كلمة آية الله قاسم : الدين الإلهي بين الوحدة والتعدُّد

*نص كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم ذكرى المبعث النبوي الشريف، والتي جاءت تحت عنوان ” الدين الإلهي بين الوحدة والتعدُّد” –

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

السلام على الأمّة الإسلامية المجيدة، وبارك الله للجميع بمناسبة ذكرى البعثة النبوية الشريفة، بعثة النور والهدى والصلاح. 

 

-الدين الإلهي بين الوحدة والتعدُّد-

 

سؤالٌ: هل الدين الإلهي واحدٌ في كلّ شيءٍ، في كلّ الرسالات المتنزلة من عند الله سبحانه على رُسله؟

والمسألة تُدرَس على مستوى العقيدة وعلى مستوى الشريعة. 

العقيدة يجب أن تكون واحدة، أو يمكن أن تكون متغايرة مختلفة بلحاظ اختلاف الزمن والمكان والتطورات؟

ثم أنّ الشريعة هل يمكن أن تكون ثابتة جامدة أو لابد أن تكون متحرّكة، وذلك أيضاً بلحاظ تغيّر الزمان والمكان وحدوث التطورات في حياة الإنسان؟

 

*على مستوى العقيدة:

نقول بأنّ العقيدة تتعلق بقضايا واقعية يُدْرِك العقل ثبوتها دائماً أو انتفائها دائماً. ما أدرك العقل ثبوته فذلك لا يتغيّر على الإطلاق، وما كانت محلّ إدراكٍ للعقل من ناحية انتفائها فذلك أيضاً لا يتغيّر على الإطلاق، العقيدة لابد أن تكون ثابتة، العقيدة لا تقبل التغيُّر، العقيدة لا تقبل التغيُّر واقعاً بتغيُّر اجتهاد الناس. 

العقيدة لا تتوقف على عقلٍ يُدركها، وجودُ عقلٍ عندنا يصدّق بثبوتها أو انتفائها لا صلة له بثبوتها الواقعي أو انتفائها -أعني الأمور العقيدية-.

وجودُ الله، وُجِدَ إنسانٌ أو لم يوجد، وُجِدَ عقلٌ آخر أو لم يوجد، فوجودُ الله ثابت ولا يقبل التغيير، ولا يمكن أن يتحوّل وجوده إلى العدم، ثبوته لا يمكن أن يحلّ محلّه انتفاؤه.

عدلُ الله، إمّا أن يكون الله عادلاً فيبقى عادلاً دائماً ومطلقاً، وإما أن يكون الله عز وجل -وحاشاه- غير عادل فيبقى غير عادل دائماً وأبداً.

وجوب الآخرة، الآخرة إمّا واجبة أو غير واجبة، وهي على هذا الحال أيضاً مطلقاً وأبداً.

النبوّة إمّا أن تجب أو لا تجب، إما أنها حقٌّ وهي موجودة أو باطلٌ ومعدومة، والإمامة اختُها في ذلك. 

 

ماهو ثابتٌ من الأمور العقيدية ثابتٌ صدَّق بثبوته أحدٌ أم لم يصدّق، لو كفرت الدنيا كلّها فإنّ الأمور العقيديّة الثابتة الحقّانيّة الحقّ لا تتحوّل إلى باطل ولا يمسّها العدم. 

وما كان من الأمور العقيديّة كشريك الباري محكوماً بالانتفاء لا يمكن أن يكون أمراً واقعاً ،يمكن أن يستجد، يمكن أن يكون انقلاباً عن استحالة شريك الباري، استحالة شريك الباري تبقى ثابتة ولا تنقلب إلى وجوبٍ، ولا يبقى شريك الباري واجباً ولا ممكنا. 

 

الولدُ لله عزَّ وجلّ، إمّا أن يكون له ولدٌ -وهذا غير قابل للانتفاء-، أو ليس له ولد -وهذه الليسيّة لا يمكن أن تتحول إلى إمكان-. 

إذا كان شريك الباري مستحيلاً فهو مستحيلٌ على طول الخط ومطلقاً وأبداً. 

فالتعدديّة في الدين الإلهي على مستوى العقيدة شيءٌ ممتنعٌ عقلاً بصرامة، ولا وجه للبحث فيه. 

الله واحدٌ أحدٌ فردٌ صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. 

فلا نستطيع أن نقبل أكثر من دين في اختلافٍ منهما من الدينين والأكثر على ثبوت وجود الله وعدمه، إما أن يكون ثابتاً ودائماً وإما أن يكون منتفياً ودائماً. 

شريك الباري لا يمكن أن نقبله من دين، أو لا يمكن أن نحتمل فيه أن هناك شريك الباري، لايمكن أن نحتمل أنه حق لو أدّعي في دينٍ معيّن، شريك الباري ممتنع عقلاً لا يقرب منه الإمكان، ولا يمكن أن يتصّف في يومٍ من الأيام بالإمكان. يأتي دين ليدّعي شريكاً للباري أو يدّعي ولداً للباري، لايمكن تصديق هذا الدين في هذه المفردة، ولا توجد مفردةٌ ولو واحدة كاذبة في دينٍ إلهي. 

وجود أيّ مفردة كاذبة في دين مُدَّعى أنّه إلهيّ يدلّ على افتراء هذا الدين، أو يدلّ على أنّه دينٌ مفترى. 

لا مجال في حكم العقل لغير هذا. 

 

*على مستوى الشريعة:

كيف الأمر؟ هل تأتي التعددية أو لا تأتي؟

العقيدة ليس لها ارتباط بتحوّلات الزمان واختلاف المكان، مما يُحدث خلافاً في الحالة التطورية للإنسان. كلّ التطورات التي تطرأ على الإنسان، على أوضاعه، على علاقاته، كلّ ذلك لا يمسّ العقيدة بأيّ تأثيرٍ لا سلبيٍ ولا إيجابي. 

العقيدة مستقلّة تماماً عن وجود الأرض وعدمها، عن وجود السماء وعدمها. مستقلة تماماً عن الحالات المختلفة للحياة البشرية على الأرض وعلاقات الإنسان، أمّا الشريعة فحالها غير ذلك، الشريعة لها ارتباط بإختلاف الزمان والمكان، وما يحصل فيهما من تباينات التطور البشري وعدمها، ومتغيراتٍ تختلف معالجتها التشريعية، هذا الظرف يتطلب معالجة تشريعية خاصة به، ظرفٌ آخر ولخصوصيته يتطلّب معالجةً تشريعيةً أخرى. 

وأنتم تجدون أنّ الدساتير الأرضية مضطرة إلى أن تلاحق التطورات والتغيرات لتعدّل من بنودها وموادها. 

دائماً مطلوب أن تتناسب الأحكام الأرضية أو الإلهية مع أوضاع الإنسان على الأرض من حيث أن تكون لها القدرة على معالجة هذه الأوضاع، لذلك ينفتح الباب منطقياً للاختلاف في بعض أحكام الشرائع باختلاف زمن تنزُّلها. 

زمن إبراهيم “عليه السلام” له خصوصياته، إنسان واصل إلى درجة معينة من التطور له عوائقه ، له فرصه بالصورة التي تجعل زمن النبي موسى “عليه السلام” مختلفاً في ذلك، زمن النبي عيسى “عليه السلام” مختلفاً في ذلك.

ما يصلح من الشريعة يوم نوحٍ “عليه السلام” ليس هو الذي يصلح بكامله وبكلّ تعالميه بلا زيادةٍ ولا نقيصة وبما نزل فيه من أحكام وبخصوصه بلا زيادةٍ ولا نقيصة مع زمن موسى وعيسى والنبي محمد “صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”. 

الحكم الشرعي في زمن نوح، والذي تنزّل على نوح صالحٌ كلّ الصلاح وقته، ولو جاءت أحكامٌ من أحكام الإسلام المحمدي في زمن نوحٍ لما كانت هذه الأحكام صالحةً لذلك الزمان، أكبر من ذلك الزمان، أكبر من قابلية الإنسان في ذلك الزمان، لا تتناسب مع المستوى الذي قطعه الإنسان على خطّ الوعي وخطّ الخبرة وخطّ الحضارة وما إلى ذلك. 

وهكذا بالنسبة لبقيّة الشرائع. 

بِذَا نَصِلُ إلى وجوب وحدة الرسالات الإلهيّة على مستوى العقيدة واختلافها الجزئي على مستوى الشريعة.

 

وهناك مسألة التحريف، وضياع عددٍ من الحقائق والأحكام الشرعية المتنزّلة في الشرائع المختلفة، وبسبب وجود هذا التحريف يحدث خلافٌ أكبر في الشرائع. 

هل يمكن أن نقطع بأنّ الأحكام الشرعية المنقولة نقلاً آحادياً ولو من ثقاة، ولو من عدول، هل يمكن لنا أن نثق بأن أحكاماً من شريعة نوح تُنقل إلينا من هذا الطريق هي أحكام كانت فعلاً في زمن نوح وجاءت على يده؟ طبعاً لا نملك هذا.

أخبار الثقاة والعدول الآحادية من شريعة محمّدٍ “صلَّى الله عليه وآله” إنما نأخذ بها تعبُّداً لا عن قطعٍ عقلي ويقين بثبوتها وصدورها. 

الغفلة والسهو والتحريف كلّ ذلك يعطي هذا الاهتزاز في ثبوت الحكم الشرعي الذي مرّت عليه قرون على مستوى اليقين. 

التحريف يطال حتى العقيدة ويقدّم لنا في الأخير عقائد غير صحيحة، العقيدة لا تتغير ثابتة ولكنّ التحريف بتقوّله وتزويره على العقائد يغيّر منها، فليس كلّ ما ذكر من عقيدة أو تُبني من عقيدة عند ناسٍ مؤمنين بدينٍ معيّن يبقى حقيقةً ثابتة. 

 

ما هو الموقف من المُختَلَف عليه في الشرائع الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام؟ -هناك متوافقات وهناك ماهو محلّ اختلاف-.

نأتي لما هو محلّ الاختلاف من الشرائع الثلاث، ماهو الموقف من هذا المختلِف؟ 

ما جاء جديداً في شريعة عيسى “عليه السلام” ومخالفاً لما في شريعة موسى “عليه السلام”، ما هو سببه؟ ما سبب هذا الاختلاف بين ما في شريعة عيسى وما في شريعة موسى؟ ما في شريعة نوح وما في شريعة موسى، ما في شريعة إبراهيم “عليه السلام” وشريعة من بعده من الرسل من أولي العزم وأصحاب الرسالات الإلهية الكبرى؟ 

السرُّ بسيطٌ واضح، وهو أنّ الإسلام الإلهي بشكل عام، يعني الدين الإلهي بالشكل العام يُراعي في أحكامه المناسبة للظرف الزماني والمكاني والحالة الإنسانية التي وصل تطور الإنسان به إليها، لا ينزّل أحكاماً تتنافر مع الظرف التنافر الذي يجعلها مستحيلة التطبيق أو عسيرة التطبيق جدّاً وتجعل الدين حرجاً على طول الخط، أحكاماً لا تفقه الواقع أو لا تلتفت إليه. الواقع الأرضي لا يبقى كما هو، الزمان متغيّر وتغيُّر الزمان يعني تغيُّر للأوضاع، تغيُّر حتى الحالة النفسية، حالة التفكير ومستوى التفكير، المستوى الحضاري، الأوضاع على الأرض، وكلّ ذلك يؤثر على سهولة وعلى صعوبة وإمكانية التطبيق للأحكام الشرعية.

ولا يأتي الإسلام بأحكامٍ للإنسان لا يطيقها أو تعطّل بعض جوانب حياته تعطيلاً ضارّاً، لذلك لابد أن تتغيّر الشرائع في أحكامٍ منها.

 

ما جاء جديداً في شريعة عيسى “عليه السلام” يعني أنّه ناسخ لما يخالفه من شريعة موسى “عليه السلام”، وهذا النسخ يعلمهالله عزَّ وجلّ منذ تنزيله على موسى شريعته، وموسى “عليه السلام” يعلم بذلك، بأنّ بعض أحكام شريعته ستنسخ، ولذلك يوصي بإتّباع عيسى “عليه السلام” بعده، وكلّ نبيٍّ يأتي وهو يحمل شريعة أو لا يحمل شريعة وإنما يخدم شريعة النبي الذي قبله؛ يوصي باتّباع النبي الذي يأتي بعده وإن خالف الشريعة التي هو عليها في عددٍ من الأحكام. 

 

طاعة الله عزَّ وجلّ في زمن عيسى “عليه السلام” من المكلفين تكون بإتباع عيسى لا موسى، باتباع الأحكام الشرعية التي جاءت بها شريعة عيسى “عليه السلام” وليست شريعة موسى. 

يبقى التعبُّد صحيحاً وواجباً بالأحكام الشرعية التي تنزّلت على موسى “عليه السلام” حتّى إذا جاء عيسى “عليه السلام” بطل التعبُّد بالأحكام الشرعية التي نطق بها النبي موسى “عليه السلام” في إطار ما يخالف الأحكام الشرعية في شريعة عيسى “عليه السلام”، ما كان واجباً ينقلب إلى ممنوعاً وحراما، انتهى هذا ليس مأموراً به في هذا الوقت، وفيه خروجٌ عما هو مأمور به، وهو الحكم في الشريعة السابقة المخالف لهذا الحكم المستجد، فالشرائع تتغيّر. 

نحن لا نتوقّع من الشرائع الثلاث -حتى لو صدقت وخلت من التحريف، والتحريف موجود، لكن حتى لو صدقت كلّ أحكامها، يعني صدق نقلها، وحوفظ على سلامة النقل فيها- لا نحتمل أنّالأحكام للشرائع الثلاث ستتطابق تماماً، وستتوافى على رأي واحد، لأنّ ذلك خلاف مقتضى التحوّل والتغيُّر الزماني والتغير المكاني في بعض الحالات، واختلاف التطوّر، ومقتضيات أوضاع الحالة الحضارية للإنسان لهذا النوع من الحكم أو ذلك النوع من الحكم. 

اختلاف الزمان والتطوّر البشري لابد له أن يُحدث اختلافاً في الأحكام الشرعية بين الشريعتين السابقة واللاحقة. 

 

شريعة المتأخرين من الرُسل ناسخة -كما سَبَق- لأحكام شرائع المتقدمين منهم، فلا تُعدّ تلك الشرائع صالحة في عددٍ من أحكامها للوقت المتأخّر. 

تلك شرائع سقطت أحكامها عن التكليف بها، وتكون الأحكام الناسخة هي المكلّف به، والنتيجة على هذا هي: 

وجوب الأخذ بالإسلام لمن عاصره. 

نحن نُقدِّر كلّ مسيحيٍّ إلتزم بالأحكام المسيحية التي تنزّلت على عيسى 
“عليه السلام” كلَّ التقدير، ذلك في وقت حاكمية شريعة عيسى “عليه السلام”، وكذلك مَن تقيّد بشريعة موسى في زمن حاكميّتها والتكليف بها. 
كلّ تلك الأحكام -وإنْ نُسخت بَعْدُ- مَن كان ملتزماً بها مطبِّقاً لها فـ”هو على الرأس”، وربما كان متقدّماً على كثيرٍ من المسلمين اليوم، وكان متقدّماً في الجنّة على عددٍ من المسلمين الذين آمنوا بالإسلام ولم يلتزموا به الالتزام المطلوب المُساوي لالتزام أولئك. 

لكن لا نستطيع أن نوافق على وجود تقوى كافية واحترامٍ كافٍلله؛ حين يقول لي نصراني اليوم: عليك باتّباع شريعة محمدصلى الله عليه وآله ، وليس لك أن تتبّع ما خالفها من شريعة عيسى عليه السلام. هذا أمر الله عزَّ وجلّ، وإلا لكانت رسالة محمد عبثا. يأتي محمد “صلَّى الله عليه وآله” فلا يأتي بكتاب جديد، ولا بشريعة جديدة، يأتي ليخدم الإنجيل، وينشر الوعي بالإنجيل، ويؤكد على أحكام الإنجيل، يكون شأنه شأن الإمام علي “عليه السلام” بالنسبة للقرآن، شأنه شأن أنبياء بني إسرائيل من بعد عيسى “عليه السلام”، لكنه جاء برسالة خاتمة-للمسيحي واليهودي أن يناقش في ثبوت رسالة رسول الله وللمسلم أن يردّ عليه في النقاش، لكن أن يعترف في ديانةٍ اُطلق عليها الديانة الإبراهيمية بصحّة الرسالات الثلاث، ويختار من كلّ رسالةٍ ما يريد، فهذا ليس صحيحاً-. 

نعم، المعاصرون للإسلام ومن ثبتت عنده الرسالة الإسلاميّة الخاتمة، وثبوت الرسالة الخاتمة لا يحتاج هذا الثبوت عندي أو عند غيري إلا إلى الالتفات إلى عجز البشر عن الردّ على التحدّي القرآني. لستُ عالماً، لستُ بليغاً، لستُ سياسياً إلى الحدّ الذي يستطيع أن يحاكم المفاهيم السياسية في القرآن، ولستُ عالماً فلكياً يستطيع أن يحكم على مستوى المعلومات الفلكية في الإسلام، إلى آخره، ولكن هناك علماء من كل الأصناف ومن كل الاختصاصات ويعادون القرآن، وتريد أممهم وأقوامهم وحكوماتهم أن يستريحوا من اسم القرآن، وليس عليهم إلا أن يأتوا بقرآنٍ مثله، أو عشر سور من مثل سوره، أو سورة واحدة من مثل سوره. 

هذا الالتفات يكفي لقطع الشك في رسالة محمد بن عبدالله “صلَّى الله عليه وآله” وفي بعثته المباركة. 

 

رسالة الرسول “اللهم إني صلَّى الله عليه وآله” فرقٌ بينها وبين الرسالات السابقة عليها أنّها رسالةٌ خاتمة، هو رسولٌ خاتم، ما معنى ذلك؟

معنى ذلك أنّ ما نُقل عن الرسالات السابقة أيّاً كانت تلك الرسالات، صدقُه يحتاج إلى ختم رسول الله “صلَّى الله عليه وآله”، أن يختم عليه رسول الله ويصدّقه، إذا كان هناك شيء يكذّبه رسول الله وهو مُدّعى في المسيحية أو في اليهودية، في الشرائع السابقة، في شريعة إبراهيم، ونطق رسول الله بأنّ هذا ليس بحقّ ولم ينزل، نقل هذه الشرائع ينكشف أنّه خطأ. 

الرسالة الأخرى في شرائعها تحتاج إلى ختم، في عقائدها تحتاج إلى ختم، هناك عقائد تخالف العقل، هناك عقائد مشبوهة، العقل بوحده قادر على أن يحكم بصحة العقيدة أو عدمها نظراً إلى أن العقيدة -وحتى أحكام الشريعة- شيء منسوب إلى الكامل المطلق، هذه الأحكام تصح أن تنسب إلى الكامل المطلق أو لاتصح؟ الله يأمر بالظلم هذا غير ممكن، يأمر بالفساد هذا غير ممكن، يشرّع للظلم لا يمكن. 

على كلّ حال فرسالة الرسول رسالة خاتمة، تختم وتصدّق ويؤخذ بتصديقها، تكذّب فيؤخذ بتكذيبها. 

هكذا أيضاً بالنسبة لشريعة عيسى “عليه السلام”، ما صدّقت أنّه من شريعة موسى “عليه السلام” فهو صدق، وما ردّته مما يُدّعى أنّه من شريعة موسى “عليه السلام” وكذّبته فهو فعلاً كذب. عيسى يقول بحكم يخالفه حكم موسى “عليه  السلام” والإثنان صادقان وهما من الله، لا يمكن، ولا نستطيع تصديق ذلك.

فكلما تخالف حكمان -يعني اجتماعهما في الزمن الواحد لا يمكن، كلٌّ في زمنه صحيح- حكم المُحرِّم والحكم المبيح، كلٌّ منهما في زمنه وفي مدّة شريعته المقررة لها صحيح، لكن أن يجتمعا معاً كما في زمننا باطل، يعني معنى هذا أنّ الله يقول لنا بصحّة شرب الخمر وبحرمته، بإباحته وحرمته، بجواز زواج المثلية وحرمة المثلية، لا نستطيع أن نؤمن بهذا الشيء، حكيم من حكماء البشر لا يرتكب ذلك، عالم من علماء البشر لا يرتكب ذلك، فكيف بالحكيم العزيز الكامل المطلق ذي الجلال والإكرام الجليل الجميل تبارك وتعالى. 

الأحكام الإسلامية بخصوصها هي المعتبرة منذ تنزُّلها حتى انتهاء الحياة على الأرض، لخاتمية الإسلام الذي أرسل بها النبي الخاتم “صلَّى الله عليه وآله وسلّم”. 

 

الكلام عن الدين الجديد الأرضي المبتدع وهذا الشعار الخادع الذي وراؤه أسوأ نيّة، وأخبث قصد، وهو عنوان “الديانة الإبراهيمية”.

هذه ديانةٌ جديدةٌ من وضع الأرض طُرحت بصيغتين:

الصيغة الأولى: تقوم على الاعتراف بثلاثة أديانٍ منتسبةٍ في أصلها إلى دين إبراهيم “عليه السلام” مع إبقاءها على ما هي عليه، وكما هي.

أما التطبيق من هذه الأديان فلما هو مشتركٌ منها. الديانات الثلاث باقية على ما هي عليه بما فيها من صحيحٍ ومُحرَّف، لكن تطبيق أيّ حكم من أحكام اليهودية لا يطبّق إلا بأن يوافقه حكمٌ في المسيحية في النصرانية وفي الإسلام، وكذلك هو حال أحكام النصرانية وأحكام الإسلام، طبعاً هنا عملية فرز ، حذف وإبقاء! تُفرَز الأحكام المشتركة عن الأحكام التي لا يصدق عليها الإشتراك، نطرح من اليهودية كلّ حكمٍ ليس له موافقة من الديانتين الأخريين، ومن النصرانية كلّ حكمٍ لا يوافق عليه حكمٌ من اليهودية أو الإسلام، وهكذا بالنسبة للإسلام، ومعنى هذا أنّنا أخذنا الشرائع النازلة من عند الله عزَّ وجلّ حكّمنا فيها هوانا وأجرينا عملية فرز ما يمكن أن يلتقي مع نظرنا من كونه مشتركاً أخذنا به، والباقي طرحناه، يعني عليك أن تُسقط أحكاماً كثيرة من الشرائع الثلاث مما جاء من عند الله عزَّ وجلّ، هذا الإسقاط ليس للنسخ، إسقاط من أجل أن نتقارب من بعضنا البعض، إسقاط من أجل مصالح سياسية، من أجل توسُّع دول، استعباد دول، من أجل حالة إبتسار أخلاقي عام في العالم لا تُبقي قيمة لخلق كريم، من أجل المثلية، من أجل الزنا، من أجل كلّ فحشاء، من أجل كلّ تهتُّك، من أجل هذا نتوحّد على مشترك، وسنتخلّص من محرّمات وما شابه. 

 

اليهودية لا تملك دليلاً عليها من داخلها. اليوم اليهودية لا تملك لنفسها دليلاً من داخلها، اليوم النصرانية لا تملك لنفسها دليلاً من داخلها، الإسلام وحده هو الذي يملك دليلاً لنفسه من داخله، من داخل قرآنه بمعجزاته، القرآن كلّه إعجاز، جوانب إعجازية كبيرة هي تثبت القرآن، تثبت أنّه لا يمكن عقلاً نسبته للبشر، لا يمكن عقلاً إلا أن يُنسب لله تبارك وتعالى، فإذا أثبت القرآن أنّه من عند الله ومن داخله -هذا إثبات بدليلٍ من داخله- ثبت أنّ الإسلام من عند الله عزَّ وجلّ، وأنّ النبي نبيٌّ مرسل من الله عزَّ وجلّ، وأنّ ما يقوله ماهو إلا وحيٌ يوحى. 

النبي موسى “عليه السلام” كانت له معجزاته التي تثبت نبوته وتثبت شريعته بلا أدنى إشكال، ولا ذرّةٍ من شك، لكنّها معجزاتٌ انقضت، وانقطع التواتر بنقلها، ليس لدينا مشاهدة لها في هذا القرن الواحد والعشرين، وليس عندنا تواترٌ بنقلها، فمن أين نثبت أن النبي موسى “عليه السلام” نبيٌّ حقّاً؟ وأنّ إبراهيم نبيٌّ حقّاً؟ وأن عيسى نبيٌّ حقّاً؟ من أين نثبت هذا؟ 

الدليل إمّا عقلي أو سمعي، الدليل العقلي مثل دليل القرآن، الدليل الإعجازي. 

والدليل النقلي لابد أن يكون عن طريق التواتر الواصل ، لكن مع ذلك نحن نصدّق بنبوّة كلّ الأنبياء والمرسلين ورسالة كلّ الرُسل الذين ذكرهم القرآن صريحاً أو أشار إلى وجودهم وإنْ لم تُذكر أسماؤهم. 

أُقسم لك أنّ إبراهيم نبي ورسول، أُقسم أنّ موسى نبي ورسول، عيسى نبي ورسول، وأنّ أولئك الأنبياء والرسل صفوة الخلق، وأنّ أتباعاً من أتباعهم أجلّاء عظماء محلّقون في سماء التقوى، أمناء على دين الله، هناك رهبانٌ أمناء على دين الله عزَّ وجلّ، هذا صحيح، ولكن نحنُ نتكلّم عن حاكمية الشرائع المختلفة مع شريعةالإسلام في الزمن الذي تنزّل فيه الإسلام، وامتداد هذا الزمن. 

ذلك لا يجوز، لأنّ فيه مخالفة صريحة لله عزَّ وجلّ الذي أمر بالإسلام وتوقُّف الشرائع السابقة، ولو أصرَّ نبيٌّ من الأنبياء السابقين على استمرار شريعته وأوصى قومه باستمرار شريعته بعد أن عَلِمَ بأنّ الله سينزل الشريعة الإسلامية على يد النبي محمد لخرج ذلك النبي عن نبوّته، هم أُمروا بالتبشير بمحمد “صلَّى الله عليه وآله”، كل الأنبياء، الرسل، أولي العزم، أمروا بالتبشير بالنبي الخاتم وبأن يوصوا أممهم بإتباعه “صلَّى الله عليه وآله وسلّم”. 

 

ذكرتُ صيغة من صيغتي الديانة الإبراهيمية المتقوَّلة على الله تبارك وتعالى، والتي هي واجهة جميلة من أجل إبطال الحقّ وتثبيت الباطل.

 

الصيغة الثانية: جوهرها إلغاء الوجود الفعلي لكلٍّ من الأديان الثلاثة، نرفع يدنا عن ثلاثة الأديان، هناك قلنا نُبقي على ثلاثة الأديان على ما كانت عليه، كلّ ما هناك أن نأخذ بالمشترك، هنا نلغي ثلاثة الأديان ونتخذ ما هو المشترك من مقرراتها، انتخبنا رأياً وأسقطناها هي، لكن مع إسقاطها نأخذ المشترك من أحكامها، نأخذ المشترك لا على أساس أنها نصرانية ويهودية وإسلامية، وإنما على أساس أنه مشترك واعتاد الناس على الارتباط بهذه الديانات، أنسوا لها وقدّسوها ودخلت في قلوبهم وعقولهم، ومن الصعب مقاومة هذا الارتباط العقلي والنفسي وكلفته لا تطاق، فهناك طريق أسهل هو أن نبقي هذا المشترككتخفيف للصدمة، نتخذ من هذا المشترك ديناً عالمياً معتمداً، هذا هو الدين المشترك، ونترك ما عدا المشترك، نتركه على مستوى الفعل وعلى مستوى الاعتقاد، وهذا دينٌ بشريٌ نابع من ذوق البشر، وهو من وضعهم وفيه إلغاءٌ وتصرُّف في كلٍّ من الديانات الثلاث، وفيه رفضٌ لأيّ ديانةٍ تأتي من الله عزَّ وجلّ، وإصرارٌ على أن تكون الديانة ديانة أرضية من صنع البشر.

 

والنتيجة لهذا الطرح -الطرح للديانة الإبراهيمية العالمية- أنّ هذا الدين لابد أن يخلو من المسيحية والإسلام، لأنّ إقرار أصلهما غير معترف بهما أنّه سماوي. 

اليهود ينكرون وجود المسيحية أصلاً، ينكرون وجود نبوّة عيسى “عليه السلام”، وينكرون نبوّة محمد “صلَّى الله عليه وآله”، ويقولون بأنّ الرسالة الخاتمة هي رسالة موسى “عليه السلام”، فأنت هنا في الإبراهيمية تجمع بين ما هو دين وما هو ليس دين في نظر اليهود، وكيف يقبل اليهود بقبول دين يعتقدون تماماً بأنّه ليس من الله -وهو المسيحية-، وكيف يتوقفون في تصديق ديانتهم أو في الأخذ من ديانتهم على ما يحصل على صفة الإشتراك مع الحكم الإسلامي والحكم المسيحي، المسيحية ليست دين إلهي، الإسلام ليس دين إلهي في نظر الموسوية، فكيف تقبل الخلط ما بين ما هو من الله وبين ما هو متقوَّلٌ على الله عزَّ وجل، يُسأل اليهود الذين يطرحون هذا الطرح هذا السؤال، كيف جوّزتم لأنفسكم أن توقفوا تطبيقكم أو اعتباركم لما هو من أحكام شريعتكم على موافقة شريعة الإسلام وشريعة المسيحية، وهما باطلتان لا صلة لهما بالسماء في نظركم، هذا سؤال يُطرح. 

الإقتصار على المشترك يُسقط بنوّة عُزير وبنوّة عيسى “عليه السلام”، إذا كان حتى المشترك العقيدي، الإسلام ليس فيه بنوّة عزير ولا بنوّة عيسى، فيكون هذا أمرٌ انفردت به الموسوية، هذا أمرٌ تنفرد به اليهود والنصارى. عيسى ليس ابن الله في نظر اليهود، عيسى ليس ابن الله في نظر الإسلام، فليس هناك توافق من الديانات الثلاث على بنوة عيسى أو على بنوّة عُزير، ولابد أن تسقط، وإذا سقطت بنوّة عيسى يعني سقطت المسيحية بالكامل. 

 

نسأل أيضاً: أنت أيها المسيحي الذي لا تؤمن بالإسلام وتحكم ببطلانه وبافتراء الديانة الإسلامية، وأن الرسول محمد لم يرسل، كيف تتوقف في طاعاتك لله عزَّ وجلّ على شيء باطل ومعادي لله، على كذب على الله عزَّ وجلّ، هل هذه عقول؟ هل هذا طرح منطقي أو هو هراء وأكثر من هراء؟ الديانة الإبراهيمية هراء وأكثر من هراء. 

 

 

الإتّحاد والتعدُّد في الشريعة:

هل يصحّ أصلاً الإتحاد والتعدد في الشرائع؟

سبق القول بوجود الاتحاد في العقيدة أما الشرائع فلا، لكن إذا انتفى موجب التعدد في الشريعة اليوم فلابد أن تتحد. 

اليوم يقولون بعالم القرية الواحدة، والفكر الحضاري متقارب ومنتشر في كلّ الدنيا، والتكنولوجيا المتقدمة عامة في كلّ الدنيا، في السابق من الممكن أن تقول مصر عالم والسعودية عالم آخر، الإمارات عالم والبحرين عالم ثاني، ذلك مع التقارب، اليوم الحدث الواحد في أي منطقة من مناطق العالم هو حدث يعمّ كلّ العالم، الخبر الواحد يعم العالم في الدقيقة الواحدة، اليوم البيئة العالمية تمثل بيئة واحدة في كثير من جوانبها وأبعادها. 

هذا الاتحاد البيئي وفي مشاكل البيئة العالمية وفي إيجابيات البيئة العالمية، وتبادل الفكر العالمي -فكر كلّ قطر بعيد وقريب واصل إلى القطر الآخر والقارة الأخرى-، هنا تأتي هذه الحالة: حالة تعدد أو اتحاد في الشريعة؟ 

التعدد في الشريعة ما موجبه؟ 

موجبه افتراق البيئات، اختلاف الزمان واختلاف محمول الزمان، من حصيلة حضارية ومستوى إنسان، هذا غير موجود الآن، هذا التباين غير موجود. 

فالزمن زمن الشريعة الواحدة وليس الشرائع المتعددة، لكنها ليست الإبراهيمية. 

وجود بيئة متجانسة في العالم في الكثير من الأبعاد الرئيسة يوجب الرجوع إلى دينٍ واحد، ولدينا الآن ثلاثة أديان -وهي التي لديها كتب باقية-، هذا الدين أيُها؟ الناسخ أو المنسوخ؟ 

هذا الدين لابد أن يكون الناسخ، لابد أن يكون الخاتم الذي لحظ في شريعته وفي رسالته الإمتداد الزمني الطويل البعيد حتى آخر يومٍ للحياة على الأرض، نأخذ بهذا أو نأخذ بدينٍ جاء بمدّةٍ انقضت وانتهت. -انقضت وانتهت مدّة كلّ الشرائع الأخرى-.

ولو قلنا بوجوب النظام العالمي الواحد الذي يوّحد العالم لكان هو الإسلام، لأنّه الدين الخاتم، ولأنّه يشهد بواقعه في عقيدته وفي شريعته بأنّه الأكمل، والأقدر على تقديم حلول المشاكل الحضارية القائمة. 

فنحن معكم في أن يكون الدين ديناً عالمياً واحداً، فكونوا معنا في أن يكون هذا الدين هو الإسلام وحده. 

 

لماذا جائوا بالإبراهيمية؟

-البحوث الموسعة تعطي تفصيلاً أكثر، والكلام الموسع والكتابةسيعطي تفصيلاً غير هذا، وهذا مرور فقط-: 

* لينتهي الحديث عن اغتصاب إسرائيل لفلسطين. أصحاب الديانات الثلاث إخوة، دينهم واحد هو الإبراهيمية، فهؤلاء لا يتنازعون، لا ينبغي للأخوة أن يتنازعوا على الأرض. 

* ولا يخافوا على الدين، لا يُخاف على الإسلام من وجود إسرائيل، لأنّ الدين مشترك وهو الديانة الإبراهيمية، فالقدس لن تغتصب من أحد، القدس ستبقى للجميع، ومحلّ تكريم الجميع، والاستنارة من الجميع، وتفيُّؤ من الجميع، فلا يبقى كلام عن أنّ فلسطين مغتصبة. 

* شواهد المراد، تلك هي الواجهة: ديانة إبراهيم أبونا جميعاً من خلال أبوّته لإسحاق وإسماعيل، نحن أخوة كلّنا يهوداً ونصارى ومسلمين، لأننا أبناء إسماعيل وإسحاق، مِنّا من هم أبناءإسماعيل، ومنّا من هم أبناء إسحاق، لكن الأب الكبير واحد وهو إبراهيم “عليه السلام”.

هذا الشيء من مرادهم:

• حذف ما يُندِّد من آيات من مناهج التربية الإسلامية في البلاد الإسلامية باليهود، هناك آيات قرآنية تلعن اليهود وتندّد بهم، من مثل الآية الكريمة (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود والذين أشركوا) 82/المائدة.

• “بيغن” يطلب من “السادات” أن تُلغى مثل هذه الآيات من مناهج التربية الإسلامية للطلاب المسلمين. هذه الأخوّة، هذهالديانة المشتركة للتخلُّص من مثل هذه الآيات. من مقاصدها المكشوف عنها هذا الطلب وهو أن تُحذف الآيات المندّدة باليهود اللاعنة لهم من مناهج التربية الإسلامية في المدارس المصرية. 

• في اتفاق وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني -وهذا في نصوص الاتفاق-: (القيام بأسرع وقتٍ ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية والتي تعكس التعصب والتمييز والعبارات العدائية في نصوص التشريعات الخاصة بكلٍّ منهما).

هذا مطلب ومنصوص عليه في اتفاقية. 

• في مؤتمر التسامح الذي عقد في المغرب، قال ديفيد ليفي، وزير خارجية العدو حينها: (إنّه من أجل أن يقوم التسامح بيننا-أي اليهود- وبين العرب والمسلمين فلابد من استئصال جذور الإرهاب، وإنّ من جذور الإرهاب سورة البقرة). 

أطول سورة لابد أن تُلغى حتى تكون هناك أخوّة، تسامح، التسامح المطلوب هو هذا، أن نلغي من القرآن ابتداءً لنلغيه بعد ذلك كلّه، هذا هو التسامح الذي تحمله الإبراهيمية ويحمله التطبيع. 

 

• يقولون بأن إبراهيم “عليه السلام” جذرٌ مشترك وأصل تفرعت عنه الديانات الثلاث. هذا مغالطة. 

إبراهيم “عليه السلام” جذرُ النسب للطوائف الثلاث: مسلمين، والمسيحيين، واليهود، من إسحاق وإسماعيل، لكن إبراهيم “عليه السلام” هل هو جذر الديانات الثلاث بعقائدها المتضاربة؟ 

إبراهيم هو الرمز الكبير للتوحيد ونفي الشريك لله -أي شريكٍ وشركٍ بالله-، أليس هو الرمز الأكبر؟

أليس هو المكلّف ببناء بيت التوحيد -الكعبة- وتطهيره من كلّ مظاهر الشرك والجاهلية؟ 

هذا يكون أصل لليهودية وعقيدة بنوّة عُزير، وللمسيحية بما فيها من عقيدة بنوّة عيسى “عليه السلام”، أليست هذه مغالطة؟ 

 

• سَبَقَ -وأنْ قُلنا- أنّ الرسول محمد “صلى الله عليه وآله” هو خاتم الأنبياء، ودينه هو خاتمة الأديان. الآيات الكريمة منها: 

(قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُۥمُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىِّ ٱلْأُمِّىِّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِوَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) – الآية 158/الأعراف.

هذا الدين الخاتم الذي تريدون منه أن يُسقط منه المسلمون ما تريدون إسقاطه؟؛ أنتم مأمورون باتّباعه، (فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِوَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىِّ ٱلْأُمِّىِّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، (ٱتَّبِعُوهُ) مطلقاً فيما خالف منقول دينكم وما وافقه، وليس (ٱتَّبِعُوه) بشرط أن يوافق ما هو منقول دينكم فقط.

 

(مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) – الآية 40/الأحزاب.

الحقيقة أنّه لا دين إلا الدين الذي جاء من الله عزَّ وجلّ، لا دين من تصالح بشري، هذا الدين الذي يبنيه التصالح البشري هو من عبادة الإنسان للإنسان، والمولى في هذا الدين والمُطاع والمعبود والمصلَّى له وما كان من صوم فيه، كلّ ذلك صومٌ وصلاةٌ للإنسان، لأنّ هذا من وضعه. 

 

(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) – الكافرون.

لا تصالح على حساب الإسلام والدين الحقّ. 

لن أقاومك بالسيف لأنك مسيحي، ولن أقاومك بالسيف لأنك يهودي، ما لم تتعدَ، ما لم تنشر الفساد في أمّتي، ما لم تحارب ديني، أيضاً أنتَ دعني وديانتي من دون أن تشهر سيفك في وجهي، بلا أن تجنّد رأس مالك الباذخ في سبيل هدم أمّتي (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، ويبقى حدّ فاصل بين ديني ودينك، لا أرضى بدينك، رضيت بديني أم لم ترض أنا لا أرضى بدينك، إعلان صريح. أتنازل لك عن سورة البقرة؟ 

 

(وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنتُم بَرِيٓـُٔونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا۠ بَرِىٓءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) – الآية 41/يونس.

 

البعثة النبوية:

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) – الآية 1/الجمعة.

المبعوث ليس مبعوث ملك، ولا رئيس جمهورية، ولا مبعوث مَلَك، مبعوث مَن؟ 

مبعوث من تسبّح له السماوات والأرض، ملك النفوس، الملك الخالق الذي بيده بقاء وفناء كلّ شيء، القدّوس الذي لا يمكن أن يُنسب إليه شيءٌ من نقص، منزّهٌ عن كلّ نقص، منزّهٌ عن أيّ ثلمةٍ في الكمال، كماله مطلق، جلاله مطلق، جماله مطلق، هذا يأتي منه خطأ؟ يأتي منه سهو؟ يأتي منه جهل؟ يأتي منه ما يدلّ على روحٍ انتقامية؟ على عدم رأفة؟ على عدم اكتراث أو إهمال؟ نسيان؟ قدّوس.. 

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

هذا تغالبه؟ تغالب دينه؟ تريد أن تسقط دينه وهو العزيز الذي يغلبُ ولا يُغلب؟ والذي كلّ شيءٍ بيده؟ 

لا تفكّر أن تُسقط الإسلام الذي جاء به رسولٌ من عند العزيز الحكيم. 

هل من الممكن أن يُتهم الإسلام بنقص؟لا، لأنه من الحكيم العليم الخبير. 

 

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) –الآية 2/الجمعة.

يسمعهم كلمةً لا يستطيعون سماعها من غير طريق الوحي، كلمة لها امتيازها، فكر له امتيازه، كلام له امتيازه، توجُّه له اتميازه، هادفية لها امتيازها، طهر وقدس له امتيازه، هذا كلّه يسمعونه، يقفون على خبره من الوحي، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) التي تحمل كلّ هذا النور، وكلّ هذا الهدى، وكل هذه الاستقامة والصوابية.

(وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم، رسول أتى من قدّوس، من العزيز الحكيم القدّوس، يعني جاء وهو يحمل طهارة، يحمل قداسة، يحمل قدرة على التقديس، يعني على إعطاء القداسة، على إعطاء التزكية، التطهير. هذا الرسول بُعِثَ فكراً -تبعث سهمك للهدف يعني تطلقه-، إطلاقاً من الله عزَّ وجلّ لهذه النفس الشريفة المصنوعة صنعاً خاصّاً، اُطلق رسول الله فكراً وروحيةً، إرادةً وعزيمةً، ونيةً طاهرة. اُطلق إيجابيةً خاليةً من شوب السلبيات. أُطلق كتلة كمالية كبيرة خلاّقة، أُطلق رسولاً للناس ليصنعهم متقدسين طاهرين أقوياء عالمين، قلوب طاهرة، سلوك طاهر، إلى آخره، أرسلهم قادراً على صناعتهم الصناعة الأرقى، فهنا رسالة وحاملها مبعوثٌ خاص بما له من امتيازات لا يلحقه فيها غيره، هي امتيازات محمد بن عبدالله صلى الله وعليه وآله التي لا يجاريه مستوى أحدٍ حتى عليّ بن أبي طالب وهو قمةٍ شامخة كلّ الشموخ، لكن تأتي من بعد رسول الله “صلَّى الله عليه وآله”.

 

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)

جعلها أمّة كتاب، ليس هناك حضارة بدون كتاب، وليس هناك وعي يتنامى ويحفظ، وليس هناك علم يحفظ بلا كتاب، ولا يبقى الكتاب حبراً على ورق إنما يتحوّل إلى علم في الصدور وإلى حكمةٍ عملية لا تخطئ معها الخطى، الحكمة العملية تحفظ قيمة العلم عملياً، تضع الخطى كل خطوةٍ منها في موضعها الصحيح، كلّ عملٍ يأتي في محلّه، كلّ شيءٍ يأتي عن وعي وبصيرةٍ وهدف محدد وكبير وسليم. 

 

(وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين)

بُعث لأمّةٍ ضالة، وكفى بوصف الله لها، وضلالها دنيوي وأخروي، على مستوى حاجات البدن وعلى مستوى حاجات الروح، أمّة ضالة جاء ليُحدث فيها نقلة إلهية إلى النور، إلى الهدى، إلى القوة، إلى الاستقامة إلى البصيرة، ينقلها من الشقاء إلى السعادة. 

هذه الأمة محدودة في العرب؟ لا.. (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ)، ليس العرب الحاضرين وإنما الأمّة في امتدادها، ويأتي الإنذار لكلّ العالم.

 

جاء الرسول “صلَّى الله عليه وآله” لينتهي التزمُّل، وينتهي التدثُّر، أي تزمُّلٍ وأي تدثُّرٍ لا يتوقف عليه تدفق الحيوية والنشاط لإقامة الصرح الشامخ لإنسانيّة الإنسان، جاء ليقيم الصرح الإنساني الأكبر على مستوى داخل الإنسان وعلى مستوى خارج الإنسان وأوضاعه الحضارية. 

فإذن لا تزمُّل وتلفف بالثياب لطلب الدفئ وما إلى ذلك، ولا تدثُّر بالألحفة مما يعطي استئناساً بالمضجع، إنّه التدثُّر والتزمُّل بقدر الحد الضروري من الحاجة والذي فيه حفاظ على حيوية الإنسان وقدرته على بذل النشاط. 

 

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) – الآية 1،2/المزمل.

دع التزمُّل، أنت لستَ للتزمُّل، لستَ للراحة، لستَ للنوم العميق، أنتَ لأن تقوم بالليل، لتصنع داخلك الصناعة التي أرادها الله لك وهي أن تكون عبداً لله حقّاً وصدقاً، مشدوداً بكلّ داخلك المعنوي لله تبارك وتعالى، إلى جلاله وجماله وكماله. 

من أجل ماذا؟ لا من أجل أن تكون منظراً جميلاً تُستعرض في الناس، وإنما من أجل أن تقوم بوظائف لا يقوم بها إلا من صُنع هذه الصناعة، وهي إقامة الصرح الإنساني الأكبر. 

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)

هذا كتابك الذي جاء ليصنعك ويصنع أمتك والإنسانية كلّها. 

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)

في الليل قيام، عبادة، مناجاة، انقطاع إلى الله عزّ وجلّ، وهذا لونٌ من عبادة الله، والنهار أيضاً مساحة عبادة تقوم على النشاط وعلى الحركة الطويلة المُجْهِدة (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً). 

(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) – الآية 1،2/المدثر.

أمر فوري، هذا الإنذار يحتاج إلى قيام، إلى نهوض. 

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)

لفظاً إجعله في لسانك، وتشريعه في الناس، وتكبيراً عملياً بحيث يبقى كلّ شيءٍ قزماً في نظرك وفي نظر كلّ مؤمنٍ آخر عندما يكبُر الله في صدرك وفي الواقع، في معاش الناس، في حساب الناس، في مصالحهم ومضارهم. 

حين تظهر عملياً كبرياء الله وعظمته وحاكميته وقهره وهيمنته، حينئذٍ تصغر الطواغيت، ويصغر كلّ مدّعٍ بأنّه كبير أمام عظمة الله عزَّ وجلّ. 

هذا من تكبير الله عزَّ وجلّ. 

(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)

عطاؤك، فليكن عطاءك غزيراً، متدفقاً، دائماً مستمراً، ولكن لا بغرض الإستكثار في الجزاء من الناس تطلب أجراً من الناس.

إمنن، إعطِ، ولكن لا تتطلع إلى عطاء الناس، أما ثواب الله الكبير العظيم فأنت موعودٌ به. 

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)

هذا زمنٌ – الزمن الذي نعيشه- واحدٌ من الأزمنة المُلحّة على الإتِّصَاف بملكة الصبر. 

 

نهايةً..

أُلفِت النظر إلى أنَّ الدين الإبراهيمي تلفيقي. 

الديانة الإبراهيمية والتطبيع مخطط مشترك، وهدفٌ واحد، والعقول التي جاءت بالتطبيع هي التي جاءت بالديانة الإبراهيمية. 

 

أُلفت إلى هذا الشيء البسيط:

واحدٌ من الباباوات الكبار في الفاتيكان نُشِرَ عنه بأنّه يلوم القساوسة على عدم تقديرهم واحترامهم للمثليين، ويدعوهم لاحترام المثليين وأن تحتضنهم الكنيسة لأنهم أبناء الله، وكلّنا أبناؤه، وعلينا أن نحتضن المثليين!

مصير الدين المسيحي بيد مَن؟ لا بيد الإنجيل، واليهودية ليست بيد التوراة. 

بيد الأحبار والقساوسة، بيد علماء اليهود وأصحاب المراكز المرتبطين بالسياسة الماديّة الصِرفة، العدوانيّة الشهوانيّةالماديّة، هؤلاء هم المتصرفون في المسيحية وفي اليهودية، فالإبراهيمية خطوة لنقلة أخرى توصل إلى أن نسمع الأوامر والنواهي والتعليمات والحلال والحرام من مثل هذا البابا. 

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى