كلمة آية الله قاسم في ذكرى مولد الرسول الأعظم (ص) – 2022

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم ليلة ذكرى مولد الرسول الأعظم (ص) وحفيده الإمام الصادق (ع) في الاحتفال الذي أقامته الجالية البحرانية بمدينة قم المقدسة، وقد جائت تحت عنوان (الرسول عند الله.. الرسول عند الناس) – 17 ربيع 1444هـ/ 13 اكتوبر 2022م

*فيديو الكلمة:

*صوت الكلمة:

*نص الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين.

الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الخاتم وآله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم أيها الأخوة الأعزّاء المؤمنون.. أستغفر الله لي ولكم..

بارك الله لنا جميعاً وجميع الأمة الإسلامية، ذكرى مولد الرسول الأعظم “صلَّى الله عليه وآله”، وحفيده الإمام الصادق “عليه السلام”.

جئنا كلّنا هنا والأمةُ كلّها تتطلّع معنا، ونتطلّع معها، للاسترفاد من نور رسول الله، والإقتباس من لئلاء وجوده لنكون هنا في الدنيا شيئاً يُذكر.

حتى نحافظ على إنسانيتنا، حتى نرقى بإنسانيتنا، حتى تربح إنسانيتنا، لا سبيل إلا الولاء الصادق الشديد لرسول الله “صلَّى الله عليه وآله”، وآله الطيبين الطاهرين.

(الرسول عند الله.. الرسول عند الناس)

من هو الرسول عند الله؟ من هو الرسول عند الناس؟

أقرأُ عدداً من الآيات الكريمة أولاً:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا) – الأحزاب (45)،(46)،(47).

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) – الفتح (8)،(9).

(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا،  فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا) – المزمل (15)،(16).

(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) – الأحزاب (21).

(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) – الأحزاب (6).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) – النساء (59).

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) – الأعراف (158).

ليس هذا فقط مما قاله الله تبارك وتعالى في نبيّه الكريم “صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”.

الآيات لو وقفنا عند واحدةٍ منها فقط، لأعطتنا صورةً حيّة نابضة صادقة لا خلل فيها من الربِّ الحكيم لنبيّه الكريم، صورةٌ كلّها إشعاع، وكلّها نور، وكلّها هدىً، وكلّها بصيرةٌ وخير.

نحن أمام إنسانٍ بدن هو رسول الله “صلَّى الله عليه وآله”، ولكنّه ملكٌ روحاً، إنّه قائد الإنسانية كلّها، إنّه إمام كلّ إمام حقّ، إنّه هدىً لكلّ ذي هدىً في الناس.

الرسول الأعظم “صلَّى الله عليه وآله”، مطلوبٌ لهذه الأمة؛ لكي تكون أمةً حقّ، ولتكون سبّاقة، ولتكون إمام هدىً من بين الأمم، مطلوبٌ لها أن لا يسبقها الأقدمون من هذه الأمة، المخصلون لله ورسوله في الولاء له “صلَّى الله عليه وآله وسلّم”، نحن هنا نبحث عن هوية هي فوق كلّ الهويات، نبحث عن هدىً لا ضلال معه، نبحث عن صوابية لا خلل فيها، نبحث عن تقدّمٍ لا يمكن أن يتهدده تخلّف، نبحث عن دنياً سعادتها فوق كلّ سعادة، نبحث عن آخرةٍ فيها سعادةُ الأبد، وكلّ ذلك يسيرٌ أمره حين نرتبط برسول الله “صلَّى الله عليه وآله”.

نحنُ أمةٌ أصابها الضعف، هذا الضعف إنّما جاء من إنفصالٍ وآخر عن رسول الله، عن الرسالة الإلهية العظيمة، إنّما ما أصابنا من ضعف فإنّما هو بقَدَر ما أصابنا من خللٍ في العلاقة برسول الله، ومن فتورٍ أو غفلةٍ في معنى الولاء له. نريدُ أن نعود لولاءٍ حقّ، قوي، ناهض، باعث، وذلك هو الولاء الذي أراده الله تبارك وتعالى لدينه ولرسوله “صلَّى الله عليه وآله”.

الآيات لا أستطيع أن أقفُ معها، كلُّ آيةٍ -كما سبق- تُعطي لرسول الله المقام الأوّل في الإنسانية. فقط هو مرور سريع مع الآيات الأولى.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا)..

شاهداً من الله، هو شاهدٌ معيَّنٌ من الله، الشاهدُ من الله شاهدٌ عيّنه العلم المطلق، عيّنه اللطف المطلق، الهدى المطلق، القدرة المطلقة، عيّنه مَن ليس كعدله عدل، وليس كعظمته عظمة، ومَن ليس له لأحدٍ غيره شفقةٌ على الخلق كما له شفقةٌ عليه. هذا الشاهد لا يُمكن أن يُتهم بالظلم، بالكذب، بالمحاباة، بالجهل، بالغفلة، بالتخلُّف عمّا يعلم، لا يمكن لهذا الشاهد حتى يكون الشاهد الحقّ الذي اختاره الله أن يتعرّض لنقصٍ في علمٍ أو في عمل، فهو المعصوم علماً وعملاً.

الآية الكريمة في قولها (شاهداً) تعطي العصمة المطلقة للرسول الأعظم “صلَّى الله عليه وآله”. كفى هذه الكلمة شهادةٌ من الله الحقّ تبارك وتعالى بعصمة نبيّه.

شاهد على من؟

هو مرسلٌ للناس جميعاً، هو شاهدٌ على الناس جميعاً. مَن في الناس؟ أكبر الأذكياء بعد رسول الله؛ أمير المؤمنين “عليه السلام”، شهادة رسول الله تشمل كلّ الأمم، تشمل كلّ الأفراد، تشمل أئمة الهدى “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”.

إبحث عن مقام بقدر هذا المقام لأحدٍ من الخلق على الأرض لن تجد أحداً.

(َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ)

يناديه بالـ(يا)، مع (أيُّهَا)، لبيان بُعد المسافة بينه وبين من أُرسل إليهم، مهما كان شأنه، له المقام المتميز، مقامه الذي لا يُطال، مقامه الذي تتطلع إليه البشرية المستقيمة ولكنها لا تملك أن تصل، ولأنه في ذلك المقام يأتي نداء الله الحكيم له (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) لبيان بُعده المقاميّ الكريم عن سائر الخلق.

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)..

عظمة الرسول لا شيء أمام عظمة الله تبارك وتعالى، لذلك أتى تعبير الله عزَّ وجلّ عن نفسه، التعبير الذي يُناسب المتكلّم من الجماعة المتكلّمة، (إِنَّا) هنا للتعظيم، لبيان عظمة الله عزَّ وجلّ، العظمة التي لا يلحقها لاحق، والتي لا يمكن لأحدٍ غيره أن يتوفّر عليها.

أنت عظيمٌ يا رسول الله، ولكنك العبد الذليل المحتاج الفقير كلّ الافتقار إلى الله تبارك وتعالى.

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)..

أتشتبهون في رسولٍ أرسلناه؟ أرسله الله بعظمته؟ بجلاله؟ بجماله؟ بكماله؟ بعلمه المطلق؟ بقدرته المطلقة؟ بلطفه ورحمته بالعباد؟ أيتوقّفُ أمام هذا الرسول شيء من الشك في صدقه في عظمته في أمانته؟.. (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)، تزكية ليست بعدها تزكية.

يأتي من فقيهٍ كبيرٍ جداً، رسولٌ يُبعث إلى منطقة من المناطق ويقول “إنّا عيّناه لكم” -أو أنّه يتواضع فيقول “إنّا عيّناه”-، يأتي هذا الرسول في قيمة رسولٍ آخر يُرسله ملِكٌ ظالم؟ إنسانٌ جاهل؟

إنظر إلى قيمة الرسول أنّه ممّن أُرسل. عقلك، فطرتك، مصلحتك، تتوقّف أمام مثل هذا الرسول بشيءٍ من الشكّ في وجوب التصديق به، وفي أنّ كلّ مصلحتك في التصديق به والأخذ به ولو أمرك بدخول تنّور من النار؟ العاقل لا يتردّد، لا يتوقّف أمام الأخذ بما يقوله هذا الرسول، ولا يقول عن الهوى “صلَّى الله عليه وآله”، (إنما هو وحيٌ يوحى).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا)..

(شاهداً) -كما سبق- مطلقاً على الخلق، على كفر الكافر، وإيمان المؤمن، صلاح الصالح، فساد الفاسد، إلى آخره. شهادة مقبولة يوم يقوم القيام من الله العدل العليم الحكيم. شهادة لا يتأخّر عن مقتضاها حكم الله تبارك وتعالى. يشهد الرسول فيقضي الله عزَّ وجلّ في المشهود له في جنّة الخُلد، أو يقضي للمشهود عليه بالنار الأبديّة.

ما قيمة هذه الشهادة؟ ما عظمة هذه الشهادة؟ ما أخوف أن تأتي هذه الشهادة على المشهود عليه حيث أنّ ورائها أكبرُ خطرٍ في الدنيا وفي الآخرة.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا).

باختصار، بشارة الرسول الكبرى بالآخرة، بشارته الكبرى بالسعادة الخالدة الأبدية التي لا انقطاع لها في الآخرة، والتي لا يشوبها شيءٌ ولا ذرّةٌ من شقاء، لكن مع هذه البشارة بشارة الدنيا، ومع إنذار الرسول المتعلّق بالآخرة إنذاره المتعلّق بالدنيا.

القرآن منذرٌ بإنذار الرسول، القرآن مبشّرٌ بتبشير الرسول، وكلا التبشيريْن يتعلّقان بالدنيا والآخرة، وكلا الإنذارين يتعلّقان بالدنيا والآخرة.

الحياة اضطراب، الدنيا اضطراب، الدنيا خوف، الدنيا قلق، نزاعات حيوانية، الدنيا فزع، الدنيا فقر، الدنيا حروب، الدنيا ظلم؛ حين لا يكون الإسلام وحين يُخالف الرسول “صلَّى الله عليه وآله”.

والدنيا خيرٌ وضياء، وسعادة، وأخوّة كريمة، وأمن وأمان وسلام؛ يوم يكون الإسلام هو الحاكم، وكلمة الرسول هي الحاكمة.

كلُّ احتفالنا من أجل أن نعي هذه الحقيقة، ومن أجل أن نتمسّك بهذه الحقيقة، من أجل أن نقاتل من أجل هذه الحقيقة، ومن أجل أن نُربّي أنفسنا وأزواجنا وذرّياتنا على هذه الحقيقة، لا قيمة لاحتفالنا ولا لكلّ احتفالات الدنيا حين لا يكون الهدف منها الرجوع إلى رسول الله، الرجوع إلى الإسلام، إلى الحاكمية الإسلامية، إلى حاكمية الرسول، والتهيُّؤ لهذه الحاكمية في أعلى صورها التي تأتي من بعد حاكمية رسول الله وأمير المؤمنين؛ على يد الإمام القائم “عجَّل الله فرجه وسهَّل مخرجه”، وهذا وعيٌ يجب أن يسوقنا سوقاً حثيثاً، ويدفعنا دفعاً حارّاً كبيراً جادّاً للتمسُّك بولاية الفقيه في عصرنا الحاضر.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا).

يوم القيامة صفر، بل عذاب، يا ليت صفر، عذاب وعذاب شديد ومقيم ولا تخالطه لحظةٌ من سعادة لمن تخلّف عن إنذار الرسول وعن إنذار القرآن الكريم.

(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ)

إلى توحيد الله، إلى منهج الله، إلى طاعة الله، إلى ولاء الله وولاء أولياء الله تبارك وتعالى.

هناك دُعاة كثيرون، لكن الآية الكريمة هنا تقول (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ)، هذا داعي خاص، متميّز، دعوته بإذن ربّه، لما له من العلم الخاص الذي يعلمه الله منه، ولما له من عصمة في العلم والعمل، ولما له من تفاني في دين الله، ولإخلاصه لله أولاً، وللناس من بعد ذلك، إخلاصاً ليس مثله إخلاص.

أنت داعي لله عزَّ وجلّ، إن شاء الله أنا وأنت ممّن يدعو إلى  الله عزَّ وجلّ، لكن بإذنٍ خاص؟ لا.. الداعي إلى الله بالإذن الخاص هو الداعي الخاص. أكبر الداعين، أصدق الداعين، وأعلم الداعين، وأنجح الداعين. (بِإِذْنِهِ) جاءت لتخدم هذا المعنى، لتعطي هذا المعنى لدعوة رسول الله “صلَّى الله عليه وآله” ولم تأتِ فضولاً، وحاشى كتاب الله بأن يكون فيه فضولٌ ولو بقَدَر حرف واحد.

(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)

الناس محتاجون إلى سراج؟ هذه الدنيا محتاجة إلى سراج؟ بلى.

هناك فلاسفة، هناك علماء كبار، هناك ناصحون، هناك أدلاّء على الطريق، وهناك فِطَر سليمة، وكلّ هذا لا تعدّه الآية السراج المنير مثل السراج التي نصّت عليه هنا.

لا يبقى خطأ، لا يبقى ضلال، لا تبقى شُبهة، لا تبقى غفلة، لا يبقى شيءٌ من جهل؛ لمن اتّبع رسول الله وأخذ منه، ثم يأتي من بعده الأئمة الأطهار “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

المؤمنين بالإسلام، المؤمنين بهذا الرسول “صلَّى الله عليه وآله” الذي يُقدِّم على حقّانيته بكاملها، وأصالته، وكماله، وتمامه، وعلمه، ورحمته للبشرية، هؤلاء المؤمنون الذين يؤمنون بهذا الرسول ويتّبعونه؛ بَشِّرهم بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً، ليس أجر أعمالهم فقط، هناك أجر العمل الذي هو حسنة بحسنة، لكن الفضل الكبير يتجاوز عشر حسنات، ما كان ثوابه حسنة يُعطى لصاحبه عشر حسنات، سبعين حسنة، فوق ذلك، فوق حساب كلّ ذي حساب.

فبطاعتك، بتقواك، بامتثالك لأمر الله في الشدّة والرخاء، في السهل والصعب، في كلّ الظروف، في حال الأمن والخوف، ماذا تنال؟ تنال من الله فضلاً كبيرا. الله عزَّ وجلّ يصفه بالفضل، ووصف الله غير وصفي ووصفك ووصف أيّ مخلوقٍ آخر. إذا قال النبي فَضْل، لو كان يقولها بعقليته، وبسلامة نفسه، وبفطرته بلا نبوّة، لكان شيئاً كبيراً، مع النبوّة شيء كبير، لكن وصف بدقّة وصف الله عزَّ وجلّ لا يحصل.

(فَضْلًا كَبِيرًا)، عند الله فضل، وعند الله أنّ هذا الفضل متميز بأنّه كبير، فرق كبير جدّاً بين أنّ أخاك الطالب يقول لك “إجابتك دقيقة”، وبين أن يقول لك المُدرّس الخبير المتقدّم علماً كثيراً “إجابتك دقيقة”، فرقٌ كبير بين التقييمَيْن. الله عزَّ وجلّ بعلمه الذي لا يُحدّ، بصدقه، بجماله، بجلاله، يقول لكم بل عليكم أن ترتقبوا فضلاً كبيراً حين تطيعون الله  ورسوله وتأخذون ببشارة الرسول “صلَّى الله عليه وآله” وتجتنبون ما أنذر به.

وتبقى الآيات الكريمة تحتاج إلى وقفات دقيقة، ووقفات طويلة.

وينتهي بالأمر بمقام رسول الله في الناس، بأمانته، وصدقه، وعصمته المطلقة، أنْ يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

كم تحرص على نفسك؟ كم أنت تأمن على نفسك من نفسك؟ في نظرك أن نفسك تحافظ على نفسك، ويمكن أن تخطئ أحياناً كثيرة في هذا الأمر، أشدُّ الناس إئتماناً، أشدُّ الناس أمانةً على نفسه، حرصاً على نفسه، معرفةً بمصلحته، شفقةً على ذاته، الرسولُ يفوقه في كلّ ذلك، ولذلك أمْرُ الرسول يتقدّم على رأيه فيما يأخذ ويترك.

درستُ الأمر دراسةً دقيقةً جدّاً، مكثتُ أياماً ولياليا، استشرتُ كبار من يتيّسر استشارتهم، تفهمت كثيراً، وتمعنتُ كثيراً ووصلت إلى رأيٍ من الآراء، رأيٌ بتركٍ لفعل، أو أخذٍ بفعل، ووجدتُ فتوىً تقول لي بأنّ الأمر ليس كذلك، قالت لي نفسي من خلال دراستها الحريصة على ذاتها أنْ أقدِم، فجائت الفتوى، جاء الحكم الشرعي لا تُقدِم، قِف، جاء أمرُ نفسي بأنْ توقّف، جاء الأمر الشرعي أقدِم، على لسان رسول الله أو ما ثبت عن رسول الله، كان الجواب مما ثبت عن رسول الله هو هذا الجواب، لا أملك أن أخالف وإلا قتلتُ نفسي، أهلكتُ نفسي. (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) ليس في مخالفته إلا الهلكة.

النفسُ تكره الجهاد، الجهاد ثقيل كلّ الثقل، مَن قال لك بأنّ الجهاد خفيف خالف الآية (وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ)، قد يكون كرهاً للنفس، ولكن هذا الكره يتحوّل بالتربية الإسلامية، بحسب طبيعة النفس كرهٌ لنا، ولكن بحسب التربية يكون مَشوقاً لمن وفِّق. يأتي: جاهِد، قاتل، تقدّم، قِف أمام الحسين “عليه السلام” في صلاته تتلقّى السهام، أين يكون الخير؟

(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ)، ويأتي كذلك الإمام من بعده، فيتقدّم أمر الإمام على ما ذهبت إليه النفس.

اللهم وفقنا لمثل هذا الإيمان، والأخذ به في مقام العمل.

ذاك هو الرسول عند الله بشكل مختصر.

رسولٌ هو الإنسان الأوّل، هو الأسوة الحسنة (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، تريد فضل الله عزَّ وجلّ؟ تريد المقام العظيم يوم الآخرة؟ هل لك ذكرٌ لله عزَّ وجلّ؟

الذكر، ذكرُ الله الكثير يُعينك على أن تتخذ رسول الله أسوة حسنة، هناك أسوة حسنة وهناك أسوة سيّئة، الآية الكريمة قيّدت كون الرسول أسوة بكونها أسوة حسنة، لا يُرتقب من رسول الله أيّ شيءٍ مما يكون أسوةً سيئة، كلّ أسوةٍ من رسول الله هي أسوةٌ حسنة، هذه الأسوة الحسنة تحتاج إلى زاد، استعداد، نجده في ذكر الله كثيرا، حيث تُستمدُّ منه القوّة، الطمأنينة، الثقة، توّقع الثواب العظيم، وكلّ ذلك يجعل الصعب مما فيه اقتداءٌ برسول الله سهلاً، والبعيد قريبا، وما تتلكأ عنه النفس تُقدِم عليه في ظل هذه الثقة بالله عزَّ وجلّ، هذا الذكر الجميل.

(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة)..

أمّا الرسول عند الناس، 1- فنبدأ بالحكومات الوضعية: الرسول شخصية متآمرة على مصالحهم، يرون أن الرسول وأتباع الرسول ممن كانوا وممن هم اليوم موجودون متآمرين على مصالحهم.

كلّ كافرٍ ومنافق طبعاً يرى الرسول عدوّاً، وكلّ ظالمٍ يسعى لنشر الظلم في الأرض واسعباد الناس يرى الرسول عدوّاً، ويرى أنّ من واجبه ومن وظيفته أن يحارب رسول الله، فالرسول عند الظالمين من الحكومات الوضعية، والحكومات التي تسمّى بالإسلامية كذباً، الرسول عند هذه الحكومات عدوٌّ رجعيٌّ مُسَفّهُ الرأي محذّرٌ منه، تعمل هذه الحكومات ليلاً ونهاراً على فصل الجماهير فصلاً تامّاً عن ولائه. هذا هو الرسول عند الحكومات الظالمة.

2- الرسول عند الجماهير ضعيفة الإيمان، مع سذاجة، -ويكفي ضعف الإيمان-: تعاطف بارد، قد يكون موجود تعاطف ولكنه التعاطف البارد، نصرة زينة تُعلّق في الشوارع، نصرة تصفيق، نُصرة ولائم تُقام بمناسبة مولده ووفاته، هذا كلّه ممكن، حتى الصلوات قد لا يُدرَك معناها ولا ينسجم معها الموقف العملي، هذا يحصل كثيراً. هذا بالنسبة للجماهير ضعيفة الإيمان، والتي يجب أن تلتفت لها النُخب الإيمانية لتنهض بمستواى هذا الإيمان، لتصححه، لتُدخل التبلور الإيماني على نفوس هؤلاء الناس.

3- الجماهير المؤمنة بصدقٍ ووعي: واضح.. مقاومة وفدائية ونهضة مستمرة، والوعدُ الإلهي الكريم لهذه النُخب الكريمة، ولا قيام للإسلام إلا بمثل هذه النُخب، ولن تكون عزّة لهذه الأمة، ولن يبقى لها وجود، ولن يحسّ إنسان هذه الأمّة بالعزّة والكرامة، ولن يثق في هذا الدين، ولن تستكمل لهذا الإنسان إنسانيته على المستوى الفعلي؛ إلا من خلال جهود هذه النُخب، وهذه المقاومة، والأمّة أحوج ما تحتاج له اليوم لمثل هذه المقاومة التي تعود بالأمّة إلى إسلامها وولاء رسولها “صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”.

أُخوتي الكرام..

نحنُ أمام طريقين لا ثالث لهما: إمّا عودةٌ إلى الله وهي عودةٌ إلى الإسلام والرسول في العلم والعمل، وإتّباع المنهج الإلهي في كلّ الشؤون، ومنها إقامة حكم الله في الأرض، وبذلك تسود هذه الأمة من جديد سائر الأمم، وتقتدي الأمم الأخرى، وتسترفد منها الأمم الأخرى هداها وقوّتها وخير دينها ودنياها.

وإمّا أن نتخلى عن إسلامنا، ولا نعمل من أجل عودته، ونستسلم إلى مؤامرات الآخرين من غير أن نواجهها بعقليّة وصلابة وصبر وفدائية وتضحية، وعند ذلك علينا أن ننسى أنفسنا، وننسى عزّتنا، ونتحوّل إلى ألعوبة الأمم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى