آية الله قاسم في المؤتمر الدولي للوحدة الإسلامية: الأمّة تواجه ثلاث بلاءات كبيرة هي القضية الفلسطينية والتطبيع والكورونا.. وعليها أن تصمد وتقاوم

قال سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في كلمته بالمؤتمر الدولي الرابع والثلاثين للوحدة الإسلامية الذي ينظمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية تحت عنوان “التعاون الإسلامي في مواجهة الكوارث والبلايا”، بأن الأمّة اليوم تجتمع عليها ثلاثة بلاءاتٌ كبيرة فيها امتحانٌ عسيرٌ لها، وهي محنة الأمة القضية الفلسطينية، ومحنةُ التطبيع مع عدو الأمّة، ومحنةُ الكورونا، وكلّها مِحنٌ ثِقال غلاظٌ شِداد، مؤكداً بأنّ الأمّة كلّها مسؤولة أمام الامتحان بكلّ هذه المحن الثلاث.

وأضاف سماحته في المؤتمر الذي انطلق اليوم الخميس 29 اكتوبر 2020 ويستمر حتى الثلاثاء القادم في العاصمة الإيرانية طهران بمشاركة 167 عالماً من 47 دولة و92 مفکرا إيرانياً، بأنّ الأمّة كلّها على محكٍّ من هذا الامتحان في صبرها المقاوم، وشجاعتها، ووعيها، وتماسك وحدتها، وجدّية رساليّتها، وشعورها بعزّتها وكرامتها بِقدَر ما هي مهدّدةٌ بهذه المِحن في حاضرها ومستقبلها، وفي دينها ودنياها.

وشدد سماحته في كلمته التي عرضت أمام المؤتمر بأنّ الأمة ما لها إلاّ أن تصمد وتقاوم وترتفع إلى مستوى التحدّيات، فتتجاوز الامتحان بنجاح، أو تسقط السقوط الذريع بأن تلين وتَجهَل، ولا تسمع للنداء المقاوم الذي يُطلقه دينها والمؤمنون.

فيديو الكلمة :

*فيما يلي نص كلمة سماحته:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على الأخوة الكرام المشاركين في مؤتمر التعاون الإسلامي لمواجهة المصائب والبلايا، وهو المؤتمر الدولي الرابع والثلاثون للوحدة الإسلامية الذي يقيمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، أستميحكم في المشاركة في مؤتمركم المبارك تحت عنوان “لماذا سُنّة الابتلاء؟”.

عِلمُنَا اليقينُ بالله وجلاله وجماله وكماله، وعدم المحدودية في شيءٍ من ذلك يُكسبنا اليقين بأنّ كلّ سننه التكوينية والتشريعية لا يصدر إلاّ عن علمٍ وحكمةٍ وعدل، وأنّ رحمته ظاهرةٌ وخافية، ولطفه منظورٌ وغيرُ منظور. وهل يصدر عن كمال الذات والصفات إلاّ الفعل الكامل والتصرّف الكامل؟

وهذا العلم الاجمالي بحكمة الله عزّ وجلّ في كلّ فعلٍ وتصرف يستتبع عقلاً التسليم والرضا بما قدّر وقضى. ولكن من النّور على النّور أن يحصل للعبد علمٌ تفصيلي بِحكَمِ الفعل الإلهي فينا وسننه، وفهم هذه الحِكم من العقل، ومن بيان الدين من مصدر الكتاب والسنّة.

وسنّةُ الابتلاء يُفيدنا جدًّا التعَرّفُ على ما يمكن من حكمها.

ولنقف على شيء من ذلك من نصوص الكتاب والسنّة وظواهرهما بصورة موجزة:

1- الابتلاء وتجلية واقع الإنسان:

الابتلاء يكون بالشرّ والخير (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) – الأنبياء، 35.

والإنسان المعلومُ بكل واقعه وظاهره لله سبحانه يملك كثيراً أن يتستّتر عن الناس الذين لا يعلمون إلاّ الظاهر، وبذلك يستطيع أن يكتسب الثقة على خلاف ما عليه حال واقعه فتصيب هذه الثقةُ من الناس المقاتل لكونها في الموقع المخالف.

وقد تَغمُضُ النفس على صاحبها، فيظنّ بها خيراً ليست أهلاً له، ويرى فيها زكاةً ليست بها، وهذا يجعله لا يواجهها باصلاحٍ وتقويمٍ وتهذيب فتفسد عليه فساداً كبيراً وينفرط عليه أمره كلّه.

وهذان أمران يُخلّص منهما البلاء الذي يكشف واقع النفس لصاحبها، وللآخرين من خلال ما تصير إليه من مواقف عمليّةٍ أمام شدّة الامتحان فتظهرهما على الحقيقة.

والنتائج العمليّة للبلاء عندما يتعرّى بها سوءُ سريرة العبد وتُظهر قبحها يكون عدلُ الله عزّ وجلّ لعبده مشهوداً عند العبد نفسه، وعند الآخرين وإنْ كان عدل الله لا يُتّهم انكشف للناس حالُ العبد المذنب أو لم ينكشف.

فالابتلاء يفرز الصالح عن الطالح فرزاً عمليّاً واضحاً مما لا يُبقي للعباد حتى حجةً ظاهرية باهتةً كاذبة عندما تتحدَّث عنهم أعمالهم، وتشهد عليهم جوارحهم يوم القيام، وهذا يحتاج إلى أن يُبتلى الناس وتظهر حقائقهم للعيان.

والابتلاء ينقذ المجتمع من الوقوع في المهالك، واسنادِ المهمّات الضخمة، ومسؤولية الأمانات العظيمة لمن ليس أهلاً لها من المتستّرين على سوئهم، والمنافقين الذين يكيدون بالناس كيداً، حيث لا تبقي المحن والشدائد العاتية مجالاً للتستر والمراوغة والخداع والنفاق.

والابتلاء يفرز الكفاءات العاليةَ ليَجد المجتمعُ بسهولةٍ مَن يُسند إليه المسؤوليات الثقيلة، ولا يجد منهم إلاّ الاخلاص والوفاء.

والابتلاء وهو يكشف النفس لصاحبها يُعينه على انقاذ نفسه وإصلاحها، وتدارك أمرها.

تقول الآيات الكريمة (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) – آل عمران، 179.

وفي قوله الآخر (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) – العنكبوت، 2/3.

قبل الفتنة وما تتكشّف عنه، الله يعلم أنّ سريرة هذا سريرة سوءٍ وكذب، وسريرة ذاك الشخص حسنٌ وصدق، وبعد موقف العبد من الفتنة ونجاحه أو سقوطه العملي في الاختبار تبرز فِعليّة حسنه أو قبحه متجسدةً خارجاً مشهودةً للعيون فلا يشكُّ شاكّ في حسن ثواب المُحسن، وعدلِ العقوبة للمسيء.

2- البلاء ودور التنمية:

الإنسان يُولَد استعداداتٍ وقابلياتٍ يبلغ بتفعيلها الكمال في بدنه ومعناه، يولد قابلياتٍ واستعداداتٍ روحيّة وفكريّة ونفسيّة وبدنيّة كذلك. وتفعيله لقابلياته لا يكون من خلال الاهمال والجمود أملاً في أن تتفعل تلقائياً من نفسها، فإنّ تفعيلها إنما يتم بالتجربة بعد التجربة يخوضها الإنسان في أبعاد شخصيته ليجد من نفسه أنّه قد توفّر عبر التجارب والمجاهدات ومكابرة الصعاب والتحديات المتوالية على قوةٍ وعلمٍ وبصيرةٍ وخبرة ونما في إرادته، وتخلّص من نقصٍ بعد نقص، وانتقل من كمالٍ فعليٍ إلى كمالٍ فعليٍ أكبر في كل قابلياته الموضوعة على محكّ التجربة دون المُهملة والمعطلة.

والامتحان بالصعوبات، وزجُّ الإنسان في ما يضطره للمقاومة هُو الفعل الذي يستثير قابلياته للرد على التحديات، وهذا ما يفعّلها، ويثمر فيها حركةً تقدميّة على مسار الكمال.

عن الرسول “صلَّى الله عليه وآله” (إنّ الله ليغذّي عبده بالبلاء كما تُغذّي الوالدة ولدها باللبن) – ميزان الحكمة، ج1/ص461.

وعنه “صلَّى الله عليه وآله” (إذا أراد الله بقومٍ خيراً ابتلاهم).

الله عزّ وجلّ عليمٌ بايمان عبده، وبأنّ إيمانه يعطيه القدرة على تحمّل البلاء الذي يصنعه، والنجاح في مواجهته بما يحقق هدف التنمية له، ويُحدث فيه جديداً من الكمال بالفعل. ولحبّه له، ولطفه به، يبتليه بما ابتلاه به.

والأمّة التي تركد وتخمل فيتوقف نموها وتضعف، يعالج ذلك فيها أن يصيبها بلاءٌ من الله؛ يثير فيها روح الحركة والمقاومة للبلاء في ظل منهج الله المنقذ لتخرُجَ من المحنة بنجاح، وعلمٍ أكثر، وقوّةٍ أشد، ورشدٍ أكبر، وهدى أوضح، وسريرةٍ أنقى، وتتخلّص من الجهل والسفه والضلال، وأسباب الضعف والهزيمة.

3- البلاء والتّذكير:

ما كان للناس أبداً أن ينسوا ربّهم في أيّ وقت من الأوقات فينسَوْا أنفسهم، ويدخلوا في معصيته، فيخسروا سعادة دنياهم وآخرتهم، ولكّنهم لكثيراً ما يكون منهم ذلك لما يكون منهم من التفريط عن عِلم.

ولرحمةٍ من الله سبحانه تأتيهم الفتنة في كل عامٍ مرّةً أو مرّتين؛ لتهزّهُم هزّاً عنيفاً لعلَّهم يذكّرون، فيتراجعوا عن طريق النار والهلاك إلى طريق النجاة والنُجْح.

ويُصيب الله عزّ وجلّ مَن يُصيب بالعذاب الأدنى، وهو عذابٌ دنيوي، حتّى إذا نجحوا في الابتلاء أنقذهم بذلك من عذاباتٍ أكبر نسبياً مقدرةً لهم لو ساروا في طريق العناد في الدنيا، وعذابات أكبر على الاطلاق في الآخرة.

يقول سبحانه (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) – التوبة، 126.

وبهذا الافتتان المذكّر تشتدُّ الحجة عليهم، وبعدم مبالاتهم به تتغلَّظ جريمتهم.

(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) – الأعراف، 130.

(وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) – السجدة، 21.

4- البلاء للتخفيف:

قد يذنب العبد المؤمن ذنباً يستوجب عذابه في الآخرة ولا يتوب عنه فيثبت في حقّه ذلك العذاب، فيبتليه الله عزّ وجلّ ببلاءٍ من بلاءات الدنيا يعفيه عمّا استحقّه من عذاب اليوم الآخر، فيفرح ذلك اليوم الفرح العظيم بما أنجاه من العذاب الذي لا يساوي ما كان من بلائه في الدنيا شيئاً بالقياس إليه، وينكشف له ما كان من رحمة الله به ومَنّه عليه.

عن الإمام عليّ “عليه السلام” (ما عاقب اللهُ عبداً مؤمناً في هذه الدنيا إلاّ كان الله أحلم وأمجد وأجود وأكرم من أن يعود في عقابه يوم القيامة) – ميزان الحكمة، ج1/ص363.

ولو تاب هذا العبد المؤمن في الدنيا عن ذنبه لأنقذ نفسه من عذاب الدنيا والآخرة، وهو مع عدم التوبة، ومع استحقاقه للعذاب الأكبر قد اختار الله له برأفته العذاب الأدنى في الدنيا رحمةً به.

5- البلاء ورفع الدرجة:

قد يُقدّر الله وهو العدل المحسن لعبدٍ من عبيده بلاءً لا عن ذنبٍ أذنبه، ولا عن ظلمٍ له منه سبحانه، وإنما هو احسانٌ منه إليه، ذلك لأنّ في هذا البلاء وتصبير العبد برحمةٍ من الله عليه، رفعاً لدرجته، وإعلاءً لمقامه، ومزيدَ إكرامٍ فيما يؤول أمره إليه.

عن رسول الله “صلَّى الله عليه وآله” (إنّ الرجل ليكونُ لهُ الدرجةُ عند الله لا يبلغها بعمله حتّى يُبتلى ببلاءٍ في جسمه فيبلُغَها بذلك) – ميزان الحكمة، ج1/ص467.

ولا يسمح الوقت بذكر أكثر ممّا ذكر، ولا بتفصيلٍ أكثر.

ويُلتفت إلى أنّ الخطايا خطايا أفراد وأمم. والبلاءُ الذي يُرجى له أن يُعيد الأمّة إلى صوابها ويربّيَها، غير البلاء الذي يعالج حال الفرد.

والأمّة اليوم تجتمع عليها ثلاثة بلاءاتٌ كبيرة فيها امتحانٌ عسيرٌ لها. الثلاثة هي: القضية الفلسطينية، وهي محنة أمّة، ومحنةُ التطبيع مع عدو الأمّة، ومحنةُ الكورونا، وكلّها مِحنٌ ثِقال غلاظٌ شِداد.

والأمّة كلّها مسؤولة أمام الامتحان بكلّ هذه المحن الثلاث.

الأمّة كلّها على محكٍّ من هذا الامتحان في صبرها المقاوم، وشجاعتها، ووعيها، وتماسك وحدتها، وجدّية رساليّتها، وشعورها بعزّتها وكرامتها بِقدَر ما هي مهدّدةٌ بهذه المِحن في حاضرها ومستقبلها، وفي دينها ودنياها.

وما لها إلاّ أن تصمد وتقاوم وترتفع إلى مستوى التحدّيات، فتتجاوز الامتحان بنجاح، أو تسقط السقوط الذريع بأن تلين وتَجهَل، ولا تسمع للنداء المقاوم الذي يُطلقه دينها والمؤمنون.

والحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى