وقفة مع بعض آيات الذكر الحكيم “١” – 30 مارس 2020

وقفةٌ مع بعض آيات الذِّكر الحكيم -١-

صوت الكلمة :

نص الكلمة :

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم

السَّلام على أمِّة الإسلام والقرآن

هذه وقفة قصيرة مع الآية الخامسة والخمسين بعد المئة من سورة البقرة، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

{لَنَبْلُوَنَّكُمْ} نختبرُكم، وسنّة الابتلاء والاختبار من الله عزّ وجلّ لعباده سنّةٌ ثابتةٌ تُلازم حياة الناس على الأرض.

والآية الكريمة تؤكِّد هذه السنَّة في قوله تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} وهنا لام القسم ونون التوكيد وكلٌّ منهما مُؤكِدٌ لسنّة الابتلاء على المستوى اللفظي والمؤكدة في قضاء [الله] وقدره.

تقول الآية الكريمة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} “شيء” هنا مُنَّكَّرة، لفظةٌ وردت في صورة النكرة، لمَ هذا التنكير؟

التنكير قد يأتي للتفخيم، وللتعظيم، والكثرة، والشدّة، وقد يأتي على خلاف ذلك، فهل كلمة “شيء” بتنكيرها هنا جاءت لتُفيد عِظَم وكثرة البلاء وشِدّته، أم لتفيد أنّ البلاء الذي قدّره الله -وأراد أن يختبر به حال عباده- هو بلاءٌ مُخفَّف، وبلاءٌ ليس فوق الطاقة، إنما هو دون الطاقة والمقدور؟

حين نراجع الآية الحادية والأربعين من الروم، وهي تقول: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، وليس كلّه.

والآية الخامسة عشرة من سورة المائدة التي تقول: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.

الآيتان الكريمتان -الحادية والأربعين من الروم، والخامسة عشرة من المائدة- تلقيان الضوء على ما يُراد من إيراد النكرة في آية الابتلاء، فالتنكير هنا -في الأقرب وفي الظاهر الجليّ- أنّه للتهوين من شأن هذا البلاء ولبيان أنّه قليل، لكن قليل في نفسه أو قليلٌ نسبي؟

البلاء في نفسه من خوفٍ وجوعٍ ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات بلاءٌ شديدٌ، وضاغط جدّاً، وقد لا يصبر عليه إلاّ القليل. فإذن الخِفّة والقِلّة ليست لهذا الشيء في نفسه، ليست لمتعلّقات البلاء من الخوف والجوع في نفسها، فهي في نفسها شديدة، لكنّها في الوقت نفسه قليلةٌ بالنسبة لما قد يستحقّه العباد من معاصي تستوجب بلاءهم، ومن غرورٍ قد يصيب الإنسان بما يأتي به من عملٍ صالحٍ وبما هو عليه من مستوىً إيمانيّ، مما يجعله يتراءى له أنّه في قمّة الإيمان، وفي قمّة الصلابة الإيمانية.

هذه النسبيّة قد تكون بالنسبة لما يترتَّب على هذا البلاء من أجرٍ عظيمٍ وثوابٍ يخفى على البشر كلِّ البشر أنْ يُقدِّرَه، لعظمته وجلاله. وقد تكون النسبيّة لوجوهٍ أخرى، والحديث مَبنيٌ على الاختصار.

{بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ..} إلى آخره، وكم للخوف من ضغطٍ على النفس وزعزعة لها، والجوع ونقص الأموال والأنفس كذلك!

{وَالثَّمَرَاتِ}، وفي أكثر من تفسيرٍ وعند أكثر من مُفسِّر أنّ “الثمرات” هنا هي الأولاد، والأولاد أغلى ثمرة، وأنفَس ثمرة عند نفس الأبوين.

أمام هذه المُزعِجات والمُرعِبات والشدائد، النفوس تنقسم إلى قسمين: نفوسٌ صابرة، ونفوسٌ لا تصبر.

وفيما يظهر من الآية أنّ غاية هذا الإبتلاء الذي تذكره الآية نفسُها هو التوصُّل وإدخال الناس في التجربة التي تمتحن صبرهم وتصقُل ذواتهم، ويُدخلهم هذا البلاء في حالة تستوجب الصبر، هذا الصبر المربّي. الغاية هنا في الحقيقة للبلاء غاية تربويّة، فيما يتراءى لي أنّ الغاية تربوية، هناك غايات أخرى للبلاء، هناك غاية العقوبة والتأديب، وهناك غاية التذكير، وهناك غاية ألاّ يظنَّ الظانُّ بأنّ المتجبرين والمتكبّرين وأصحاب النعمة الناعمة ممّن يطلبون عبادة العباد لهم أنّهم أرباب، حتى يعرف عامّة الناس إذا ابتُلِيَ كبار الطواغيت بما يُبتلَى به العاديّ من الناس، حينئذٍ يعرف الناس أنّ أولئك جبابرةٌ كاذبون في جبروتهم وأنّهم ليسوا بأهلٍ للجبروت.

هناك غايات مختلفة للابتلاء الإلهي للعباد، الغاية المذكورة هنا فيما يظهر هي غاية الصبر، الصبر أي التحمّل والمواجهة الكفوءة والقادرة، عدم الإستسلام، عدم التخاذل أمام الإبتلاء، عدم النكوص عن تحمّل المسؤولية.

{الصَّابِرِينَ} هنا مَن؟ الصابرون في الآية الكريمة لم يُبَيَّنوا، لكن سيُبيَّنون في الآية الثانية وهم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وكيف يكون قَول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} صبراً صنَّاعاً؟

مطلوب الصبر الصَنَّاع المربّي الذي يرتفع بمستوى النفس، مطلوب الصمود في التجربة الصعبة من أجل أن تُحدِث نقلة في مستوى التفكير وتصححّه، وفي مستوى الإرادة الفاعلة، وفي مستوى الانضباط، وفي مستوى النظام، وما إلى ذلك.

ما صِلة القول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} بهذه الأمور وهذه الصناعة؟ يأتي الكلام عليه إن شاء الله.

زر الذهاب إلى الأعلى