خطاب العاشر لـ آية الله قاسم – ١٤٤٢هـ

 خطاب سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم “حفظه الله تعالى” ليلة العاشر من المحرّم 1442 هجرية، وذلك في الحسينية البحرانية بمدينة قم المقدسة – الموافق 29 أغسطس 2020م:

صوت الخطاب:

للمشاهدة :

 

نصّ الخطاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شَرَّف عباداً له ممن أحبَّهم وأحبّوه بالشهادة العظمى في سبيله، الحمد لله على الرزيّة التي جَلَّت وعَظُمت على أهل السماوات والأرض، وهَدَّت قلوب المؤمنين لِمَا جرى من مصائب فادحة لسيّد الشهداء سبط رسول الله، الحسين وأهل بيته وصحبه الأنجاب، والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطيّبين الطاهرين.

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

معكم معكم لا مع عدوّكم يا أبا عبدالله..

هذا هو عنوان الكلمة وصُلبها، وهدفها، ودرسُها الذي يجب أنْ لا يُنسى. طريقان، طريق أبي عبدالله الحسين “عليه السلام”، وطريقٌ آخر قد تجتمع عليه الدنيا كلّها، فنحن مع أي طريق؟

لا نكون إلاّ مع طريق أبي عبدالله “عليه السلام”، طريق الله، طريق رسله، أنبيائه، طريق الأئمة الهادين “عليهم أفضل الصلاة والسلام”، وكلّ الحياة معركة بين هذين الخطّين.

مع مَن أيُّها المسلمون سُنّةً وشيعة؟

مع من نقف؟ مع يزيد قلباً؟ سلوكاً؟ حكومةً؟ نُصرةً أيُّها المسلمون؟.. كلامٌ مع كلّ المسلمين، لا حديث هنا عن الشيعة دون السنة، ولا عن السنة دون الشيعة..

مع يزيد في ذلك كلّه، أم مع الحسين أيُها المسلمون؟

معركة الأمس هي معركة اليوم، ومعركة اليوم هي معركة الأمس، مضى الأمس بأُناسه، وذهب أناس إلى الجنة وأناس إلى النار، واليوم نحن أمام الامتحان.

الله مع مَن أيُّها المسلمون؟ مع يزيد أم مع الحسين؟ مَن مع الله؟ يزيد أو الحسين “عليه السلام”؟.. حكِّموا عقولكم، ضمائركم، مصلحتكم، عزّتكم.. حكِّموا الإسلام، أيّ حرفٍ صادقٍ من حروف الإسلام، وكل حروف الإسلام صادقة.

حاشا للإسلام أن يهدم نفسه برضاه باِمامة يزيد، نعم لو رَضِيَ الإسلام يزيد إماماً لكان في ذلك قرارٌ منه بِهَدم نفسه.. سَفَهٌ كلّ السَفَه أنْ يهدف هادفٌ هدفاً ويتخذ الوسيلة التي تقطعه دون هدفه وتهدم هدفه. الله عزّ وجلّ يأتي بالإسلام الكامل ليهدمه بإمامة الإنسان الفاسق الماجن الخارج على دين الله؟ أيُّ عقلٍ يفعل هذا من الناس؟ وشيءٌ لا يجرأ أحد أن ينسبه إلى عاقلٍ من الناس يجرأ على أن ينسبه إلى الله؟ لابد أن يكون الإمام كاملاً كما هو الإسلام كامل. إسلامٌ كامل بإمامٍ ناقص يساوي إسلاماً ناقصاً.

هل يقبل ضمير مسلم، هل تقبل غيْرة إنسان مسلم، هل يقبل شأنُ رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” أنْ يُنسبَ إليه أنْ يقبل، أنْ يُقِرّ، وهل يقرّ الله عزّ وجلّ قبل رسول الله أنْ يكون يزيد محلّ رسول الله؟ أن تكون الإمامة التي لا يرقى إليها إلاّ رسول الله “صلى الله عليه وآله” ومَن قاربه أمانةً بيد يزيد؟ فكيف يدافع مدافعٌ عن يزيد؟ واعجباه..

ماذا كان يريد يزيد؟ وماذا كان يريد بني أميّة؟

كان الهدف الأصل هو القتل المعنوي للحسين “عليه السلام” وإسقاط منهجه، هدفه، أمّا قتله الجسدي قد زاد في ابطال ذلك الهدف، كان القرار خطأً سياسيّاً من بني أميّة، أم كان قراراً تعصبيّاً وإنْ غلا ثمن تنفيذه، أم كان شيئاً من ذلك، إلاّ أنّ قتل الإمام الحسين “عليه السلام جسدياً أبطل الهدف الأصل الكبير الجذري للوجود الأمويّ، وللوجود الجاهلي كلّه، وهو أن يُقتل الحسين معنى.

أنْ لا يبقى للإمام الحسين “عليه السلام”، لمنهجه، لخط أهل البيت “عليهم السلام”، لرسالة رسول الله “صلى الله عليه وآله” شأنٌ في الأمة.

أنْ يتحوّل سموّ الإسلام، عظمَته، جلاله، جماله، كماله؛ إلى نقصٍ، إلى رداءة، إلى تخلُّف، إلى سفاهة، في نظر الأمة ولو من بعد حين، هذا هو الهدف.

والحسين “عليه السلام” باقدامه على الشهادة، وكان يعرف هدف بني أميّة، ويُقدِّر بقاء الحكم الأموي في نفسه هادمٌ للإسلام، إصراره “عليه السلام” على الشهادة من خلال وعيه، ومن خلاله إيمانه وتقواه، ومن خلال تقديره الدقيق الذي ليس فوقه تقدير أبطل هدف افشال الإسلام بافشال الحكم الأمويّ واسقاط الشرعية عنه.

المنهج اليزيدي وذلك هو هدفه، يزيدٌ قضى، انتهى، لكنّ منهج يزيد لا زال باقياً، أنا هنا أوضّح ما معنى منهج يزيد في تعبيري..

منهج يزيد هو منهج الجاهليّة، هو منهج التغريب اليوم، ومنهج الذوبان في الفكر الشرقيّ أو الغربي، هذا هو منهج يزيد، وليس منهج يزيد هو أهل السنة أو أي فرقة من المسلمين من حيث مذهبها، يزيد ليس سنيّاً كما هو ليس بشيعي، يزيد خطّ آخر لا إسلامي في أيّ خطٍّ من خطوط الإسلام، وفي أيّ مذهبٍ من مذاهب الإسلام وإنْ كان يُعلن الشهادتين.

لستُ هنا بصدد تقرير أنّ يزيد كافر أو مسلم، أنا بصدد أنّ يزيد له منهج كافر، وأنّ يزيد قام بما يقوم به الكفّار وسلَكَ مسلَكَ الكفّار، وهذا يكفي.

المنهج اليزيدي هدفه نفس هدف يزيد. لو كان الحسين “عليه السلام” قائماً اليوم، ويعرف المنهج اليزيدي وأهلُه أنّ قتله سيثير الأمّة ولو من بعد حين، وسيُسقط شرعيّة الحكم الذي يقتل الحسين “عليه السلام” أبداً لقدّموا قتله المعنوي على قتله الجسدي، وهذا المنهج اليوم نفسه في تعامله مع الفقهاء، في تعامله مع العلماء، في تعامله مع الثوّار المُخلصين المُجاهدين يسلك نفس المسلك، لا يصير إلى التصفية الجسدية إلاّ إذا يئس من التصفية المعنويّة. التصفية المعنوية تكفّ يد الثائر، تُسقط منهج الثائر، تعطي مثلاً سيئّاً للثوّار، لا تترك للناس أنْ يأمنوا لدعوى ثورة، مكاسب كثيرة يجمعها القتل المعنوي للثائر، للإمام، للفقيه، للعالم، وعلى خلاف ذلك هو القتل الجسدي، حيث يؤلب على الظالم، حيث يكشف عن صدق الثائر المجاهد، عن صدق مبدئه، عن أصالة ذلك المبدأ، عن خالقيته للشخصية العملاقة الصُلبة، لذلك يزيد ومنهجه بالأمس ومنهجه اليوم، واليزيديون اليوم، كلّ أؤلائك على تقديم القتل المعنوي لأي شخصية لها كفاءة، عندها إخلاص، عندها قدر من الصبر على تغيير وضع الأمّة، وكلفته وثمنه الباهض.

هذا المنهج اليزيدي موجودٌ في كلّ مذاهبنا الإسلامية، في السُنّة يزيديون، وفي الشيعة يزيديون كذلك.. يُصلِّي صلاة عليّ، يصومُ صومَ عليّ، يتعلّمُ الرسالة العمليّة مِن حيث الصلاة والصوم وما إلى ذلك، ولكنّه يرفض أنْ يكون الحسين “عليه السلام” إماما، أنْ يحكُم الإسلام، أنْ يُقيِّد شهواته ونزواته، ينفتحُ على الكافر، يدعو إلى العلمَنة، يدعو إلى علاقات مُذلِّة مع أمريكا، مع أيّ قطبٍ من أقطاب الشرّ والاستكبار والغطرسة الجاهليّة في الأرض، هذا يزيديٌّ أم حسيني؟ هذا موجودٌ في الشيعة، موجود في السُنّة، موجود في كلّ المذاهب، وقد تجدُ حسينيٌّ بدرجةٍ ما في مسيحي، وربما حتى في يهودي، وقد تجده في مَن لم يعرف الإسلام.

الساحة في نزاعٍ بين المعسكر الحسيني والمعسكر اليزيدي

الساحة الإسلامية اليوم متنازعة بين الحسينيين -بالمعنى الذي ذكرت، الحسينيين من شيعةٍ وسُنّة، ومن كل المذاهب وكلّ المِلَل-، الساحة العالمية اليوم مُقتَسَمَة، مَحلّ صراع، بين فريقين، فريق اليزيديين، وفريق الحسينيين، المنهج الحسيني، والمنهج اليزيدي، ما من داعٍ دعا للعدل إلاّ وهو حسيني، وما من داعٍ دعا للظلم إلاّ وهو يزيدي، ما من داعٍ دعا للرحمة والإنسانية إلاّ وهو في هذا الأمر حسيني، وما من داعٍ دعا للقسوة وللبطش والظلم إلاّ وهو يزيديٌّ في هذا الجانب.

الساحة مُتنازعة بين الفريقين، فريق اليزيديين يدعمه الكفر العالميّ كلّه، وما للكفر من امكاناتٍ، وما للمعسكر الكافر من امكاناتٍ هائلة وطاغية. المعسكر الإسلامي في ماديّاته دون ذلك بكثيرٍ بكثيرٍ بكثير. في صدقه، في عزمه، في تضحيته، في ثقته بخطّه، في ذوبانه في خطّه، في حبّه لله عزّ وجلّ، في فدائيّته؛ أكبرُ من المعسكر الكافر كلّه.

الحقانيّة التي يستند إليها المعسكر الحسيني، الفطرة التي يستند إليها المعسكر الحسيني، العقل التي يستند إليه المعسكر الحسيني، رسالات الرسل وعطاءها، الكتب الإلهية وكنوزها، كلّ ذلك هو ما عند الإسلاميين الحسينيين، وهو الشيء الضروري والذي يفقده المعسكر الكافر.

هذا الصراع القائم، صراعٌ يملأ الأرض كلّها، وكما أنّ كلمة الكفر تصلُ إلى كلّ بيت، فإنّ كلمة الإسلام صارت تصل إلى كثيرٍ من بقاع العالم، وكثيرٍ من بيوت العالم، إلاّ أنّ الهيمنة الإعلامية، الهيمنة العلمانية والماديّة، والهيمنة السياسيّة والأمنية والاقتصادية، كلّها امكانات بيد الكافر بما لا يُقاس إليه ما في يد أهل الإسلام والإيمان والمعسكر الحسيني.

لذلك الهجمة تصعُب على الإسلام وعلى المسلمين من كلّ الجوانب وطوال السنة، ولا تفتر. نزاعٌ ثقافي، فكري، سلوكي، سياسي، إلى آخر القائمة.

الإعلام الأجنبي التغريبي اليزيدي، يأخذ من شبابنا ومن شاباتنا ومن أوساطنا، ويدخل في قلوب عامة المؤمنين إلاّ الصفوة ما يدخل من سلبياتٍ وتأثيراتٍ ضارّة بسبب هذا الإعلام وهذه الثقافة الشيطانية، وهذه القدرات الهائلة الموظفة من أجل إغواء الإنسان. هذا كلّه حاصل.

عطاءات عاشوراء تنسف الآثار التدميرية

يأتي عاشوراء الحسين، بامكاناته المتواضعة، وبجمهوره من عامّة الناس، ليحوّل البوصلة، ليغسل ما في القلوب، لينسف تأثيرات سلبية ضارّة تكاد تتعمّق في النفوس، ويتحوّلها من إيمانها إلى كفر، بعد تحويلها من التقوى إلى الفجور.

تأتي عطاءات عاشوراء، تأتي الهزّة القويّة العَتيّة الراعدة المُزلزلة لثورة الحسين “عليه السلام” في ذكرى عاشوره لتُغيِّر الأحوال، أقدّرتُّم كم لهذا الشهر العظيم؟ كم لاحيائِكم عشرة عاشوراء من عطاءٍ كبير؟.. اِلزموا الحسين، اِبذلوا نفوسكم في سبيل الله، ومن سبيل الله، وسبيلٌ إلى الله بحقّ سبيلُ الحسين “عليه السلام”.

عاشوراء في كلّ سنةٍ تُعطي جديدا، تُعالج، تدفَع، تخلق وعياً جديداً، ارتباطاً نفسيّاً عالياً بالحسين، تُلهب مشاعر الإيمان وليس مشاعر الجاهليّة..

نعم أيُّها الأخوة الكرام..

احياءُ عاشوراء أوّل ما تأخذون له مِن هدف، -وعلى طريق الهدف الأعلى وهو رضوان الله عزّ وجلّ، هذا الهدف الأوّل في ترتيب الأهداف من احياء ذكرى الحسين “عليه السلام”، وكلّها من أجل الله-؛ هو نَسْفُ الآثار التدميريّة للتربيّة الجاهليّة اليزيديّة الغربيّة، ثلاثة أوصاف مجتمعة ومتصادقة على هذا المصداق. الثقافة الغربية التي تأتينا بمباركة اليزيديين، وبدعم اليزيديين، والحكومات اليزيديّة، والأحزاب اليزيديّة، وما إلى ذلك.

هذه الآثار لو تُترك لسنة واحدة، تتوّقف عملية التبليغ طوال السنة وفي شهر عاشوراء بالأخص، وفاعليات عاشوراء المنسجمعة مع الخط الإسلامي والشرعي الفقهي، إذا خلَت سنة واحدة فالأمة غير الأمة، والفكر غير الفكر، والولاء غير الولاء، والمشاعر غير المشاعر، والنفسية غير النفسية، والأوضاع غير الأوضاع.

نعم إحياء عاشوراء لنسف تلك الآثار التدميرية القاتلة للأمّة لارتباطها بهويّتها الإسلامية الحقّ.

هذا هو عصر الحكومات اليزيديّة

عصرُنا عصر حكوماتٍ يزيديّة، وأعني بالحكومات اليزيدية ما يشمل أيّ حكومةٍ شيعية أو سُنيّة تخرج عن الخطّ الإسلامي ولا تأخذ شرعيّتها من الإسلام، ويكون هدفها مضادّاً للإسلام، ومحو الإسلام، واضعاف الأمة الإسلامية، والتخلُّق بالأخلاق الجاهلية، والارتباط بالسياسة الغربية والثقافة الغربية والفكر الغربي والأخلاقيّة الغربية الساقطة. الشاه كان شيعيّاً في الظاهر وحكومته يزيدية، حكومة الشاه يزيدية، ولا زالت الفرصة موجودة لأنْ تقوم حكومة يزيدية في بعض البلاد الشيعيّة، وحتّى إيران حفظها من كلّ سوء، وصانها الله عن كلّ خطر، وحفظ لها فقيهها وخطّها الفقاهتي الولائي، حتّى إيران إذا أُهمل أمرها أمكن أن يحكمها حكمٌ يزيدي ولو على يد عمامةٍ بيضاء أو سوداء. نعم، فأنا لا أعني بالحكومة اليزيدية لأنّ مذهبها حنبلي أو حنفي، الحكومة اليزيدية التي وضعت يدها في يد الغرب وباعت الأمّة ودينها على الإرادة الغربية لتبقى بعض حينٍ على كرسيٍّ لا قيمة له ولا شأن، هو كرسي عبودية لا ملوكيّة، ولا اِمرَة، ولا كرسي رئاسة وضخامة، إنما كرسي ذلّة وهوان وخزيّ وعار وخيانة. ذلك الكرسي الذي يكون ثمن بقائه هو أنْ يرضى الغرب بما يُغضب الله سبحانه وتعالى.

ثوراتٌ كُثر أعقبتها ثورة كربلاء، وعلى خطّ كربلاء في مقدارٍ وحظٍّ وآخر، ليست حسينية بمستوى كربلاء، ولكن لها نسبةٌ لثورة كربلاء، وريحٌ من ريح كربلاء، عبقٌ من عبق كربلاء، عزّةٌ من عزّة كربلاء، شهامةٌ من شهامة كربلاء، وعيٌ من وعي كربلاء، ثوراتٌ كثر جدَّت في الأمة بعد ثورة الحسين “عليه السلام” وكانت من عطاءها.

ومظالم كُثر سبّبَّتها مظلوميّة أبي عبدالله الحسين “عليه السلام” وقد قرأ الأمر مبكراً عدد ممن تحدثوا مع الحسين في أمر ذهابه إلى قتال بني أميّة، وعرفوا أنّ أيّ ذلّ ظاهري سيمّس الحسين “عليه السلام” فإنّه سيمسُّ كلّ الأمة، وستهون الرقاب وتصلب الشخصيات وتسقط الشوامخ بعد سقوط شامخة الشوامخ كلّها أبي عبدالله الحسين. إذا سقطت شامخة الشوامخ هان أن تسقط الشوامخ من دونها، واليوم لا تساوي أيّ شخصية عملاقة شيئاً من وزن في بلادٍ تحكمها حكومة يزيدية، السجون ملئى، القتلى كُثر، المشانق تشتغل، السيوف، التهجير، كلّ ذلك وما تضجّ به السجون من نساءٍ ورجال، من مسلمين ومسلمات، في أيّ بلدٍ تحكمه حكومة يزيديّة هي على غير خطّ الله، عطاء، نتاج، امتداد لمَظلَمة أبي عبدالله الحسين “عليه السلام”.

هذا ذلّ إنْ لم يكن ذِلاًّ معنوياً يمسّ النفس ويهدم عزّتها بالله، وثقتها بالإيمان، فإنّه ذلٌّ ظاهري، وكلّ ذلّ اليوم ، وكلّ معاناة اليوم، هو من تقصير الأمس. نعم كلّ ما بالأمة اليوم من ضيم، ومن تخلّف، ومن تشرّد، هو من يوم كربلاء وأمثال يوم كربلاء، يوم خانت الأمة كلمة الإسلام، ورمز الإسلام الحقّ، وسحَبَت يدها من يد الله عزّ وجلّ لتُعطيها مستسلمةً ليد يزيد.

واليوم الأمّة قد تفعل نفس الفعل في كثيرٍ من فئاتها، وفي عددٍ من جماهيرها. تقصير اليوم سيُنتج ذلّةً أكبر، وخِزياً أكبر، وهواناً أكبر، وتخلُّفاً أكبر لأجيال الأمة القادمة، وسيقضي القضاء المبرم على هذه الأمّة الوسط.

هذا يعني أن لابد أن نُغيِّر ما بأنفسنا، وإذا لم أملك العطاء من ناحية قصورٍ نفسي، أو قصورٍ ذهني، ليست لي المقدرة العلمية، وليست لي الجرأة النفسية، ولا القدرة النفسية، وليست لي الخبرة الإجتماعية أو ما إلى ذلك، إذا كان تقصيرنا عن قصورٍ، ونحن نملك أن نصحّح هذا القصور، وأن نخرج من هذا القصور، نملك الارادة، إما نحن قادرون فعلينا أن نردّ المنكر ونأمر بالمعروف، وإما عاجزون فعلينا أن نخرج من عجزنا وقصورنا.

معركة الحسين مع التطبيع

المعركة مع التطبيع معركةٌ من معارك الحسين “عليه السلام”، المعركة مع التطبيع هي من معركة الحسين “عليه السلام” ضد يزيد في كربلاء. أرأيت أنّ الحسين “عليه السلام” يأبى أن يُطبّع مع يزيد ويهادن يزيد على ظلمه ويترك الحبل على الغارب في هذه الأمّة، تركه للحبل على الغارب فضلاً عن أن يُطبّع مع يزيد شيءٌ مستحيل على الحسين “عليه السلام”، أمّن استحال عليه أن يترك الحبل على الغارب ويترك الأمّة لشأنها لتضيع وتتيه وتُظلم وتُذلّ، والذي لا يمكن له أن يُطبِّع مع يزيد يمدّ يد التطبيع ويد التسليم ويد التحالف مع اسرائيل؟

مَن وقف مع الحسين “عليه السلام” ولو قلباً اليوم في معركته في كربلاء فعليه أن يقف مع معركته مع اليهود ومع التطبيع.

معركة مصطنعة في البحرين

هناك معركة مصطنعة، حرب ضارية عشواء، تُشنّ من طرفٍ واحد في كلّ سنة في بحريننا العزيزة، هي معركة السياسة مع عَلَم الحسين، مع منبر الحسين، مع موكب الحسين، مع أطفال الحسين، مع كلّ مظهرٍ من مظاهر الإحياء لثورة الإمام الحسين. إنّه عِداء فكر، أتدري هذه السياسة أنّ عداء الحسين عداءٌ للإسلام، عداءٌ لله؟ أتدري أنّ هذا ليس لائقاً بأقلّ المسلمين إسلاماً؟ أقلّ المسلمين إسلاماً لابد أن يُقدِّر الحسين “عليه السلام”، ولابد أن يعرف قيمة الإمام الحسين، ويعرف ما لكربلاء مِن جميلٍ على المسلمين جميعاً لا الشيعة وحدها، وأقول ليس على المسلمين فقط وإنّما على الدنيا كلّها.

عيبٌ يا سياستنا في البحرين، أنْ تتصدي بهذه الحملات العنيفة الشديدة ضدّ علمٍ يُرفع عليه كلمة “يا حسين”.

مع استغاثة المكروب، هل من ناصر؟

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

كلمةٌ تنطلق من كربلاء، من حنجرة الإمام المعصوم، من قلبه الملهوب، من جراحاته النازفة، من إيمانه الوطيد الأكيد، هل من ناصر؟

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

زينب تصرخ هل من ناصر؟

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

أرامل الحسين “عليه السلام” تصرخ هل من ناصر؟

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

الإسلام من وراء كل هذه الصرخات يصرخ هل من ناصر؟

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

منحر الطفل الرضيع يصرخ هل من ناصر؟

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

وأنتم يا عُشّاق الحسين “عليه السلام” محفورٌ في قلوبكم بأحرفٍ من نور الحسين، بأحرفٍ من وعي الحسين وثورته، من لهيب دمائه، من صمود إباءه، من حرارة مُهجته، من قلبه المفتوت بالعطش، محفورٌ في قلوبكم لبيك يا حسين..

هتاف الحضور: لبيك يا حسين..

غذّاكم الحسين “عليه السلام” من روح العزّة بالله، وهي التي غّذّته بالقوة، وغذّته بالصمود، وغذّته بالفولاذية، وغّته بالإباء، وبكبرياء الإيمان.. غذّاكم الحسين “عليه السلام” من روح العزّة بالله التي كانت ملئه بهيهات منّا الذلة..

هتاف الحضور: هيهات منّا الذلة..

حروف هذه الكلمة في قلوبكم لا يأتي عليها الزمن، لو هبّت عليها الريح مليون سنة ما غيّرت منها لوناً، هذه الحروف عميقة وكأنها شيئاً من نفسكم ما دامت نفسكم موجودة فهي موجودة، الشيءُ الذاتيّ لا يذهب إلاّ بذهاب الذات، وإذا ذهب ذهبت الذات، وذاتكم الإيمانية تذهب لو ذهبت منكم كلمة “هيهات منّا الذلة” في سبيل الله..

هتاف الحضور: هيهات منّا الذلة..

غذّاكم الحسين “عليه السلام” من روح العزّة بالله، اِعرف من أين يأتيك صدق “هيهات منّا الذلة”، لا تصدق في هذه الكلمة إلاّ وأنْ تشعر بالعزّة بالله، إذا شعرت بالعزّة بالله، أنّ وراءك دعماً من الله، شعرت بالثقة بالله، أنّ وراءك عطاءات الله الكبيرة، إذا شعرتَ بأنه لن يصيبك إلاّ ما أراد الله، إذا شعرتَ بهذا ومثله قلتَ “هيهات منّا الذلة”، قلتها بصدق وبنيّةٍ كلّ الصدق، أكيدة كلّ التأكيد.

غذّاكم الحسين “عليه السلام” من روح العزّة بالله التي كانت ملئه بـ”هيهات منّا الذلة”، وهو شعار أخذ قوّته من اللجأ إلى الله والثقة به ليكسر به كلّ الحواجز والتحديات والمساومات والاغراء والتهديد وسطوة الموت في النفس، ليس أشدَّ من سطوة الموت في النفس، والعزّة بالله تُبطل شدّة هذه السطوة بل تُذهب بها.

أنتم أوّل القائلين معكم معكم لا مع عدوّكم يا أبا عبدالله..

أين عواطف الحسين “عليه السلام”؟

أليس ملئ الحسين “عليه السلام” عواطف الرحمة والرأفة بما يُرضي الله عزّ وجلّ، أليس موت المؤمن يُفجع الحسين “عليه السلام”، أليس ذلّ يتيمةٍ يفجع الإمام الحسين؟ أليس ترَمُّل ثكلى يفجع الإمام الحسين؟ أليس عطش عطشانٍ بريءٍ يُلهب قلب الإمام الحسين؟

ما اجتمعت مصائبُ على رجلٍ في وقتٍ واحد فيما يُظَنّ، وفيما يُعرف من التاريخ، لم تجتمع مصائب على رجلٍ في وقتٍ واحد كما اجتمعت على أبي عبدالله الحسين “عليه السلام” في كربلاء.

كلّ ما يُثير النفس، كلُّ ما يؤلمها، كلُّ ما يُمثِّل رمحاً في داخلها، كلّ ما يُمثِّل سيفاً يُقطِّع أشلاء هذا الإنسان، كلّ ما يظلَّمّ بالدنيا أمام ناظري النفس، كان قد حلّ بالإمام الحسين “عليه السلام”، وليس بالصورة المتفرّقة وإنّما بالصورة المجتمعة.

أين عواطفه؟ لم يبكِ لجراحاته، ألا يبكي ليتاماه؟ ألا يبكي لأرامله؟ ألا ألا ألا؟؟ ألا ينهار؟ ألا ينشغل؟ يدخله شيءٌ من الانهيار والضعف، يبدو على وجهه شيءٌ من الانكسار؟

لم ينكسر الحسين “عليه السلام” في أشد المواقف وفي اجتماع جميع المواقف الأليمة عليه؟ أين عواطف الحسين “عليه السلام”؟ جَمَدت؟ جُفِّفت؟.. كبُر المُصاب حتّى أمات قلبه؟

المصائب التي تُذيب القلب، هل صلَّبت قلب الحسين “عليه السلام”؟ أخرجته عن طبيعته؟ كان رقيقاً، كان رؤوفاً رحيماً، اشتدّت المصائب، اشتدّت واشتدّت حتّى تجاوزت فأخرجت هذا القلب عن طبيعته، أنحتمل شيئاً من ذلك؟

الإمام الحسين “عليه السلام” بقي هو الإنسان، وله لين قلب، وعنده رقّة عاطفة، كلّ عواطفه الكريمة كانت مُحتَفَظاً به في قلبه الشريف، لم يعطي أيّ ردّ فعلٍ لكلّ هذه المصائب ممّا يدلّ على وهن.

هل غلب عليه الهمّ الإسلامي؟ الهم الإسلامي عنده هل غلب على فاعلية المصاب؟ المصاب باقٍ على فاعليّته، على إيلامه، على وخزه الذي ليس مثله وخز الأبر، على سطوته على النفس من حيث هو، ولكنّ الهمّ الإسلامي كان يهوّن ويهوّن ويهوّن، ويُذهب بأثر تلك الآلام والمصائب الأخرى، كان همّ الإسلام هو أكبر همٍّ في نفسه والشاغل له، والمُسلّي له عن بقيّة الهموم، والمصاب يُنسيه ما هو أكبر، والجرح يُنسيه ما هو آلَم، وجرح الإسلام كان أكبر الجروح في نفس ابن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلّم”.

هل غَلَب شرف الهدف على مَضَض المصائب؟ أيضاً صحيح. الأوّل صحيح، الثاني صحيح..

شرفُ الهدف غَلَب على مَضَض المصائب.

عِظَم الربح أنسى كلّ المصائب، نتذكّر كلمة العقيلة السيدة زينب “عليها السلام”: ما رأيت إلاّ جميلا.

قَطْع كفيّ العباس، فَضْخ رأس العباس، تقطيع أشلاء عليّ الأكبر، صراخ اليتامى، صراخ النساء.. لا الجروح الماديّة ونزفها وآلامها، ولا احتراق الجوانح؛ كان يَعدِل ما يشعر به من الفعل الجميل لله عزّ وجلّ، حيث صَبَّره في سبيله، حيث أناله مقام الشهادة، حيث برهن على العزّة الإيمانية، حيث أعطى درساً لا يُشكُّ فيه بعظمة الإسلام، وبعظمة الشخصيّة من صنع الإسلام. هذا ربحٌ في نفس الإمام “عليه السلام” كان ينسف بكلّ وزن المصائب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. وهيهات هيهات منّا الذلة.. هيهات منّا الذلة..

زر الذهاب إلى الأعلى