الحديث القرآني الرمضاني – 13 رمضان 1440 هـ / 19 مايو 2019

فيديو الحديث:

صوت الحديث :

نص الحديث :

حديث في ضوء القرآن الكريم (6) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

قم المقدسة – 13 شهر رمضان 1440 هـ /  19 مايو 2019م

ربما فاتت بعض المواضع بحيث لم يجرِ حولها الكلام.

(لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنّا إن كنا فاعلين)، “إن كنا فاعلين” مردّدة عندهم بين “إن” الشرطية، “وإن” بمعنى “ما” النافية، فلّما قالت الآية الكريمة (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنّا إن كنا فاعلين) إن كنا فاعلين أي ما كنّا فاعلين هذا المستحيل على كمالنا وجلالنا، أو أن تكون شرطية، (إن كنا فاعلين) قبلها (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)، لو كنّا نريد لعباً ونفعل لعباً لاتخذناه من لدُّنّا، وهذه الإرادة منفيةٌ كما مرَّ سابقاً، إرادة اللّعب منفية بدلالة السابق، وكذلك بدلالة اللاحق: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).

(وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ)، إمّا مخلوقٌ حيٌ في الأرض، وإمّا مخلوقٌ حيٌ في السماء.

نُفِيَ اتّخاذ الآلهة سابقاً، تأتي الآية الكريمة هنا لتقول: (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..)، فإذا كان كلّ ما في السموات والأرض لله فمن أين تكون آلهة مع الله تبارك وتعالى؟! الكلّ مملوكٌ له، لا استقلاليّة لشيءٍ من الأشياء لا في السماوات ولا في الأرض، ولا من بين أحياء الأرض والسماء، مَن في السماوات والأرض.

إذا لم يكن لأي مخلوقٍ حيٍ قد تُدَّعى له الألوهية شيءٌ من الإستقلاليّة، ولا يملك نفسَه ولا لنفسه نفعاً ولا ضرَّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وكان ملكاً محضاً خالصاً قنّاً لله تبارك وتعالى، فمن أين يأتي هذا الإله؟

فتأكيدٌ لما سبق التأكيد عليه أو ذكره من نفي الآلهة من غير الله تبارك وتعالى.

أمّا َمن في السماء، مَن عنده سبحانه، العنديّة غير المكانية، ليس عند مكان، وليس له مكان يحويه تبارك وتعالى، فما هذه العندّيّة؟ هي عندّيّة معنوية تشريفية، وإعطاء منزلة كريمة متميّزة من الله عزّ وجلّ موهوبةٌ للملائكة، هذه هي العندّيّة المقصودة.

(ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستسحرون)، يعرفون الله، يعلمون جلال الله، يعلمون من جمال الله وجلال الله وكماله، لا يعلمون جمال الله وكمال الله وعزّته وجبروته علماً دقيقاً يُحيط به، ولكنّهم يعلمون منه ما لا نعلم.

يعلمون من علم الله، وجلال الله، وكماله وجماله ما يبهرهم، ما يجعلهم منشدِّين إليه في كلّ لحظةٍ من لحظات حياتهم، ما لا يشعرون بلذّةٍ مثل لذّة الاتّصال بعبادته، ما يفتقدون معه كلّ شيءٍ من المعنويّة، ومن المسرَّة، ويعيشون حالة الدونيّة وحالة احتقار النفس لو انفصلوا عن عبادته لحظةً واحدة، أولائك الأعرف بالله عزّ وجلّ، والأعلم بجلاله وجماله وكماله، تراهم لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون.

لا يعجزون، ولا يملّون، ولا يفترون، عبادة مستمرّة، هي المطلب الكبير والغاية القصوى في أنفسهم، أولائك يمكن أن يكون أحدهم أن يتقدَّم إلهاً للناس، هل يرضى أحدٌ منهم بأن يتّخذه الناس إلهاً مع الله عزّ وجلّ؟ لا مَن في الأرض ولا مَن في السماء مِن أرقى الموجودات -وهي الموجودات الحيّة- والمتقدّمة في مستوى الحياة، ليس منهم مَن له أهليّة الألوهيّة، وكلّما كان أحدهم أعلم وأعرف بالحقيقة والحقّ كلّما كان سجوده لله عزّ وجلّ أطول، وكلّما كان خضوعه لله عزّ وجلّ أشدّ، فمن أين تأتي هذه الآلهة المدّعاة من المشركين؟

(يسبّحون الليل والنهار لا يفترون)، فمع أنهم لا يستكبرون عن عبادته، وهذا من علم العبادة، وتسبيحهم في الليل والنهار متّصل؛ إمّا أنّهم كما في نصٍّ عن الإمام علي “عليه السلام” لا ينامون، أو كما في خبرٍ آخر بأنّ أنفاسهم عبادة وإنْ أصابهم شيءٌ من نوم؛ لأنّ هناك رواية تقول بأنّ كلّ مخلوقٍ حيٍّ ينام، لو صحَّ هذا فإنّهم وهم في نومهم لا يفقدون شعورهم بالله عزّ وجلّ وعظمته وجلاله وكماله، وهذا الشعور هو عبادةٌ، ومُخُّ العبادة. فإمّا هذا أو ذاك، أو أنّهم لا ينامون، وهم في تسبيحٍ، وتقديسٍ، وتهليلٍ، وتحميدٍ لله تبارك وتعالى بصورةٍ لا انقطاع لها ولا توقّف لملايين وبلايين السنين، لا ينصرفون عن ذلك طرفة عين.

على مستوى الأرض (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)، رجالٌ من صناعة الإسلام، هم في تجارتهم، وهم في بيعهم، وهم في أُنسهم الدنيوي، وهم في نكاحهم، لا ينسون عظمة الله وحاكمية الله، وهيمنة الله، وجلاله وكماله، المسيطر عليهم في كلّ حياتهم هو ذكر الله، وإجلال الله، وتسبيح الله تبارك وتعالى.

وصلنا إلى الآية الكريمة: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ)، وما دام لا حيَّ ولا مَوات في الأرض، لاحيٍ من أحياء الأرض، ولا موات من ميّت الأرض، ولا الأرض الموات، لا شيء من ذلك يملك أن يُنشِر، أن يَبعَث، أن يُعطي الحياة بعد الموت، فهو فاقدٌ لأهليّة الألوهيّة، إله ميّت، لا يملك أن يبعثَ نفسه إلاّ أن يُبعَث، أو أنّه لا حياة له لا في دنيا ولا في آخرة، هذا هو الإله الذي يقوم بهذا الكون، تقوم به هذه العقول، هذه القلوب، هذه العبقريات، هذا الإحساس الدفّاق بالكرامة، بهذه النظرة المستقبلية عند الإنسان المخلوق، هذا كلّه يأتي من صناعة تراب؟ يأتي من صناعة إنسانٍ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً لنفسه إلا بإذن الله تبارك وتعالى؟

(هم ينشرون) لا أتصوّر أنّ هناك أحداً في العالم كلّه يقول بأنّ التراب يُحيي الموتى، أو أنّ فرعون أو هامان القديمَين أو أمثالهما من أحد الموجودين هو يُنشر أو يَنشر، هو يَنشر من أَنْشَر، أو يَنشر من نَشَرَ بمعنى يعطي الحياة بعد الموت، يبعثها في الجسد الذي فقدها ومات. ما من أحدٍ يستطيع أن يقول بأنّ شيئاً ما على الأرض، أو أنّ أحداً من أهل الأرض، أو من أهل السماء الذين لا يملكون لأنفسهم الحياة ولا لحظة منها هؤلاء ينشرون، وإذا وَضُح تماماً عند الإنسان أنّه لا يسمح له عقله، ولا فطرته، ولا حيائه أن يقول بأنّ الحجر تُحيي، أنّ السماء تُحيي، بأنّ فلان العبقري يُحيي بعد الموت.

إذن لا مجال عند الإنسان بأن يدّعي الألوهيّة لنفسه، أو لأحدٍ ممّن سواه من مخلوقات الله تبارك وتعالى.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، “لو” حرفٌ للامتناع، ما بعدها ممتنع، مرّةً يمتنع حدوثه، ومرّةً يكون الممتنع منه إمكانه.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ..)، فصدر الآية الكريمة يبادرُنا بأنّ ما بعد “لو” مستحيل، وهو كون أن يكون فيهما آلهة إلا الله، ممتنع على أي مستوى؟ على مستوى الوقوع أو على مستوى الإمكان؟ ممتنع على مستوى الإمكان، وهو مستحيلٌ عقلاً.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا..) “كان” هنا التامّة، بمعنى لو وُجد فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ..) الجار والمجرور “فيهما” متعلّقٌ بماذا؟ المشهور أنّه متعلّقٌ بـ”كان”، وهناك رأيٌ آخر نادر يقول: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..)، بأنّ “فيهما” متعلّق بـ”آلهة”، و(فيهما) على التقديرين، سواء متعلقٌ بـ”كان” أو بـ”آلهة”، ليست “فيهما” بمعنى الاحتواء، بمعنى أنّ الإلهين مُحتَوَيان في الأرض، وإنما بمعنى أنّ ألوهيّتهم حاكمة وثابتة في السماء والأرض، ما هو في السماء والأرض هو حاكميّتهما وألوهيّتهما وفاعليّتهما، أمّا ذات الآلهة -لو كانت آلهة حقّة- فليست هي المعنيّة بـ”فيهما”، ليس المحتوى الذات، وإنما الألوهيّة غير متصرّفة في السماء والأرض، ألوهية هذه الآلهة  -كان الإله واحداً أو كانت الآلهة متعدّدة- تكون ألوهيّتها ثابتةً في السماء والأرض، حاكمةً على كلّ ما في السماء والأرض.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..)، “إلا” أخرجوها عن الإستثناء؛ لأنها ليست صالحة للاستثناء هنا، “الآلهة” نكرة ومنكورة، ولا يُعلَم في دخول “الله” في هذه “الآلهة” المنكورة، الله معلومٌ بوجوده تبارك وتعالى، وجوده مُتيقّن، فلا يدخل في هذه النكرة ليُخرَج منها بالاستثناء، ثم إنّ “إلا” الاستثنائية تأتي في سياق الإثبات.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..)، “إلا” فسرّوها بمعنى “غير”، وجعلوا “غير” صفة للآلهة، فهي آلهةٌ غير الله. فهذه الآلهة غير الله مرّة تكون مع الله عزّ وجلّ، يعني الله هو إله وهي معه آلهة، ومرّة يكون المعني من هذه الآلهة أنها ليست مع الله، وأنّ الألوهيّة لها دون الله تبارك وتعالى، على التقديرين -على تقدير أن يكون الله عزّ وجلّ داخلٌ في هذه الآلهة أو غير داخل- يلزم فساد السماوات والأرض، ليس لازم فساد السماوات والأرض على تقدير أن تكون الآلهة خاليةً من الله عزّ وجلّ، وليس الله محسوباً من الآلهة. سواءً كانت الآلهة ليس فيها الله، والله ليس محسوباً من الآلهة، أو كانت الآلهة مع الله عزّ وجلّ، والله إلهٌ كما هي آلهة، على التقديرين؛ اجتمع الله وإلهٌ آخر بحيث تكون إرادة حقيقية، أو كان هناك إلهان من دون الله عزّ وجل، فإنّ الفساد حاصل، فساد السماوات والأرض؛ لتعدُّد الإرادة، وعند وجود إرادتين متضادّتين لابدّ أن يتعاكس الفعلان -الفعل والترك أو الفعلان- فيكون التضاد كما سيأتي.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..)، الله عزّ وجلّ اسمٌ للكامل، لواجب الوجود، الذي وجوده ذاتيٌ، وليس مستعاراً من أحد، ولا مُعطىً من أحد، الله واجب الوجود والكامل المطلق، والله هو الذي تتحيّر العقول وتتيه في إدراكه؛ لأنّ أكبر عقلٍ يُفرَض لا يمكن أن يصل إلى كُنه الله تبارك وتعالى، والله عزّ وجلّ هو المقصود لكلّ من دونه؛ لأنه بيده قضاء حاجات الخلق كلِّ الخلق، وليس من مستغنٍ عنه على الإطلاق.

فالله عزّ وجلّ الكامل حين يُفرَض وجود آلهة معه -والإله لابدّ أن يكون كاملاً- لابدّ أن تكون هذه الآلهة أيضاً كاملة، وجودها ذاتي، علمها مطلق، قدرتها مطلقة، حياتها مطلقة، إرادتها مطلقة، الآلهة التي يمكن أن تسبّب الفساد للكون بأن تُضادّ تدبير الله عزّ وجلّ، وإدارة الله عزّ وجلّ، فأيّ آلهة هذه؟ من هو الإله الذي يمكن أن تُفسد إرادته ما تتعلّق به إرادة الله عزّ وجلّ؟ الله عزّ وجلّ يريد شيئاً وهو يريد شيئاً آخر على خلاف ما أراد الله عزّ وجلّ، فتتعاكس الإرادتان، وتتعطّل الإرادتان، وتأتي الإشكاليات الأخرى الفلسفية على هاتين الإرادتين في اجتماعهما على الفعل الواحد، أو إحداثاً وعدم إحداث، أو على أن تشترك الإرادتان في إحداث مصنوعٍ واحد.

هذا من أيّ إله يمكن أن يأتي؟ يعني هذه المُضادّة، وهذه المزاحمة لإرادة الله، وهذه المناقضة لإرادة الله عزّ وجلّ بحيث تكون مناقضة فاعلة، تأتي ممّن؟ تأتي من مدّعي الربوبية؟ فرعون مثلاً ادّعى الربوبية، أيستطيع أن يُعطّل ويثحدث في الكون الفساد على خلاف ما أراد الله؟ فرعون لا يملك هذا، ولا يمكن أن يدّعي هذا.

العالم كلّه لو اجتمع على أن يُفسِد الكون، نظام السماوات والأرض، وينقض أيَّ قانون من قوانين الله تبارك وتعالى التكوينيّة، هل يمكن له؟ لا يمكن.

فلابدّ على هذا أن نُخرِج الإله الناقص من حساب ومن دائرة الآية، يعني دائرة الآية في ترتيبها الفساد على وجود الإلهين أو الأكثر دائرتُها دائرة الآلهة القادرة القدرة المطلقة، المريدة إرادة مطلقة، الفاعلة فاعليّة مطلقة، القادرة قدرة مطلقة، أمّا إلهٌ يدّعي لنفسه الألوهية أو يدّعي له غيره الألوهية وهو يفتقد القدرة المطلقة، والكمال المطلق، والغنى الذاتي، وحاجة الآخرين -كلّ الآخرين- له، فهذا الإله طبعاً لا تدخل إرادته في مزاحمة إرادة الله عزّ وجلّ، ولا قدرته في مناهضة قدرة الله عزّ وجلّ، فهذا يجب أن يخرج من الحساب، من حساب الآية الكريمة.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..)، فلتواجه إرادة الناس كلّ الناس، والملائكة كلّ الملائكة، إرادة الله في بقاء السماوات، في مسير الشمس، في دوران الأرض، في مدّة دوران الأرض حول نفسها، في مدّة دوران الأرض حول الشمس، فلتُضادّ إرادة الخلق كلّهم إرادة الله فيما فرضه من نظام في مسار الشمس، في دورة الأرض حول نفسها، حول الشمس، في أيّ قانون من قوانين الكون، كلّ ذلك فاشل، هو حركتُه، تفكيرُه، خواطرُه، نبضُ قلبه، فاعليّتُه، كلّ ما يملك هو مملوك لله عزّ وجلّ، فكيف يقاوم الله سبحانه وتعالى!

فإذن الإله الناقص يجب أن نُخرجه من حساب الآية الكريمة ودائرتها ممّا تعنيه من الآلهة.

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، دعونا نفرض إلهاً مُعادلاً لله عزّ وجل فرضاً كاذباً، فرضاً جدليّاً، هذا هو المعني بمن تأتي إرادته مزاحمةً لإرادة الله، لابدّ أن يكون إلهاً كاملاً كمالَ الله، قادراً قدرةَ الله، فاعلاً فعلَ الله، إلى آخره، دعونا نفرض هذا الإله وأنه ثانٍ لله تبارك وتعالى، نجد هل أنّ الأمر يؤول إلى فساد السماوات والأرض أو لا يؤول إلى فساد السماوات والأرض؟ الآية تقرّر بأنّ هذا يستوجب فساد السماوات والأرض، وهو على خلاف واقعهما، والواقع يشهد تماماً بأنّ النظام الكوني قائم، وسائر، ولا تصدّع فيه.

في الكون قوانين، قوانين متعدّدة قد تتخالف، ومرّة هذا التخالف في القوانين يعكس أنّ مَن وراء هذه القوانين أكثر من إرادة، وأنّ هذه الإرادات متعارضة ومتزاحمة، وكلٌ منها يقاوم الآخر ويعمل على إلغاء الآخر، ومرّة هذه القوانين لا تكشف عن شيءٍ من ذلك، وإنما تكشف عن نظامٍ كونيٍّ متكاملٍ متناسقٍ يدخل في تناسقه وفي انضباطه هذا التفاوت وهذا الاختلاف في القوانين، ما هو ملحوظٌ في الكون قوانين متعدّدة، لكنها ليس منها ما يُسقِط الآخر، ويلغي الآخر، ويعطّل الآخر، الواحد منها يمكن أن يحدّ فاعليّة الآخر، لا يجعله يطغى على كلّ المساحة، مساحة النفس أو مساحة الخارج فيفرض نفسه مُلغياً للقوانين الأخرى. كلّ قانون له مداه، له حدّه، له مقدار فاعليّته، له تأثيره، بحيث عند حدٍّ معيّن يأتي التأثير لقانونٍ آخر، هذا من تنظيم إرادةٍ واحدة، وليس من تنظيم أكثر من إرادة، فليس هذا من الفساد المعني، وهذا لا يسمّى فساداً؛ فساد يعني يتحطّم البناء، الفساد يحطّم البناء، يجعل لخبطة ملحوظة في الكون، يعني لو الآن حصل اضطراب في هذه البناية، من منّا لن يحسّ بهذا الاضطراب الذي يحصل في هذه البناية؟ الكون بناية، لو حصل فيه الاضطراب، والتزلزل، والتخلخل، وتضارب القوانين، لشَهِدَه كلّ الناس.

فإذن، الكون والسماوات والأرض لم يدخلهما الفساد، وليس في نظامهما فساد، ولا تعطّل ولا انهدام، ولو كانت إرادتان، وكانت ذاتان من ذوات إلهية، وكلّ ذاتٍ لها إرادتها وعلمها وقدرتها المطلقة، فإنّ الحاصل سيكون فساد السماوات والأرض.

لنفرض الإله المُعادِل، وأنّ هناك إلهين أو أكثر كلٌّ منهما إلهٌ وجودٌ محض، وليست ذاتاً لها الوجود، وإنما ذاتها هو الوجود، وهي ذات الوجود، وهو وجودٌ ذاتي ليس مُعطىً من الغير، فهذا الإله وجود محض وكامل ومطلق، وهذا الإله الثاني أيضاً كذلك وجودٌ مطلقٌ ومحض. وجود له علمه، وجود عالم، وجود قادر، وجود حيّ، وجود مريد، وهذا مطلق، وذاك مطلق. إرادة هذا لا تتعطّل عند إرادة الفاعل المضادّة، ولا تتأثّر، معنى إله أنّه حاكمٌ لكلّ من دونه، وأنّ سلطانه مفروضٌ على كلّ من دونه. حين تكون إرادة هذا الإله محدودة بعدم تحرّك إرادة الثاني فهو ناقص، والنقص سِمَة الممكن، وليست من سِمَة الواجب تبارك وتعالى. حين تكون قدرة الإله مطلقة إلاّ أنّها تقف عند تحرّك قدرة الثاني، أو تحتاج إلى المساعدة منها، فهي قدرة محدودة، والإله ليس محدوداً، وإنما المحدود هو الممكن، فلابدّ أن نفرض الإلهين كاملين من كلّ الحيثيات.

فرضنا ذلك، ففعلُه إذن لا يتوّقف على عدم إرادة الآخر أن لا يكون، ولا على إرادة الآخر أن يكون، أراد الآخر أن يكون هذا الفعل أو أراد أن لا يكون هذا الفعل، فما دام إلهاً كاملاً تعلّقت إرادته بهذا الفعل؛ فبمقتضى ألوهيّته لابدّ أن يكون، فإذن لابدّ أن تكون إرادة كلّ منهما فاعلة بنحو الاستقلال؛ لتصدق ألوهيّته.

هنا إذا قلنا بأنّ إرادة هذا الإله (أ) تريد أن تكون الدورة السنوية للأرض 360 يوماً، الآخر (ب) يريدها أن تكون 7000 يوماً، يحصل اضطراب وتصادم أو لا؟ لا شكّ يحصل اضطراب وتصادم، وربما حتى الدورة لا تكون. السماء تبقى أو تزول؟ الأرض تبقى أو تزول؟ الناس على وجه الأرض يبقون أو يزولون؟ اليابسة تبقى والبحر يذهب، أو البحر يذهب والياسبة تبقى؟

عند تصادم الإرادات وعند اختلاف الإرادات كلّ هذا يكون، إرادة تتعلّق بالسلب، وإرادة تتعلّق بالإيجاب، إرادة تريد التّجاه إلى الغرب، وإرادة تريد الاتّجاه إلى الشرق، كلّ هذا من الممكن أن يحصل إذا وجدت إرادتين متضادّتين، وإذا كانت كلّ منهما قادرة فهنا يأتي المحذور؛ فلو كانت إحداهما قادرة والثانية غير قادرة فسهلة؛ القادرة هي الحاكمة وهي سمة الألوهية، والثانية العاجزة داخلة في عالم الإمكان.

لو سرت الإرادتان، وأثبتت كلّ منهما أنّها إرادة إلهية، والإرادة الإلهية دائماً مطلقة، ماذا سيحصل؟ سيحصل لو ثبتت الألوهيّتان -فعلاً وحقاً كانت هناك ألوهيّتان- لكانت هناك إرادتان مطلقتان، فكلما كانت هناك ألوهيّتان حقيقيتان كانت هناك إرادتان حقيقيتان كاملتان مطلقتان لا تتعطّل إحداهما ولا تتأثّر ولا تحتاج إلى الإرادة الأخرى، هنا سيحصل التصادم.

دعونا نفرض فرضاً آخر، وهو أن تتوافق الإرادتان على صنع الشيء الفلاني، على المسار الفلاني للمصنوع الفلاني، على أن تبقى اليابسة في حجمها، الماء يبقى على مساحته، أن يبقى كلّ شيءٍ كما هو عليه، تتوافق الإرادتان، هذا التوافق له منشئان:

المنشأ الأول: هو ما يذكره أكثر من واحد -ومنهم صاحب الميزان أعلى الله مقامه- وينكره: عندما تأتي الموافقة من الحكماء من البشر، خمسة أشخاص من أهل الحكمة، والذين يرعون صالح العمل، ويريدون الصلاح، فيريدون أن يصدر فعلهم عن حكمة، وما يُنتِج المصلحة، ماذا يفعلون؟ يراجعون القوانين الكونيّة التي لا يستطيعون أن يخرجوا عليها، الجاذبية وغيرها من قوانين، هذه القوانين ناتجُ ماذا؟ ناتجُ وضع كونيّ مصنوع مفعول حاصل، هناك كونٌ يعطي العقول وجودَ قوانين تحكمُه هي نتيجة وضعه، صناعته، نسيجه، تكوينه، تأليفه، هذه القوانين حين يطابق فعلُ الإنسان مقتضاها -وهي قائمة على الصناعة الكونية- تكون إرادتهم مطابقة للحكمة، وفعلهم مطابقاً للحكمة.

لو فرضنا هذا المنشأ، نريد أن نتعامل مع هذا المنشأ في حقّ الآلهة المتعدّدة، كما أنّ الحكماء الخمسة من البشر يتّفقون وتتوافى إراداتهم على الأخذ بمقتضى القوانين التي يفرضها الوضع الكوني؛ لتأتي إرادتهم موافقة للحكمة، وليأتي ناتجُ إرادتهم محقّقاً للمصلحة، هذا نفسه نريد أن نُجريه في حقّ الآلهة المتعدّدة، فيتّفقون على أن تأتي إراداتهم وينزّلونها منزلةَ ما تقتضيه هذه القوانين، فيلاحظون القوانين الكونية فيأخذون في إرادتهم بمقتضاها، وتتّجه إرادتهم إلى ما يتّفق مع مقتضاها، فلمَ لا تكون الآلهة الخمسة أو الستة أو الاثنين يأخذون بهذا؟

هذا كل المتكّلمين -المفسرين وغيرهم- لا يرضونه؛ لأنّ الإله الله عزّ وجلّ وهو الإله الحقّ، هل يرجع للنظام الكوني ويطبّق إرادته عليه وأفعاله عليه؟ أو أنّ فعله يصنع الكونَ الذي يُنتج القوانين الكونية؟ يفعل الله الكونَ، يبنيه، يصممّه، يُهندسه، يُحدِثه، فهذا الكون وهذا الفعل يُنتج قوانين كونيّة.

صَنَعَ الجاذبية هو، فصارت الجاذبية قانوناً، فإذن فعله مرجع القانون، وليس القانون مرجعَ فعله تبارك وتعالى. القانون الكوني له مرجع، مرجعه صناعة الكون، نسيج الكون، ونسيج الكون هو على يد الله تبارك وتعالى، وفعل الله تبارك وتعالى، فإرادة الله لا تتبع قوانين الكون عزّ وجلّ عن ذلك، وإنما فعله تبارك وتعالى هو الذي يصنع الكون وقوانين الكون.

إذن، فكلّ إله كامل -ونحن نفرض هذا الإله كاملاً كما سبق- إرادته مطلقة، وليس لها مرجع من الكون، ولا قوانين الكون، وإنما هي تصنع الكون وتُحدث القوانين، فإذن هذا المنشأ باطل.

ويبقى المنشأ الثاني، ويأتي الكلام عنه إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى