كلمة آية الله قاسم بالملتقى التعريفي بفكر آية الله المصباح اليزدي

 

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الملتقى التعريفي بفكر الفيلسوف الراحل سماحة آية الله الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي، والذي أقيم في قمّ المقدسة يوم الأربعاء 10 مارس 2021م:

 

فيديو الكلمة:

صوت الكلمة :

نص الكلمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

المصباح ابن مدرسته

في كل أمّةٍ رجالٌ تراهم عظماء، ولكنّ العظمة الحقيقية الشاملة لأبعاد إنسانية الإنسان لا تتأتى خارج مسار التوحيد ومدرسته.

والعظمة في اطار هذه المدرسة والمبنيّة في ضوئها تأتي بمقدار ما يجسّده طالبُها من صفات الكمال التامة لها ممّا لا يجتمع مثلها لغيرها، ولا يبلغ ما للغير منها مبلغها.

إذا أردتَ العظمة الحقيقية وفي أوسع اطارٍ لها، فأطلب الإسلام، التزم الإسلام، تمسك بالإسلام، اعرف الإسلام، ضع كل خطواتكَ على خطّ الإسلام.

مدرسة التوحيد مدرسة الكمال المطلق، والملتحقون بها يسترفدون منها ما يتسرفدون من كمالاتٍ لأنفسهم قَدْرَ جُهدهم وسَعَة ما هم عليه من قدر الاستعداد دون أن يبلغوا الكمال المطلق. الكمال المطلق لله وحده.

وشيخنا المصباح واحدٌ من أبناء هذه المدرسة على الحقيقة. عَشِقَها كلّ العشق، وانشدَّ إليها كلّ الانشداد، وذاب فيها كلّ الذوبان، وأقام عليها كلّ حياته، وبَذَلَ جهده في أن ينال من عطاءاتها ما تقرُّ به عينه وتطمئن نفسه ويعلو قدره، ويعظُم في ذكر ربّه.

أقام فكره الفوقيَّ على قاعدة التّوحيد مُوقناً بها، وبأنّها الحقيقة التي لا يَصّحُ بناءٌ لا يقوم عليها، ولا يُوصل إلى نتيجةٍ فكريةٍ سليمةٍ تنافيها، ولا لغايةٍ عمليّةٍ رابحةٍ عن غير طريقها، ولا يقر قرارٌ بدونها، ولا تستقيم حياةٌ لا تأخذ بها.

وكما كان كذلك في بُعده الفكري ونتاجاته، فكذلك هو في بُعده العملي ونتائجه.

وشَعَّت شخصية الرجل بالجمال المُستقى من جمال مدرسته التي حرص على ألاّ يخرج في شيءٍ عن هدايتها أبداً.

لَكَم كان في هذا العبد الصالح من كمالاتٍ مشوّقةٍ مستهوية للنفوس المُتطلِّعة للسموّ، المُستعدّة فعلاً لتلقّي الكمال، وكم صنع على هذا الطريق، وأخذ بهذه النفوس إلى صراط العزيز الحميد.

تجتذبُك من سماحته روحيّةٌ صافيةٌ شفافة طافحةٌ على مُحيّاه، وفي كلماته، ويجتذبُك منه وقار الإيمان، وطهر القلب الذي تراه في ملامحه وحتى نظرة الرضا والغضب من نظراته. وتطالعك منه الارادة القويّة والصلابة في ذات الله في الكلمة والموقف من النفس والغير. وإنّ له لهدوءاً وسكينةً لا يُغيِّران من عناده في الحق، ولا ينالان من شدّته وعنفوانه من أجل الله. وسَهْلٌ عليك أن تعرف أنّ شدّته وانتقامه ليس إلاّ من أجل الله، لا للذات ولا للغير من دونه سبحانه.

لا يُخاصم حبًّا للخصومة ولا بداعٍ من دواعي الأرض، وإنما يُخاصم الخصومة التي يقتضيها الانتصار للحق. وإذا خاصم لم تخرج به الخصومة عن اطار العدل والحقّ والأدب، ولم يدفع به التخاصم إلى التحامل الجاهلي على من يُخاصمه. إنّه في تخاصمه كما هو في دخوله في التخاصم يحكمُه الحقّ.

وهو عالمٌ لا لأنه يحمل علماً فحسب، بل لأنه يتقيّد بالمنهجة العلمية كذلك. يخضع للدليل، ولا يُغالِط في الاستدلال، ولا يُغالَط، ولا يقبل رأياً من غير دليل، ولا يبخس الآخر بالتقليل من قيمة دليله، عنده لكلّ دليلٍ وزنه، مستعدٌّ كلَّ الاستعداد للتسليم بالدليل التام لو جاء من خصمه، كما لا يبني قناعته بعيداً عن الدليل، لا يدفع بالآخرين للقناعة إلاّ بما يوجبها منه. يواجه ضغط البيئة، وضغط الوراثة بجرأةٍ وقوّة من أجل حقّانية الدليل وحاكميته، يعمل على تركيز القيمة العليا للبرهان في الوسط العلمي والثقافي وعند طلابه ومريديه تمشيّاً مع ما تدعو إليه مدرسة التوحيد من التزام العلم والمنهجة العلميّة (1).

لا يخلط -شيخنا المصباح الكريم- فيما ينبغي أن يُقال في هذه المسألة أو تلك من الحكم بالظن أو الظن المرتفع أو اليقين، ولا يتعامل التعامل المتسامح في مجال هذه الأحكام الذي يضرُّ بقيمة العلم. وإذا كان سماحته شديداً في طلب العلم والتمسُّك به في كل المجالات فهو أشدّ طلباً وتمسُّكاً به في ما يتصل بمسألة الدين؛ لعظيم أهميتها وحُرمتها وابتنائها الأكيد على العلم من ألفها إلى يائها، وابتناء الحياة عليها.

منفتحٌ على العلم من أي مكانٍ ومن أي مدرسةٍ جاء، ولا ينتظر العلم أن يصله بل يسعى إليه السعي الجادّ بجهوده وجهود الفريق الذي يعمل تحت توجيهه.

جامعٌ بين المعرفة الإسلامية المُرَكَّزَة والأساسيّة وبين ما استطاع الوصول إليه من العلوم الإنسانية المعاصرة، عارفاً ماذا يأخذ منها وما يدع، وما يُقرُّ وما يُنكر على أساسٍ من مقياسٍ علميٍ وإسلاميٍ مأمونٍ واضحٍ دقيق.

وكتبُ سماحته ومحاضراته العلمية شاهدةٌ له بما تَقَدَّم.

ومع ماله من رصانةٍ ومتانةٍ وعمقٍ في الفكر ودقّة فإنّه يتمتعُ بأسلوبٍ مريحٍ يصل به إلى فكر مخاطبه، ويُجلِّي له مراده. تراه متخفّفاً عن التكلّف في التعبير، بعيداً عن ارتكاب التعقيد في الأسلوب.

كأنّي به لا يختار ما يكتب وما يحاضر، وإنما يكتب ويحاضر بحسب ما تُملي عليه حاجة الساحة الإسلامية وأولوياتها، وما تفرضه مصلحة الإسلام.

لا يبحث فيما يكتب وما يحاضر عمّن يقرأ أو يسمع له، وإنّما كلّ بحثه عن مواقع مرضاة الله.

ورجلٌ مثله لا يرى لنفسه مصلحةً خارج مصلحة الإسلام، ولا دوراً في الحياة غير دوره حسب التكليف الشرعي.

حَارَبَ عن الإسلام بلسانه وقلمه وموقفه، ولم يتوقّف عن خوض معركةٍ يستطيع أن يقدّم فيها نفعاً للإسلام والأمّة بغضّ النظر عمّا يعقبه ذلك من عداواتٍ وخصوماتٍ ومتاعب مؤلمةٍ له، ومن رضا أو غضب الآخرين.

إنّه لرجلٌ كبير حقًّا ومدرسةٌ إيمانيةٌ صادقةٌ هاديةٌ بروحه وقلبه وفكره ونفسيته، ومن خلال قوله وفعله، وسكونه وحركته. إنّه مُعلِّمٌ للإسلام بكلِّ هذه الأبعاد وحتى ببسمته وتجهمّه.

نجاحه الكبير في مقاومته للنفس، وغلبتُه لهواها، أعطاه نجاحاً كبيراً في مقاومته لانحراف الخارج وسقوطه وتحدياته.

عَرَف طريق الحقّ وسلكه على خشونته عن علمٍ ودراية، وعن اختيارٍ وإيمانٍ وبصيرة، متقبّلاً كلّ متاعبه في مرضاة ربه.

لم تمل به تقلبات الأحوال وشدّة الظروف عن طريق ذات الشوكة، طريق الصالحين المتقين الذين اختارهم الله لخدمة دينه وانقاذ عبادة.

إنسانٌ متوازنٌ لا يغلبُه أدبُه في الخطاب واحترامه للآخر فيخرج به إلى المجاملة على حساب الحق، وإنْ يجامل لا تأتي مجاملته مُحمّلةً بما يَمَسُّ بقيمة الحق وحرمته، وإنْ يقسو لا يقسوا بما فيه ظلم الآخر وغضب الله.

لا يبخس خصماً له في رأيٍ له حظٌّ من الصّحة، ولا ديناً غير دينه فيما هو عليه من حقّ، ولا مذهباً غير مذهبه في نظرٍ يمتلك وجاهة. معاركه رساليّة وفي اطار صالح الرسالة الإسلامية وحقانيتها الثابتة والموضوعية التي تدعو إليها، والخُلُق الكريم الذي تنادي به.

وهكذا يجب أن تكون معركتنا جميعاً، ومن أجل صالح الإنسانية كلّها، التي تتنافى مصالحها والباطل كلّ المنافاة، وتتناقض كلّ التناقض.

كتاباته لا للتكرار، وإنّما يكتب للابداع والبحث عن الجديد، والدفع بمستوى المعرفة ما أمكنه. محاولته أن يوضّح لقارئه ما لم يتضح، ويكتشف ما قد يكون لم يُكتشف، ويصحّحَ ما أصابه خطأٌ وسوء فهم، ويُكمل من الفكرة ما قد يَجد له تكملة.

محاولته دائماً أن يسدّ فراغاً علميّاً أو ثقافيّاً بما هو صحيح وقوي ونافع ودقيق، وأن يُنقذ من الجهل والغفلة والشبهة والباطل. وهذه هي وظيفة الكلمة والعلم عند الرساليين المخلصين.

نَفَسُه طويلٌ في تناوله البحثي لأي مسألةٍ علميّة، واستقصائه لأصولها، والمناقشات المتعلِّقة بها مما كان لها أو عليها بعيداً عن لغة العواطف والعنديّات الذاتية البعيدة عن الروح العلمية والموضوعية المحايدة.

يقرأ له المثقف بالثقافة الإسلاميّة العامة فيستريح له في قراءته، ويخرج بالحصيلة التي استهدفتها له. وإذا قرأ له المختص احترم له فكره وروحه العلميّة ودقّة منهجه وقلمه ونظرته، ولم يجد خصمه الفكري عصبيةً منه تُنفّره، وتُسخطه.

إنّه لشخصيةٌ كبيرةٌ متميّزة من غير دعاوى عريضة وهالة قدسية مختلقة لكسب التقدير والوزن المفتقد مما تتطلّع إليه النفوس.

يستوقفني في هذا الحديث أمر، هناك ظاهرةٌ لا تخفى في أوساط فقهائنا وعلمائنا الأتقياء من خريجي المدرسة الإيمانية المباركة، وهي ظاهرة التواضع التلقائي غير المُتَكَلَّف على ما هم عليه من شأن كبير، وامكانات ضخمة، والتفاف جماهيري ملفت.

فما هو سر ذلك يا ترى؟

هؤلاء رجالٌ أغناهم الله وأعزّهم بقربه، فلم يبقَ فيهم ما يعانون منه من عقدة نقصٍ أمام الآخرين من الناس ليطلبوا التعويض عن نقصهم ومعالجته بالاستكبار الكاذب الذي يضيف إلى مصيبته مصيبة ويعزلهم عن الآخرين ويثير الحقد عليهم. إنّ من يشعر بعقدة النقص يحاول أن يتخفى عنها وراء استكباره، ومُحالٌ أن يذهب الخيال بالواقع. النقصُ وما يُنشئه من عُقَد يقضي عليه تخيّل العظمة واظهار الكبر.

هذا أمر، والآخر أن أولئك الصالحين الأتقياء لا يجدون أنفسهم وكل ما لديهم إلا عطاء من عطاء الله الذي لم يخرج ولا يخرج عن ملكه. وبذا لا يبقى في أنفسهم سببٌ للاستكبار.

بصائرهم حاضرةٌ فاعلة دائماً لا تخفى معها عبوديتهم عنهم طرفة عين، وهي عبوديةٌ للعزيز القدير حقّاً، وهذه البصيرة تحميهم دائماً من الذل لغير الله، ومن الاستكبار الذي لا يرضاه الله.

ولقد أسندت إليه حكمة القائد المحنّك ودرايته الدقيقة مع دافع الحرص على بناء الأمة البناء الشامخ فكريًّا وروحيًّا وعمليًّا ممّا يُعطي منها الأمة الإسلامية الأصيلة القادرة السبّاقة الرائدة في الايمان والعلم والقوّة بعد كل ما أصابها من تصدّعات ووهنٍ وتخلّفات وارباكاتٍ في الفكر والايمان وسائر أبعاد مسيرتها، أسندت إليه رئاسة وادارة مؤسسة الإمام الخميني (قدس سره) للتعليم والبحث؛ لتشارك بقوّةٍ في احداث النهضة العلمية وملء الفراغات التخصصية التي تتطلّبها المسيرة الإسلامية المتقدمة، وتوفير كلّ القابليات في اشتراكٍ مع دور الحوزة العلمية فأظهرت التجربة من وزن الرجل في أبعاد شخصيته ما أثبت الجدارة العالية والعلميّة والرسالية والجديّة والقدرة الادارية وحُسنَ الانجاز وغير ذلك ممّا يتمتّع به هذا الرجل الكبير.

وما يُرجى لهذه المؤسسة الرائدة في ظل رئاستها الجديدة الكبيرة المُؤمَّلة أن تواصل خط الصعود والفاعلية الضخمة لدورها العلمي والتربوي الابداعي في قفزاتٍ واسعةٍ عالية على طريق رساليتها الإسلامية المجيدة.

وكلمةٌ أخيرة، إنّه على الجمهورية الإسلامية المباركة -وهي البصيرة-، والأمة الإسلامية -وهي الوفيّة- ألاّ تنسى العطاء الثرّ للراحل العزيز سماحة آية الله المصباح، وتعطيه حقّه من النشر والترويج ليواصل أداء دوره في صناعة الوعي والارادة والفاعليّة الإسلامية في الأوساط العلمية والثقافية والارتقاء ببصيرة الأجيال ووضعها على الطريق السويّ، طريق الغاية الكبرى، غاية الوصول إلى الله.

فإنّ عطاءه من العطاء الإسلامي الأصيل الذي لا يتقادم، ولا يُصاب بالبِلَى مع تقادم الأيام.

وستبقى الأمة محتاجة إلى تزايد في النماذج من الرجالات الصالحين المعطائين، وتبقى الحوزة العلمية والمؤسسات المُكمِّلة لها في مقدمة المسؤولين عن تخريج القدوات العلمية والإيمانية والعملية القادرة على مواصلة العطاء الدفّاق المنقذ والمرشد لمسيرة الأمة.

إن الشيخ المصباح اليزدي حيٌّ يرزق بما ترك من آثارٍ علميةٍ وتربويةٍ إيمانية ورجالٍ صالحين من عطاء تعليمه وتربيته. وفي كلّ ذلك عطاءٌ مُتّصلٌ منه على مستوى العلم والوعي والهداية والبناء الصالح للأمة، وكلُّ ذلك يُحارب عن الإسلام وينتصر له، ويجتذبُ إلى نوره، ويُسهمُ في الحفاظ عليه، وفتح الطريق لاعلاء كلمته.

كلمةٌ من صُلب الإسلام، إنّه لَعَلَى من أراد أن يبقى فليُبقِ من بعده صالحاً ينتفع الناس به. وليس أبقى، وليس أنفع من الإسلام، فمن أبقى لنفسه عملاً إسلامياً أو دعوةً إسلامية سائرة في الناس فعّالة تهدي وتنير فلقد ترك الكثير ممّا يخدمه في مماته.

طيَّب الله ثرى شيخنا العظيم، وأقرَّ عينه بجزاءٍ عظيمٍ من جزاء ربّه تبارك وتعالى، وحَشَرَه مع الأنبياء والصالحين والأئمة الطاهرين. وأستميحكم العُذر إنْ طال الكلام، وأستميحكم العُذر عن القصور والتقصير.

————————————–

الهوامش:

(1) حقّاً إنّه إذا كنّا توحيديين فسنكون تماماً علميين، وإذا كنّا علميين فسنكون توحيديين

زر الذهاب إلى الأعلى