كلمة آية الله قاسم بمناسبة عيد الغدير الأغر 1442هـ

*نص كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم بمناسبة عيد الغدير الأغرّ، والتي ألقاها ضمن سلسلة الندوات التخصصية التي نظمها الحرم الرضوي الشريف – ٢٤ يوليو ٢٠٢١م

بسم الله الرحمن الرحيم
 
الغديرُ عيد الأُخوَّة
 تحت هذا العنوان أتحدّث لكم بهذه الكلمة التي أرجوا أن تأتي مرضية لله تعالى.

عيد الغدير اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة وهو اليوم الذي نصب فيه علي بن أبي طالب “عليه السلام” بأمرٍ من الله عزَّ وجلّ على يد النبي الأعظم محمد بن عبد الله “صلَّى الله عليه وآله” بأمرٍ من الله عزَّ وجلّ أميرًا ووليًّا وإمامًا على المؤمنين، ولايةً عامة يدخل فيها كلاًّ من أمر الدين والدنيا؛ حفظًا للإسلام على ما جاء به من عند الله تبارك وتعالى على لسان الله كتابًا وسنّةً قوليّة وعملية لا تغيير فيه ولا تبديل علمًا وعملا.

عيد الغدير من أجل إبقاء الأمة على خطّ إسلامها الأصيل لا تتوزعها السُبل ولا يضلّ بها الطريق.

وحقَّ لهذا اليوم بما له من دورٍ أساس في ابقاء الأصالة والنقاء للدين والصدق والسلامة لكيان الأمة وهداها، حقّ له أن يكون عيدًا خالدًا، وعنوان شرفٍ عظيم، وحقَّ لتولية علي “عليه السلام” هذه التولية الكبرى العامة التي بها كمال الدين وإتمام النعمة ورضا الربّ وأمن البلاد والعباد أنْ تكون مناسبةً للعيد العظيم، وعيدٌ هذه مناسبته هو عيدُ الأخوّة على مستوى أهل الإيمان والإسلام، ثم على مستوى الإنسان وأخيه الإنسان، ولأنّها ولاية الدين الحقّ، والإمام الحقّ الذي يجسّد هذا الدين تجسيدًا كاملاً بحيث تقرأ الدين من خلال شخصيته القراءة الدقيقة الأمينة، ولأنها ولاية على المؤمنين فلابد أن يكون عيدها عيد الأخوّة الإيمانية.

ولأنّ إمام هذا العيد هو القائل لمالك الأشتر الذي جاء في كتاب التولية له على مصر، عن علاقته لمن سيحكم من أهلها: (وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن سبُعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق) (1).
كان هذا العيدُ عيد الأخوّة الإنسانية، والكلمة عند الإمام إلتزامٌ وموقفٌ وخلق وسياسة وليست لفظة على اللسان، الكلمة الحق عند الإمام “عليه السلام” والالتزام عملاً بمفادها مسؤليتان لا تخلّف منه عليه السلام عن إحداهما.

ومن مصاديق التزامه بالأخوة الإيمانية، وكذلك الإنسانية في ولايته مع المحكومين، قوله عن شيخ مكفوف يستعطي الصدقة: ما هذا؟ -وهو سؤال استنكاري للظاهرة واستيحاش لوجودها في المجتمع المسلم-، فأجيب يا أمير المؤمنين، نصراني، -وكأنّ في هذا الجواب محاولة تبرير لترك هذا الشيخ مضطرًّا لاستعطاء لقمته، إلا أن الجواب جاءت مستنكرة رافضةً لهذا التبرير الذي لا يلتقي وسياسة الإسلام والإمام إذ كانت بهذه الصيغة- فقال أمير المؤمنين “عليه السلام”: استعملتوه حتّى إذا كبر منعتموه، أنفقوا عليه من بين المال (2).

ومن مصاديقه “عليه السلام” قوله وهو الصادق: (وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ [وَ] قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً….) (3).
جديرٌ عند الإمام أن يموت المسلم وهو يسمع أن امرأة مُعاهِدة سُلِبت وأوذيت وهي في ظل عهده الشريف وفي ظل الدولة الإسلامية العادلة.

وحقٌّ أنْ يصدق كلّ الصدق أن عيد عليٍ “عليه السلام”
عيد الغدير؛ هو عيد الأخوّة الإنسانية، لأنّ عليًا “عليه السلام” يعرف كرامة الإنسان ويُقدِّر كرامة الإنسان ويحترم دم الإنسان ويعتزّ بإنسانية الإنسان ويحرص على هداه ومصلحته ويراه نظيرًا له في الخلق، ويحمل استعداد الخير كأيّ إنسانٍ آخر بحسب خلقته ومواهب الله عزَّ وجلّ عنده.

ولا تنحفظ مصالح المجتمع الإسلامي، ولا تسلم كرامة المجتمع الإنساني، ولا تأمن الأرض ولا يعزّ أهلها في ظل حكومةٍ تعيش البُعد عن علم السماء، وعدل السماء، وخلق وإحسان السماء وغاية السماء، ورحمة وهدى الله وحكمته وألطاف دينه واستقامة شريعته.

ولا أعرف من إمام الغدير -بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله- بطعم أخوّة الإيمان، وأخوّتها وطهرها وأُنسها وحاجة الإنسان والأمة لها، وثقل حقّها، وتشديد الدين على هذا الحق، ولا أدرَكَ منه “عليه السلام” لعوائد هذا الحقّ على الأمة وإسلامها، وضرر إهماله والغفلة عنه عليهما، على الإسلام وأمة الإسلام وعلى الإنسانية كلّ الإنسانية.

وإنّ إحساسَ عليٍ “عليه السلام” بعظم مسؤوليته في حراسة هذا المبدأ في ولايته، وولاية كلّ حاكمٍ مسلمٍ حقّ؛ لا يترك له مجالاً لأيّ تغافل عن رعايته.
والأرض كلّها بخير، وكلّها أخوّة إيمانية وإنسانية؛ في ظلّ حكومةِ علي “عليه السلام” الذي أغناه الله بعلمٍ من علمه، وهدى من هداه، وعدلٍ من عدله، ورحمةٍ من رحمته وإحسانٍ من إحسانه، وأمدّه ببصيرةٍ واسعةٍ عميقة من بصيرة دينٍ ودنيًا من فيضه، وشعورٍ فيّاضٍ بأُخوّة المؤمن للمؤمن، والإنسان للإنسان، وجلَّى في قلبه الشريف أن الإمامة والحكم أمانة من ربّه، وألهمه أن لا يحاسب فيها محاسبته لربّه، بل كلّ محاسبته له، ولا شيء منها لسواه.

واليوم ونحن نحيي ذكرى عيد الغدير، محتضنين له بكلّ عقولنا وقلوبنا، مسلمين لحكومة إمامه في كلّ جنبات حياتنا، لأنها من حكومة الله وفاعليته في هدى النفس، لأنها من حكومة الله الواحد الأحد.

ومن وظيفة هذا الإحياء أن يعطي صورة واضحة للقيمة الكبرى لهذا العيد وفاعليته في هدى الناس، ودوره في إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الربّ، وأن يكون إحياءً تحيا به الأخوّة الإيمانية والأخوّة الإنسانية بالطريقة المُثلى التي لا تشذ عن مرضاة الله وخدمة الحقّ ومراعاة العدل.

نعم…
كما كان يوم الغدير في تأسيسه من أجل الإسلام والأخوّة الإسلامية، والأخوّة الإنسانية؛ فكذلك هو في إحياءه المستمر، يجب أن يبقى على يدنا من أجل الإسلام وعزّته، والأخوّة الإسلامية وصدقها، والأخوّة الإنسانية ورعايتها.

وما أحرى بالأمة أن تتعلّم من ذكرى الغدير أهمية الإمامة والقيادة والحاكمية في نظر الإسلام، وأنّ التفريط في ذلك تفريط في الدّين، وأنّه لا يجوز للأمة أن تترك لمسار الحاكميّة أن يبقى على وضعه القائم البعيد عن موازين الإسلام، حتّى انفتح البابُ على مصراعيه لهذا المقام الشامخ الذي كان أساسًا لرسول الله وأوصيائه العظام، والذي يرتبط به مصير الأمة والإنسانية دينًا ودنيًا وآخرة، وبقي هذا المقام الشامخ مفتوحًا على مصراعيه للجاهل والفاسق ولأهل البدع ومُقلِّدة الغرب، ومَن يحارب الإسلام والأمّة ويعين عليهما العدوّ.

أمّا الخلاف على شرط العصمة في الإمامة بين الأمة بعد رسول الله “صلّى الله عليه وآله”، وفي زمن حضور المعصوم، فلا دخل له على الاطلاق لتبرير ما عليه حال الحاكم القائم في كثيرٍ من صورها هذه الأيام، ممّا يُقطع بأنّه على خلاف ما شرَّع الله سبحانه وتعالى.

حكمٌ وشخصياتُ حكمٍ تتولّى حكم هذا البلد أو ذلك البلد من بلاد المسلمين وهي على خلاف ما قضى الله بأن لا يحكم هذه الأمة وأن لا يحكم الإنسانية إلا الإسلام وإمام الإسلام.
هذا الحكم الذي تمارسه كثيرٌ من الأنظمة باسم الإسلام وهو أداة طيِّعةٌ بيد الكفر، ولأغراضٍ مناهضةٍ للإسلام؛ مُناقَضَةٌ واضحة للثوابت الإسلامية، وخروجٌ على ولاية الله عزَّ وجلّ، ودخولٌ في ولاية الشيطان وأوليائه.

وإنّه ليستحيلُ على الدين من الله سبحانه أنْ يُسنِدَ أمر الولاية والإمامة والحكومة لمن يحكم بغير شريعته، ويخدم أهدافًا منافيةً لأهداف دينه، ويقيم الظلم ويهدم العدل، ويُقوِّي الكافرين ويُِضعِف المؤمنين، وينشر الفسق ويفتح سبل الرذيلة، بما في ذلك منافاة الرسالات الإلهية كلّها، وبعث الرُسل، وتنزيل الكتب، الشيء الذي لا يأتي من العاقل العادي فضلاً عن أن يحدث من الكامل المطلق، والحكيم الذي لا حكمة إلا من حكمته.

وإنَّ ليوم الغدير للأمّة كلِّها كلمة: أنْ أحيوا دين الله تُحيوا نفوسكم.. ولا تُميتوا دين الله وأنفسكم بالسكوت عن حكم الطواغيت.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى