آية الله قاسم في حوار مع مجلة رسالة القلم: ثورة الإمام الحسين لا زالت تتحمل دور الجهاد على يد أنصارها المؤمنين اليوم

أجرت “مجلة رسالة القلم” حواراً مع سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم حول “مشروع النهضة الحسينية ودور المنبر الحسيني” في عددها الخامس والستون، والذي صدر في

وقال سماحته بأن ثورة الإمام الحسين “عليه السلام” وعلى يد أنصارها المؤمنين اليوم لا زالت تتحمل دور الجهاد من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية الرئيسية، وتخطو بواقع الأمة إلى الأمام على طريق تحقيق الحاكمية الشاملة للإسلام.

وشدد سماحته بأن المواجهة المنقذة للإسلام من الذهاب، وللأمة من السقوط النهائي والهلاك، مسؤولية كلّ المخلصين من أبناء الأمة من كل مذاهبها، وهي مواجهة شاملة فكرية وثقافية وإعلامية واقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية ودفاعية على كل الجبهات، وملء الميادين كلّها.

وتناول سماحته في الحوار الذي أجرته أسرة المجلة إلى عدة محاور حول دور المنبر الحسيني، داعياً إلى أن يكون للمنبر مؤسساته وكلياته ومعاهده وميزانياته المقتضية للحاجة.

*فيما يلي نص الحوار:

المحور الأول: النهضة الحسينية المباركة والمشروع اليزيدي

* سماحة الشيخ الجليل أطال الله في عمركم المبارك .. لماذا إلى يومنا هذا وبعد مرور ما يقارب ألف وأربعمائة عام على استشهاد سيد الشهداء نحتاج إلى البكاء عليه، وإقامة المآتم على مصيبته؟ أليس العصر قد تغيَّر، ورسالة الحسين “عليه السلام” قد اكتملت ووصلت لكلِّ من يجب أن تصلَ إليه؟

الجواب:: لا موضوع للبكاء على الحسين “عليه السلام” لا أمس ولا اليوم إذا كان بكاءً على الفشل والهزيمة والضَّعف والمسكنة؛ فالحسين “عليه السلام” فوق ذلك كلِّه، وبريءٌ منه كلِّه.

والبكاء من الباكين على الحسين “عليه السلام” العارفين بعظمته، وقيمة ثورته، وشدِّة حماسه في الحقِّ، وثوريَّته ليس من بكاء الضُّعفاء الذين يستعيضون عن النُّهوض ضدَّ الباطل ونصرة الحقّ، أو الاستعداد لذلك، ويهربون هروباً نفسياً، ويحاولون أن يُقنعوا أنفسَهم في عدمِ ارتكابِ العَناء بالبُكاء والتفجُّع.

وما كانت ثورته “عليه السلام” ليُبكى عليه أبدُ الدهر، والبكاء في نفسِه لا يصلح أن يكون هدفاً لثورةٍ يُبذلُ على طريقِها أعلى الأثمان كما فعلَ الإمامُ الحسينُ، البصير، الخبير، الحكيم، العارف، المعصوم الجليل.

البكاء على الحسين “عليه السلام” ليشتدَّ الالتحام من النَّفس بقضيته وشخصيته الهادية، ومنهجه القويم، ولتأجيج روح الولاء له ولأطروحته الحقّ، والعداء لأعدائه وباطلهم، ولنشر ظلامته في النَّاس لا لتعلم على حدِّ سائر الحوادث التاريخية العادية، وإنما لتشعل النُّفوس ثورةً ضدَّ الظُّلم والظَّالمين على مدى الزمن؛ حتَّى لا تقوم لهم قائمة في الأرض، وتطهر الأرض من رجس ما يأتون، ومنكر ما يفعلون.

وهذا بكاءٌ ليس له أمد، وتحتاجُه تربيةُ الضَّمير الإنساني، والحسُّ الأخلاقي الكريم عند الإنسان في ظلِّ الصِّراع الدَّائم في الأرض على يد النَّاس بين الحقِّ والباطل، والعدلِ والظُّلم، والهُدى والضَّلال، وحكمِ السَّماء وعالمِ الطِّين.

البُكاء على الحُسين من أجل أن يوصل إلى درجة الثَّورة العامَّة ضدَّ الانحراف والضَّلال، والجوْر والبغي، ويسحق الباطل على يد الإسلام الحقِّ الأصيل، وقيادته المعصومة المذخورة ليوم النَّصر الكبير، المتمثلة في الإمام القائم “عجَّل اللهُ فرجَه، وجعَل أرواحنا فداه”.

وهذا البكاء مطلوبٌ اليومَ وغداً كما كان قبل ولأوَّلِ يومٍ من استشهاد أبي عبدالله “عليه السلام” والكرام من أهله وأصحابه الشهادة التي أُريد بها أن تعيد المسلمين إلى الطريق، وتحفظ أصالة الدين وأصالة الأمة.

حين يُبكى على الحسين “عليه السلام” فهو بكاءٌ على القِيم الإسلامية العالية التي لا قيمة للحياة ولا تقوم إلَّا بها، متمثلة في واحدٍ من أروع تجسيداتها وهو الإمام الحسين “عليه السلام”، وهو بكاءٌ من الباكي على نفسِه حين يشهد منها أنَّها تعيش في الموقع المتدنِّي السافل القصيِّ جداً من قمَّة مجدِ ورساليةِ وتضحيةِ وإخلاصِ الإمام الحسين “عليه السلام”.

وهو بكاءٌ لما صارت إليه الأمّة من بُعدٍ بعيد جداً عن الإمام الحسين “عليه السلام” ومدرسته الإلهية الصادقة، حتَّى ذلَّت وفقدَت هداها وخسرت نفسها.

وهو بكاءٌ يُصدر الصرخات الغاضبة المدويّة في وجه الباطل والمبطلين، والظُّلم والظَّالمين، ويفتح واعية الأمَّة على واجب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وإظهار الغضبة الصارمة ضدّ كلِّ زيغٍ وظلمٍ وانحرافٍ عن الحَّق، وعلى الثَّورة ضدَّ الباطل ومصادره، والظَّلمِ ورؤوسِه من أجل الله.

بكاءٌ يمثِّل إعلانَ ولاءٍ للحسين “عليه السلام” ومن والاه، وإعلانَ براءةٍ من يزيد ومن والاه، ويستوي في هذا البُكاء الحسين الشخص “عليه السلام” والحسين النَّوع، ويزيد الشخص ويزيد النَّوع.

وإنَّ تجدَّدَ الأجيالِ ليفرض أن لا يتوقَّف التَّبليغُ بالحقِّ والإشادةُ به عند أيِّ جيلٍ من الأجيال، وأن لا تنقطع تعريةُ الباطل والتَّنديدُ به والتَّحذيرُ من عواقبه السوء، ومن خطر السُّكوت عليه في يومٍ من الأيام.

وإنَّ ثورةَ الحسين “عليه السلام” رسالتُها من رسالة الإسلام، كما أنَّها في ذاتها من تفجيراته في وجه الباطل تبقى أهدافُها ممتدةً امتدادَ أهدافِه، ونصرتُها قائمةً قيامَ نصرتِه.

* يسأل كثيرٌ من المؤمنين، لماذا لم تتكرَّر الفاجعةُ الحسينية لبقية الأئمة؟ ولماذا لم تتكرَّر الثَّورة الحسينية على أيديهم، رغم وجود المنهج اليزيدي في عصرهم؟

الجواب:: إذا كان الاطمئنان أنَّ الثَّورةَ منتهيةٌ إلى فاجعةٍ بلا نصر فهي غير مطلوبة قاعدة، والقاعدة فيها على خلاف ذلك، وجوازها فضلاً عن رجحانها ووجوبها إنَّما هو استثناء ولظروفٍ خاصَّةٍ وضرورةٍ قاضيةٍ.

وما كانت الفواجع في أهل البيت “عليهم السلام” على حدِّ فاجعة الإمام الحسين “عليه السلام” ومن بيدها إلاّ قضاءً على هذا البيت الكريم وتصفيته تصفيةً كاملة قاصمة لظهر الدين القويم.

ولم يكن هناك أملٌ للنَّصر حسبَ النَّظرة الموضوعية، ولا أثرَ فوق الأثر الذي أعطته ثورة الإمام الحسين “عليه السلام” وشهادته الكريمة لو قضي على البيت العلوي الكريم بالقضاء على الإمام زين العابدين والباقر “عليهما السلام” وانقطاع سلسلة الأئمة الأطهار “عليهم السلام”.

والثَّورات التي تؤدِّي إلى هذه النتيجة ثوراتٌ مضادةٌ للمصلحة الإسلامية، وفيها قضاءٌ على الدِّين الحقّ، وتوقُّفٌ للحركة التغييرية المحتاجة إلى رعاية المعصومين “عليهم السلام”، وخروجٌ على مقتضى الحكم الشرعي والعقل والعقلانية، وهو ما يستحيل على أهل بيت العصمة “عليهم السلام” أن يحدث من جانبهم، وهم من هم في الدِّين والعقل والحكمة، ومَنْ كلُّ همِّهم بقاء الدين ورعاية المصلحة الإسلامية.

لقد كانت المصلحة الإسلامية بعد فاجعة كربلاء داعية جدّاً إلى مواصلةِ طريق الثَّورة بالأسلوب الهادئ حسب مقتضى الحكمة، وخلقِ الكتلة الإيمانية الصلبة، وتوجيهِ الرأي العام الإسلامي الوجهة الصحيحة ما أمكن، وبلورةِ خطّيّ الولاء للحقِّ والبراءة من الباطل، وبثِّ الفكر الدِّيني الأصيل في إطار الخَّاصة ما أمكن، والردِّ على الشُّبهات التي يراد بها تشويه الدِّين، وتوجيهِ عواطف المحبِّة والولاء تجاه البيت العلوي الشامخ الطاهر المظلوم، وتقديمِ النموذج الإسلامي العملي الأمثل من خلال سيرة الأئمة “عليهم السلام” والكتلة المؤمنة من تربيتهم العلمية والعملية ليتعرَّف النَّاس على ما هي حقيقة أهل البيت “عليهم السلام”، وعظمة شأنهم، وأهليتهم بحقٍّ لإمامة الأمُّة.

* لا شكَّ أنَّ الثَّورة الحسينية المباركة كانت بعيدة المدى من حيث الأهداف، فما هي الأهداف التي لا زالت الثَّورة الحسينية المباركة تحققُها في زماننا هذا؟

الجواب:: هدفُ المناهضة لسياسة القضاء على الإسلام، والانحراف به عن خطِّه، وفكِّ الارتباط بينه وبين الأمَّة وإسقاطه في نظرها، وخلق روح العداء والتنكُّر له في إطار خاصّتها وعامّتها.

وهدفُ المقاومة من أجل بقاء الإسلام معروفاً مقدَّراً معشوقاً في فكر الأمَّة وضميرها، مؤثراً في واقعها، والعمل على صناعة تيارٍ مضادٍّ لمسيرة التَّحريف والتَّضليل التي تقودها الجاهليةُ من داخل الأمَّة وخارجها، تيارٍ من أبناء الأمَّة نفسها يحملُ وعيَ الإسلام، ويؤمنُ به الإيمانَ كلَّه، ويثقُ بيومِ نصرِه وحكمِه، ويتحمَّلُ أمانةَ الحفاظ عليه، ويُؤثِرُ مصلحته على نفسه، ويسخو بأغلى التَّضحيات في سبيله هما من أهداف الإسلام والثَّورة الحسينية.

والإسلامُ ومنذ الأيام الزَّاهرة للحكم الإسلامي كان في حركة تغييرية مستمرة متصاعدة على طريق الإعداد الجادِّ ليوم الحكومة الإسلامية الشاملة للعالم، وتطبيق الإسلام التطبيقَ الكاملَ في أوسع صورةٍ له على مستوى الأرض كلِّها، وهذا هدفٌ قائمٌ حتَّى يتحقَّق هذا الأمل الكبير، وهو هدف لا بدَّ أن تشتغل الأمَّة المؤمنة وإحياء ثورة الإمام الحسين “عليه السلام” على تحضير الأوضاع من أجل الوصول إليه.

وبكلمة مختصرة، ثورةُ الإمام الحسين “عليه السلام” وعلى يد أنصارها المؤمنين اليوم لا زالت تتحمَّل دورَ الجِّهاد من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية الرَّئيسة، وتخطو بواقع الأمَّة إلى الأمام على طريق تحقيق الحاكمية الشَّاملة للإسلام.

* المشروع اليزيدي كان غرضُه القضاء على الإسلام، وعلى القيم والمبادئ الإسلامية، ما هو مدى نجاح هذا المشروع، وكيف نقاومه نحن المسلمون في هذا العصر؟

الجواب:: صحيحٌ أنَّ المشروع اليزيدي كان طموحُه الخبيث الشَّيطاني القضاء على الإسلام ولو بصورة تدريجية، وصحيحٌ كذلك أنَّ ثورة كربلاء المباركة وتضحياتها الكُبرى المقدَّسة في المعسكر الرسالي الإلهي الذي كان يتزعمه الحسين بن علي “عليه السلام” ثالث الأئمة من آل الرسول قد أحبطت الأُمنية الأموية الدنيئة، وأفشلت أخطر وأقبح وأقذر هدفٍ للجاهليةِ على امتداد تاريخها.

لكن مع ذلك، لقد سجلَّت السِّياسة اليزيدية الأموية ضرباتٍ موجعةٍ لكيان الإسلام والأمَّة، وأحدثت فيه تشوُّهاتٍ وتصدُّعاتٍ وتزويراتٍ، وتمزقات وتشققات وضلالات وفتناً، وألحقت به من جاهليتِها الكثير، ولم تتركْ بنية من بنى الإسلام إلَّا وحاولت أن تدخل عليه من جهلِها وسوئها وعيوبها.

وظلَّ أثرُ ذلك مرافقاً للمسيرة الإسلامية من بعد هذا الحكم المقيت حتى اليوم، حتى آلَ بالأمَّة اليوم إلى أسوأ حال، وأذلِّ وضعٍ من أوضاعها فيما عاشته من تاريخ، ومزَّقها كلَّ ممزق، وصارت في أغلبِها محكومةً من النَّاحية السِّياسية وفي كثير من مناحي حياتها لكلمةِ الكُفر التي تفرضُ نفسَها من الخارج، وتستعبد من تستعبد من سقطة أبناء الأمَّة لتنفيذها.

ولو تُرِكَ هذا الواقع على ما هو عليه وفي توسُّعِه وتمدُّدِه، ووقفت منه الأمَّةُ متفرجة لتحقَّق الهدفُ اليزيدي المتركز في القضاء نهائياً على الإسلام.

والمواجهة المنقذة للإسلام من الذهاب، وللأمَّة من السُّقوط النِّهائي والهلاك، مسؤولية كلِّ المخلصين من أبناء الأمَّة من كلِّ مذاهبها، وهي مواجهة شاملة فكرية وثقافية وإعلامية واقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية ودفاعية على كلِّ الجبهات، وملء الميادين كلِّها.

وهي مواجهةٌ لا تتمُّ من غير تجميع الصُّفوف، وتوحدِّها، ونظم الأمر، وطلب أسباب القُّوة الشَّاملة.

ولإحياء ذكرى الإمام الحسين “عليه السلام” دورٌ فعَّالٌ ضخمٌ -إذا أحسن أداؤه- في الدفع بالأمَّة على خطِّ الوعي الفكري والإيمان الروحي، والحنين القلبي، والموقف العملي، والشَّجاعة النَّفسية، والخلق التضحوي، والتلاحم الاجتماعي ممَّا يستهدفه الإسلام، ويغنى به، ويملك القدرة الهائلة على إعطائه لتأخذَ الأمَّةُ موقعها المؤهَّل لحماية وجودها ودينها، وإقامة البناء الإسلامي المجيد.

* الحرب بين المشروع الحسيني والمشروع اليزيدي لا زال باقياً وبأسماء متعدِّدة، وهناك ضغوطات من أتباع المشروع اليزيدي على كلِّ ما يرتبط بالمشروع الحسيني الذي هو مشروع الإسلام، فما هي الخطوط الحمراء -إنْ صحَّ التعبير- التي لا يمكن التَّنازل عنها وفي كلِّ الظُروف والأحوال؟

الجواب:: لا شيءَ من الإسلام ولو كان فرعيّاً استحبابيّاً يجوز للأمِّة أن تفرِّط به، أو تسكت على تضييعه أو تحريفه والتلاعب به وهي قادرة على منع التعدِّي عليه.

والبناء الإسلامي قاعدتُه العقيدة، ولا مسَّ بها إلاّ ويستلزم مواجهة الأمَّة من أجل حمايتها، وكذلك هو الشَّأنُ في أركان الدِّين من بنيته الفوقية، وكلّ ما في الإسلام لا يستثنى عنه، ولا يجوز أن يترك ليدٍ آثمةٍ أن تمسَّه بشيءٍ من زورها وزيفها وكذبها وعدوانها.

وما كان أساسياً في البناء الإسلامي فالتضحية من أجله أوجبُ وأعظم، والعمل الدَّائب للحفاظ عليه أقوى وألزم.

وأمرُ الإمامة الكُبرى والعصمة في التخلِّي عن حمايتهما، أو نسيانهما والتَّساهل في شأنهما ضياع الإسلام وانهدام أركانِه، ودخول التَّزوير فيهما تزويرٌ يطالُ الإسلامَ كلَّه وينال من عصمتِه، وينسب إلى الله سبحانه ما لا يجوز أن ينسب إليه.

والحسين “عليه السلام” إمامٌ معصوم، وثورتُه المباركة بيان باللِّسان، وبالسَّيف والمُهج والأرواح الزكيَّة، والدِّماء الطَّاهرة المتدفقة للإسلام الحقِّ في صورته الكاملة التي لا تقابلها إلَّا صورة مجزوءة ومكذوبة ومحرَّفة، وتمثِّلُ الطَّريق إلى القضاء على الإسلام، وهي الصورة المقدَّمة من المدرسة الأموية والسِّياسة الأموية عن الإسلام، والتي استبيح على ضوئها، وبفتوى الرأي الفقهي المصادم لشريعة الله! الذي ولد في أحضانها، والذي لا خلفية له إلا من الدِّرهم والدِّينار، والتَّرهيب والتَّرغيب بالدُّنيا، وهو ما كان من صلب السِّياسة الأموية. وإنَّه كذلك الرأي الشيطاني الذي أفتى بسفك دم خامس أهل الكساء، وأحد أركان المباهلة، والإمام الذي اصطفاه الله لقيادة الأمَّة على طريق الدِّين الحقِّ بكلِّ كفاءة، وهو سبط النبيّ الأعظم، ثاني الحسنين سيدي شباب أهل الجنة.

ولا يسع من يحرص على بقاء الصُّورة المشعَّة المكتملة للإسلام، والتصُّور التَّام لهذا الدِّين العظيم، وعلى أن يُقيمَ الواقع الطَّاهر الشَّامخ من البناء الحضاري على الأرض، وينفذ في حياة النَّاس بكلِّ أبعاد حقيقته لينقذها من الهزيمة والتخلُّف والفشل في تحقيق غايتها، ومن كلِّ زيغ وانحراف أن يلغي أو يُهمل ويتناسى ركنيّة الإمامة المعصومة في الإسلام والتي لا يقوم له بناء صحيح كامل إلَّا بها، ولا يحتمي في وجوده وسلامته إلَّا بها.

وكربلاء في ثورتها مفترقٌ وفرقانٌ بين الحقِّ وأهلِه والباطل وأهلِه، بين الإسلام الصِّدق والإسلام الزور، وليبقى التمييز والوضوح عند الأمَّة واضحاً كلَّ الوضوح بين الأمرين لا بدَّ أن يبقى هذا الفرقانُ حيّاً، وعلى قوَّتِه من الإنارة والإشعاع أبداً وعلى مدى الأجيال، وإحياء ثورة كربلاء هو السَّبيل الطبيعي إلى ذلك.

لا بدَّ من بقاء ثورة كربلاء ما بقي الحسين “عليه السلام”، ولا بدَّ من بقاء الحسين “عليه السلام” وعموم الإمامة المعصومة بكلِّ ما تعنيه وتشير إليه من قدسية الحكم والقيادة في الإسلام، وشأنهما الإلهي العظيم، وأصالتهما في بنائه ليبقى الإسلام الذي لا يصحُّ أبداً أن يُطفأ نورُه، أو يُتركَ للتَّشويش والتَّضليل والتَّحريف أن يؤثِّرَ على نقائه، وللتَّعطيل أن يلغيَه، وأن يقود مسيرة الأمَّة والعالم كلِّه في عبابه للظلمات ومهاوي الهلكة.

* رُغْمَ وضوح الحقِّ والباطل في الصِّراع بين أبي عبد الله الحسين “عليه السلام” وبين الطاغية يزيد بن معاوية، نرى كثيراً من المسلمين، (حكومات، ومشايخ، ومفكرون، وبعض العامَّة من النَّاس) يمجِّدون يزيد بن معاوية ويدافعون عنه -فضلاً عمَّن سواه-، فهل عن جهلٍ بالأمر وغفلة، أم خللٍ عقائدي، أم حقدٍ في القلوب؟ كيف نفسِّر ذلك؟

الجواب:: لا يستبعد أن تكون المنطلقات المذكورة كلُّها مجتمعةً، ومعها بل وفي مقدمتها المناهضة القويّة الحيَّة لثورة الإمام الحسين “عليه السلام” -لخطِّ الحُكم المنافي للإسلام وكلِّ حكومة غير شرعية وكلِّ ما يحكم به ممَّا هو على خلاف شريعة الله-، ودرسه الجهادي التضحوي الصِّارخ المدويّ في الأجيال، وكون هذا الدَّرس هو من الإمام الحسين “عليه السلام” الذي لا يمكن أن يُتَّهم بجهلٍ شيءٍ من الإسلام وفقهِه وشريعته، ولا بحبِّ الدُّنيا والرِّئاسة، أو نقصٍ في التَّقوى، ولا يمكنُ لأيِّ رأيٍ من آراء علماء الأمَّة لو ناهض رأيه أن يُقاس به، ولا لأيِّ رأيٍ اجتهادي أن يقاوم ما يأتي من حكم على لسانه يمثِّل واقع الشريعة ولا يشذّ عن العلم بالوحي المتلقَّى من رسول الله “ص”. ذلك لأنَّ انشداد الأمَّة للإمام الحسين وولاءها الصَّادق العميق العمليِّ له ولاءً قائماً على فهم مقامه عند الله! وحجيَّة قوله وفعله وإقراره، وعدم المفارقة بينه وبين الإسلام الحقِّ، وكون المفارقة من أحد له هي المفارقة بينه وبين الإسلام بعينها يعني الرفض لأيِّ حكمٍ وحكومةٍ وولاء ومحبة وطاعة ونصرة لا يرى شرعيتها الإمام الحسين “عليه السلام”.

فلأنَّه لا ولاء يبقى لمن خالف الولاء للحسين “عليه السلام” عن الآخذ به، فلا بدَّ من انتهاء الولاء له “عليه السلام” حتى يستقر من خالف ولاؤُه ولاءَه وناقضه، ولا بدَّ لاستقرار هذا الولاء المخالف من المطاردة لذكر الحسين “عليه السلام” وثورته، وكُلِّ ما يمتُّ لهما ويعطي للحسين “عليه السلام” موقعاً في عقل الأمَّة وقلبها، وواقع الحياة.

وإذا نشط شياطين السِّياسة الدنيوية في مواجهة الإمام “عليه السلام” إمامةً وثورةً وهدفاً ومدرسة وذكراً جنَّدوا الكثيرين لمواجهته بالمال والمكر والخديعة والتجهيل والتضليل وبأساليب مختلفة من التَّخويف والإغراء والتَّرهيب.

* والسِّؤال الأخير في هذا المحور.. كيف نوظِّف القضية الحسينية في خدمة الإسلام والمسلمين، بل وكل الناس؟

الجواب:: القضية الحسينية، ثورة كربلاء، حياة الإمام الحسين “عليه السلام” كلُّها سعي لله، عروج إليه، ومن أجله، وحياةٌ هي كذلك لا بدَّ أن تكون لصلاح الإنسانية ولخير كلِّ إنسان، أمَّا من يتضرَّر بها من النَّاس فذلك من نفسه، فالأمر في وجود الأنبياء والرسل والأئمة والأوصياء “عليهم السلام” جميعاً كما هو الأمر في القرآن الذي جاء هدى للنَّاس لو أخذوا به، بينما هو وبالٌ على من عاداه وعانده وحاربه، وأقام حياته على الضَّلال الذي يخالف هُداه.

والإمام الحسين “عليه السلام” ودوره في الحَّياة وحركته فيها هو دور القرآن، ووظيفته من وظيفته؛ وهي الهداية والإصلاح والرقيّ بالإنسانية في كلِّ مصاديقه البشرية. وعلى هذا لا يكون لإحياء ثورة كربلاء، وإعلاء كلمة الحسين إلَّا خدمة الإسلام والمسلمين، بل وكلّ النَّاس ليعيشوا حياتهم بسلام، وتكون نقلتهم إلى دار السلام.

أمّا توظيف الثَّورة الحسينية وذكراها لهذا الهدف الكبير فأوَّله أن تفهم ثورته “عليه السلام” الفهم الشَّامل الدَّقيق المحقّق، وفي ضوء الإسلام العظيم، والتوحيد، والقيم التوحيدية التي هي المقياس الأعلى لكلِّ القيم، والأهداف التوحيدية، وهي أسمى الأهداف، والمنهج الحياتي التوحيدي وهو أقوم منهج، والغاية الإلهية وهي أجلُّ غاية، ولا قيمة لأيِّ غاية تخالفها أو لا ترقى إليها.

أولاً لا بدَّ من فهم الحسين “عليه السلام” وثورته، ثمَّ تقديم الحسين “عليه السلام” والثورة للناس بلا تزيُّد ولا إنقاص ليعرفا بما هما عليه من واقعهما المثال.

واللغة التي يجب أن يقدَّم بها الحسين “عليه السلام” وثورة كربلاء هي لغة العقل المُتقن، والقلب الزكي، وهي اللغة الواعية النَّظيفة الطَّاهرة، البعيدة عن جوِّ التَّخاصم وروح المغالبة وقهر الآخر كلَّما أمكن.

وتقديم الحسين “عليه السلام” والثَّورة للنَّاس إنَّما يكون بما هو إمام رحمة، وبما هو منقذ للإنسانية في دنياها أولاً وفي آخرتها ثانية، وأنَّ طريق الحسين “عليه السلام” للإنقاذ في الآخرة هو الإنقاذ في الدُّنيا، وأنَّ الخيرَ الذي تُوصِلُ إليه إمامتُه ودورُه وثورتُه وقيادتُه هو للآخرة معبره الخير في الدنيا، فخير الدنيا، مالها وصحتها ونعمها ومتعها، كلّ ذلك واقع في منهج الحسين “عليه السلام” على الطَّريق نفسه الموصل لنعيم الآخرة ورضوان الله سبحانه.

والإحياء الذي يخدم الإسلام والمسلمين وكلّ النَّاس؛ هو إحياء يلتقي فيه أمر الدنيا والآخرة، ويزاوج بينهما في تناسقٍ وتكاملٍ وانسجام، ويظهر حاجة كلٍّ منهما في صلاحه إلى صلاح الآخر.

ولا نجاح لإحياء ذكرى عاشوراء لا يعرف مقتضى الزمان والمكان، ولا يعرف حاجات الإنسان الأساس، ولا هموم حياته ومشكلاته وشبهاته الطارئة، وما عليه مجتمع المخاطبين من حيث الفكر والنَّفس والتوجهات.

ويحتاج المحيون لذكرى عاشوراء أن ينجحوا في علاقات داخلهم، وأن تكون حياتُهم المرآةَ التي تعكس شيئاً له وزن ممَّا تغنى به مدرسة الحسين “عليه السلام”، وتشعّ به حياتهم من أجل أن ينجحوا في شدِّ النَّاس إلى مدرسته وحياته الإلهيتين العظيمتين.

ومن أراد إصلاح الآخرين فليبدأ بإصلاح نفسه وإلَّا أساء لنفسه، وأساء لدعوته، وأضرَّ بالآخرين بما ضرب لهم من مثل سيء، وأسقط في نظرهم قيمة دعوته.

المحور الثاني: المنبر الحسيني الدور والمسؤولية

* لو قارنَّا بين المنبر في العصر الحاضر وبين المنبر في العقود الماضية، فهل المنبر في صعود وترقي أم نزول، من ناحية النَّعي ومن ناحية الموضوع؟

الجواب:: ما يفيد من القول بشأنِ هذا السُّؤال باختصار هو أنَّ التَّركيز الكبير عند أكثر الخطباء وإلى حدِّ الغالبية العظمى على الأقل منصبّاً على جانب النَّعي، للقصور في المادة العلمية عند الخطيب، والضَّحالة العَّامة في المستوى العلمي والثقافي عند المجتمع.

وفي الجانب نفسِه كان ضيقُ الأفق وشحَّ اللغة وعدم التَّقدم في النَّاحية الأدبية، وكذلك الضَّحالة العلمية والثقافية يجعل حركة الشِّعر الشَّعبي عند الكثير من المشتغلين بها بعيدة عن الوفاء بحقِّ الثَّورة من ناحية ما تؤدِّي إليه من تصوُّرات ورؤى قد تصل إلى حدِّ المنافاة لما عليه محتوى الثَّورة وهداها ودروسها وتربيتها، وما تغنى به من عطاءات إسلامية وإنسانية وتربوية وثورية كبيرة قادرة على صناعة الأمَّة القويَّة الرِّسالية الأبية الشجاعة المضحية الهادية.

وكلُّ ذلك طبيعيٌ بمقتضى ظروف التَّعليم والتَّعلم والقراءة والكتابة والتثقف، ولم يكن ذلك شيئاً خاصَّاً بالبحرين وحدها.

والمنبر اليوم وإنْ وصل إلى ما يمثِّل فارقاً ملحوظاً عن أمسه من ناحية العطاء العلمي والثقافي والتربوي إلَّا أنَّه يُعدُّ بذلك سائراً على الطريق، ويحتاج في تحقيق الطموح المتطلع إليه منه، ويفرضه انتماؤه للإمام الحسين “عليه السلام” وثورته المباركة، ووظيفته الرِّسالية الضَّخمة إلى عناية كبيرة وجهد متواصل وكفاءات عالية ودرجة عالية من الجدِّ والإخلاص والرِّسالية، وأن تكون الخطابة غير متروكة للجهد الشخصي والرأي الشخصي من الخطيب، وإنما تكون من مهمَّات الطَّائفة الكريمة الكبرى، وتكون لها مؤسَّساتها ومعاهدها وكليَّاتها وميزانياتها المغطِّية للحاجة، والمسابقة في مهمتها الرسالية سائر المؤسَّسات والمعاهد والكليَّات.

* ما هو الشيء الذي كان موجوداً في السَّابق في المنبر الحسيني وترجو -سماحة الشيخ- أن يعاد في عصرنا أو يتمَّ التركيز عليه أكثر؟

الجواب:: كأنَّ السؤال يشير إلى ما كان من تركيزٍ كبيرٍ للمنبر الحسيني على الجانب العاطفي وانصهار المستمع في أجواء المصاب للإمام الحسين “عليه السلام”، والانفعال الشَّديد به إلى حدِّ الاستغراق في حالة البكاء والتوجُّع.

وحالة الانفعال بالمأساة التي حدثت للبيت العلوي كلِّه وبني هاشم يوم كربلاء أمرٌ من الدِّين، ولها في الدِّين قيمة عالية وتدلُّ على حسٍّ إنساني أصيل قويم كريم، وهذا لا يتقيَّد بزمنٍ معيَّن.

وما يجب أن يلتفت إليه في ذلك الانفعال الدَّال على إنسانية الإنسان، والحسِّ القيمي الغزير، والضمير الديني اليقظ، وحبِّ الإسلام ورموزه العليا، ألَّا تكون الوسيلة إليه ممَّا فيه شوبُ كذبٍ، واختلاقٍ، ومنافاةٍ لأرضيته الكريمة، ومنبته الولائي المحبوب عند الله، كما ينبغي فيه أن يكون واضحَ المنطلق لدى النَّفس، وأنَّ ما يأتي عنه من بكاء ومظاهر حزن وكآبة هو في معناه تأثُّرٌ للحقِّ، واعتزاز به، وسخط على الظُّلم والباطل، وولاء لمن أمر الله! بولائه، وبراءة من ظالميه وأعدائه الذين أمر الله بالبراءة منهم ومباينتهم، براءتهم من الحقِّ وبراءة الحقِّ منهم، ومباينتهم له، ومباينته لهم.

إنّه بكاءُ حرقةٍ للحقِّ المظلوم، وهو إعلان عن التخندق مع الحقِّ ضدَّ الباطل، والنُّصرة للمظلوم على الظَّالم، وهو بكاء الاحتجاج على كلِّ ظلم وظالم سبق، وعلى كلِّ ظلم وظالم لاحق، نعم بكاء، ولكنَّه لافتة المواجهة والمحاربة للباطل والظلم والطغيان، وليس للاستعاضة به عن المواجهة المكلفة.

* المنبر الحسيني يعتبر ثروة عظيمة للإسلام وللتبليغ لدين الله، فهل وصل المنبر الحسيني لمستوى العالمية من حيث العطاء والتبليغ؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فأين الخلل، وما هو الطريق إلى معالجته؟

الجواب:: تبليغنا كلُّه ومنه التبليغ المنبري مسبوقٌ للتَّبليغ العالمي المعادي للإسلام الأصيل الصدق، وهو الإعلام الذي يرعاه رؤوسُ الطَّواغيت والدول الكبرى الطاغوتية، ويشاركهم في إنجاحه كلُّ أعداءِ الإسلام من داخل الأمَّة وخارجها.

إنَّ الإعلام الشَّيطاني متفوِّقٌ على تبليغ الأمَّة المسلمة لصالح الإسلام اليوم مالاً وعدد رجال ونساءٍ ودعماً سياسياً وتخطيطاً واستيعاباً جغرافياً وزمانياً ومساحات إعلامية وتغطية وسبقاً خبرياً، ومن ناحية التَّقدم الفني.

والتبليغ الإسلامي الصدق والذي يعتمد الإسلام رسالة له، ومصدر استلهامه في خطابه، رصيدُه الضَّخم الكلمة الإسلامية الأصيلة التي تحمل هدايات الفطرة، وتغنى بمنطق العقل، وتتناسق مع لغة الكون، وتنطق بمؤداها التوحيدي والخلقي الرفيع، وروح العبودية لله! التي تدعو لها كلّ ذرَّة فيه، وكلُّ نفس لم تُضيِّع هُداها الذي آتاها الله.

ويبقى على هذا التَّبليغ لكي يسبق ولا يُسبق، ويغلب ولا يُغلب، وينهزم أمام حقانيته فعلاً كلُّ باطل، ويندحر به كلُّ ضلال، أن تتوافر له عناصر التَّقدم ممَّا هو مسبوقٌ فيها اليومَ من الإعلام الجاهلي.

وامتلاك التَّبليغ والإعلام كلّ أسباب القوَّة والتأثير والنُّفوذ إلى جانب تفوّقه الذاتي بحقانيته وأصالة مادته، وصدق قضاياه، وسموِّ هدفه، وضرورة الهدايات التي تتمُّ على يديه، معلمٌ من معالم النَّهضة العَّامة للأمَّة، والمسؤولة أمام الله! عن إنجازها.

وممَّا يتطلَّبه وفاء التبليغ المنبري بمهماته الرِّسالية الكبرى، وخدمته لقضايا الإسلام والأمَّة بدرجة عالية؛ هو تخريج خطباء يتمتَّعون بالتَّكامل في شخصيتهم الإسلامية في أبعادها المتعددة من إيماني وفكري وخُلقي وإرادي وخبروي واجتماعي، ويتمتَّعون برساليةٍ عالية، ونفسٍ ترى أنَّ تجارتها الرابحة هي التجارة مع الله، وهمُّها الأوَّل هداها وهدى الآخرين، ولا تعدلُ غايةً عندها رضوان الله تبارك وتعالى، وتبيع الدُّنيا من أجل الآخرة.

وتخريج هذا المستوى من الخُطباء وبالعدد الكافي لحركة التَّبليغ المنبري يحتاج إلى تصدٍ جدِّي مشترك تقع مسؤوليته في المقدِّمة على الحوزات الرَّئيسة، والمراكز والمؤسسات الفكرية المُهمّة ذات المستوى العلمي المتميّز، والتوجّه الإسلامي الجاد، والتاريخ الإيماني المعروف، والعطاء الفكري الصَّحيح.

* على مستوى النعي المنبري، وبناء على الأهداف الحسينية المباركة، ما الذي يجب أن تحتويه القصيدة والأبيات الحسينية من حيث المضمون؟ فهل الاكتفاء بالجانب العاطفي لازماً للحفاظ على تلك الأهداف، أم الأمر بالعكس، فيلزم تجاوز الجانب العاطفي؟

الجواب:: الإنسان فكرٌ وعاطفة، والإسلام كذلك، الإسلام فكرٌ قويمٌ أصيلٌ معصومٌ عن الزَّلل والشبهة، ولا يحتمل الخطأ، وإذا كان من خطأٍ فليس فيه، وإنَّما في نقله، والاجتهاد فيه، ويتركَّز البحثُ في هذين الأمرين للوصول إلى حقيقته، والإسلام عاطفةٌ نبيلة زكية راقية، ووجدانيات كريمة، ومشاعر من الحبِّ والعشق، والانجذاب والنُّفور الروحي، والرِّضا والغضب، والولاء والالتحام، والبراءة والعداء.

كلُّ العاطفة في الإسلام للأخذ بالإنسان للحقِّ، والنأي به عن الباطل، فهي خطَّان، خطُّ الحبِّ والعشق والانجذاب لما به جمال الرُّوح، وسموِّ الذَّات، ورقيِّها وقوَّتها ونجاحِها، وخطُّ الكُره والبغض والنُّفور والانفصال عمَّا به قبح الروح، ورداءتها وضعفها وسقوطها.

وكلٌّ من الخطَّين لبناء الإنسان البناء العظيم الذي يرضى عنه خالقه، والذي لا عظمة شيء إلَّا من عطاء عظمته.

وهنا يتَّضح أنَّ القصيدة النَّاجحة المؤدِّية لهدفها الإسلامي التبليغي والمربية على طريق الإسلام قصيدةٌ تجمعُ بين الفِكر النقيِّ السِّليم والعواطف النَّبيلة الرَّاقية في فنيَّة عالية، وصورة إبداعية جاذبة تنال اهتمام العقل والقلب، وتلقى الإصغاء منهما معاً، كما يجدان الإشباع النَّافع من عطائها.

هي قصيدةُ لوحةٍ جميلةٍ، ومشرقة ومشعة من لوحات الفكر الإسلامي العظيم، والعاطفة الإسلامية الإنسانية الكريمة، في لغة العصر وأسلوبٍ ساحرٍ حلالٍ، ولفظ لا تدنو منه شمَّة سفهٍ أو سقوط.

* بين فينة وأخرى تطرح إشكالات على خطباء المنبر الحسيني (وفقهم الله تعالى) بما يتعلَّق بالجانب التاريخي في طرح بعض أحداث كربلاء، فكيف يجب أن يتم طرح تلك الإشكالات ومتى، بما يحفظ مكانة المنبر الحسيني؟ وكيف يجب على الخطباء الكرام التَّعامل مع تلك الإشكالات ومعالجتها؟

الجواب:: الوارد في حقِّ الإنسان أن يُصيب ويخطئ، ويُجيد ولا يُجيد، وكما ينهض يكبو، ومن تجاربه يتعلَّم، ومن خطئِه قد يهتدي للصواب.

والخطيبُ هو واحدٌ من النَّاس يعرض عليه ما يعرض على الآخرين، ويبتلى بمواقع فشلٍ كما يمرُّ بمواقع نجاح، ومن منَّا لا يخطئ ولا يتطوَّر في تجاربه، وهل ولد أحدنا كاملاً؟!

فلا غرابة أن يخطئ خطيبٌ في أمرٍ، ولا غضاضة أن يُنبَّه أيٌّ منَّا على خطئه ليصحِّح ما أخطأ فيه منعاً لانتشار الخطأ. والخطأ ممَّا يتعلَّق بفهم الإسلام ونقله للآخرين لا مجال لتركه بلا تصحيح، وخطرُ بقائِه وانتشاره عظيمٌ خطير.

نصحِّح أخطاء بعضنا البعض بعيداً عن مسمع الآخرين كلَّما أمكن وأدَّى ذلك الغرض، وفي أسلوبٍ جميلٍ رقيقٍ لا ينال من كرامة المخطئ، وينأى به عن أن يثير له شيئاً من الخجل والحرج. ومَن لم يقبل النَّقد المؤدَّب والتَّنبيه على الخطأ فهو مقصِّرٌ في حقِّ نفسِه وحقِّ الآخرين، وحرمة وشرف الحقيقة.

وليكن اهتمامُنا بتجنُّب الوقوع في خطأِ الفهم للإسلام ونقله إلى الآخرين نابعاً أوَّلاً من خوفِ الله سبحانه، واحترام دينه، والحرص على الحفاظ على الحقيقة، ومَنْ منَّا -وهو سويٌ- يسهل على نفسه أن تكثر أخطاءُه؟! فالأصل الصحيح أن يعمل كلٌّ منَّا ابتداءً على تجنُّب الخطأ، وخاصة في شأن الإسلام العظيم، وإنْ كنَّا لسنا معصومين عن وقوع الخطأ.

* هناك جدل دائر يرتبط بصعود المنبر الحسيني من قبل غير الحوزوي وخصوصاً في سنٍّ مبكرةٍ نسبياً، مع العلم أنَّ السَّاحة تحتاج إلى خطباء، والاقتصار على من يمتلك المنزلة العلمية يؤدِّي إلى وجود نقصٍ كبير، كيف نوفِّق بين هذين الأمرين؟

الجواب::

1ـ الطموح أن نكون كلّنا بالغين للقمّة وبصورة مبكرة في اختصاصاتنا، ولكنه من الطموح الذي لا مكان له، ولو لم نقبل بدل هذا الطموح بالسعي التدريجي لما نطلب من كمال لما كان أحدنا شيئا.فالصحيح أن نسلك طريق الرقي، ونصبر على نصبه، ويكون لنا أمل بلوغ شيء مما نطلب على طريق الكمال.

2ـ عنوان الحوزوي ليس شرطاً في عملية التَّبليغ وبثِّ علوم الرِّسالة الإلهية والمشاركة في تربية الأمة، والمهمُّ أن تتوفَّر الشُّروط المؤهِّلة للتبليغ حسب المستوى الذي يطمح إليه المبلِّغ، ومنها فهمُ أساسيات الدِّين والمذهب وخطوطه العامة، حتى على مستوى مفاهيمه، وأحكامه، وقيمه، وأخلاقه، وأهدافه، ومعالم ثقافته، وتوجهاته التربوية، وجملة ما يتعرَّض الخطيب من تفاصيل موضوع خطابته، ولا طرحَ لشيءٍ لا أعلمُه وفي مرحلة الشكِّ في صحتِّه تاريخياً كان أو غيره، فَطِنَ النَّاس لاشتباهي وتسرُّعي وقلة أمانتي أم لم يتفطَّنوا، ولم أرتقب في سامعي التَّفطُن لخطأي.

3ـ الخطاب ليست مستوى واحد، وحضَّارُ المجالس الحسينية ليسوا بمستوى واحد، والخُطباء ليسوا بمستوى واحد من السنِّ والدِّراسة والقدرة الذهنية، وهناك مرحلة التَّدريب على الخطابة، وتكون تحت الإشراف والمراقبة والتَّربية، وهناك مرحلة التأهُّل الفعلي لهذا المستوى أو ذلك المستوى من المجالس الحسينية من حيث الحضَّار عدداً وثقافة، وهناك اختلافٌ في مستوى المناسبات، فلا خلط في ذلك كلِّه. ولكن الجامع في كلِّ الحالات ألَّا يسمح بتسرُّب الخطأ فيما ينسب للإسلام ويربى عليه النَّاس، في أيِّ مستوىً من المستويات للخطيب أو السَّامع، وألَّا يتجاوز الخطيب مستواه الفعلي فيما يختاره من موضوع خطابته والمعلومات المرتبطة بهذا الموضوع، وألَّا يُترك لشهرة الخطيب أن تتجاوز به مستواه في البعد العلمي، أو أيِّ بعد من أبعاد شخصيته ليجد نفسه ويجده الآخرون أنَّه أخذَ به خطأ لموقع فوق موقعه ممَّا يورِّطُه هو نفسه قبل غيره.

* باعتباركم -سماحة الشيخ الجليل- قد عاصرتم أجيالاً كثيرةً من الخطباء الكرام، حبَّذا ذكر خاطرةٍ عنهم، أكثر من تأثَّرت بهم، والأجواء التي كانت تتميَّز بها العقود الفائتة في المجالس الحسينية؟

الجواب:: المجالس الحسينية في العقود المتقدِّمة التي عشتها السَّائد فيها إثارةُ العاطفة وناحية البكاء كما هو المعروف، وبارتفاع المستوى الثَّقافي العام ومستوى الخطباء بدأ التطوُّر على يدِ بعض الخُطباء الموهوبين، واستمرَّ حتى لمعتْ بعضُ الأسماء في العقود الأخيرة كما هي سنَّة الحياة، ومنهم على مستوى المثال لا الحصر الملا عطية الجمري، ونجلاه الملا يوسف ومحمد صالح، والملا أحمد مال الله ممَّن تشرفت بحضور مجالسهم الحسينية واستمعت لخطابتهم.

وقافلة الخُطباء اليومَ تزداد الأسماء المتألِّقة فيها باستمرار، ويترقب المزيد، والتقدُّم الكبير إن شاء الله، وبارك الله في جهود المخلصين.

* كلمة أخيرة -سماحة الشيخ- توجِّهونها إلى المؤمنين .. وفَّقكم الله لكلِّ خير وصحة وعافية، وأطال الله في عمركم الشريف.. ولا حرمنا من صالح دعائكم .. ونشكر سماحتكم مجدداً على قبولكم الحوار معنا، في مجلة رسالة القلم.

الجواب::  لا أجد كلمةً يُختتم بها بعدَ حمدِ الله وشكره وسؤال توفيقه إلاّ بأن أوصي نفسي وكلَّ الأخوة المؤمنين أن نكون من حَمَلَة الأمانة الإلهية، وأن تكون حياتنا كلُّها على طريق البصيرة بدينه والتحلِّي به، والدَّعوة إليه، والذَّود عن حياضه، وطلب مرضاة ربِّنا العلِّي العظيم الرؤوف الرحيم، وهي غاية الغايات وأسمى الأمنيات، ولم يفز نبيٌ مرسل وملكٌ مقرَّب وإمامُ حقٍّ مطهَّر بمثل ما فاز به من مرضاة الربِّ وقربه العظيم.

زر الذهاب إلى الأعلى