كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني الدُّعائي الرابع – ليلة 14 رمضان 1445هـ

نص حديث سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم على هامش انعقاد المجلس القرآني الدُّعائي في منزل سماحته بمدينة قم المقدسة “شرح دعاء أبي حمزة الثمالي” – (الجلسة الرابعة) الاحد 24 مارس 2024 / 13 رمضان 1445هـ: 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله ربِّ العالمين

الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

تأتي الفقرة السابقة بقوله عليه السلام: (وجد علينا فإنّا محتاجون إلى نيلك)

إلى عطاءك، إحسانك، تفضّلك. 

وتأتي هذه الفقرة: (يا غفّار بنورك اهتدينا وبفضلك استغنينا وبنعمتك أصبحنا وأمسينا، ذنوبنا بين يديك نستغفرك اللهم منها ونتوب إليك، تتحبب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملكٌ كريم يأتيك عنا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك وتتفضل علينا بآلائك فسبحانك ما أحلمك وأغضبك) 

 

بعد الاعتراف للحاجة المطلقة إلى نيل الله عزَّ وجلّ، عطائه، كرمه، جوده، بذله، إلى فاعلية قدرته، إلى مضيّ مشيئته، يأتي ذكر حاجتين، لا قضاء لأيٍّ منهما إلا من جانب الله تبارك وتعالى: 

(يا غفّار بنورك اهتدينا) 

الهداية، هداية الأرواح والعقول والقلوب، وانفتاح البصائر، والدلالة على الطريق، والأخذ بالمرء إلى سلوك سبيل النجاة والفوز، كلّها هداياتٌ يفقدها الإنسان في نفسه، لا هدى روحٍ ولا عقلٍ ولا قلبٍ وبصيرة، ولا شيئاً من هذه الأسباب من عند النفس أو من عند غير الله تبارك وتعالى. 

ليس من أحدٍ عنده قضاء هذه الحاجات حتى يصحّ الاتّجاه إليه في طلبها، هذه الحاجات، حاجات الهداية وامتلاء الأرواح والعقول والقلوب والنفوس بالضلالات، بالعمى، بالتيه، له ما يُساعده في الإنسان، أو أنّه يراكم الذنب على الذنب، والخطيئة على الخطيئة، ويخرج من باب ضلالٍ ليدخل في باب ضلالٍ آخر، ويُغرم بضلالاته، ويعيش معها مسروراً، هنا القلب يتفرّغ شيئاً فشيئاً من نورٍ أصيل، وهداياتٍ إلهية أصيلة، وتنسدّ أبوابه وكلّ نوافذه عن تلقّي نور الله تبارك وتعالى، مما ينعكس على قلوب عباده الصالحين فيقول السائل: (يا غفار بنورك اهتدينا) غفرتَ فاهتدينا بنورك، كان الذنب حاجباً، كان قفلاً، كان يسدُّ كلّ المنافذ، على النور أن يدخل قلوبنا، أما غفرت، وكسحت ما في القلب من قذارات، ومحوت ما فيه من ظلمات، هنا نفذ النور، وشعّ النور في القلب، وصار يتّسع وهتك كلّ ظلمة، وهدم كلّ سواد. 

(يا غفار بنورك اهتدينا)

لولا مغفرتك، ولولا نورك، فمن أين الهدى؟ نورك ليس فيه قصور، ولكنّ القصور في القلوب التي تُدمن على الذنوب، فتتشبع بظلماتها، حتى تشتدّ هذه الظلمات بتراكمها وتحرم القلب عن أن يستقبل النور أو يشعر بالحاجة إليه واللذة فيه. 

(يا غفار بنورك اهتدينا) 

هذه الحاجة الروحية الأهم، هذه حاجة الإنسان بما هو إنسان، هذه هي حاجة الحياة أكبر حاجةٍ من حاجات الحياة، وهو أن نهتدي بنور الله عزَّ وجلّ وأن تنظف قلوبنا، تطهر، تزكو، يدخلها النور ويملأ كلّ آفاقها حتى تشعّ بما يفيض منها إلى الخارج، فيستقي منها هذا ويستقي منها ذاك. 

(يا غفار بنورك اهتدينا) 

هناك حاجات أخرى؟ نعم.. أصلُ حاجة الحياة، حاجة العلم، حاجة القيام، حاجة القعود، حاجة المأكل، حاجة المشرب، إلى آخر الحاجات لا نكاد نحصيها، ولا نحصيها. 

(وبفضلك استغنينا)

بكسبٍ، بكدٍّ، بعلمٍ، بخبرةٍ، بمهارةٍ، بقوّة، ببطش، بحيلة؟!.. لا.. لا فاعلية لشيءٍ من ذلك؟ 

(وبفضلك استغنينا)

النفس دائماً ما تحدّثنا أنها قادرة على شيء، وإذا جاءت نعمة أعطينا هذه النفس نصيباً من توفيرها لنا، وهذا كذبٌ من النفس على نفسها وصاحبها. 

“يا غفّار بنورك اهتدينا” وليس بنور غيرك، و”بفضلك” وإحسانك ومَنّك وعطاءك لا بعطاء شيءٍ غيرك، لا من النفس ولا ممّن سواها.

(وبنعمتك أصبحنا وأمسينا)

وصلت إلى الليل، المغرب، ماذا أوصلني؟ أوصلتني نِعَم الله عزَّ وجلّ، لا أملك أيّ قرارٍ بأن أبقى في هذه الحياة لحظةً واحدة، لأنّ البقاء يحتاج إلى زاد البقاء، ولا زاد عندي ولا استعداد ولا تهيّؤ من داخل النفس بأن أبقى، أنا معلُّقٌ بين البقاء والعدم، وأمري ليس إلا لله تبارك وتعالى. 

(وبنعمتك أصبحنا)

والإصباح نعمة لمن تهيّأ للاستفادة من نِعَم الله تبارك وتعالى، ولمن عرف قيمة الوقت وقيمة العمر، وأنّ اللحظة الواحدة من الحياة لا تعدلها ملايين الدولارات ولا الدنانير، لحظة واحدة، نَفَس واحد يمكن أن يُدخلك جنّة الأبد، لو حُرمت لحُرمت الجنة، وإذا أوتيته ووفّق الله عزَّ وجلّ أوتيت الجنة، لا يوجد في الدنيا ثمن يُعطيك الجنّة، ومن أين الثمن بلا عمر؟ بلا لحظة حياة؟ الحياة هي السرّ، سرّ الغنى. 

(وبنعمتك أصبحنا وأمسينا)

ربَّ ضالٍّ أغرقه ظلام ضلاله، ولاقى الصباح كذلك، أو كاد أن يلاقي الصباح كذلك، ولكن بالإطالة الأولى للصباح استيقظت روحه وتنبّهت وحدثت فيها ثورة عارمة، ورأى من نفسه أنّ نفسه أعدى عدوّ له في ضلالها، فكانت تلك لحظة النجاة من النار والفوز بالجنّة. 

(وبنعمتك أصبحنا وأمسينا)

وكم من مُمْسٍ وقد صَمَتَ الليل وهدأت الحركة فجاءت لحظة تأمُّل وتدبُّر ورهبة، فرأيته ينفلت من ضلاله انفلاتاً شديداً، ويهرب إلى الله وإلى نور الله سبحانه وتعالى. 

يشكو الإمام عليه السلام، ذنوبنا، بلوانا، بؤسنا، شقانا، وهي الذنوب، بيك يديك، حاضرة، معلومة، لا مظنونة، لا تغيب لحظة واحدة عن علمك وذكرك، نستغفرك اللهم منها، لا نملك أن ندفع تبعةً من تبعاتها إلا بأنْ نذلّ بين يديك، بأنْ نأسف، نألم، نشعر بالخزي، بالألم، بالحقارة، بالدونية، بالجهل، بما ارتكبناه من الذنب 

هذا الاستغفار أو ما وراء كلمة الاستغفار من الشعور بالجُرم، من الشعور بالدَنَس، الخطيئة، التمرّد الجاهلي؛ هو البداية للنجاة. ما من قوّة تدفع تبعة هذه الذنوب، لا يوجد.

 

(ذنوبنا بين يديك نستغفرك اللهم منها ونتوب إليك)

(اللهم) نداء استغاثة، نداء لجأ، نداء استرحام، أنا في مصيبة، ألجأ إليك، أستغيث بك، أفرُّ إليك، عساك تغفرها وأملي أن تغفرها

 

(نستغفرك اللهم منها ونتوب إليك)

هناك شيء ثاني موجود، استغفرتُ، ندمتُ، لكن بقيت أعاود الذنب، ذاك الذنب الأول استغفرتُ منه وأسفتُ، ولكن بعد ساعة أو يوم أو أكثر عدتُ أرتكب الذنب الذي استغفرتُ منه أو مثله، لم أخرج من المحنة، غسلتُ ثم دنّست، طهّرتُ ثم رجّستُ، نقّيتُ ثم كدّرت، كدتُ أفتح القلب على نور الله عزَّ وجلّ ثم أغلقت، ماذا أحتاج؟ أحتاج إلى أن أتوب إلى الله، يعني أن أعمل صالحاً وأترك السيئة، أن أستمر على ترك السيء وعلى إتيان الصالح، أتوب إليك أن لا أقارب شيئاً مما يُغضبك، ولا أترك شيئاً مما أمرت به مما أوجبت وأسعى سعياً حثيثاً لامتثال أمرك ونهيك، ما كان من الأمر واجباً أو مستحبّاً، أبتعد عن نهيك ما كان متعلّقه حراماً أو مكروها، فلأستحي، فلنستحي. 

 

(تتحبب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب)

أضعيفٌ ربّي؟ حاشاه.. أطامعٌ مما في نفعٍ من عبد؟ حاشاه، ألا يعرف نفسه وقوّته وقدرته وغناه ووضاعة العبد واستكانته وهوانه، ما مصدر تحبب الله لعباده، ضعف؟ قصور؟ 

أتحتمل بفطرك، بنور الفطرة، بنور الوجداني الإنساني الأصيل، أنّ هذا التحبب ليس له دافعٌ إلا كرم الله من أجل أن يقرّبك، هذا الذي يهديك الآن هدية، بعد عشر دقائق هدية، بعد ربع ساعة هدية، يكون له في قلبك موقع أم لا؟ النفوس ميّالة إلى من ينفعها أو لا؟ نفوسنا غريبة مع الله عزَّ وجلّ. 

عطاء متدفّق لا يتوقف، حماية، شاء الله لك أن تبقى، وشاء الله لي أن أبقى، في اليقظة والمنام، أسباب الحياة، والهناءة في الحياة، والسكينة في الحياة؛ تتواصل، لا تنقع لحظة واحدة، كيف يجب أن يكون هذا القلب السقيم مع من يتعامل معي هذا التعامل؟ لكن أنا أعصيه.

لابد أن أرمي بكلّي إلى مساحة رحمته، إلى مسالك فيوضاته، إلى أنوار هداه، إلى عطاياه، إلى غناه، على العكس تقول الفقرة: (تتحبب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب)

عبدٌ مع عبد يوصله ببعض العطايا والهدايا والرحمات يلقاه كيف يلقاه؟ 

سيدي، عزيزي، أخي العظيم، وما إلى ذلك. 

ولابد أن يعرف هذا العبد المعطى أن العاطي الحقيقي هو الله عزَّ وجلّ، وليس هذا الذي يخاطبه، وماذا يساوي عطائه لو استقل به وهو غير مستقل بشيء منه، ماذا يساوي عطاء الله عزَّ وجلّ، على أنه لا استقلال له أبداً في أيّ عطيةٍ صغيرةٍ أو كبيرة، ولولا توفيق الله عزَّ وجلّ لما حدث هذا، مع بعضنا البعض: مرحباً، أهلاً وسهلاً، وبتخضّع وبثناء واطراء، ونفيه في هذا الثناء، وقد نفي في غياب المعطى حيث لا يسمع ولا يرى ولكن أثني عليه، مجبورٌ على أن أثني عليه، موقع إبليس غريب عجيب، قوي النفوذ. 

هذا في عطايا العبد ورحمات العبد، أما في عطاء الله يأتي الكلام (ونعارضك بالذنوب)

أنت تعطي وماذا نقابل عطاءك؟ نقابل عطاءك بالذنوب. 

يمرض، يصحو من المرض، في مرضه لا يستطيع أن يحرك ساكناً، ينتعش من مرضه بعض الشيء فيبحث عن الزنا، مقابل نعمة الصحة، وما أكثرها. 

فقير شديد الفقر يتواضع به فقره، تبدو عليه وتعرض عليه بدايات غنىً بسيط، يستكبر، يستضعف من دونه. 

(نعارضك بالذنوب)

يُهديه شيئاً فيقابل هديته بأكبر مما أهدي إليه، تسابق في مستوى الإهداء، مقابل الحسنة للحسنة، الله عزَّ وجلّ يوالي النعم، ويجزل النعم، فكلما أجزل النعم كلما ازددت عناداً ومقابلة لنعمه بالذنوب. 

دائماً الدعاء في كلّ سطوره وفي كلّ جمله يحتاج إلى أن نتأمل ونتعمّق ونقف وقفات فيها شيءٌ من العمق مع الذكر والدعاء، خاصة حيث يأتي الدعاء من المعصومين عليهم السلام، كلامهم للآلئ واللآلئ لا يصل إليها إلا مهّارة الغواصين، علينا أن نتعلم بأن نقرأ بشيءٍ من الفهم كلمات أهل البيت عليهم السلام. 

 

(خيرك إلينا نازل)

اذكر خيراً، أي خير، هل تجد سبيلاً له وصل من خلاله إليك إلا السبيل من الله عزَّ وجلّ؟ 

(خيرك إلينا نازل)

ما في شيء خير بسيط من زوجتي، والدي، من سلطاني، من محبي؟ لا.. 

(خيرك إلينا نازل)

يعني هل هناك من له جميل عليّ يُنسيني جميل الله؟ يجعلني أشرك بالله في الإقرار بالجميل؟ كلّ جميل آخر هو جميل راجع إلى الله، جميل تبعي، وليس من خلق هذا المعطي ولا من توفيقه ولا من رحمته الأصلية، بل هو من رحمة الله عزَّ وجلّ. 

(خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد)

هذه الخيرات التي تصل لنا تتحوّل إلى شرور على أيدينا، تصل هذه الشرور إلى الله عزَّ وجلّ، تصلُ على مستوى العلم لا تمسُّ له عزّاً ولا تؤثر عليه غنىً، ولا تُضعِف منه سلطاناً، تصل إليه بتأثير سلبي؟ لا… شرور عباد راجعةٌ لهم وعليهم، والله عزَّ وجلّ لا يؤثر عليه شيءٌ من خلقه، لأنّ الخلق كلّهم لا يملكون إلا ما ملكّهم الله تبارك وتعالى. 

 

(وشرنا إليك صاعد)

الاعتراف مؤلم، مُحرج، يحتاج إلى حياء كبير مع التصريح به. 

(ولم يزل ولا يزال ملكٌ كريم يأتيك عنا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك)

هناك استمرار (لم يزل ولا يزال)، استمرار في الشرور.

لا يجري على لسان هذا الملك كذب، خيانة، نسيان، لا يكتب عن حقد، عن جهل، عن أخلاقية سقيمة، هو ملك كريم في أخلاقه وصفاته، أمين، الكلمة لا تأتي مخالفةً للواقع على لسانه أو قلمه. 

(ولم يزل ولا يزال ملكٌ كريم يأتيك عنا بعمل قبيح)

يوصل له هدية كبيرة، حالاً يُسرع إلى التأديب عليه مستعملاً هذه الهدية في الحشو ضدّه، فيَصل الخبر إلى المُهدي، أهداه فاشترى سلاحاً لقتل ولده، هذه ردة فعلنا نحن مع الله عزَّ وجلّ لو كنا نملك أن نفعل معه ما يفعل مع البشر. 

ويأتي الكلام عليه إن شاء الله. 

وأستغفر الله لي ولكم 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى