من بعد نعمة الخلق لا تعد ولا تحصى. ولكن نعمة وحيدة هي التي ذكرها بعد نعمة الخلق، نعمة القراءة، يعني حاجتنا في الأكل قبل، من ناحية الضرورة، الترتُّب الضروري، المخلوق أول ما يحتاج يحتاج ليس للقراءة وليس للكتابة، يحتاج للأكل والشرب، إلى آخره، هناك نعمة كثيرة تسبق نعمة القراءة والكتابة، لكن من ناحية الأهمية لضرورة الإنسان، لضرورة إنسانية الإنسان، ولحفظ غاية الخلق، وهي الكمال، لا شيء يسبق، ولا يقارن نعمة الكتابة والقراءة، نعمة العلم. 

أمامنا نعمة الخلق، وهي نعمة العلم أكبر نعمة، فمن ضيعها ضيع قيمة حياته، ضيع الغاية الكبرى للحياة، سيأكل وسيشرب وما إلى ذلك، ولكن غاية الحياة الكبرى وهي كمال الإنسان، والسعادة الأبدية للإنسان، تضيع مئة في المئة بضياع العلم، على أن حياة الأكل والشرب والصحة البدنية، والأمن في هذه الحياة، وعدم الاضطرار للآخرين من ناحية مالية وما إلى ذلك، هذا كلّه لا يحصل بغير نعمة العلم. 

 

عن الرسول “صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”: (إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقرّبني إلى الله تعالى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) 

يومٌ بئيس، يومٌ أنا فيه من أفقر الفقراء، يومُ نقصٍ في إنسانيتي، يومُ موت، يومُ خسارة وضياع، تتفه فيه النعم الأخرى لفقد هذه النعمة، لفقد نعمة الحصول على شيءٍ من العلم. 

كلّ النعم الكبرى الأخرى، نعمة مال، نعمة جاه، أي نعمةٍ من النعم تصير تافهة لغياب نعمة العلم. 

فوات يومٍ على النفس من غير أن يكون لها جديدُ علمٍ من العلم النافع خسارةٌ بيّنةٌ وسقوط في يومٍ من أيام امتحانات الحياة، في كلّ يومٍ لنا امتحان، وفي كلّ لحظة نحن في امتحان، لأننا إما أن نسلك طريق السعادة أو لا نسلكه، ولحظةً تمر وقد سلكنا طريق الشقاء، فرطنا في طريق السعادة، هو سقوط في هذا الامتحان. 

 

عن عليٍّ عليه السلام: (يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول)

التفاضل الادّعائي، والتفاقر الظاهري، وأنت تدّعي الأفضلية، وصاحبك يدّعي الأفضلية، أنا أدّعي الأفضلية، صاحبي يدّعي الأفضلية، هذا مطروح، هذا ما نعيشه ونحاسب عليه، ننسى فضل الله عزَّ وجلّ ونُرجع الفضل لأنفسنا، ومن منطلق الاعتداد بالذات، والفخر بالذات أقول أنا أفضل وأنت تقول أنت أفضل. 

التفاضل الذي يعنيه الإمام عليّ عليه السلام، هو التفاضل الواقعي على مستوى الواقع، ما يحصل لك من رقي، وما يحصل لأخيك من رقي، ما أنت عليه من تقدّم، وما عليه أخوك من تقدّم، أنت أسبق في تقدّمك أو أخوك أسبق، في تنافسكما على الربح الدائم الحقيقي، على رضا الله تبارك وتعالى.

من ناحية واقعية، الواقع من ذاتك أنّك أفضل، أو أن الواقع من ذات أخيك أنّه أفضل، هذا التفاضل في الذوات، -ليس على اللسان، التفاضل في واقع الذوات، في الواقع العملي-، الفضل فيه لك أو لأخيك؟ التفاضل الحقيقي المطلوب هنا، وهو أنك لو ربحت ما ربحت من المال فهذا لا يعني فضلاً، لو ربحت ما ربحت في الدنيا، في أي بعدٍ من أبعاد الدنيا فهذا ليس أفضلية، سبقك أخاك دنيوياً لا يسجل لك أفضلية بالنسبة إليه، متى تكون أفضل؟ لو تقدّمت في ذاتك، كنت أنزه، أوعى، أطوع لله عزَّ وجلّ، أدلّ على الخير، أكثر جهاداً في سبيل الله، في إنقاذ المحرومين، في تصحيح أوضاع الدنيا، في إغاثة المحتاجين، إلى آخره. 

فيقول “عليه السلام”: (يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول)

العلم يجعلك أطوع لله عزَّ وجلّ، العلم -إذا أخذت به طبعاً- يجعل نفسك أكثر طهراً ونزاهة، مهيئة بدرجة أكبر لدرجة أعلى في الجنة. 

العقول والعلوم هي التي تجعلك على الطريق الصحيح، وعلى طريق الأفضلية الحقيقية وتمكنك من صناعة النفس الصناعة التي تعظم في عين الله تبارك وتعالى. 

 

عن الرسول “صلى الله عليه وآله وسلّم”: (ذنب العالم واحد، وذنب الجاهل ذنبان)

العالم يُعذب على ركوب الذنب، والجاهل قد يحسب أنّه بجهله لا يعذّب على مخالفة الواجب أو المحرّم.

الجاهل يعذب على جهله الذي يؤدي إلى ارتكاب المحرم وترك الواجب، ويؤدي إلى نفس ارتكاب المحرم في ذاته وترك الواجب، فيكتسب ذنبين، لماذا جهلت؟ ثم يأتيه لماذا ارتكبت؟ لأنّي جهلت، لِمَ لم تتعلم؟ 

فما دام لا عذر له في جهله فلا عذر له في ارتكاب ما جهله. أليس تركه لهذا الأمر لجهله؟ نسأل، هل هو معذورٌ في جهله؟ إن كان معذور في جهله فليس عليه ذنب من جهة جهله ولا من ناحية ارتكابه لهذا المحرّم، لكن وقد جهل عمداً يرتكب ذنب جهله، ويأتي ربما يعتذر بهذا الجهل، في مقام اعتذاره بهذا الجهل، يأتي سؤال من الله ولِمَ لم تتعلم؟ ليس هناك عذر. 

فرأيت خطورة الجهل إلى أي حدّ؟ أرأيت النجاة في سفينة العلم؟ العلم سفينة نجاة، والجهل سفينة هلكة. 

 

عن الرسول “صلى الله عليه وآله”: (أقرب الناس لدرجة النبوة أهل الجهاد والعلم)

فيه مقام أكبر، فيه سعادة أكبر، هل هناك شرفٌ أكبر؟ هل هناك شيءٌ يعتد به أكبر من أن تكون الأقرب بحسب درجة علمك إلى درجة النبوة -القرب يتفاوت-. 

 

ماذا يقول الإمام علي “عليه السلام”؟ 

(قيمة كلّ إمرءٍ ما يحسنه)

ويستوي في ذلك المرء الواحد والأمة، قيمة كل إمرء، كل أمة، كل الإنسانية بقدر ما تحسنه على مستوى الدنيا وعلى مستوى الآخرة. 

ماذا يُحسن مما هو على طريق الآخرة؟ تقوى؟ طاعة لله عزَّ وجلّ، رحمة بالعباد، رضا بقضاء الله، غضب لله، رضا لله، علم يوصله لله عزَّ وجلّ؟ قيمته طبعاً ليس في لحمه ودمه، وليس في المواقف الاعتباطية، والجزاء يأتي بقدر قيمة الإنسان، قيمته بقدر ما يُحسن. هذا الحديث، هذه الكلمة لأي طريقٍ تنادينا؟ 

طبعاً تنادينا لطريق العلم، والأخذ بالعلم، والطلب الدائم للعلم، والنفرة من الجهل.

على مستوى الدنيا، أيهما أكبر هذه البلد أو تلك البلد؟ هذا الشخص أو هذا الشخص من ناحية دنيوية؟ طبعاً إنسانٌ يُجيد الكثير من الحرف، تعلّم وأتقن التعامل في التجارة، في الصناعة، إلى آخره، بذل ما بذل، أو أمّة، بلد، نحن بلاد مسلمة، أمريكا بلاد كافرة، روسيا بلد كافرة، إلى آخره، من ناحية دنيوية ماذا لنا من وزن؟ من قيمة؟ ماذا لأمريكا؟ أمريكا تسبقنا كثيراً في قيمتها الدنيوية، تستطيع أن تفرض نفسها علينا، وهي تفرض نفسها علينا فعلاً، بلاد أخرى كثيرة تسبق بلاد المسلمين، لأننا قصّرنا في طلب ما نستطيع أن نحسنه، لو صرنا على طريق السعي إليه، ولم نحاول أن نتقدم في الصناعة بصورة مبكرة، لم نأخذ بنظم الأمر نظماً صحيحاً كما أمرنا نبيه “صلى الله عليه وآله”، لم نتخلى عن عنجهيتنا، لم نتواضع للعلم، نحن مسبوقون بسببٍ من ذاتنا، بسبب أننا ضيّعنا الفرص ولم نحسن الكثير فيما يسهل الطريق في هذه الدنيا، وفيما يعطي القوة والغلبة والهيبة والراحة وما إلى ذلك. 

 

قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (اطلبوا العلم ولو بالصين

فإنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم)

وفي قراءة أخرى (ومسلمة)، والمسلم طبعاً ملحوظ فيه إسلامه وليس ملحوظ فيه نوعه من بين الصنفين من بين الذكر والأنثى، فموضوع الحكم هو إسلام هذا المسلم، ويستوي مع إسلام المسلم من ناحية الموضوعية إسلام المرأة، فنحن جميعاً رجالاً ونساءً، طلب العلم فريضة علينا، وكلٌّ بقدره، وبقدر إمكانه العقلي وظروفه وإلى آخره. 

إلى كم من الزمن مضى علينا ونحن نعيش الأمية بعد الإسلام مع حثّ الإسلام؟ 

والأمية نسبية إذا كانت على مستوى تحصيل الفهم، أنت تستطيع أن تخرج من حدك العلمي بجهد تستطيعه إلى درجةٍ أخرى من العلم لتتخلص من درجةٍ من الأمية، -من الأمية التي هي بمعنى قلة الفهم-. 

كم نبذل في اللهو والعبث والجلسات الفارغة وننسى قيمة العلم ولو بذل المسلمون الوقت الطويل في طلب العلم، دنيوياً أو دينياً، فإنّ علم الدنيا ليس مستوحشاً عندنا وبحسب إسلامنا، وعلم الدنيا يخدم الآخرة، علم الدنيا تستطيع أن تحوله وسيلة قربة لله، علم الدنيا تصنع به ما يدفع الشر عن المؤمنين، يخرج المؤمنين من الفقر إلى الغنى، يخرجهم من الخوف إلى الأمن، يخرجهم من الفتنة إلى الوئام، علم الدنيا يصنع لنا المال الذي نستطيع أن نبذله في سبيل الله ونبني به كلمةً ثابتةً للدين في الأرض، علم الدنيا يمكن أن نستعمله للآخرة، وعلم الآخرة يمكن أن نستعمله للدنيا، نتعلم علم الدين لنخدم به دنيانا، ولمتعة الحياة الدنيا، لإبتزاز أموال الآخرين وللتغرير بالآخرين، وعلم يتعلم الذرّة، يتعلم الطب، يتعلم الهندسة، كل ذلك ليسابق بلاد المسلمين، بلاد الكفر في كل مظاهر القوة غير المحرمة، هذا يبي الأمة، يعالج فقراء الأمة، إلى آخره، لا نستوحش من علوم الدنيا، ولكن تبقى المنزلة الكبرى لعلمٍ نعرف به الله، ونعرف قيمة الطاعة لله سبحانه وتعالى، ونكون مرضيين له عزّ وجلّ. 

 

(اطلبوا العلم ولو بالصين)

البعيدة المكلف الوصول لها، خاصة في ذلك الزمن، البيئة الغريبة عليكم، الموحشة بالنسبة لكم، التي فيها بعداً عن كل ما ألفتموه في بلادكم، هذا السفر الصعب والإقامة الصعبة، إقدموا عليه حين لا تكون فيه خسارة دين، وأطلبوا العلم هناك، سواء كان دينياً أو كان دنيوياً، تُقوّون به كلمة الدين. 

جراحة خاصة، أو دواء خاص لايوجد إلا في الصين، ولا يحصل إلا بالذهاب إليها، فيه شفاء، ليس في بلاد المسلمين بديلٌ له من دواء، يجب طلب هذا الدواء، ويجب الذهاب إلى هناك لتعلم هذا الدواء، والوقوف على هذه الجراحة، كل ذلك لتكون امة الإسلام أقوى أمة، وأول ما يُراعى في قوة الأمة قوّة دينها، قد نضحي بنوع من أنواع القوة من أجل سلامة قوّة الدين، أما إذا كانت سلامة الدين لا تتأثر، وقوة الدين لا تتأثر، فيجب أن نسابق الأمم الأخرى في طلب أي نوعٍ من القوّة وإنْ لم يكُن إلا بالرحلة إليها وتحمُّل مشاق السفر ومشاق الإقامة غير المناسبة. 

 

الإمام الصادق (عليه السلام): (أطلبوا التعلم ولو بخوض اللجج وشق المهج)

 

المهجة هي دم القلب، والمهج جمع للمهجة، طلب العلم ولو بسفك المهج، لا يوجد ثمن دنيوي أكبر من هذا الثمن لطلب التعلم، والتعلم لأنه مقدمة العلم. 

فالعلم يفوق في ربحه وأثره الإيجابي سفك دم القلب في جانب الضرر والخسارة. 

افرض أنّ سرّاً من أسرار العلم الذي يعتمد عليه وجود الأمة، أو انتصار الأمة في حربٍ تهددها بالفناء، عشرة يسافرون إلى بلدٍ وبأي وسيلةٍ من الوسائل يحاولون الوصول إلى هذا السر العلمي. سفك المُهج وخوض اللجج المهددة بالموت. اللجج المكان الطاغي مائياً، ماء طاغي مهلك. هنا موازنة إذا ذهبنا إلى قاعدة الأهم والمهم، نذهب إلى عشرة يضحون. 

 

عن النبي “صلى الله عليه وآله”: (أطلبوا العلم فإنّه السبب بينكم وبين الله عزَّ وجلّ)

سبب معرفة لله عزَّ وجلّ، سبب معرفتنا لله هو أن نتعلم ونعلم، نكتشف عظمة الله في هذا الكون، في النظام الكوني، في أصل الخلق، في التنسيق العجيب الغريب، التقدير الدقيق من صنع الله عزَّ وجلّ في إدارة هذا الكون وتدبيره، هذا كلّه هو الطريق لمعرفة الله عزَّ وجلّ. 

طاعة الله عزَّ وجلّ تحتاج إلى تعلُّم، فحتى نعرف الله، وحتى نرضي الله تحقيقاً لسعادتنا؛ علينا أن نطلب العلم. 

 

نأتي لثلاثة الأركان التي يتمم بعضها البعض: 

1- أن نتعلم

2- أن نعلم

3- أن نُعلِّم

الإسلام لا يريد أفراداً متعلمين، يريد أمة متعلمة، كل واحدٍ من الأمة طاقة وقيمة، حصلنا على ألف، ألفين، ثلاثة آلاف شخص مسلم من ذوي القيمة العالية بما يحسنون من علم، من صناعة، من خبرة اجتماعية، إلى آخره، وملايين الأمة الباقين لا شيء لهم من ذلك، هذه أمة مأكولة، مغلوبة، مقهورة، عليها أن تسكت أمام كلمة الآخرين، وعليها ان تتنازل عن إرادتها أمام إرادة الآخرين. 

 

عن النبي “صلى الله عليه وآله”: (زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه).

وصل يوم زكاتك، يوم خمسك، وجب عليك أن تخمس وأن تزكي، في المال زكاة، في المال خمس، في المال صدقات. في العلم زكاة، ما هي هذه الزكاة؟ تعليم الآخرين ممن يفتقدون علمك. 

وقد تكون لك زكاةٌ على أخيك من ناحية علمية، ولأخيك عليك زكاة، أنت تسبقه في شيء، وهو يسبقك في شيء، كلّ واحدٍ يتمتع بعلمٍ ليس عند صاحبه تكون عليه زكاة هذا العلم. 

 

عن النبي عيسى “عليه السلام”: (من علم وعمل وعلّم عُدَّ في الملكوت الأعظم عظيما). 

مرّة واحد منّا يصفه رفيقه بأنه عظيم، مرّة أكبر شخصية مقدّرة في المجتمع تصفك بأنّك عظيم، مرّة يُجمع المجتمع على أنك عظيم، هل تتساوى هذه الشهادات قيمةً؟ طبيعي لا. 

هذه الشهادة تأتي من الملأ الأعلى، من الملائكة، بأنّك عظيم. تعلم، تعمل بما تعلم، تُعلّم. خذ شهادة من الملائكة بأنّك عظيم. 

هل هناك من أحد يعطي العلم شرفاً كهذا الشرف؟ أوصافاً كالأوصاف التي مرّت؟ 

هذا يحملنا مسؤولية كبرى كأمة إسلامية نؤمن بالإسلام وندعي الأخذ بتعاليمه في طلب العلم ونشره والعمل به وإلا شهدنا على عدم قيمته، أشهدنا الآخرين على عدم قيمته. 

أنا الذي علمت بهذا الشيء، هذا لا قيمة له ولذلك لا أعمل به، خطورة أن يكون العلماء لا يعملون بما عملوا ويشهد لهم بذلك. 

 

 

عن الرسول “صلى الله عليه وآله”: (كاتم العلم يلعنه كل شيء حتى الحوت في البحر والطير في السماء)

والعكس، وهذا من جزاء الله عزَّ وجلّ لعباده. 

 

عن علي “عليه السلام” فيما أتصور: (العلم علمان، علم الأديان وعلم الأبدان). 

والحث في الإسلام عليهما معاً، ولكن بشرط أن علم الدنيا يؤول إلى خدمة الدين وخدمة المؤمنين، وبيان الكيان الإسلامي القوي، وحماية المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وما إلى ذلك. 

 

علم الدنيا يثريها، وهذا فيه راحة للمؤمنين، وعلم الدنيا يُدفع به الشر عن الدين وعن أهل الدين، ويعين على طلب الآخرة، لذلك هو مطلوب، وعلينا أن نسابق فيه، وإذا كانت هزيمة الدين، وغياب الدين، وهزال الموقع الديني في الناس على طريق التحقق بسبب القوة المادية عند الكفر فيصير طلب العلم تحصيناً للقوة واجباً حتمياً على أمة الإيمان. 

 

المطلوب من الأمة أن تتحرك بقوّة وجديّة وبعزمٍ لا يلين إلى موقعٍ جديد من القوّة في العلم الديني والدنيوي، وعلينا ونحن نحاول أن نكبُر ونقوى ونتقدم، أن تُحترم كلمتنا، أن نُهاب، أن تُقدَّر إرادتنا، أن يقطع الأعداء الأمل عندهم في الانتصار علينا، أن نطلب القوة المادية حثيثاً حثيثاً حثيثاً من خلال طلب العلم، في حين أن يكون السبق دائماً، والأقوائية دائماً للوعي الديني، للارتباط بالدين، لفهم الدين، ومن فهم الدين سنسعى وسنحس كثيراً باحترام أمر الدين لطلب العلم بما يشمل علم الدنيا، حينها نشعر بأن طلب هذا العلم واجب، يعني إحساسنا أن الله أوجب علينا طلب العلم الدنيوي، ومن خلال إيماننا بالله وتقديرنا لله سنندفع بقوة لطلب العلوم الدنيوية التي تعطي موقع قوة، موقعاً جديداً في التقدّم، موقعاً جديداً يُمكّن لكلمتنا في الأرض، سنعطي اهتماماً كبيراً ونبذل سعياً كثيراً في سبيل الوصول إلى هذه العلوم والسبق إليها والسبق فيها. 

 

وغَفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

زر الذهاب إلى الأعلى