كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني 6 رمضان 1443هـ

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المجلس القرآني الذي عُقد في منزل سماحته بقم المقدسة ليلة السبت وسط حضور المؤمنين – 6 رمضان 1443هـ / 8 أبريل 2022م

*فيديو الكلمة:

*صوت الكلمة:

*نص الكلمة:

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمدُ لله ربِّ العالمين.

الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم أُخوتي الأعزّاء ورحمة الله وبركاته.

يقول القرآن الكريم: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) إلى آخر الآيات الكريمة (*).

الآيات في مساق القسم من الله عزَّ وجلّ لما خَلَق، مما يغنى بآيات عظمته، وبراهين قدرته وجلاله وجماله وهيمنته، وبعلمه الذي لا يُحدّ، وفي كلّ شيءٍ مما خلق الله تبارك وتعالى آية، وكلّ آيات الله عظيمة.

والآية الواحدة من آيات الله تبارك وتعالى تكفي وحدها للإيمان به إلهاً عظيماً جليلاً جميلاً قديرا.

وهذه الآيات على عَظَمَة كلٍّ منها تتفاوت في العظمة، وفيما تغنى به من عطاءات الجمال والجلال الإلهي، والنفْسُ البشرية من أكبر آيات الله عز وجل، فالإنسان عالَمٌ كبير كلّه أسرارٌ من أسرار عظمة الله عزَّ وجلّ، وكلّه آياتٌ باهرات، وأنوارُ هداية.

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)..  

قسمٌ بتسوية النفس، وتسوية النفس معناه إيجادها مُعتَدِلة، مُتَسِقة، متناسقة، لا خلل فيها، لا نقص، لا فضول، هي بلا نقصٍ وبلا فضول. ما فيها شيءٌ يُسجِّل على الله عزَّ وجلّ غفلة، أو يُسجِّل عليه جهلاً، أو يُسجِّل عليه قسوة، كلُّ شيءٍ فيها شاهدُ عظمة، وشاهدُ جمال، وشاهدُ جلال. ليس فيها شيءٌ من تخلُّف الصُنعة، ولا شيءٌ من مَسّ الجهل، ولا شيءٌ من خلاف الحكمة. يقفُ أمامها أكبرُ عقلٍ ممكن، فيرجعُ محتاراً مبهوراً مدهوشاً ولا يصِلُ إلى ساحل عظمة هذه النفس المخلوقة من قِبل الله عزَّ وجلّ.

أأنت شريف، أأنت كريم؟ وقسمُ الله عزَّ وجلّ بتسوية النفس لأنها غنيّةٌ بالجمال، وكاملة على مستوى عالم الإمكان، دافعٌ لك، دافعٌ لي لئن نحترم هذه النفس، وأن نعطيها قدرها ووزنها، ونحنُ تلك النفس، فليس لك أن تنظر إلى نفسك النظرة الحقيرة، ولا تضعها في الموضع الحقير، ولا تُذلّها ولا تُهينها، ولا تسحق كرامتها بأنْ تُسجِدَها لغير الله عزَّ وجلّ، وبأن تجعل طاعتها لغير الله، هذه النفس جعلها الله بقدْر لا تسجدُ لمخلوق، اعرف نفسك، قَدِّر نفسك.

لم يأذن الله عزَّ وجلّ بأنْ تسجد هذه النفس لمخلوقٍ سجود الذلّة، وسجود الحقارة، وسجود المُنعَم عليه للمُنعِم الحقّ، سجودك بما أنّك فقيرٌ مطلق لا يكون إلا للغني المطلق، سجودك وأنت عليك أن تعرف أنّك العدمُ المطلق في نفسك لا يكون إلا للوجود المطلق، وأنا الضعيف وأنا المسكين وأنا المستكين وأنا المفتقر مطلقاً لا يصحُّ لي، لنفسي، أن تسجد للعاجزين المخلوقين المفتقرين بالأصل، إنّما سجودها يكون لله وحده تبارك وتعالى.

تَذَكّر وأنتَ تقرأ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) أنَّ هذا قسمٌ من الله بعظمة نفسك التي هي من عظمته، نفسُك التي هي أحقر شيءٍ بالأصل هي عظيمةٌ بما أكسبها الله من عظمة التسوية لها.

سَيَكبُر أُناسٍ في نظرك، سَيَجِلُّون بالمال، أو بالقوّة، أو بجمال الخُلُق، أو بجمال العلم، أو بأيّ جمالٍ معنويٍ آخر، إلا أنّهم يَبقوْن غير مستحقين بأن تسجُد لهم السجود لله الذي يعني إظهار الذلّة الكاملة والخضوع والخشوع الكاملَيْن والانقطاع والفاقة المطلقة لغناه وجلاله وجماله.

أيمكنك أن تحتقر نفسك؟ أيمكن لي أن أحتقر نفسي؟ أيملك أحدٌ منّي أن أعترف له بأنّي عبدٌ له؟، بأنّ له الطاعة المطلقة عليّ وإنْ خالفتُ الله في ذلك، هوَ نفسي، هو مثلي، عبدٌ مطلق ذليل حقير مسكين ومستكين. يملك الدنيا كلّها، ولكن هذا لا يحوّله عن موقعه، لا يجعله غنيّاً ذاتاً، هو لا زال على فقره الذاتي، ومسكنته الذاتية، وذلّه الذاتي، وخشوعه الذاتي، وملكيته المطلقة. خاشع، جميل بإيمانه، بعلمه، جمالُه مستعار، مُعطى من الله عزَّ وجلّ، وهو علامة عظمةٍ لله عزَّ وجلّ، وشيءٌ ضئيلٌ من جمال الله عزَّ وجلّ، هذا الجمال المعطى هو لا يملكه في نفسه، فالعبادة لله وحده، الطاعة المطلقة لله وحده.

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)..

هذه النفس المسوّاة هذه التسوية العادلة المعتدلة المتعادلة، التي فيها تقابل قوى، تقابل استعدادات. هذه النفس استعدادُها للفلاح على حدّ استعدادها للخسَار. هي مشروع للسعادة كما هي مشروعٌ للشقاء، كما هي مشروعٌ للنجاح هي مشروعٌ للخيبة والفشل.

(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)

 هذا من تسويتها. الإلهام إيصال الحقيقة إلى النفس من غير كدٍّ وعناءٍ وجُهدٍ وكَسْب، يراها مريحة، يراها موهوبة من الله عزَّ وجلّ، فالنفس وهبها الله هذه الرؤية، رؤية الفجور، الشرّ، ليس ذاتاً فقط، أرانا الشرّ بما هو شرّ، يعني مع تعريفه لنا بأنّه شرّ -مثلاً السرقة والقتل الظلم، سَلْب اليتيم حقّه، إلى آخره، هذه شرور، هذه الأفعال ليس فقط أعرفها وأعرف أمارسها، وإنما أعرف أنّها شرٌّ أيضاً، أنت تعرف الذات وتعرف الصِفة، صفة أنّ هذا شرّ، هذا أُريته وأُريته أنا-.

(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)..  

كما عرّفنا الله عزَّ وجلّ الظلم وكيف نظلم، عرَّفنا أنّ هذا الفعل ظلم، عرّفنا أن العدل عدلٌ وأنّه ينبغي أن يُفعل، وعرّفنا أنّ الظلم ظلمٌ وينبغي أن لا يُفعل، وأرانا الحقّ مع كونه حقّاً، والباطل مع كونه باطلاً. ما عرَّفنا الله إياه على نحو الإلهام هو معرفة ذات الشرّ وصِفة كونه شرّاً، ذات الخير وصِفة كونه خيرا، فنحن نفعل الخير عارفين بأنّه خير، ونفعل الشرّ عارفين بأنّه شرّ.

(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)

 هذه إراءة، أرانا الحقّ حقّاً، وبما هو حقّ، وأرانا الباطل باطلاً، وبما هو باطل. هذا فعلٌ من أفعال الله عزَّ وجلّ فينا بالفطرة على مستوى الخلق.

أعطانا -الله- إرادة فعل الخير وإرادة فعل الشرّ، لم يجبرنا على الخير ولم يجبرنا على الشرّ، بهذيْن الأمريْن، من جهة أنا قادر بإلهام الله أن أرى الخير وأعرف أنّه خير، وأرى الشرّ بقدرة الله عزَّ وجلّ وأعرف أنّه شرّ، هذه جهة. ومن جهة ثانية، أنا لستُ مجبراً على فعل الخير، ولستُ مجبراً على فعل الشرّ -بالاجبار التكويني-. لستُ فاقداً للإختيار، لست فاقداً للإرادة، لستُ مكتوف اليدين أمام فعل الخير، إذ أستطيع أن أفعله، وأمام فعل الشرّ، إذ أستطيع أن أفعله. نحن في نقطة الوسط من فعل الخير والشرّ، بإرادتنا نقدّم فعل الخير على فعل الشرّ، وبإرادتنا نقدّم فعل الشرّ على فعل الخير.

 نفسي فيها قابلية الميْل إلى الخير، وفيها قابلية الميْل إلى الشرّ، وبإرادتي أميلُ شيئاً فشيئاً، وأكثر وأكثر إلى الخير، أو أميل شيئاً فشيئاً، وأكثر وأكثر إلى الشرّ، حتّى يحصل انفصال بين نفسي وبين الميْل إلى الشرّ. يصِلُ الإنسان إلى درجة أن تنفصل نفسه عن الميل إلى الشرّ، فبدل أن تُحبّه تكرهه، أو أن يأخذها الميل التدريجي إلى الشرّ بحيث تتعلّق به ويكون أمنيتها، فتكره الخير، ومن النفوس من يصل إلى هذا الحدّ، نفوس الأنبياء والأولياء ينقطع منها الميل إلى الشرّ، ويبقى ميلُها كلّه لفعل الخير. نفوس الطواغيت الكبار تنقطع في ميلها عن الخير أيّ خير، وترتبط كلّ الارتباط، وتميل كلّ الميل، وتهوى كلّ الهوى فعل الشرّ.

هذا بفعل إرادتنا.

لا عُذر، لا عُذر، لا عُذر. كيف نصل إلى هذه الدرجة؟ مسؤولية مَن؟

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا)..

صحيح فينا مَيْل طبيعي بمقدار مُعيَّن إلى الشرّ، إلى الظُلم، إلى الشهوات اللامسؤولة، الشهوات الماديّة والشهوات المعنوية، كالطاغوتية، الحكم بالظلم، الاستكبار على الآخرين، الظهور غير المُستحقّ، التنافس على الرئاسات الباطلة، هذه كلّها شهوات من نوع الشهوات المعنوية. يبقى الأكل الحرام، الإسراف في الأكل، في اللذات الجسديّة الأخرى، حتى التطرُّف في المُباحات، نوع من الشهوات التي قد نُربّي أنفسنا على الارتباط بها.

كما يستعبد أحدَنا مقدار عشرة ملايين دينار، يمكن أن تستعبده وتستهويه وتملك عليه شعوره قطعة حلوى لذيذة. يفقد الأدب أمام الناس، يفقد وقاره، انضباطه، يتعدّى يمدّ يده من مكان لمكان ليصل لقطعة الحلوى الصغيرة. ملكته هذه القطعة. هذا ليس موجوداً فينا أساساً، موجود فينا بقدر من أجل تمشي به الحياة في الحقيقة، لأنه بلا ميل للظهور، بلا ميل للملكية، بلا ميل للطعام تنتهي الحركة. تبقى المادية ضرورية، والميول المعنوية تبقى ضرورية، حتى من النوع الدنيوي، ولكن بالمقدار الذي يخدم النفس البشرية ولا يُخالف تزكيتها. السيطرة تكون لمَن؟ السيطرة للعقل.

لدينا أمران، قوّتان في قبال قوّات أخرى، ذاتنا هي هذه، ذاتنا قدرة عقلية هادية نظرياً وعملياً، عقل نظري وعقل عملي. إنسانيتُنا قدرة عقلية نظرية هادية زائداً قدرة عقلية عملية هادية. هما قوتّان متناصرتان، ومعهما المَلَك المُرشِد الداعي إلى الخير، والنفسُ اللوّامة، ويوجد منهج الله عزَّ وجلّ العقيدي التشريعي الأخلاقي، وصوتُ الأنبياء والمرسلين والوّعاظ والمعلمين. هذا كلّه جيش في صالح تزكية النفس، يُستفاد منه ممن أراد أن يزكي نفسه، هذه قوى خير.

 في قبال هذا الجيش جيش آخر. الشهوات والرغبات المُخالِفة لخطّ العقل، ولخطّ الدين، لذّات أكل، شُرب، زينة دنيوية، خيل، طائرات، قوّة، سلاح، جاه معنوي، مال مستطيل، حدائق، وما إلى ذلك، ومعه ميول ورغبات داخلية تدعو إلى هذا كلّه. ، ومع ذلك صوت الشيطان الرجيم، والنفس الأمّارة بالسوء.

 جيشان، والنفسُ يمكن أن تسمع لصوت هذا الجيش، وأن تميل إلى هذه الجبهة، وأن تسمع لصوت الجيش الثاني وتميل إلى تلك الجبهة، بما أُعطيَت من فهم للخير والشرّ، وبما أُقدِرت عليه من ناحية إرادية على أن تُقدِّم الخير على الشرّ -يعني الوقوف مع جيش الخير أو الوقوف مع جيش الشرّ-، إمّا أن تقف مع إسرائيل والمُطبعين، أو تقف مع الإسلام والمقاومة الإسلامية، بيَدك.

قد تكون نفسي في يومٍ من الأيام أقرب إلى الجيش الثاني، ولكن بَعدُ لم أصل إلى الطريق المسدود، فيمكن بالمقاومة الكبيرة لنفسي ومجاهدتي لنفسي أن يتغيّر موقعي فأكون أمَيَل إلى جيش الإسلام والمقاومة، ويمكن العكس، حتى يصل الإنسان إلى نقطة نهائية يصعُب عليه جدّاً أن يتراجع، يصعُب عليه أن يُغيِّر موقعه.

(زكَّاهَا)..

التزكية ما معناها؟

يعني أدعو بأن يُزكّيني الله، بأن يعينني الله على التزكية، لكن أَخَذَ الله عزَّ وجلّ على عباده أن يسعوا إلى تزكية أنفسهم.

تزكية النفس مِن ماذا؟

مِمَّا يُعيقها عن النهوض، مِمَّا لا يسمح لها أن تنطلق بعيداً في طلب الكمال. أنْ تتحمّل المصاعب في الوصول إليه، أن تصبر على الصلاة، على الصوم، على مختلف الطاعات، ليتحقّق لها الكمال المنشود.

تزكيتُها من القذارات. القذارات ليست البَوْل -طبعاً إذا كان التساهل مع البول استخفافاً بأمر الله، عدم مبالاة بأمر الله، هذا الاستخفاف صار قذارة نفسية-.

في كلّ ذنبٍ قذارة. كلّ ذنبٍ قذارة. ما الذنوب إلا قذارات، إلا أوساخاً، إلا ملوّثات النفس.

اشتريتَ الثوب الأبيض الجميل، قبل دقيقة اشتريته ولبسته، ماذا تفعل فيه قذارة مرحاض؟ تفقده جماله؟.. مُعطَّر، ترتاح له آناف الشامِّين، بعد أن تصل لي هذه القذارة ماذا أكون؟ يفرُّ منّي الناس.

ولو انكشفت نفوسنا على واقعها على بعضنا البعض لفرَّ الناس الطيبون من الخبثاء.

الزوجة الجميلة فائقة الجمال، لو انكشفت لزوجها نفسُها القبيحة وتجسّد قبح نفسها له، لفرَّ منها، وكذلك هي تفرُّ من زوجها لو رأت منه واقع نفسه السيء القبيح الأسود الكريه المُخيف.

(قَدْ أَفْلَحَ)..

تريد فلاحاً؟ نجاحاً حقيقياً ليس إدّعائياً؟ فلاحاً يبقى معك دُنياك وآخرتك، ولا تُسْلَبه؛ زَكِّ نَفْسَك، طَهِّرها من الذنوب، من الآثام، من النيّات السوداء، من كلّ قبيحٍ من القبائح.

هذا هو ضمان الله عزَّ وجلّ، الآية تُحدِّد المصير (قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا).

تبحث عن قصور، عن آمال دنيوية عريضة، وعن تجارات ماديّة كبيرة، إبحث عمّا يُصلِحُك، ولكن لا تتوقّع من أيّ شيءٍ يعظُم في نظرك من عطاءات هذه الدنيا أنّه الفلاح.

القصر الجميل، أجمل وأفخم قصر، أفخم حدائق، أَنْظَر الحدائق والبساتين وما إلى ذلك، فيها جمال، هذا الجمال جماليٌ خارجي عن ذاتك، إنْ لم ترَ نفسك أجمل منه فكيف تقنع بذلك؟

ذاك علاقتُك معه علاقة خارجية ومؤقتة، علاقتُك بالقصر والحقْل وإلى آخره علاقة خارجية، جماله غير جمالك، ذاك جمال الحديقة وليس جمالي، وذاك جمال القصر وليس جمالي، فإذا كنتُ القبيح في داخلي كلَّ القُبح، وأنا الداخل وليس الخارج، حقيقتي الكبرى هو الداخل، فيجب أن لا يُعوِّض عن قُبحي الداخلي أن أملك بستاناً جميلاً، أو قصراً جليلا.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا) فقط. إذا بقيت أنفسنا قذرة، وسخة، قبيحة، وننتقل للآخرة بهذه النفوس القبيحة، فسنبقى قِباحاً.

وإذا كُنّا اليوم قد نُخطئ النظر ونُغَش، وأقتنع بجمال قصري عن جمال نفسي، وبجمال أشيائي عن جمالي، غداً ومع لحظة الموت فلا شيء من هذا الخطأ. لا يبقى هذا الخطأ. عندئذٍ ينال كلّ شيءٍ يسقط في النفس ولا يبقى نظر النفس إليها إلا من خلال جمالها الذاتي وقُبحها الذاتي. فقط.

الملوك والرؤساء وما إلى ذلك، نعم، انتهت اللّذة لكلّ جمالٍ آخر كانوا يقتاتون عليه في حياتهم. انتهت العلاقة. سيبقى هو ذاته، يبقى طوال حياة البرزخ هو وقُبح ذاته أو جمال ذاته. وفي الآخرة، وفي النار يبقى هو وقُبح ذاته، وفي الجنة يبقى هو وجمال ذاته. لا تمرُّ عليه لحظة إلا وهو يرى جمال الذات، ومن في النار لا تمرُّ عليه لحظة إلا وهو يرى قُبح الذات، وفي هذا نارٌ كبيرة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)..

أخفى ما فيها من جمال. جاء جميلاً، جاء عارفاً بالله، جاء وكلّه استعداد لتقوى الله، الإستلذاذ بذكر الله، والافتخار بمعرفة الله. هو في فطرته يحملُ قفزةً من جمال الله عزَّ وجلّ، نفخةَ الروح من الله عزَّ وجلّ. هذا لميْله لجيش الكفر والنفاق في النفس، والضلال والباطل، بميْله التدريجي يدسُّ هذا الرصيد الجمالي في الأرض.

-عندما تدسُّ الشيء الجميل في الأرض، لؤلؤة، جوهرة دسستَها في الأرض، هل ترى شيئاً من جمالها؟ طبعاً لا تبقى ترى شيئاً من جمالها. الوردة الجميلة عندما تدسّها في الأرض وتغطّيها بالتراب هل ترى لها من جمال وتشمّ لها من ريح طيّب؟ لا-.

(وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)..

يعني هو يدسُّها في الأرض. في ظُلمات الأرض. في أعماق الأرض. هذه الأرض أرضُ الظُلمة، أرض الضلال، أرض الفَقْد.

يُجري التصفية للمكوّنات الجميلة لنفسه، تجري تصفية معنوية. هذا الذي يجري تصفية معنوية لذاته الجميلة، لما في ذاته من جمال، يبقى مُفلحاً أو خائباً؟ انقطع عنه طريق الفلاح، وبَقِيَ مستسلماً للمصير المحتوم من الفشل والخيبة والسقوط والعذاب والشقاء.

هذا يكفينا من القرآن كلّه، الوقوف على هذا المقطع البسيط من آيات الله. هذا قَسَمُ الله عزَّ وجلّ، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).

نأتي من بعد ذلك فيما يأتي إنْ شاء الله لكلمات أمير المؤمنين “عليه السلام” في موضوع النَفْس.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

————————————

هامش:

(*): الآيات الكريمة من سورة الشمس.

زر الذهاب إلى الأعلى