كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني 5 رمضان 1443هـ

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المجلس القرآني الذي عُقد في منزل سماحته بقم المقدسة ليلة الجمعة المباركة وسط حضور المؤمنين – 5 رمضان 1443هـ / 7 أبريل 2022م

*فيديو الكلمة:

*صوت الكلمة:

*نص الكلمة:

السلام عليكم أيُّها الأخوة ورحمة الله وبركاته.

حيّاكُم الله..

بارك الله لكم هذا الشهر الكريم، الشهر المِعطاء الفيّاض بعطاء الله، وخيرات جوده وبركاته.

أكثر وُدِّي أن أتعلَّم على ما قد تطرحونه من أسئلةٍ تفتحُ باب الخير علينا جميعاً، ولئن كنتُ أملك شيئاً من الحديث ابتداءً، إلاّ أنّي أفضِّل أن أسمع لبعض الأسئلة من الأخوان لتدفعني إلى فهمٍ جديد، ولنكون شركاء معاً في الوصول إلى شيءٍ ممّا ينفعنا الله به تبارك وتعالى، من جديد فهمٍ ولو بسيطٍ للإسلام والإنسان والحياة، فهل تودّون أن تتفضلوا بشيءٍ من الأسئلة، أو أنّكم تسمحون لي في أن أبتدأ الكلام؟ -هذا في يدكُم-.

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

نرى أنفسنا -نحن الناس- أنّنا في تعاملنا مع كلّ ما يُحيطنا من شيء، ما نعايشه من هذا الكون من بحرٍ وبرٍّ وجو، ومن أشياء تملأ هذه الساحات، أنّنا نرى أنفسنا في تعاملنا معها، نتوقّف قبل ذلك معها، لنتعرّف على حقيقتها، وإذا لم يتيسّر لنا أن نتعرّف على حقيقتها نحاول أن نعرف خصائصها وسماتها وملازماتها.

أنت لا تتعامل مع الشجر حتى تحاول أن تتعرّف على طبيعة الشجر، مع ثمرة الشجر حتى تحاول أن تتعرّف على حقيقة هذا الثمر، مع البحر، مع الهواء، مع التُراب، مع الحيوان، مع الإنسان.. لا تحاول أن تُقدِم على تصرّفٍ ما، على تعاملٍ ما، مع أيّ شيءٍ آخر دونك حتّى تتعرّف على طبيعة مَن أو ما تتعامل معه. لا نستطيع أن نتعامل مع النار قبل أن نتعرّف على طبيعتها، على خصائصها، على آثارها، ماذا يعني الاقتراب منها، ماذا يعني الابتعاد منها. لا نستطيع أن نتعامل مع التراب تعاملنا مع الماء، ولا مع الماء تعاملنا مع التراب.

الآن تتراكم عندنا معرفة كبيرة ضخمة جدّاً من خلال التاريخ الطويل للبشرية تُعيننا على التعامل الصحيح مع الأشياء، ولو أردنا أن نبتدئ من الصفر في التعامل مع أشياء الكون قبل أن نعرف طبائعها وملازماتها وخصائصها وآثارها لَرَاحَ منّ ضحايانا الكثير في سبيل وصول التجارب بنا إلى المعرفة الدقيقة اللائقة في التعامل مع هذا الشيء أو ذلك الشيء.

الحديد، المغنيسيوم، كلّ معادن الأرض. التعامل معها قائمٌ على دراسة خصائصها وآثارها، وعناصرها وتكوينها، الذرّة.

لو تعامل الإنسان مع الحشرات، مع الميكروبات، مع الجراثيم في ظلّ الجهل بحقائق هذه الأشياء أو بخصائصها لَعَرَّضَ نفسه إلى الهلاك. فنحنُ اِبتداءً مُحتاجون إلى المعرفة.

الخلاصة أنّنا في كلّ تعاملنا محتاجون إلى المعرفة. المعرفة الأصوَب، الأدقّ، الأرشَد، المعرفة الموضوعية، العلميّة الأدقّ.

يدخل أحدُنا البحر وهو لا يعرف طبيعة الماء وآثار الماء، وماذا يمكن أن يفعل فيه الماء، ويَلِجَ اللُجّة العميقة والبحر الزَخَّار لِيَجِد نفسه لا يملك أن يبقي على حياته لحظةً واحدة، هذا إذا دخل البحر عن جهل.

في كلِّ تعاملٍ من تعاملاتنا نحن نحتاج إلى المعرفة الدقيقة الصائبة، والله عزَّ وجلّ قد راعى عباده ووَفَّرَ لهم معرفة فطرية وحسيّة، وأوْكَل لهم السعي الكثير لكي تكتمل معرفتهم بالأشياء من حولهم ليُجيدوا التعامل معها، ويكون تعاملهم معها التعاملَ المُفيد غير الضارّ، والمُصلح غير المفسد.

هذا حالُنا نحن الناس -جميع الناس- مع الأشياء.

ولا أقرَبَ للإنسان من نفسه، ولا أكثرَ جهلاً منه بأيِّ شيءٍ آخر من جهله بنفسه. النفسُ غامضة، أسرارها كبيرة. النفسُ جُعِلَت مقابلةً للآفاق (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ)، آفاق الكون كلّها بما فيها من جوانب، والنفسُ عالمٌ آخر.

وتعاملنا مع كلّ شيءٍ دون النفس، هو طريقٌ لربح النفس، لإجادة التعامل مع النفس، للانتفاع بالنفس.

لو عرفنا السماوات، وعرفنا الأرضين، وعرفنا كلّ علوم الأرض، أصعب علوم الأرض، وتعاملنا معها فعلاً، وحاولنا أن نستغلّها، ونحن نجهل النفس، قيمة أنفسنا، حقيقة أنفسنا، غاية وجود هذه النفس، شأن وقيمة هذه النفس، ما يمكن أن تملك وما يمكن أن لا تملك، ما يُسعدها وما يُشقيها، لكانت معرفتنا لكلّ الأشياء الأخرى واستفادتنا منها، ونحن نتعامل بنتائجها مع النفس في جهلٍ بالنفس، لكان هذا التعامل خاسراً ومضرّاً بأنفسنا.

عرفتُ بدني وما يحتاج إليه -والبدن جزءٌ من النفس-، ما ينفعه وما يضرّه، ما يُقيمه وما يهدّه ويطيح بقوّته، طبعاً هنا عليّ أن أعرف الأشياء الأخرى التي تفيد هذا الجسد أو تضرّه، التي تمدّ بالقوة أو تُضعفه، ما يُنمّيه وما يقف بنموّه، ما يُكسبه الصحة وما يُكسبه المرض، وما إلى ذلك. أعرف الجهتين: الجسد، والأشياء الأخرى التي تدخل في بناء هذا الجسد أو في هدم هذا الجسد، في صحته أو مرضه، إذا عرفتُ كلّ شيء ولم أعرف طبيعة جسدي وما يُصلحه وما يفسده ما فعلتُ بنفسي خيراً، ولو عرفتُ جسدي ولم أعرف ما يُصلحه وما يفسده أيضاً لن أستطيع أن أنفع جسدي.

موقع اهتمام الإنسان، وما كُلِّف به الإنسان بالدرجة الأولى هو نفسه، إصلاح نفسه، إنقاذ نفسه، سلامة نفسه، ربح نفسه.

ما معنى نفس الإنسان؟

هذه النفس التي عليَّ أن أُسعِدها، أن أصلِحها، أن أرتفع بمستواها، ماهي؟

أقولُ بيدي هذه الورقة، وأقولُ قولاً آخر بيدي نفسُ هذه الورقة، وأقولُ قولاً ثالثاً بيدي هذه الورقة نفسُها، هل تختلف التعابير الثلاثة؟ أو هي بمؤدّىً واحد؟ ما هي نفسُ هذه الورقة؟ عندما أقول نفس هذه الورقة ماذا أعني بذلك؟ يعني هذه الورقة. نفسُ هذه الورقة هي هذه الورقة. والورقة نفسُها أي هي هي، نفسُ الإنسان هي الإنسان. الإنسان نفسُه أي ما هو نفسُ الإنسان هو الإنسان، وما هو الإنسان هو نفس الإنسان، أنا نفسي يعني أنا. لقد تحدّثتَ لي ومعي نفسُك، يعني أنت التي تحدّثت لي، فنفسُ الإنسان هي الإنسان بكلّ ما تشمله حقيقة الإنسان وتكوينه وكينونته وماهيته.

والإنسان في تكوينه الرئيس هو قبضةٌ من الطين أو التراب، ونفخةٌ من روح الله تبارك وتعالى. قبضةُ الطين تتجسّد في هذا اللحم والدمّ والعصب والعضل والغضاريف وما إلى ذلك، هذه قبضة الطين، ومعها ميولٌ تخدمُها، الشهوات، الرغبات، الميول، الميل إلى غريزة الأكل، غريزة الشرب، هذا تابعٌ للجانب الطيني.

عندنا ميولٌ معنوية تتبع نفخة الروح، عشق العلم، عشق الكمال، ارتباطنا بالكمال اللامحدود، يعني أنت وأنا وكلّ الآخرين قد يخطئون تصوّر الكمال، ولكنّهم لا يمكن لهم بحسب فطرتهم إلاّ أن يطلبوا سلوك طريق الكمال وإنْ أخطئوا ما هو هذا الطريق، وحَسِبوا ماهو طريق الكمال ليس هو طريق الكمال، وما هو غير طريقٍ للكمال حسبوه طريقاً للكمال، هذا يحدُث، لكنّ مطلب النفس هو أن تهبط؟ أن يتدانى مستواها؟ أن تنحطّ؟ أو أن تعظُم؟ أن تجلّ؟ فالمطلوب هو الكمال، النفسُ ميّالة للكمال، لذلك لا تشبع من العلم، من كلّ ما ترى فيه عِزّة، وفيه ظهور، وفيه قوّة. هو كمال. بعض الضعف من الممكن أن نعتبره قوّة، لكنّ القوة الحقيقية كمال. المَلَك على كماله هل يشعر بالاستغناء عن المزيد من الكمال؟ لو شعر بذلك لتوقّف عن عبادة الله، ولأكتفى بكماله، إنّما يعبُد الله لأنّه يرى الله كمالاً مطلقاً، ويرى من نفسه أنّه الكمال المحدود، وبتعلّقه بالله يرى من نفسه بأنّه يزداد كمالاً، كلّما أحسّ بالاقتراب من الله أحسَّ بالاقتراب أكثر من الكمال المطلق، ولذلك يُغريه هذا الاقتراب.

هل مَلَّ الرُسل الصلاة والصيام والعلم والتسبيح والتقديس لله عزَّ وجلّ؟ لا لم يملّوا، لماذا؟ لأنّهم يجدون في هذا مزيد كمال.

نحن نتمنى مقام عليٍّ “عليه السلام”، عليٌّ “عليه السلام” يتمنى مقاماً أكبر من مقامه. كلّما تقدّم في الكمال ازداد شوقاً إلى المزيد. حلو، أنس، رِفعة، طمأنينة، رضا، هذا يُغري بطلب المزيد أو لا؟ قطعاً يُغري بطلب المزيد.

أنت تبدأ في أكل حلوى جديدة عليك لم تذُقها من قبل. قبل أن تشبع تبقى تتابع طلبها وأكلها أو لا؟ مفتوحٌ لك، لو اتسّعَ لك أن تأكل من هذه الحلوى اللذيذة يوماً كاملاً، لو وَسِعت طبيعتك وطبيعة الاشتهاء، تواصل أو لا تواصل؟ تواصل. متى تقِف؟ حينما تحسُّ بالاكتفاء، والكمال لا تصلُ نفسُ الإنسان المخلوق المجبول على حُبّه إلى حدّ الإشباع، لاتصل لحد الإشباع، فتبقى دائماً تطلبُ الكمال. يَعْيَا الجسد، الذهن يتوقّف، تأتي عوائق ثانية، وحبُّ الكمال لا يتوقّف عند الإنسان.

نفسُ الإنسان هي المُكلَّف الإنسان به أوّلاً وبالذات، وكلُّ سعينا لكمال ذاتنا، كلٌّ منّا يسعى لكمال ذاته.

والإنسان قبضةُ طينٍ ونفخةُ روح، وكماله أين؟ متى سَجَد له الملائكة؟ متى أمَرَ الله عز وجلالملائكة أن تسجُد إليه؟ هل عندما استوى طيناً؟، ولو خُلِق جسداً بلا عقل، بأجمل صورة من الجسد، بأكمل وأروع هيئة، بأرقّ لوْن، هل تسجدُ له الملائكة؟ هكذا كان تصوُّر إبليس. النار شفّافة، التُراب مظلم، التراب يُداس، النار تُحرِق، ولها قوّة عالية، وتُنير، وهي مادّة.

خُلِقَ من نارٍ ورأى النار أكبرَ من الطين وإنْ كانا معاً من المادّة، فقَدَّم نفسه على المخلوق من الطين، ورأى أنَّ من حقّه أن يسجُد له آدم، وأنّ من حقّه أن لا يسجد لآدم، وخطّأ الله عزَّ وجلّ نظرته وعاقبه العقاب الشديد لاستكباره. وَضَع الشيء في غير موضعه. لم يأمر الله عزَّ وجلّ للسجود لآدم لجمال جسده، ولا لطوله ولا لعرضه، إنما لتعليمه الأسماء الحسنى، أو لتعليمه أسماء الأشياء، العلم يُشرِّف، العلم يقرّب لله عزَّ وجلّ. هذا الذي رفع مستوى آدم.

فنحن نتعرّف على الأشياء كلّ الأشياء من أجل أنفسنا، من أجل سعادة وكمال أنفسنا، ونتعرّف على أنفسنا لنعرف طريق تكميلها، لأنّه لا سعادة لنا إلا بكمال هذه النفس.

إذا كانت نفسٌ هي أكبر النفوس شأناً حسب ما خلقها الله عزَّ وجلّ، ولكن لم تعرف قيمتها ولم تعرف وزنها، ما أعطت نفسها قدرْها، هل تكون كبيرة من ناحية فعليّة؟ هي إستعداداً أكبرُ نَفْس، ولكنْ من ناحية فعليّة قد تتعامل مع نفسها كتعاملها مع نفس الحمار، أو مع نفس الحشرة، مع نفس الصرصور. صاحبها يقيسُها على مقاس الصراصير. الصرصور يعيش في “بلاّعة”، يتغذّى ويشرب ويجِد زاوية ليستدفئ، ويشمّ روائح طيبة في نظره. الصرصور هكذا.

أحدُنا لمّا يُقدِّر نفسه التي فيها نفخة الروح، يُقدِّرها على حدّ نفس الصرصور في تعامله معها. الصرصور ينكح، هو ينكح. يأكل، هو يأكل. يستقي، هو يستقي. يستدفئ، هو يستدفئ. يَلِد، هو يَلِد. فيحصر حاجاته واهتماماته وأهدافه في هذا كلّه، ومن ناحية المواهب، العطايا الإلهية، العبقريّة، الشفافيّة، وعلى متسوى الاستعداد، إنسان كبير جدّاً، مخلوق كبير، ولكن وقد قاس نفسه في الحاجات العملية، وفي التعامل، حيث تعامل مع نفسه في ظلّ النظرة الخطأ، نظرة أنّه بَدَن، وحاجات البدن هي المذكورة التي ذكرناها للصرصور، هي هذه حاجات البدن، فتعامل مع نفسه بَدناً، سيكون من ناحية فعليّة ماذا؟ إنساناً كاملا؟ مخلوقاً كبيراً؟ عظيماً؟ يكونُ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)؟ أو يبقى تيس إذا قاس نفسه على التيس؟ غنمة إذا قاست نفسها على الغنمة؟ صرصور وما إلى ذلك؟

كلُّ ما أُريده من هذا الحديث وقد يطول بعض الشيء -ليس الليلة فقط-، أنّه علينا أنْ لا نُخطئ الطريق، ليس لنا هدفٌ نَسعَدُ به، ونَعظُم به، ونَفخرُ بالوصول إليه، ونكتسبُ السيادة الحقيقية على ما سوانا، ليس لنا هدفٌ في هذه الحياة إلاّ أن نبلُغ الكمال الذي نُطيقه.

ولا طريقَ إلى بلوغ الكمال والسعادة إلا بأنْ نَعرِف أنفسنا.

أقف عند هذه النقطة ويأتي الكلام في ماسواها إن شاء الله.

وغَفَرَ الله لي ولكُم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى