الحديث القرآني الرمضاني – 8 رمضان 1440 هـ / 14 مايو 2019

فيديو الحديث:

صوت الحديث:


نص الحديث :

حديث في ضوء القرآن الكريم (4) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

قم المقدسة – 8 شهر رمضان 1440 هـ /  14 مايو 2019م

(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) إلى آخر الآيات الكريمة.

الرُسل شخصياتٌ بشريّة صنعتهم الرسالة الإلهية، حَظُوا من الله عزّ وجلّ بعنايةٍ كبرى هي رحمة لهم ورحمة للعالمين، بهذه النعمة اهتدوا ويهدون، وبها انصنعوا ويصنعون، ولولا هذه العناية الإلهية الخاصة لما كان للناس أن يبلغوا المبلغ الذي أراد الله عزّ وجلّ لهم من الكرامة والرفعة والشأن العظيم، بما آتاهم من المواهب والإمكانات التي وإنْ كثُرت، وإنْ ارتفع مستواها، إلاّ أنّها دون ما عليه حظّ الأنبياء “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين” من ذلك بدرجاتٍ ودرجات. هم مُعلِّمّوا الدنيا، وهم قادتها، وهم صُنّاع أوضاعها الكريمة.

ما الفرق بينهم وبين الآخرين؟ ليس من فارقٍ إلا هذا، هم أجسام، يأكلون، يشربون، يموتون، يتوجّعون، إلى آخره. مائزهم الأكبر أنَّ لهم أرواحاً شفّت، وقلوباً طهُرت، لهم نفوسٌ عالية، ما اعتلت إلا بمعرفة كلمة الله وبالاهتداء بكلمة الله تبارك وتعالى.

هم لهم أمّهات وآباء، ويجري عليهم ما يجري على البشر، لكنّ كرامتهم لا يصل إليها أحد، وجنّتهم غير جنّة الآخرين في مستواها ورفعتها وشأنها؛ ذلك لأنّ الإنسان بروحه، وأرواحُهم بما صُنعت بعناية خاصة من الله عزّ وجل، وبما أوتيت من عناية من الله خاصة، وبما أخذوا على أنفسهم بأن لا تشذّ أرواحهم عن خطّ الله عزّ وجل، كانت الأرواح المتميّزة التي لها جنّتها، أعني المستوى الخاصّ من جنّة الخلد.

(وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ) اعترضوا بأنّ النبي بشر، وبأنّ مُعجِزَه ليس معجزاً وإنما هو سحرٌ، فردّت عليهم الآيات الكريمة، وجاء دورٌ آخر هو دور التبشير والإنذار، تبشيرٌ للرسول -صلى الله عليه وآله- والمؤمنين بأن يُنجيهم وينصرهم ويوصلهم إلى الغاية الكبرى التي أرسلوا من أجلها، وإنذارٌ للمسرفين، والإسراف تجاوز الحدّ، الخروج ولو بمقدارٍ يسير عن حدٍّ من حدود الله عزّ وجلّ هو إسراف وظلم، كلّ تجاوز كبُر أو صغُر عن حكم من أحكام الله، وعن حدٍّ من حدوده، عن تحديد مفهوم من مفاهيم الدين من عنده، عن أيٍّ ممّا وضع، وأيٍّ ممّا حكم هو إسراف على النفس، إهلاكٌ لها، وتجاوزٌ بها عن طريق النجاة إلى طريق الهلاك، إسرافٌ وظلمٌ، والظلم درجات وليس من درجةٍ تساوي درجة الظلم لله تبارك وتعالى، ظلم العبد لربّه بكفره به، بمعصيته له، رأس كلّ ظلمٍ وأفحش من أيّ ظلم.

هذا الإسراف على النفس، التفريط في جنب الله، الظلم لله، له جزاؤه، (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)، والكلام هنا عن المسرفين من الأمم السابقة والذين وقفوا في وجه الرُسل والرسالات، وردّوا كلمة الله واستكبروا وأبوْا إلاّ أن تكون الحاكمية في الأرض لهم لا لله تبارك وتعالى.

(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، اقترحوا معجزات، أرادوا ما يُثبت النبوّة، نبوّة النبي صلى الله عليه وآله، وأنّ ما يقوله وحيٌ من الله، وأنّهم مأمورون باتّباعه، ومن حقّهم ذلك، من حقّهم أن يطلبوا المعجزة، أن يطلبوا ما يميّز رسول الله عنهم، إلا أنّ تعنّتهم في الاقتراح الخاصّ على الله سبحانه وتعالى بأن يأتيهم بالمعجزة التي يريدونها هم ويشتهونها، واللّوم على تعنّتهم أمام المعجزة الكبرى التي جاءهم بها رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”، وهم مؤاخذون وملومون من جهتين: من جهة ردّ معجزة القرآن، وأن يريدوا أن يفرضوا أنفسهم على الله تبارك وتعالى فيما يقترحونه من معجزات.

هؤلاء الذين طلبوا يقول لهم القرآن: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا)، أيّ معجزةٍ تطلبون؟ أيّ آية تريدون أن تثبت لكم نبوّة محمد “صلى الله عليه وآله”؟

رسالة الرسول “صلى الله عليه وآله” آخر الرسالات، وأكبر الرسالات، كما أنّ المعجزة التي جاء بها لتُثبت نبوّته هي أكبر المعجزات.

كانت لموسى، لعيسى، لإبراهيم، لكلّ السابقين من الرُسل معجزاتهم، لكنّها كانت معجزاتٍ منقضية، منتهية، ثم كلّ وظيفتها أن تُثبت الرسالة وينتهي دورها.

حركة العصا كثعبان، تحوّل العصا إلى ثعبان يتحرّك، اليد البيضاء، إبراء الأكمه، الأبرص، إحياء الموتى، كلّ ذلك معجزات حدثت في وقتها لتؤدّي هذه الوظيفة، وتُثبت أنّ كلمة مُدّعي الرسالة كلمة حقّ، وأنّ دعواه صادقة كلّ الصدق، وأنّها مؤيّدة من الله تبارك وتعالى، وانتهى دور المعجزة.

القرآن مُعجِزٌ فارقهُ عن المعجزات الأخرى أنّه معجزةٌ خالدة، وأنّها تُعطي اليقين لمن كانوا في زمن الرسالة، وتُعطي اليقين بعد تقدّم العلم قروناً وقرون، وقطعه مسافاتٍ ومسافات.

القرآن معجزة تعطيك اليقين، تعطيني اليقين، تعطي أكبر عالمٍ في أيّ حقلٍ من حقول العلم المعجزة، كيف؟

بالنسبة للعموم القرآن تحدّى بأن يُؤتى بمثله (فأتوا بمثله إن كنتم صادقين)، بعشر سور، بأقلّ من ذلك، بسورة واحدة، هذا التحدّي أنا أفهمه، أنت تفهمه، وأنّ الدنيا كلّها، بعلمائها، بمختصّيها، بعبقريّاتها، بخبراتها، بالقرون الطويلة في مسارها العلمي الذي قطعته أمام هذا التحدّي، المُخاطب هنا كلّ عالم، كلّ فيلسوف، كلّ فقيه، كلّ ذي عبقرية، أنْ يأتوا ولو بسورةٍ واحدة من مثله، مثل سوره. هذا تحدٍّ أنا أفهمه، ولدي يفهمه، كلٌّ يفهمه، هل من ردٍّ على هذا التحدّي؟

هذا أقصر الطريق لإفشال الإسلام الذي تخاف الحضارة الماديّة اليوم، الحضارة الماديّة تُجنّد كلّ إمكاناتها في مواجهة الإسلام، وما أسهل أن يعلن العالم الكافر من أيّ جهةٍ من جهاته أنّ هذه سورة تجيب على تحدّي القرآن، وهي تضارع السورة الفلانية أو الفلانية الأخرى، هذا أيسر طريق لإفشال الإسلام، يُنتظر الشهر أو الشهرين والثلاثة، إذا عَجِز العالم عن الردّ فشل الإسلام، أين الردّ؟

يعني هناك مُختصّون في اللغة العربية أمهر من العرب، وهناك مسيحيون في العرب، وهناك يهود في العرب، وكلُّ أولائك أعداء، وهناك أعداءٌ من العرب الذين يتسمَّون باسم الإسلام ربما هم أعدى أعداء الإسلام وإنْ تسمَّوا بالإسلام، أين الردّ؟ هذا مطروحٌ على الصغير والكبير.

كبار العلماء، المختصّون من العلماء، تخفى عليهم الحقيقة الكونية وتدور حول هذه الحقيقة الظنون والحدسيّات، وتُنتج النظريات المتوالية لتفشل متتالية كذلك، ثم يأتي من بعد حينٍ طويل أنْ تأتي نظرية تقارب ما يطرحه القرآن من حقيقة أو تلتقي مع هذه الحقيقة.

تأتي آيات فتق السماوات والأرض بعد رتقهما، وما وصلت إليه العلوم الحديثة في هذا المجال، على أنّ العلماء الحقيقيين، الذين يعرفون قيمة الإسلام، ويخشون الله عزّ وجلّ، ويدركون ما عليه عظمة الله التي لا يصل إليها أحد، والتي يقصر عقل الإنسان عن الاقتراب من إدراكها على حقيقتها، عظمة الله عزّ وجلّ لا يُستشهَد لها بنظرية وصل إليها عالمٌ غربي أو شرقي، إنما هي الشواهد على الإنسان، إنما هذا التقدّم العلمي والاقتراب ممّا عليه القرآن من طرح شواهدٌ على القصور البشري وعلى كمال الإسلام، ولتفشل هذه النظرية أيضاً، إلا أنّ هذا لا يهزّ الثقة في خالق الكون تبارك وتعالى، والعليم بكلِّ ذرّةٍ من ذراته؛ فإنّ ثبوت وجود الله تبارك وتعالى، وثبوت وحدانيّته لا يتوقّف على اكتشاف حقيقةٍ من حقائق الكون، إنما العقل وحده، لو لم يكن كونٌ فالعقل وحده بوحده يصل إلى يقينٍ بالله تبارك وتعالى.

يقول القرآن الكريم: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، هذا الكتاب حاكمٌ بين دعوى النبي وبينكم، وحاكمٌ بين الإسلام وبين البشرية في كلّ مداها، هذا الكتاب الذي لا يمكن للبشرية أن تأتي بكتابٍ مثله، ولا بسورةٍ بمثل سورة من سوره.

(فيه ذكركم) هذا الكتاب معجزة وفيه ذكركم، وظيفته ليس أن يُثبت النبوّة فقط، وإنما إثبات النبوة، وصناعة الإنسان، وإخراجه من الظلمات إلى النور، فلا تبقى نقطةٌ من نقاط وجوده ولا حيثيّة من حيثيات وجوده على ظلمتها، يخرج في فكره، ويخرج في شعوره، ويخرج في إرادته، ويخرج في كلّ شعورٍ من شعوره، ويخرج في كلّ وضعٍ من أوضاعه، وفي كلّ علاقةٍ من علاقاته، ويخرج من فقره، ويخرج من جهله، ويخرج من كلّ ظلمة من هذه الظلمات وغيرها إلى نورٍ من الله عزّ وجلّ على ضوء القرآن الكريم.

(فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، كلّ الذكر الذي تحتاجونه لصناعتكم، لإحياء إنسانيتكم، لبعث أفكاركم، للرقيّ بكم. تحتاجون إلى فقه، تحتاجون إلى رؤية كونيّة واضحة، تحتاجون إلى عقيدةٍ صحيحة، تحتاجون إلى مَنْهَجَة علميّة دقيقة، تحتاجون تبصرات كونيّة، تحتاجون إلى اقتصاد قويّ، تحتاجون إلى اجتماعٍ صحيح ومنسجم، تحتاجون إلى الرقيّ في كلّ بُعدٍ من هذه الأبعاد، ما يحتاج إليه تقدّمكم في كلّ بُعدٍ من أبعاد حياتكم، ووجودكم، داخلكم، خارجكم، هو في القرآن الكريم.

كلّ ما تحتاجونه في رقيّ هذه الأبعاد وصناعة هذه الأبعاد، وتجاوزكم في هذه الأبعاد كلّ الإنسانية، في القرآن المادة التي تزوّدكم بذلك بنحو الكليّات وبنحو التبصيرات العامة.

(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، ذكركم أيضاً قالوا عنه أيضاً بأنه شرفكم، رفعتكم، سموّكم.

البرهان التاريخي موجود، البرهان الواقعي موجود، العرب معروفٌ شأنها فيما كانت عليه يوم جاء الإسلام، ومعروفٌ شأنها بعد حين، بعدما أخذت بالإسلام بدرجةٍ ما، والعرب معروفٌ شأنها بعد أن فارقت الإسلام.

للعرب جهلٌ بالإسلام قبله، وللعرب معرفةٌ بالإسلام بعد أن جاء، وتمسكٌ بدرجةٍ ما ولمدةٍ قصيرة به، وللعرب مفارقةٌ طويلة عن الإسلام بعد ذلك.

أين العرب قبل الإسلام؟ أين العرب يوم أخذوا بالإسلام؟ أين العرب يوم فارقوا الإسلام؟ أين العرب اليوم وبعد أن فارقوا الإسلام هذه المفارقة الطويلة؟

العرب لمّا جاء الإسلام وأخذوا به بعض الشيء احتاجتهم الأمم، واندفعت باتّجاههم الأمم تطلب البصيرة، وتطلب الرقيّ والخروج من الظلمات إلى النور. وتَسيَّد العرب، وارتفع شأن العرب، وظهرت كلمتهم بالإسلام، فهو ذكرٌ لكم، ذكرٌ للعرب لا بما هم عرب، وإنما بمقدار ما أخذوا بالإسلام، وإذا سبقهم غيرهم للإسلام؛ فالذكر لغيرهم لا لهم.

ومن أراد ذكراً، وشرفاً، وتطلُّعاً من الناس إليه، وشعوراً من الناس بالحاجة إليه، الأمّة التي تريد أن تُكبِرها الأمم، أن تهابها الأمم، أن تحتاج إليها الأمم، أن تتّخذها الأمم قبلة؛ عليها أن تطلب ما تُذكَر به في الناس، كما تُذكَر به عند الله عزّ وجلّ.

الخامل لا يُذكر عند الناس، الجاهل ليس للناس حاجةٌ في ذكره، الفقير ليس للناس حاجةٌ في ذكره.

الأمّة التي تعاني في اجتماعها، التي تعاني في اقتصادها، التي تعاني في سياستها؛ أمّة على الهامش، أمّة مهملة لا يسأل عنها أحد.

الأمّة التي يسأل عنها الناس، والتي يحاول الآخرون أن يدرسوا تاريخها وحاضرها، وأن يتعلّموا على يدها، هي الأمّة الناهضة، هذه الأمّة الناهضة لا يصنعها ]إلا[ مثل القرآن الكريم.

نهضة ليست لوضعٍ من أوضاع الإنسان الخارجية كالوضع الإقتصادي مع تقزّم الإنسان، إنما نهضة للإنسان نهضة تنهض بها كلّ أوضاعها الخارجية، نهضة الإنسان في داخله، بكلّ أبعاد داخله، لا تترك وضعاً من الأوضاع الخارجية إلا وينتهض، هذه النهضة المعنية، هذه لا نجدها إلا في أمّة تسير على طريق القرآن، وتتأدّب بأدب القرآن، وتحكم بحكم القرآن، وليس لها من هدفٍ إلا الهدف القرآني.

(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، نحن اليوم نعاني من خمول، نعاني من إهمال، نعاني من ركود السمعة، نعاني من الوضع الاقتصادي، من الوضع الاجتماعي، من الوضع السياسي، من الوضع الحضاري كلّه، نعيش حالة تخلُّف، نريد أن نُذكر، نريد أن نبرُز، نريد أن ننتفض، ما الطريق؟ الطريق هو القرآن.

(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، فيه لا في غيره.

بعد هذا، وبعد بيان أنّ المعجزة الكبرى هي معجزة الإسلام في قرآنه، وأنّها المعجزة الخالدة، والتي تبقى محلّ حاجة الأمم ما بقي الإنسان على وجه الأرض، يأتي درسٌ من دروس تاريخ الظالمين المواجهين للرسالات، درسٌ قاسٍ يُؤدّب الذين واجهوا رسول الله “صلى الله عليه وآله” باللّعب واللّهو، وتعاملوا مع القرآن الكريم هذه المعاملة.

(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)، لكثيرٍ ما قصمنا، والقصم كسر الشيء بشدّةٍ وعنف وقسوة. وكم قصمنا من قرية، ضربة لقرية -هذه أو تلك- لم تقم بعدها، ضربة كاسرة مُهلِكة مُنهِية.

لمَ هذا؟ لمَ قصم القرى؟ ولمَ إنهاء وجودها؟ ..كانت ظالمة، والظالمون أهلُها، والقصم كان لها ولأهلها، قصمٌ للظالمين مع ما بنت أيديهم، مع ما أقاموه من حضارة، قد يقيموا في القرية الظالمة حضارة ماديّة شامخة، بناءً مادياً رصيناً، مصانع، قلاعاً، صواريخ، بواخر، قاذفات، وما إلى ذلك.

هذا البناء الشامخ المادّي، والبُنية الشديدة، تأتي ضربة من الله تقصم أهل القرية وما بنوا، وتنسف بكلّ شيء ممّا أقامته أيديهم.

(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً..)، وهذا كلامٌ ليس للتاريخ، كلامٌ من الله عزّ وجلّ لأهل الحاضر، فليس هناك امتيازٌ لأهل العصر الحاضر على أهل العصور السابقة إلا أنّ تأديبات كونية ساحقة، ماحقة، فورية، حدثت بالنسبة للسابقين، هنا تحدث عقوبات من نوعٍ آخر، قد تكون حروباً داخلية أو حروباً كونية عامّة تُهلِك وتدمّر هذا الإنسان وحضارته كلّها.

(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)، المفسرّون يلاحظون هنا أنّ قصم القرية هو قصم لأهل القرية فالمقصومون هم أهل القرية، لكن القصم تناول القرية وأهل القرية معاً، تناول البناء والباني، الدار والديَّار كما يقولون، بينما (..وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)، القرية لم تُنشَأ من جديد، لم تُزرَع، لم تُقَم فيها العمارات والمصانع من قِبَل الله عزّ وجلّ وما إلى ذلك، هذا متروكٌ لمن؟ متروكٌ للأيدي البشرية، للمنهج العلمي الذي يُتيح للإنسان مع جهده أن يبني كلّ هذا، فـ (وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) هم الذين يُنشئون القرية من جديد بإعمارها.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ)، قرية أعطاها أهلُها كلّ وجودهم -القرية ليست القرية الصغيرة، تعبير القرية يعني المدينة الكبيرة ويعني الحضارة وكلّ ذلك- هذه القرية، وهذه الحضارة، وهذا القِطر، يعطيه أهله كلّ ما في أنفسهم، وكلّ ما في جهدهم، إنتاج عبقرياتهم فيه، إنتاج سواعدهم فيه، حوَّلوا أرضهم القاحلة إلى أرضٍ خضراء، وإلى حقول وقصور ومصانع وصناعات ضخمة، وانشدُّوا إلى أرضهم الانشداد النفسي الكبير العميق، وكأنّهم يرون القرية من وجودهم وهم من وجود القرية، حبُّ هذه القرية متغلغلٌ في أفئدتهم، وهذه القرية يرون فيها سكينتهم وطمئنينتهم وسبب حياتهم، يرون أنها الأرضيّة التي يقيمون عليها عزّهم، وسيطرتهم، وما إلى ذلك، هذه القرية قد ذابوا فيها، وكأنّ الكون عندهم يتلّخص في هذه القرية، هذه مفارقتها ليس سهلاً على هذه النفوس التي تبلغ من تقديسها لهذه القرية هذا التقديس، خاصّة الإنسان الكافر، فهذا كافر ليست له علاقة بالله عزّ وجلّ تصغُر أمامها علاقته بالقرية، وعلاقته بالعشيرة، وعلاقته بكلّ شيءٍ آخر، للمؤمن علاقةٌ هي علاقته بالله التي تحكم كلّ العلاقات، وتتقدّم على كلّ العلاقات، وهي محلُّ اعتزازه الأول والأخير، وليس له اعتزازٌ بأيّ علاقة من العلاقات الأخرى إلا من خلال التقائها بعلاقته بالله تبارك وتعالى، أمّا الكافر فكلّ ما لديه في هذه الدنيا هم أهله، والأرض التي يسكن عليها، وما أقام على هذه الأرض.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ)، أي بأسٍ ذاك؟ وأيّ شدّة؟ وأيّ هول؟ بحيث نسوا هذه القرية وكأنّها ليست شيئاً، وركضوا عنها، وأهملوها، وأهملوا كلّ ما أقاموا عليها، ويأتي يوم القيامة (يوم تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت)، وهنا صورة من الذهول، ذهولٌ عن المال، وعن الولد، وعن العزّة المرتبطة بهذه الأرض، وعن الحاكميّة التي ارتبطت عند الملأ بهذه الأرض، وما إلى ذلك، كلّ ذلك نسوه في تلك اللحظة العاصفة المهولة، لحظة البأس يأتي من الله عزّ وجلّ ليملك على الناس قلوبهم وتذهل له عقولهم.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ)، ليس خروجاً عادياً، وإنما هو الركض والنجاة بالنفس.

يأتي النهي الإلهي، وهو ليس نهياً حقيقياً، وإنما للاستهزاء والسخرية لهذا المظهر الذي عاشه القوم الكافرون وهم يركضون من قريتهم، ويفرّون فرار الفئران من المصيدة.

(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ)، أليست هذه القرية محلّ ترفكم، محلّ عزّتكم، محلّ حاكميّتكم، محلّ فخركم، ألستم تفاخرون الدنيا بها، ألستم تدافعون عنها، ألستم تبذلون الأرواح في سبيل حمايتها؟

(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ)، أين هذا الركض؟ وأين اعتزازكم من هذه القرية؟ وأين تقديسكم لها؟ وأين عبادتكم لها؟ وأين نسيانكم لله عزّ وجلّ من أجلها؟ أنتم نسيتم الله عزّ وجلّ، ووليّتم عنه سبحانه وتعالى، وجعلتم قبلتكم هذه القبلة، وكذبتم على مجدها، وعلى أن تكون القرية الفاخرة المتقدّمة أو الحضارة التي تركع لها الحضارات الأخرى.

(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فيه)، أين ما أُترفتم فيه؟ كيف فرطُّتم فيه؟ لمَ لا تتمسّكون به؟ ألا تسترجعونه؟ ألا تعيدون مجدكم من جديد؟ أيّ أثرٍ وإنْ قلّ ممّا أُترفتم فيه هنا، انظروا إلى قريتكم خاوية، خالية، فاقدة لكلِّ مظهرٍ من مظاهر الغِنى والترف والحياة.

(..وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)، عمَّ يُسألون هنا؟ (لعلكم تسألون) عندهم فيها وجوه، يعني يحملونها على محامل، أحد هذه المحامل: أنّهم كما اعتادوا كانوا يُسألون في هذه القرية وعلى كراسيّ عزّتهم سؤالَ الخدمة، ماذا يأمرون، ماذا يشتهون، ماذا يقترحون، وكلُّ الآخرين، كلُّ الذين يسألون هذا السؤال مستعدّون للخدمة، ومستعدون لأن يبذلوا أنفسهم ويضعوا أنفسهم تحت أقدام الآمرين. عودوا لهذا المنصب وهذا الموقع إنْ ملكتم شيئاً من ذلك، وهو نوعٌ من إحداث الحسرة، ومن الاستهزاء، والسخرية بهؤلاء القوم الظالمين.

(..لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) عمّا فعلتم بهؤلاء المتعبون، وكيف خدعتموهم، وكيف ضلّلتموهم، وإلى أيّ مصيرٍ صرتم بهؤلاء الناس الذين كنتم تستحوذون عليهم، وتوجّهونهم، وتضلّونهم، وتملكون عليهم تصرّفاتهم. هذا ممّا ذكروه هنا.

(قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، الظاهر هنا أنّهم مشغولون، مملوكةٌ عليهم عقولهم، أفئدتهم هواء، كلُّ توجههم إلى لحظة الهلاك.

(قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، الويل هو الهلاك، و “يا ويلنا” نداءٌ للهلاك، فهم يدعون بالهلاك، تعال يا هلاك، تعال يا موت، كيف؟

(قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، هم لا يتمنّون الموت، وإنما يقولون: يا ويل يا هلاك قد حان حينك، علِمنا أنّه قد حان حينك فتعال، وصل وقتك، الساعة ساعتك، لا مجال للفرار منك، وهذا حقٌ علينا من الله عزّ وجلّ لأنّنا كنّا ظالمين، هنا اعتراف بالذنب، بالخطأ الكبير، هنا اعتراف بالطريق المُهلِك، وأنّهم كانوا ظالمين، الشيء الذي كانوا يمارسونه طوال حياتهم، وينكرونه طوال حياتهم، ويعذّبون من يعذّبون لمن أعلن هذا عنهم.

(يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، كنّا باستمرارٍ ظالمين، وهذا هو جزاء الظالم، هذا الهلاك الساحق، الماحق، الفوري، جزاء ظلمنا، فهي ساعة ندمٍ حيث لا ينفع الندم.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

زر الذهاب إلى الأعلى