كلمة آية الله قاسم بمناسبة ذكرى مولد الإمام الرضا (ع) – ٢ يوليو ٢٠٢٠م

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم التي ألقاها أمام حفل المركز الإسلامي في أنجلترا بمناسبة مولد الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، وهي تحت عنوان ” العلم والولاء في رحاب الإمام الثامن” – 2 يوليو 2020:

صوت الكلمة :

للمشاهدة :

 

نص الكلمة :

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين

السلام على الأخوة الكرام القائمين على المركز الإسلامي في أنجلترا وَفّقهم الله لمراضيه. السلام على أمّة الإيمان والولاء.

 

تحت عنوان العلم والولاء في رحاب الإمام الثامن (عليه السلام)، كانت هنا مقدمة تتكلم عن العلم بصورةٍ مقتضبة وعن الولاء بمثل ذلك، واستغني عن المقدمة مراعاة للوقت، وانصبّ الكلام على الولاء، والكلام عن هذا الموضوع يأتي في النقاط الآتية:

 

أولاً: منشأ الولاء:

الولاء أنْ يجد أحدٌ نفسه فقيراً ضعيفاً يحاصره الفقر، ويستبدّ به الضعف، ولا يجد سبيلاً له للخروج من حالته إلاّ بالتعلّق بالغير تعلّقَ خضوعٍ واسترضاءٍ واستجداءٍ وطاعة، فيستجيب لما هو عليه من ضرورة، أو أن يجد نفسه محتاجاً إلى الاستكمال فيتعلّق بمن يرفع نقصه، ويحقِّق له أمنيته في الكمال.

فالولاء قائمٌ بطرفين قويّ غني سخيّ، وفقير ضعيف مضطر.

الأول يأتي منه العطاء والارفاد والمدد، وله الولاية بمعنى السيادة والسلطان وله الطاعة والمحبَّة ويُخاف ويُرجى.

أما الثاني فمنه الاستعطاء والاستجداء والاسترفاد والتلقّي، وعليه الولاء لمعطيه ومرفده ومنقذه وحاميه بمعنى أن يخضع له، ويذلّ لإرادته، ويطيعه ويحبّه ويتّجه إليه برجائه، ويخاف من قطيعته وعقوبته، ويهمَّه كلّ الهمّ نيله لرضاه.

 

والقوي الأقوى، والغني الأغنى، والمُعطي بلا حساب، ومالك كلّ الأمر، والذي لا يُغني عنه مُغنٍ، وليس له شريك في الملك هو الله وحده.

فلا ولاء يكفي ويحمي ويُنجي ويجدي ولو بمقدارٍ يسير غير الولاء لله عزّ وجلّ.

وكلّ الأولياء من دون الله لا شيء ولا يملكون شيئاً مما به الولاية.

 

• (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) – 113/المائدة.

الأولياء الذين يتخذونهم من دون الله، يقول عنهم القرآن بأنهم ليسوا أولياء، أي بمعنى أنْ ليس لهم شيءٌ مما يؤهلهم للولاية والسيادة.

 

• (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا…) – 16/الرعد.

فهؤلاء أولياءٌ وهميون يفرضهم الخيال ويفرضهم الجهل، وتفرضهم الغفلة، وإلا فهم في أنفسهم ليس لهم شيءٌ مما يستحقّون به الولاية.

 

إذاً وَجَب عقلاً على كلّ عباد الله أنْ لا يكون لهم وليٌّ يعترفون له أصلاً بالولاية والسيادة والحكم والسلطان -ولو جزئياً- غير الله، وعلى أنفسهم له بواجب الخضوع والتسليم والرضا، والطاعة والمحبّة، وأنّ كلّ رجائهم فيه لا في أي أحدٍ سواه، وخوفهم من طرده لهم وعقابه وحده.

 

الولاية تتضمن اعترافين : بسيادة الآخر، وبعبودية النفس.

بهيمنة الآخر، غنى الآخر، قوة الآخر، وضعف النفس.

 

وكلّ العباد محاويج إلى الله سبحانه وتعالى في وجودهم وحياتهم ورزقهم وصفاتهم وما يفعلون، ولا شيء لهم من الاستقلاليّة عنه على الإطلاق، ولا هداية لهم إلاّ به سبحانه وتعالى، ولا ولاية ولادلالة على خيرٍ ليُطلب وعلى شرٍّ ليُجتنب إلاّ له تبارك وتعالى.

 

ومن أهم ما يحتاج إليه الكلُّ أنْ يهتدوا إلى غاية حياتهم وكيف يسلكون لها، وأي منهج يوصل إليها. وهذا كلّه لا يعلمه إلاّ الله، ولا هادي له إلاّ بما أعطى من عقلٍ وأوحى إلى أنبيائه ورسله من وحي.

 

والإنسان الخاضع لله تماماً تكويناً لا محيص له عقلاً، ولا من حيث المصلحة والفلاح والنجاح؛ إلاّ بأن يخضع لربّه العظيم الذي لا إله غيره في كلّ حركةٍ وسكونٍ من حياته الإرادية، وفي تلقّيه المنهج الذي يسلك به للغاية، ويحقق له الحياة المُيسَّرة الرابحة، والجنّة الخالدة العالية والرضوان الإلهي العظيم، وألاّ يضع قدماً أو يرفع أخرى، أو يقدم أو يؤخر إلاّ بإذن الله وفي ضوء أحكام شريعته الحكيمة الرحيمة الهادية العادلة.

 

وهذا الولاء والتعلّق والتبعيّة والطاعة والمحبّة والخوف والرجاء من العبد لربّه العظيم؛ يدفع إليه شوق الكمال ومعرفة الجلال والجمال الإلهي، والإنعام والإكرام منه سبحانه، والمُلك المُطلق، والقدرة التي لا يقوم لها شيء، والحاجة الضرورية التي يعيشها كلّ مخلوق، والتي لا قاضي لها إلاّ المالك الحقّ الذي بيده كلُّ الأمور.

 

والنتيجة تتلخّص في أنّ العلاقة بين الله عزّ وجلّ، وبين كلّ الخلق -وهي علاقةٌ بين الغني المطلق والفقير المطلق- قاضيةٌ بطبيعتها حتماً وحسب الوجدان الإنساني ورؤية العقل العام على مستوى الإنسان؛ بأنّ السيادة واحدة فقط هي لمن بيده الخلق والرزق والتدبير والحياة وكلُّ خير، وليس لهذه السيادة لأحدٍ من غير الله كثيرٌ ولا قليل مهما كان شأنه ومهما كان له من قرب من الله تبارك وتعالى، وأنّ موقع كلّ الخلق على تفاوت درجاتهم هو موقع الخضوع والذِّلة والمسكنة والاستعطاء، وأنّ عليهم واجب الشكر والطاعة والمحبة والاسترضاء والخوف والرجاء والانقطاع الإرادي كما هم عليه من الانقطاع التكويني لله تبارك وتعالى وحده.

 

ثانياً: القرآن والمنطق الحقّ:

القرآن وهو مِن الحقّ تبارك وتعالى فلايمكن فيه إلّا أن يكون كلّه حقّ، و كلّ الهدى والبصيرة والنور في القرآن. والقرآن يأخذ بيد العقل خطوةً خطوة في ترتُّبٍ منطقي متماسكٍ منسجم ينقله من قناعةٍ إلى قناعة، ومن حقيقةٍ إلى أخرى لينتهي به إلى اليقين بأنّ الله هو السيّد الذي لا سيّد معه، والمالك الذي لا مالك من دونه، له السلطان والحكم والولاية ونفاذ الأمر ووجوب الطاعة والمحبّة، وما الرجاء إلاّ فيه وما الخوف إلاّ منه، وبأنّه لا وِلاء في مقابل وِلائه، ولا استقلال لأحدٍ غيره في أي شيءٍ من الولاء، وليس لأحدٍ ولاءٌ تبعاً لولائه إلاّ ما جاء به الدليل من إذنه وأثبَتَ أمره.

 

1- نتيجة الولاية:

وهذا هو المسير إلى نتيجة الولاية في القرآن الكريم:

 

• (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) – 62/الزمر.

• (..هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ) – 3/فاطر.

• (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ)54/ص.

 

• (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ..) – 164/الأنعام.

• (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) – 36/الجاثية.

• (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) – 2/الفاتحة.

 

وما أكثر الآيات في هذا السياق.

 

الأشياء العدم –وكل شيء من دون الله شيءٌ عدم- لا تملك أن تُخرِج ذاتها من عدمها، الأشياء الفقيرة في وجودها إلى غيرها لا تستغني عن فيض موجدها الذي احتاجته لحدوثها، ولا تنقلب ذاتها إلى الوجوب عن الإمكان، فالمخلوق محتاجٌ إلى فيض خلقه حدوثاً وبقاء، ابتداءً واستمراراً، وهو عدمٌ لو انقطع عنه فيض خالقه ولو لطرفة عينٍ أو أقلّ.

فحاجة المخلوقات كلّها قائمةٌ دائماً إلى خالقها ما دامَت، وكذلك شأن حياتها وكلّ ما كان لها ومنها من صفةٍ أو أثَر.

 

فهل من حاجةٍ هي أشدّ من هذه الحاجة وأبقى وألزم وأكثر ضغطاً على صاحبها؟ وهل من مَفلَتٍ من هذه الحاجة للمخلوقين؟ وهل من ملجأٍ لهم فيها من غير الله؟ وهل من عبودية تكوينية بأوضح من هذه العبودية؟ وهل من حقٍّ للولاء والطاعة تستوجبه نعمةُ مُنعمٍ مثل هذه النعمة؟ ونعمةُ الهداية للحقّ التي وَفّرها الله لكل عباده لولا أن تُسبّب نفسٌ لنفسها عمىً عن رؤية النور؟!

 

وبقاء الناس محتاجٌ دائماً إلى التدبير الكوني المُحكم، والرزق المتدفّق الحاصل بالخلق المستمر بالإيجاد المتواصل وقيام الحياة للإنسان، وتوقف استمرار حياته على التدبير الكوني والرزق من الله؛ يجعل هذا الإنسان أسير إرادة الله، ورهن مشيئته، وأثراً من آثار نعمته، فهل من مفرٍّ من الله، وهل يسوغ التنكر لطاعة المولى، والاستكبار على مولويته؟! وهل من مجالٍ للاستغناء بمولىً من دونه، وهل لأحدٍ وجود أو حياة من نفسه؟ أو استقلالية لحظةً واحدة في شيء من ذلك حتى يبقى اللجأ إليه، وتصحّ الاستغاثة به؟!

 

2- كلّ مخلوقٍ مملوك:

 

• (..ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) – 13/فاطر.

• (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) – 85/الزخرف.

 

لا من شيءٍ على الإطلاق يكون خارج يدٍ خالقةٍ لكلّ شيء، مهيمنةٍ على كل شيء، معطيةٍ لكلّ موجودٍ وجوده ولكل حيٍّ حياته، ولكل متحركٍ حركته.

يد الله عزّ وجلّ ومنها فيض الوجود والحياة والرزق، وفي قبضتها كل الأسباب، مالكة الكون وكلّ ما فيه من مَلَك وجانٍ وإنسانٍ وحيوان وكلّ ما يرى وما لا يرى، وما يُعرف وما لا يُعرف. ولا عبودية كالعبودية لله المالك من عبيده وجودهم وحياتهم والمتصرّف فيهم تصرّفاً مطلقاً لا يحوله عنه حائل، ولا يمنعه مانع، ولا يضع عليه أحدٌ حدّاً، ولا يملك له أحدٌ قيداً.

فشاء الخلق أو لم يشاؤا فلا مولى لهم إلاّ الله وحده، وليس يجد أحدٌ من ولاية الله له مخرجاً.

أوليس الشرك في الولاء لله جنون؟! وهل يبقى التوحيد لمن والى غير الله أو أشركه في وَلائه؟!

 

3- من المالكيّة إلى التوحيد في الألوهيّة:

هذه خطوات ينتقل بنا القرآن الكريم من أوّلها إلى آخرها، وحقائق لا يمكن للعقل أن يُنكرها، ولا للوجدان أن يرتاب فيها، لتوصل إلى تلك الحقيقة الكبرى كما سبَق أن لا وليّ إلاّ الله.

 

• (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ) – 3/فاطر

• (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) – 65/مريم

• (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..) – 255/البقرة

 

يتفرّد الله سبحانه وتعالى بالألوهيّة والحقّ في المعبوديّة لتفردّه بالخالقيّة والربوبيّة والرازقيّة وتمام التدبير، ويكون له خالص الطاعة والتسليم وأقصى درجات التذلُّل في أعلى درجات الإكبار والإجلال والتعظيم، وينحصر بمعرفته الرجاء فيه، والخوف منه، ولا تملك النفس إلاّ أن تندفع بإرادتها مشتاقةً للتحلّي ما أمكن لها بجميل أسمائه، ولا يكون ذلك التحلّي إلاّ بالمقدار الضئيل المحدود من ذلك الجمال المطلق وإنْ عظُم ذلك التحلّي في نفسه وسَمَت به النفس سمّواً كبيراً وأشرقت به الإشراق العظيم.

 

4- التوحيد والولاء:

المعرفة بوحدانية الله تنتج الولاء الخالص له، وتجعل حياة الناس كلّها نطقاً بولائه، وتعبيراً عن حبّه والشوق إليه، وإجلاله وإعظامه، وتجعل الحياة كلّها مشهداً واحداً متصّلاً من طاعته، ولا يكون للنفس حبّ ولا شوق ولا طاعة ولا خضوع ولا رضا ولا سخط إلاّ بما التقى بما لله عز وجل من هذا الشوق والحب والولاء له سبحانه وتعالى.

لاشوق للعبد الذي يعيش الولاء الحقيقي لأي شيء مهما عظم ومهما كبر ولأي من كان وإن جل إلا من خلال شوقه لله تبارك وتعالى وعلى طريق شوقه له عز وجل، ولايكون له شوق إلا شوقاً دعى لمتعلقه الله ورضي به.

 

الموحدون لله بوعيٍ وصدقٍ وهم يوالون الله وحده بالأصل يلتحم بهم ولاؤهم له سبحانه بولاء أوليائه- من أحب الله لابد أن يحب أوليائه- ،وينفصل بهم تمام الانفصال عن أعدائه، ويترافق هذان الموقفان منهم في كل المواقع والحالات واللحظات: موقف الولاء لله وأوليائه، وموقف البراءة والعداء للشيطان وأوليائه.

وليس لإنسانٍ من قضية التوحيد الصدق إلاّ بمقدار ما له من ولاء الله وولاء أوليائه، والبراءة والمعاداة لأعدائه.

 

والأمّة الموحدة لابد أن يبدأ توحيدها بالانحسار ببداية انحسار الولاء في حياتها وعلاقتها عن الله الغني الحميد، فبداية الانحسار عن الولاء هي بداية حتمية للانحسار عن عقيدة التوحيد، وحارس التوحيد الإنساني لله والمحافظ عليه هو ولاؤه لله بالولاء العملي في كل المواقف وفي كل الأزمات ، في الرخاء وفي الشدة.

 

والأمّة الموحّدة الموالية في حياتها ومواقفها وعلاقاتها لله ورسوله وأوليائه والمؤمنين يتعاطى منها التوحيد والولاء، فكل منهما يتعمّق ويتركّز ويتسع ويشتد بتعمق الآخر وتركزه واتساعه.

 

ودليل صدق الولاء عند المؤمن حبٌّ لله يخلو القلب من أي حبٍّ يجافيه، ومن أي حب لايلتقي بحبه ،وتسليمٌ لأمر الله لا يخالطه اعتراض وإنْ خفّ، وطاعةٌ بلا تردّد، ويشهد له حبّ مَن أحبّه الله، والتسليم لمن أمر الله بالتسليم له، والطاعة لمن ألزم بطاعته.

 

ولا يجتمع ولاء الله وولاء أعدائه وأهل الأذى لأوليائه، فمتى صَدَق الولاء لله صَدَقت البراءة من أعدائه، فإن لم تصدُق كان ذلك الولاء ادّعاءً فارغاً مكذوبا، أو ناقصاً مجزوءاً، والله عزّ وجلّ لا يقبل إلاّ التوحيد الخالص والولاء الخالص، ولا يقبل أنْ يُشرك به في أي بُعدٍ من أبعاد التوحيد وأبعاد الولاء.

 

5- الولاء والسياسة:

السياسة بشقيّها من التشريع والحكومة القائمة على تنفيذه إمّا أن يستقلّ بها الإنسان، أو تكون خالصةً تحت أمر الله عزّ وجلّ، وإما أن تكون مشتركة بين الطرفين، هذا هو التصور فيها.

 

والآية التالية تحسم الأمر قرآنياً بكل وضوح.

قوله تبارك وتعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ..) – 49/المائدة.

وكذلك الآية التي تليها، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) – 50/المائدة.

والآية الثالثة: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) – 105/النساء.

والآية الرابعة: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) – 65/النساء.

 

والآية الثالثة من الآيات المُتقدِّمة تُعيِّن أنَّ الشريعة في السياسة الحقّة هي شريعة الله، وأنّ الحاكم المنفِّذ لها هو مَن اختاره الله وهو في الأمّتنا الكريمة، الرسول الأعظم “صلى الله عليه وآله وسلم” ما دام في هذه الحياة.

 

أما ما يقابل شريعة الله فهي الجاهلية، ومَن يُقابل الحاكم المدلول عليه من شريعته فهو الطاغوت -فإما حكم الله وهو الحكم بشريعته على يد الحاكم المعيّن من عنده وإما حكم الطاغوت وهو أي حكم آخر وأي أطروحة أخرى في الحكم وفي السياسة والقائم عليها من غير إذن الله وهو الطاغوت-.

والطاغوت مغتصبٌ للمنصب، معتدٍ على الأمة، مضاد لله عزّ وجلّ، ولا يصحّ لأمّة الإسلام أن تُقرّ له حكمه وأن تعترف له بهذا الموقع الإلهي العظيم.

 

والمساحة السياسية تشغل أكبر مساحة في حياة الشعوب والأمم، والحاكم لهذه المساحة حاكمٌ للحياة، فإن حاكم السياسة حاكم لحياة الناس.

 

والساحة السياسية من أشدّ ساحات الحياة صراعاً بين الحقّ والباطل، وكلمة الدين والكلمة المنافية له، وقوى الكفر والإيمان.

والحكم فيها -في هذه الساحة- إمّا أن يكون لله أو للطاغوت ولا يجتمع الحكمان معاً ولا يصطلحان، والولاء فيها لمن كان أمرها بيده ،الولاء في الساحة السياسية هو لمن كانت أزمّة الأمور بيده ، والولاء للمبدأ الذي يؤمن به هذا الواضع يدع على شؤون الأمة، وهو ولاءٌ يمتدّ إلى بقيّة الساحات، والناس على دين ملوكهم حيث يتمّ الركون إليهم لا عند المقاومة.

 

وتوحيد الله عزّ وجلّ وولاؤه كلامٌ أكثر منه واقعاً وحقيقة؛ إذا كان الحكم بيد الطاغوت وكان النظام الحاكم نظاماً غير إسلامي بحقّ.

 

وما أخطر أنظمة الحكم الإسلامية زوراً على الأمّة ، على الدين، على التوحيد ، على الولاء لله.

 

وحكم الله الذي يصدق به توحيد الأمّة وولاؤها له هو أنْ يحكم من ارتضى الله من أوليائه ممّن جعلهم حكّاماً أصلاً من المعصومين “عليهم السلام” المعينين بأشخاصهم، ومن نوّابهم الفقهاء والعدول الأمناء الأكفاء ممّن دلَّت عليهم أدلة دينه بالتعيين الخاص أو العام من قِبل الأئمة الهادين المعصومين “عليهم السلام”.

وحكم الله تبارك وتعالى شأنه إنما يتمثّل في حكومة الفقيه العدل الكفؤ الخبير المأمون الشجاع الحكيم المضحّي، وهذا هو الحاكم الذي يتناسب مع عظمة الإسلام بعد مقام الإمامة المعصومة “صلوات الله وسلامه على الهادين من الأئمة المعصومين”.

 

وواجب الأمّة وتعبيراً عن توحيدها لله وولائها الحقّ له، والذي لا ينحفظ إلاّ بالحكومة الإسلامية، ولا تنبني الأمّة الإسلامية الرسالية القوية إلاّ بها، أن تدعم هذه الحكومة بكلّ ما تملك، وتكون سياجها القويّ الذي لا يُخترق، وأن تشاطرها بما يناسب أعباء العبء الضخم والمسؤولية الإلهية الملقاة على عاتق الجميع، وأن لا تترك لأي حكومةٍ طاغوتيةٍ أنْ تقوم أو تستمر أو يهدأ لها بال.

وأضطر للتوقف عند هذا الحد لشعوري بأني أخذت الوقت الكثير وعذراً جدّاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى