كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني 27 رمضان 1443هـ

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المجلس القرآني الذي عُقد في منزل سماحته بقم المقدسة ليلة السبت وسط حضور المؤمنين – 27 رمضان 1443هـ / 29 أبريل 2022مـ:

*فيديو الكلمة:

*صوت الكلمة:

*نص الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين.
والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
السلام على الأخوة الأعزاء الأحبة في الله ورحمة الله وبركاته.

إذا كان الانقسام الاجتماعي صعباً ومحلَّ معاناةٍ مُتعبة -وهو صحيح-، وإذا كان الانقسام العائلي الأسري صعباً ومحلَّ معاناةٍ مُتعبة -وهو صحيح-؛ فإنّ انقسام النفس مع النفس، انقسام ذات النفس على نفسها هو أصعب وأصعب.
النفسُ عقلٌ، وركائز دينٍ فطري، وميول ماديّة وميول معنويّة، ورغبات وشهوات وطموحات دنيويّة، وهي قوىً غير متجانسةٍ في الاتجاه والتوجيه.
هذه القوى بينها صراع، وتعيش معركة، وإذا استمرت حياة النفس على هذه المعركة وهذا الصراع، فحياتها حياة قلق، وحياة توزُّع داخلي أصعب من توزّع أعضاء الأُسرة واختلافهم ونزاعاتهم، وأصعب من حالة الانقسام في المجتمع.
هذه النفس لا يمكن أن تسعد وهي تعيش صراع القوى في داخلها، تعيش الصراع بين العقل والدوافع الماديّة، العقل والدوافع المعنوية، الدينيّة، الأخلاقيّة من جهة، والدوافع الماديّة والشهوات والرغبات والطموحات الدنيوية من جهة.
هذا يجذب النفس في اتجاه، وذاك يجذبها في الاتجاه الآخر، ولا هذا الجانب راضٍ عن ذاك الجانب، ولا ذلك الجانب براضٍ عن هذا الجانب.
هذا الشخص مُتعبٌ ليله ونهاره، وهو يعيش معركة الداخل، لا يمتلك لحظة إيمان بذاته مُجتمعة، وإنّما ذاته على افتراقٍ دائمٍ متعب، وتجاذبٍ وحرب، والإسلام يريدُ لنا ذواتاً مستقرّة، ذواتاً مطمئنة، ذواتاً راضيّةً مرضيّة، فكيف لنا بهذا؟
نحنُ من جهة، نَفْسٌ واحدة في مُركَّبٍ حكيم، مع اختلاف قواه في الاتجاه، إلاّ أنّه متكامل، وكلّ قوّةٍ من قواه محلّ حاجةٍ لهذه الذات واستمرارها وانحفاظ هويتها، وكلّ دافعٍ معنوي وكلّ طاقة معنوية في الذات هي محلّ حاجة لبلوغ هذه النفس هدفها الكبير ومقامها العالي.
وكلّ دافعٍ مادي من دوافع الذات، هو محلّ حاجةٍ لهذه الذات حتّى تبقى في هذه الحياة الدنيا.
أنت لا تستطيع أن تبقى بلا حبّ الحياة، لا تستطيع أن تبقى في هذه الحياة بلا حبّ المُلكية، بلا حبّ الظهور، بلا حبّ الجنس لا يمكن أن يستمر النسل، إلى آخره. فليس من شيءٍ في تركيبة الإنسان وفي كينوينته بفضول، ولا يمكن أن يكون فيه شيء من باب النافلة، كلّه ضروري، وكلّه لابُّدي؛ لانحفاظ هوية الإنسان وتميّزه. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، للنفس تلك الأبعاد التي مرَّ ذكرها، وبلغة أخرى هناك نفسٌ أمّارةٌ بالسوء، وهي بعدٌ من أبعاد ذاتنا، تقيّنا وغير تقيّنا. النفس اللوّامة، لا تخلوا منها نفس، ولا يخلوا منها مركّب إنساني. المركّب الإنسان من ضمن أضلاعه النفس اللوّامة، ومن بين أضلاعه النفس الأمّارة بالسوء، وعلى تقابلهما، وعلى مواجهتهما لبعضهما البعض، وأنّهما في خطّين مختلفين.
هذه النفس اللوّامة تُشقي هذا الإنسان بكثرة لومها، تُتعب هذا الإنسان بكثرة لومها، وتأنيبها وتقريعها، وأنت تحكم على ذاتك بالجلد، وأنت تجلد ذاتك، صعبٌ عليك جدّاً. وأنت توبّخ هذه الذات، وتحكم عليها بأنّها مُخطئة، وبأنّها غافلة، وبأنّها تسلك الطريق غير الصحيح، وبأنّها مهددّةٌ بمصيرٍ سيءٍ جدّاً. هذه حياة شقاءٍ تواجهها النفسُ من هذه الطاقة الذاتية التي لها دور التأنيب والتوبيخ والتقريع والعقوبة -هي تعاقب-، لا أكاد أرتكبُ خطئاً إلا وقامت في وجهي لتؤنّبني، وتُخطّأني، وتُسقط قدري في نفسي، وتحكم عليّ من داخلي بأنّي لستُ الإنسان السويّ، ولستُ الإنسان الذي عرف طريق سعادته. هذا متعبٌ جدّاً.
ليلة واحدة من حياة الضمير وقومه بدورٍ فعّال في التأنيب والتوبيخ على فعلٍ ارتكبه أحدُنا في نهاره، هذه ليلة شقاء.
لا يُعذّبُك أحدٌ من الخارج إنّما عذابك من الداخل، ولا يتسِّع لك الأمر بأن تقول إنّي مظلوم لأن غيري يحكم عليّ بالحقارة، هذا الحكم على نفسك بالحقارة من داخلك، وهذا صعب. وهذا التقريع، هذا التوبيخ، هذه التخطئة عن قناعة تامّة داخلية لا تُناقش، قناعة وجدانيّة. أحكم على نفسي وجداناً بأنّي مخطئ، بأنّي مقصّر، بأنّي ظالم، بأنّي سلبتُ ذلك اليتيم لقمته، بأنّي تعدّيت عن حدود الله الذي يجب شكره، إلى آخره. هذا حكمي الداخلي على نفسي، فهذا عذاب.
من جهة ثانية، كلّما أردتُ أن أقوم على قدمي، وأستقيم على الطريق، جاء دور النفس الأمّارة بالسوء. الشيطان يقفُ معها وهي تقفُ مع الشيطان في وجه أيّ موقفٍ منّي أريدُ أن يكون موقفاً صحيحاً، أريدُ أن يكون موقفاً قويماً يرضى به ضميري على الأقل، بإحساس هذا الضمير برضا ربّي عنّي تبارك وتعالى. هذا عدوّ، كلّما أردتُ أن أهتدي، كلّما أردتُ أن أستقيم، أن أكون مع إرادة الله عزَّ وجلّ جاء دور وسوسة النفس، وتسويل النفس، والأمر المشدد من النفس والملحّ والمتحايل والماكر والظاهر بمظهر الصديق المُخلص الوفيّ لتُضِلّني.
أنت دليلٌ لي من الخارج على الحقّ، ونفسي دليلي من الداخل على الباطل، تسمعُ الكلمة منك وأنت أعلم عالم وأنصح ناصح وتحوّل هذه الكلمة في شعوري العميق بأنّها كلمة مُتعبة وضارّة وغير مُخلصة.
فنزاع، صراع صعب شديد، والإنسان يشقى بهذا الصراع.
فلابد من طريقٍ يستطيع أن يجمع القوّتين على خطٍّ واحد، ويُصالح بينهما.
أريدُ -أحبّتي- أن أكون صديقاً لنفسي، وأريدُ لنفسي أن تكون صديقةً لي، وأمامي ثلاث طرق لهذا التصالح المريح، ولهذه الصداقة المريحة:

  • أنْ تخضع النفس اللوّامة وتُغلَبَ وتُسحق أمام النفس الأمّارة بالسوء، لتكون الحاكميّة كلّ الحاكميّة في داخل الذات للنفس الأمّار بالسوء، كما لو كان هناك حكومتان متضادّتان تماماً، إحداهما في قمّة العدل وأخرى في قعر الظلم، إحداهما كلّها فساد، والأخرى كلّها صلاح، فيتنازعان على المجتمع، فيتنازعان على مجتمعٍ واحد، أو يحكمان مجتمعٍاً واحد، هل يمكن أن يسعد هذا المجتمع؟ طبيعي لا. من الممكن أن يستريح نوعاً من الاستراحة في ظلّ حكومةٍ متفرِّدة. حكومة دكتاتورية من النفس اللوّامة أو من النفس الأمّارة بالسوء، وإنْ كانت النتيجة -نتيجة السعد والشقاء- طبعاً مختلفة بين حكومة النفس الأمّارة بالسوء، وبين حكومة النفس اللوّامة.
    الذي تحكمه حكومة الباطل في داخل نفسه، أو المجتمع الذي تحكمه حكومة الباطل، يمكن أن يعيش حياةً مريحةً خارجيّة من هذه الحيثية أو تلك الحيثية، لكنّ حكومة الباطل لن تؤدي إلاّ للشقاء، وحكومة الحقّ لن تؤدي إلاّ إلى السعادة.
    أقول، حتّى نستريح بعض الراحة، هذه الراحة لا يمكن أن تتمّ في ظلّ الصراع المرير المستمر المحتدم بين النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة، فاَختر أن تقضي على النفس اللوّامة، على دورها، يعني أن تطمر دينك، حاول أن تطمر ضميرك، أنْ تُجفِّف منابع فطرتك -ولن تستطيع-، أنْ تقضي على صِلتك الروحية بالسماء، أنْ تخلُص إلى الأرض ومادياتها وشهواتها ورغباتها، لتكون نفساً شرّيرةً أمّارةً بالسوء فقط، أو حاول العكس، أن تقضي على داوفع الشرّ، وعلى مبيدات الحيوية الروحية الكريمة في ذاتك، وأنْ ترتفع بكلّ إيجابياتك الفطرية والمكتسبة، وتُبقي الصوت في داخلك صوتها، بلا معارضٍ من صوت النفس الأمّارة بالسوء، وحينئذٍ يمكن أن تجد الراحة.
    المطلوب في الأخير أن ينتهي هذا الصراع، وأنْ تصنع نفسك مطمئنة. الجولة كلّ الجولة الحياتيّة، جولتك في الحياة كلّها -يعني كلّ الحياة- هي أن تتخلّص من هذا الانقسام هو أن تصادق نفسك، ونفسك تصادقك، لكن لا أن تكون النفس الأمّارة بالسوء هي الحاكمة، وإلا فالنفس لن تكون إلى اطمئنان، ستصيرُ إلى العذاب وأشدّ العذاب.
    فحتّى تنجح في دورك في هذه الحياة، وتُسجِّل نجاحاً أبديّاً لابُّد أن تُنهي صراعك الداخلي، وأن تقضي على حالة الانقسام والتضادّ والتهافت والتناقض؛ بين معسكر الخير ومعسكر الشرّ اللذَيْن لا يفارقان الذات، وكلٌّ منهما له دوره وله توجهه الخاص، والنزاع مستمرٌ بينهما.

ومتى تحصل النفس المطمئنة؟
حين يخفُت عن قناعة صوت النفس الأمّارة بالسوء. حتّى يخفت صوت النفس الأمّارة بالسوء بل ينمحي، ولا يمتلكُ حديثاً لي، وإذا تحدّثَ لا أسمعُ له كلمة، ولا يتركُ أثراً في نفسي، ولا وزن له في تقييمي. إذا وصلت قيمة النفس الأمّارة بالسوء في دفعها، وجاذبيتها، وتسويلها، وأمرها بالسوء إلى هذه الدرجة، متى يحصل هذا؟ بتسليمي لله، بثقتي بالله، بمعرفتي بالله. إذا عرفتُ الله، وعرفت جلال الله، وجمال الله، وكمال الله، ووجوب شكر الله، وشأن الله العظيم، وحقّ الله الذي لا يُقضى، والجمال اللامتناهي لله عزَّ وجلّ، فطبعاً قيمة النفس الأمّارة تسقط، صوتها يخفت، أُصدِّقُ هذه النفس في قِبال كلمة الله؟ أقبلُ لها حكماً في قِبال حكم الله، أقبلُ لها إدّعاءً بنصح في قِبال نُصح الله، أقبلُ لها إدّعاءً بعلم في قِبال علم الله؟ لا، فحين أعرف الله أعرف نفسي، وأنّ نفسي الكريمة هي النفس اللوّامة، هي النفس المتمثلة في معسكر الخير، في الفطرة، أساسيّات الدين، في الخُلق الكريم، العقل النظري الفطري، العقل العملي الفطري. الشوق لله تبارك وتعالى.
فالنفس المطمئنة الاطمئنان الذي يجعلها عند لحظة الموت تُقدِّم الموت على الحياة -ليس أكبر من الحياة في نفس الإنسان إلاّ الله عزَّ وجلّ-، لحظة الموت عند الإنسان المؤمن الذي أدّب نفسه بأدب الله، وصاغ نفسه على طريق مرضاة الله. هذه النفس وقد صارت مطمئنةً بالسعادة في التعلُّق بالله عزَّ وجلّ، وفي الوفاء بوعد الله عزَّ وجلّ، وفي كرمه وقدرته، ورأفته ورحمته. هذه النفس حين تقفُ في اللحظة الأخيرة بين خيار الدنيا وخيار الآخرة، وتُخيَّر من مَلَك الموت في تلك اللحظة بين أن تبقى في الحياة التي عهدتها وعرفتها، وبين أن تنتقل إلى جوار الله، وأنت ترى رضوان الله، وأنت ترى جنّة الله، وأنت ترى رحمة الله، وأنت تُعاين جلال الله وجماله وكماله المعاينة القلبيّة، هل يمكن تقول أبقى مع أهلي لأنّهم أعزُّ عليّ؟ لا يبقى وزن لشيء في الدنيا أمام الشوق إلى الانتقال إلى رحمة الله ورضوانه.
هذه هي النفسُ المطمئنة، أي ليس عندها تردُّد في أنّ الربح كلّ الربح هو في الارتباط بالله، هو في الانتقال إلى الله، في نيْل رضا الله عز وجل ، مطمئنة أي ليس فيها تزلزل، هذ النفس لم يعُد فيها قلق، شيء من التزلزل ، شيء من الشكّ، أقل شيء من الريبة في أنّ المصير سعيد أو شقيّ، في أنّ الجولة انتهت إلى خير أو إلى شرّ، هو تأكّد الآن في هذه اللحظة بأنّه في لحظة خير، بأنّ جولته جولة رابحة، وأنْ لا تعب أمامه، حياة التعب والشقاء وَلَّت وإنْ كانت حياة قصور، وإنْ كانت حياة ملك عريض، وإنْ كانت حياة جاهٍ كبير، إلاّ أنّ صاحبها يعرف أنّها مع ذلك هي حياة غير مطمئنة، لا يطمئن إليها الإنسان، وليس في الإمساك بها إمساكاً بالسعادة.
الحياة المطمئنة متى تكون؟ عند معاينة أنّي قد كسبتُ الآخرة، قد كسبتُ رضوان الله تبارك وتعالى، والمؤمنون الحقّ الحقّ يصلون إلى هذه المعاينة عند موتهم.
هنا نتذكّر دائماً هذا المَثل وهو أنّهم “كأنّما رأوا الجنّة رأي عين”، وهُم أنصار سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين “عليه وعليهم السلام”، أولئك الذين هانت عليهم الدنيا كلّها، لديهم أعزّاء مثلنا أو لا؟ بعضهم لديه أملاك أو لا؟ له موقع في عشيرته أو لا؟ يُحبّ الحياة مثل ما يحبّها الآخرون أو لا؟ كلّ شيءٍ من هذا عندهم.

كيف تلذُّ حياة إبراهيم ونفسه وهو يُلقى بالمنجنيق إلى النار التي أشعلها نمرود؟ كيف تبقى النفس مستقرّة؟ هادئة؟ راضية؟ مطمئنة؟ لا يسبّ الدين ويشتم المؤمنين ويبرأ من كلّ مؤمنٍ ومؤمنة؟ كيف؟ رأى الجنّة رأي عين، رآها بقلبه كأنّما يراها بعينه، فلذلك هان عليه ذلك.
هذه هي النفس المطمئنة.
بَحثُك كلّ بحثك في هذه الحياة إجعله عن هذه النتيجة. إجعل كلّ بحثك عن هذه النتيجة. إذا كانت في القصر فأطلُب القصر. إذا كان القصر عائقاً لها فازهد في القصر.
القصر، العمر الطويل، الجاه العريض، محبّة الناس لك، أي شيءٍ مما تشتهيه في هذه الدنيا، إنْ وجدتَ فيه هذه النتيجة، -النفسُ المطمئنة- فاطلُبه. ونتيجة النفس المطمئنة معروفٌ طريقها عند المؤمنين الحقّ. عَرَفَ طريقها الأنبياء والرُسُل والأئمة الأطهار “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”، وعباد الله الصالحين، طلبوها في سفك الدماء في سبيل الله عزَّ وجلّ، بَنَوا نفساً مطمئنة على هذا الطريق، وعلى طريق الزُهد والمكافحة، وعلى طريق تفويت الفرص الدنيويّة العريضة، دنيا فيها رئاسة وزراء، فرصة رئاسة وزراء -الواحد لا ينام ليلته فرحاً بشمّة وعد من هذا الشيء، وواحد يفرُّ الفرار من الأسد من هذا الوعد، وبعضهم أظهر من نفسه بأنّه مجنون ليفرّ من القضاء، ويفرّ من الوزارة، ويفرّ الملوكيّة، ابن يزيد بن معاوية فرّ من الملوكيّة، الملوكيّة محلّ خوف، الملوكيّة فيها عذاب الله، فيها الشقاء الأبدي، فمطلوبنا الصحيح في هذه الحياة يجب أن يكون هو الوصول إلى النفس المطمئنة.

مجاهدتنا تتمثل في جانبين:
1- رفع الإيجابيات التي تتمتع بها النفس، إيجابياتها الفطرية وإيجابياتها المكتسبة.
في نفس كلٍّ منّا إيجابيات فطريّة، وإيجابيات مكتسبة. المجاهدات ماذا تعني؟ أن أتعب في رفع مستوى هذه الإيجابيات والحسنات، والتي تتمثل في القربات والخطوات التي تقربني إلى الله عزَّ وجلّ. هذا المُلخّص.
2- الجانب الآخر للمجاهدة؛ هو التخلُّص من النواقص والسلبيات ومعاصي الله تبارك وتعالى.

فالعمل على هذين الجانبين حتى تكمل النفس، وحتى تكون مؤهلة للسعادة الأبديّة.

دعونا نمرّ بيوم من الأيام التي يجاهد فيها الإنسان نفسه، دعونا نسميه يوم مجاهدة، عزمُك غداً أن تجعله يوم مجاهدةٍ للنفس، طبعاً والمجاهدة للنفس لا يكفيها يوم، ولا ثلاثون يوماً، كلُّ العمر في أيامه يجب أن تكون أيام مجاهدة، ولكن دعونا نأخذ يوم واحد ونقول هذا يوم مجاهدة، وقد يستمر عليه امرءٌ أياماً، اسبوعاً، شهراً، الله يوفقه فيستمر طوال الحياة.
من أين يبتدئ؟
هو عرف طريق الطاعة، فيجب أن يكون أساساً قد عرف طريق المعصية -ما يرضي الله وما يغضبه-، وجعل ذلك هو الدليل لبناء النفس، جعل الدليل لبناء النفس الاقتراب مما أمر الله به والأخذ بما أمر الله به، والإنتهاء عمّا نهى الله عنه، وهذا بمعرفة الدين، وما يُمليه العقل الفطري وهو من الدين.
من بعد ذلك، أنا غداً أريد أن أدخل في معالجة نفسي ومجاهدتها، أعرف أخطائي أو لا أعرفها؟ أعرف حسنات أو لا أعرف؟ هذا يستوجب الدخول في المحاسبة -كما سبق- أن أعرف واقع نفسي في إيجابياتها وفي سلبياتها، أعرف ما أمر الله به وما نهى عنه، وأعرف ما أنا آخذٌ به من أوامر الله وما أنا متخلٍّ عنه من أوامر الله، وما أنا آخذٌ به جهلاً وعناداً واستكباراً وطاعةً للشيطان من معاصي الله، وما أنا تاركٌ له من هذه المعاصي. لابد أن أعرف هذه الأشياء، مع الصبح وقبل الصبح، وآخذ العهد على النفس، أنتقي نقطة للمعالجة، أعرف سيئاتي الكثيرة، وأعرف التقصير في الحسنات، وكذلك أعرف بعض الإيجابيات. دعني آخذ نقطة ضعف أو نقطة قوّة. نقطة قوة لكي أرفع مستواي، أو نقطة ضعف حتى أتخلص من هذه النقطة، هذه المجاهدة. أنا أكذب كثيراً أو لا أكذب كثيراً، دعني أركّز على هذا السلوك، فمع الصباح يا نفسي أعرفكِ أنّكِ تكذبين، ولابد عليكِ من أن تتخلصي من هذا الكذب، وأنا كلّي منازلةٌ لكِ، وحربٌ عليكِ ما دمتِ على هذه الصفة، أتعاهديني على أن تتخلي، أن تعملي معي عن التخلي عن الكذب؟
عندي عشر، عشرين، ثلاثين من النواقص، هذه النقيصة من النواقص المشينة المبعّدة عن الله، قفي عند حدّكِ، كفى، ذهب من العمر ما ذهب، أريد أن يتحوّل كذبكِ إلى صدق، هذا أخذ عهد، شرط، يسمونه المشارطة، وآخذ عهد من النفس وأشترط عليها أن تستجيب لي وتمشي معي في الطريق للتخلُّص من هذه الموبقة.
بعد أخذ العهد، -خلاص في أمان الله يا نفس؟.. لا-، يأتي دور المراقبة الدقيقة. في ذلك اليوم ما من كلمة أتكلمها إلا وأقيسها هل هي كذب بالمقياس الإسلامي أو صدق. قفي يا نفس، هذا كذب، كذبتِ، والله العالم كم تفلت النفس من كذب من عندي.
أراقبها يومي كاملاً، ألاحقها الملاحقة الدقيقة فيما تقول، وفي آخر اليوم تأتي جلسة المحاسبة. هذه شريكٌ لك في المصير، في التجارة، كذا خيانة، أنت مسجِّل، إما في الفكر أو في الدفتر، كذا كذبة. فيأتي هنا دور المحاسبة، كيف وقعتِ في ذلك؟ لم خالفتِ؟ أما خفتِ الله عزَّ وجلّ؟ أما احترمتِ الله؟ أما خفتِ من النار؟ كيف وقفتِ هذا الموقف؟ إلى آخره..
بعد ذلك مع المحاسبة -وهذا عذاب، يعني محاسبة فيها تخطئة، فيها إهانة، فيها كسر لكبرياء الذات، فيها كسرٌ لغرورها- يأتي توقيع الجزاء، سُجِّل الخطأ على النفس، فيأتي توقيع الجزاء، لا أقيم لكِ وزناً، أنت عدوّةٌ لدود، سأعمل بكلّ جهدي في مواجهتكِ، توقعي النار، إلى آخره. تقريع، تهزأة، هُزءٌ بالنفس.
بعد ذلك إعادة الدورة، غداً آخذ العهد، أسئتِ أمس، اليوم كيف تكونين؟ آخذ العهد الذي أخذته، أنا عليّ أن أتخلّص من الكذب، وبالأمس قد خنتيني، اليوم كيف تكونين، والدورة أرى كم سلبية أريد أن أرفعها منّي، وكم إيجابية أريد أن أعزز وجودها فيّ، أو أنّي أفتقدها وأريد التوفّر عليها، وهذا يصل إلى لحظة الموت، إلى ما قبل لحظة الاحتضار، يعني لا يوجد يوم راحة، لا يوجد يوم عطلة.
كانوا أشدّاء على أنفسهم الشدّة التي تعني الرحمة، وكثيراً ما أتذكّر معكم أنّ يوم ذنبٍ صغيرٍ في نظري وعلى مستواي، يحصل لمالك الأشتر أو لأبي ذر، المقداد، لسلمان، لأولئك الأمثلة العليا من بعد السادة المعصومين عليهم السلام، ذنب أصغر، صغير، وأصغر مما أستصغره وأرتكبه وأمر به مرور اللامبالاة، إذا ذكرت أذكر دقيقة وانتهت المشكلة، هذا يتعذّب كم يوم؟ سلمان المحمدي وجماعته كم يوم يتعذبون من أجل هذا الذنب الذي لا يراه أحدٌ ذنباً؟ يضحك: هذا ذنب؟ -ويش مسوي أنا؟-. الفرق ماهو؟ صفاء النفس، لا يقبل وسخ، نفسه لا تقبل أي وساخة وأي قذارة، الجو كلّه يظلم عليه لوجود غبارة من ذنب قد دخلت نفسه. هذا هو الفارق. -واللي مشحون أوساخ خلها تجي بعد وسخ شوي-.
فهي ذوات، إمّا طاهرة نظيفة كريمة مشعّة لألاءة، وإما ذات سوداء كالحة وحشة، لو استيقظ ضمير صاحبها لفرّ منها.
نحن ننتهي بذاتٍ من هاتين الذاتين.
وهذا -عزيزي- مَن إنتهى بذاته إلى هذه الذات المستوحَش منها -التي يستوحش منها الأبرار الأخيار الكرام-، هذه الذات نفسها تعني العذاب، هل ترى قسوة المحاسبة؟ هل ترى قسوة الذنب الصغير على سلمان المحمدي لو حدث منه كم هي؟ وأنها تذهب بكل لذةٍ من لذاته، هذا على مستوى غبارة من ذنب في الدنيا، إذا جائت ذات كلّها سيئة، كلّها سوداء، كلّها كالحة، صاحبها ساخط عليها، كافر بها، معادٍ لها. إذا رآها يقيس هذه الذات إلى ذوات الآخرين، فيراها مثالاً في السوء، في الحقارة، في الظلم، في الجهل، في الغرور، في الخيانة، في إرتكاب الموبقات، وتبقى هي على طبيعتها، ذهبت النار وبقيت على طبيعتها، حتى لو لم يكن عذاب جسد بالمّرة، إذا كانت ليلة تمرّ، ليلة عذاب وكلّها بساعاتها ودقائقها لحظات عذاب، المؤمن العادي دخل في حسابٍ مع نفسه فوجدها مقصرة في ذات الله، ملتفتة إلى عظم هذا الجرم. هذا الشقاء كم تتصوره أنت يتضاعف في الآخرة؟ ومن نفسٍ رأت الله عزَّ وجلّ؟ رأت عظمة خالقها وقبح ذاتها وخساستها، فصعب جداً.
لا تفرض حطب جهنم ، ولا وقود، ولا ثعابين، ولا شيء، افرض فقط هذا، حكم ذات الإنسان على نفسه بأنّه آل بها إلى هذا المستوى.
الآن أعطيك مثالاً بسيطاً، إنسانٌ في دولةٍ مؤمنة، عاملةٍ بالحقّ، يتآمر عليها من منطلق الكفر والعناد لله ورسوله والدولة المؤمنة، يعثر على واقعه فيسجن لعشرين سنة، يستيقظ في السجن، يلتفت إلى ما فعله، لم سُجنتُ هذا السجن؟ يحاكم نفسه فيراها ظالمة طاغية جاهلة متعجرفة مُنكرة لحقّ الله، مؤذية للمؤمنين، مبغضة للحق، مقاومة للعدل، هذا يتعذب أو يستأنس؟ هل يستعيض عن عذابه الجسدي بالراحة النفسية؟
على عكس ذلك، مؤمنٍ حقّ سُجن ظلماً، وبقي عشرين سنة في السجن، وهو عارف بأنّه مظلوم، وأنّ سجنه كان من أجل الله عزَّ وجلّ، كلّما كانت القضية عميقة في نفسه، وواضحة في نفسه، كلما كانت قناعته متركزة بهذا الشيء، وهو أنّ سجنه كان ظلماً، وكان لجهاده في سبيل الله عزَّ وجلّ، وأنّ تقديمه للمشنقة إنما هو من أجل هذا الأمر، كلّما هان عليه أمر الدنيا وعذابها. والكافر في هذه الدنيا، والفاسق سيذهب، سينتهي لمصيبتين، مصيبة العذاب البدني، ومصيبة العذاب الروحي.
فنفسي نفسي، والشفقة على نفسي، ويوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود عن والده، ويوم أن يفتدي الإنسان هذه النفس بملك الدنيا لو كان له. علينا برحمة أنفسنا، وعلينا أن نتوب التوبة بعد التوبة، ونلجأ إلى مغفرة الله لجأًً بعد لجأ، ونجاهد هذه النفس كلّ المجاهدة، مُتكلين على توفيق الله تبارك وتعالى.
وأَخَذَ الله بيدي وبيدكم وبيد جميع أحبتنا، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين لما فيه الرُشد والصلاح ورضوان الله، وجَعَلَ الخاتمة في هذه الحياة هي النقلة إلى رضوانه.
-كلّ العيش واللحم والخيرات واللذات التي نصل لفهمها ولا نصل، كلّها طارت وستطير، والحساب مع تلك اللحظة، لحظة الانتقال إلى جوار الله عزّ وجلّ، وهذه لا ندري متى ستحدث، الشايب يترقبها بالدقيقة، والشاب عليه أن يترقبها بالدقيقة كذلك، نفس الشيء، وأطال الله بقاء الجميع في طاعة الله وتوفيقاته، وكتب لنا الخاتمة الحميدة إن شاء الله، وأعاد الله الجميع على هذا الشهر الكريم في خير وبركة وطاعة إن شاء الله، رَزَقَ الله الجميع عمراً مديداً طويلاً عامراً بمعرفته وتقواه وحبه والإخلاص في سبيله والجهاد في سبيل دينه، وصار بنا إلى جنته ورضوانه وهو أرحم الراحمين-.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى